تقديم‏

مقدمة الطبعة الثالثة‏

أصل العقيدة‏

أطوار العقيدة الإلهية‏

الوعي الكوني‏

الله ذات‏

مصر‏

الهند‏

الصين واليابان‏

فارس‏

بابل‏

اليونان‏

مرحلة جديدة في الدين‏

الفلسفة‏

المسيحية‏

الإسلام‏

الأديان بعد الفلسفة‏

الفلسفة بعد الأديان الكتابية‏

التصوف‏

براهين وجود الله‏

البراهين القرآنية‏

آراء الفلاسفة المعاصرين في الحقيقة الإلهية‏

العلوم الطبيعية والمباحث الإلهية‏

خاتمة المطاف‏

تقديم‏

مقدمة الطبعة الثالثة‏

أصل العقيدة‏

أطوار العقيدة الإلهية‏

الوعي الكوني‏

الله ذات‏

مصر‏

الهند‏

الصين واليابان‏

فارس‏

بابل‏

اليونان‏

مرحلة جديدة في الدين‏

الفلسفة‏

المسيحية‏

الإسلام‏

الأديان بعد الفلسفة‏

الفلسفة بعد الأديان الكتابية‏

التصوف‏

براهين وجود الله‏

البراهين القرآنية‏

آراء الفلاسفة المعاصرين في الحقيقة الإلهية‏

العلوم الطبيعية والمباحث الإلهية‏

خاتمة المطاف‏

الله

الله

تأليف

عباس محمود العقاد

تقديم

موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية، منذ اتخذ الإنسان ربا إلى أن عرف الله الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد.

وقد بدأناه بأصل الاعتقاد في الأقوام البدائية، ثم لخصنا عقائد الأقوام التي تقدمت في عصور الحضارة، ثم عقائد المؤمنين بالكتب السماوية، وشفعنا ذلك بمذاهب الفلاسفة الأسبقين، ومذاهب الفلاسفة التابعين، وختمناه بمذاهب الفلسفة العصرية، وكلمة العلم الحديث في مسألة الإيمان.

وكانت عنايتنا فيه بالعقيدة الإلهية دون غيرها، فلم نقصد فيه إلى تفصيل شعائر الأديان ولا إلى تقسيم أصول العبادات؛ لأن الموضوع - على حصره في نطاقه هذا - أوسع من أن يستقصى كل الاستقصاء في كتاب.

وإن موضوعا كهذا الموضوع المحيط لعرضة للتشعب والتطويل كيفما تناوله الكاتب ومن أي جانب تحراه، فلا بد فيه من إيجاز، ولا بد فيه من اكتفاء.

غير أننا تحرينا الإيجاز، وتحرينا معه أن يغنينا فيما قصدناه، وذاك هو الإلمام بأطوار العقيدة الإلهية على وجهتها إلى التوحيد، وأن تكون هذه الأطوار مفهومة العلل والمقدمات.

وإن الله الذي هدى الأمم كافة إلى هذا المنهج البعيد، لكفيل أن يهدينا إليه، وأن يوفقنا لسداد النظر فيه، فلا هداية إلا به، ولا معول إلا عليه، إنه سميع بصير مجيب.

مقدمة الطبعة الثالثة

في نهاية الطبعة الثانية من هذا الكتاب لخصنا زبدة الآراء الراجحة فيما تستطيعه العلوم الحديثة من الحكم الصادق في مسألة الحقيقة الإلهية، فقلنا: «إن العلوم الطبيعية ليس من شأنها أن تخول أصحابها حق القول الفصل في المباحث الإلهية والمسائل الأبدية؛ لأنها من جهة مقصورة على ما يقبل المشاهدة والتجربة والتسجيل، ومن جهة أخرى مقصورة على نوع آخر من الموجودات، وهي - بعد هذا وذاك - تتناول عوارض الموجودات ولا تتناول جوهر الوجود، وهو لا يدخل في تجارب علم من العلوم.»

واستطردنا في هذا التلخيص قائلين: «ولكن العالم الطبيعي يحق له إبداء الرأي بحق العقل والدليل والبديهة الواعية؛ لأنه إنسان يمتاز حقه في الإيمان بمقدار امتيازه في صفات الإنسان. أما العلم نفسه فلا غنى له عن البديهة الإنسانية في تلمس الحق بين مجاهل الكون وخوافيه، فكيف تسري المقررات العلمية بين العلماء - فضلا عن الجهلاء - لولا ثقة البديهة؟ كيف يعرف المهندس صدق الطبيب في مباحثه العلمية؟ ولا نقول: كيف يعرفها الجاهل بالطب والهندسة؟ ما من حقيقة من هذه الحقائق تسري بين الناس بغير ثقة البديهة وثقة الإيمان، وما من حقيقة من هذه الحقائق يعرفها جميع المنتفعين بها معرفة العلماء أو يمكن أن يعرفها جميع الناس كما يعرفها بعض الناس، وهي مع ذلك مسائل محدودة يتاح العلم بها لمن يشاء، فلماذا يخطر على البال أن حقيقة الحقائق الكبرى تستغني عن ثقة البديهة الإنسانية ولا يتأتى أن تقوم في روع الإنسان إلا بتجارب المعامل التي يباشرها كل إنسان؟»

وقد مضى العلم قدما في كشوفه وبحوثه عن حقيقة المادة وحقيقة ما وراءها خلال هذه السنوات، فلم يظهر في هذه الكشوف والبحوث ما يزيد دعوى العلم الحديث أكثر مما تقدم: قصاراه أن يذهب مع التجارب العقلية والحسية إلى غاية أشواطها، ثم ينتهي إلى عمل البديهة؛ لإدراك أقرب الموجودات إلى الحس وأبعدها منه، على حد سواء.

ويبدو أن الفلسفة اللاهوتية والفلسفة العلمية تتلاقيان على هذا الاتجاه، فلا تدعي الفلسفة اللاهوتية أنها أقدر من العلم على بلوغ أسرار الحقيقة الكبرى، وإنما غاية ما تدعيه أن الحقيقة الكبرى فرض محتوم كفروض الرياضة الصحيحة التي نسلمها لنقيس عليها الحقائق البرهانية.

ونحن نكتب هذه المقدمة في أواخر السنة 1959 وأمامنا كتاب في موضوع الفلسفة الإلهية وخبر عن جائزة نوبل التي منحت للممتازين بخدمة العلم الطبيعي هذه السنة، فإذا بنا واقفين مع الفلسفة واللاهوت والعلم الطبيعي معا عند نهاية أشواط الحس والفكر وبداية أشواط البديهة. ثم لا سبيل إلى الرجوع خطوة في هذه الطريق، ولا سبيل إلى التقدم وراءه خطوة واحدة بالتجربة الحسية أو العلمية.

بين أيدينا كتاب البروفيسور ه. د. لويس

Lewis

الذي سماه «تجربتنا الإلهية» أو تجربتنا عن الإله

Our Experience of God

ولخص بها نتائج البحث المشروعة عن الحقيقة الإلهية، فما هو غاية المدى الذي تذهب إليه الفلسفة في رأي هذا الفيلسوف؟

غاية المدى في رأيه أن الحقائق التي يقررها العلم والفكر لا تعدو أن تكون حقائق نسبية أو حقائق بالإضافة إلى غيرها كما نقول في مصطلحات المنطق العربية، وبعض هذه الحقائق مقياس لبعض، ولكنها جميعا لا تثبت للذهن بحال من الأحوال بغير القياس إلى حقيقة مطلقة أبدية تحيط بها جميعا، وهي الحقيقة الإلهية.

وليس البروفسور «لويس» ممن يستضعفون البراهين الفكرية التي يستعان بها على إثبات وجود تلك الحقيقة، وليس هو كذلك ممن يقنعون بها، ويحسبونها يقينا قاطعا يحسن السكوت عليه، ولكنه يرى أن هذه البراهين هي واجب العقل الذي لا يجوز له أن يتخلى عنه في سعيه إلى هذه الحقيقة وإلى كل حقيقة، أو لا يجوز له أن يركن إلى البديهة وحدها، ويعفي نفسه مما هو قادر عليه، فإنه لا يستطيع أن يثق بالبديهة إن لم يبلغ بالبحث غاية الأمد المستطاع، وقد يشعر العقل أحيانا أنه وثب بالإدراك الملهم وثبة تذهب به وراء المدركات التجريبية والمدركات الفكرية أو المنطقية، ولكن هذه التجارب القاصرة هي جزء من التجربة الإلهية وليست شيئا مناقضا لها أو مستوعبا لجميع أجزائها.

ولو كان الفيلسوف لويس من المتصوفة القائلين بإمكان المعرفة من طريق الاتحاد بين الله والإنسان لما كان لفلسفته محل من البحث الحديث ولا البحث العلمي الفكري على إطلاقه، فهو لا يقول بإمكان هذا الاتحاد الإلهي الإنساني، ولا يسميه تجربة إنسانية في سبيل العرفان بالله، بل هو يرى أن المتصوفة يخطئون التعبير عن هذه التجربة، وينبغي أن يفرقوا بين معرفة تقوم على فناء الإنسان في الذات الإلهية ومعرفة تقوم على إدراكه لوجوده في صميمه، ثم إدراكه لما هو أعظم منه وأرفع من شأوه، ومحل فلسفة لويس من البحث الحديث أنه لا يعيد لنا عبارات الاتحاد والفناء ووحدة الوجود كما رددها بعض المتصوفة من جميع المذاهب، ولكنه يأتي بالجديد حين يقول: إن إدراك الحقيقة المطلقة عمل إنساني يعالجه الإنسان بما عنده من الوسائل المحدودة، وكل ما هنالك أنها وسائل غير كافية تحتاج إلى تتمة، فهي لا تعطينا كل شيء ولا تحيط بكل شيء، ولكن الفرق بينها وبين المعرفة الواجبة إنما هو فرق بين ناقص وتام وليس بفرق بين باطل وحق، ولا بين شك ويقين.

وعلى الجملة يمكن أن تدل فلسفة لويس، ونظائرها من الفلسفات الدينية في هذا العصر، إلى نتيجتين:

أولاهما:

أن أدلة المنكرين غير كافية للإنكار، فليس عندهم من دليل مقنع يستند إليه العالم أو المفكر في الجزم بإنكار وجود الله.

وثانيتهما:

أن أدلة المؤمنين كافية لبعض الإثبات، ولا بد من ملاحظة الفرق بين هذا القول وبين القول بأن تلك الأدلة لا تكفي للإثبات على وجه من الوجوه، فإن ما يثبت بعض الثبوت بالعقل، ويتم ثبوته بعد ذلك بالبديهة غير الدعوى التي ليس لها ثبوت على الإطلاق، وبخاصة حين نعلم أن الاعتماد على البديهة سند معول عليه في الدراية الإنسانية، كما يعول الطبيب على حقائق الهندسة ويعول المهندس على حقائق الطب، ويعول الناس جميعهم في الحكم ببديهتهم على الحقيقة التي لا يحيطون بها كل الإحاطة.

أما المباحث التي اختص أصحابها بجائزة نوبل العلمية لهذه السنة فهي ذات مغزى كبير في التعريف بالأقيسة النسبية والأقيسة المطلقة أو المجردة من ناحية أخرى: وهي ناحية الحقيقة المادية.

فالباحثون في تركيب المادة يبحثون في البروتون والبوزيترون والكهرب والنيوترون، ويعلمون أنها جميعا موجودات بالنسبة إلى غيرها، ولم يعرف بعد كيف يكون وجودها إذا انفردت بذاتها.

فالبروتون كهربة موجبة بالقياس إلى السالبة، والنيوترون كهربة محايدة بالنسبة للاثنين، والسالبة تلتزم السلب في علاقتها بالكهربات الأخرى، وقد يكون بعض هذه الموجودات سالبا في حالة وموجبا في حالة أخرى.

وهذه كلها موجودات اعتبارية بالقياس إلى غيرها، فكيف يكون وجود المادة المجردة من جميع هذه الاعتبارات؟ وكيف تكون المادة المطلقة على قدر ما نتصور الإطلاق في هذه الموجودات؟

إننا أشرنا إلى تجارب علماء «كليفورنيا» في هذه المباحث في باب العوالم الأخرى من كتاب «القرن العشرون ما كان وما سيكون» وذكرنا أنهم يحتملون وجود كائنات لا مادية

Anti-Matter

على بعض العوالم الأخرى، ولا نعلم ماذا ثبت من هذه الكائنات اللا مادية في مباحث البروتون التي أجراها العلماء المجازون وزملاؤهم المشتغلون بها في شتى الميادين، ولكن المهم في الأمر أن الحقيقة المادية والحقيقة المجردة لا تتناقضان عند العلم الحديث، خلافا لما جرى عليه العرف بين عامة الباحثين إلى عهد قريب.

فقد كان العرف الشائع إلى أوائل القرن العشرين أن البحث عن الحقيقة المجردة والبحث عن الحقيقة المادية طريقان متعارضان، ينبغي لمن يتوخى أحدهما أن يولي ظهره للآخر، ولا يترقب الوصول إلى غاية معقولة من سلوكه إياه.

فاليوم قد تبين - على الأقل - أن الإمعان في البحث عن حقيقة المادة يؤدي بنا إلى الحقيقة المجردة وينتهي بنا إلى التسليم بكائنات «لا مادية» تخالف ما كنا ندركه من صور المادة المحسوسة.

ولا بد من الحقيقة المجردة إلى جانب الحقائق الاعتبارية، أو الحقائق التي يقاس بعضها إلى بعض ولا تستقل بذواتها عن وجود آخر وراءها، وجود يسميه علماء المادة أنفسهم وجودا «لا ماديا» للتمييز بينه وبين الموجبات والسوالب والمحايدات وسائر هذه المضافات.

إن السنوات التي مضت منذ تأليف هذا الكتاب عن «الحقيقة الإلهية»، قد تقدمت بنا في طريقنا ولم تزل تتقدم بنا فيه وتحطم الحواجز التي يخيل إلينا بادئ الرأي أنها تنكص بنا عنه أو تتشعب بنا حوله.

فإذا أردنا أن نلخص ذلك كله في سطور قليلة فخلاصته الواضحة أن الإيمان بالمحسوسات ينقص على أيدي التجارب العلمية نفسها ويحل محله إيمان بالغيب المجرد الذي لا يوصف بالمادية، أو كما قلنا في كتابنا «عقائد المفكرين»: إن القرن العشرين عصر الشك في الإلحاد والإنكار بمقدار ما كان القرن الذي قبله عصر الشك في الإيمان والنظر إلى الغيب المجهول.

وكيف يكون الموقف يا ترى عند نهاية هذا القرن العشرين؟

لا نراه مؤديا بنا إلى رجعة عن هذا الطريق، بل نراه - علميا كما نراه دينيا - يمعن بنا في هذه الوجهة التي لمحناها على كثب يوم ختمنا هذا الكتاب عن الحقيقة الإلهية في طبعته الأولى، ولعل طبعاته المتوالية أن تكون في تقدير قرائه معالم متوالية لهذا الطريق المحدود إلى أن يشاء الله.

عباس محمود العقاد

أصل العقيدة

ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات.

فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.

وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات.

لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.

وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام، ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس؛ لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام، ولعلها لا تزال.

فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال، وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر وطورا بعد طور، وأسلوبا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.

وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة، ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة؛ فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها، وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء إنما يبحث عن محال.

فأيا كان الرأي في جوهر الدين فالنقص في العبادات الهمجية أمر مفروغ منه لا يستدل به على نفي ولا إثبات، وإنما يصح أن يوصف بالغرابة لسبب واحد، وهو هذا الإجماع على الاعتقاد أيا كان موضوع الاعتقاد، كأنما يوجد الاستعداد للعقيدة أولا ثم توجد العقيدة على اختلاف نصيبها من الرشد والضلال، أو توجد الملكة أولا ثم يوجد موضوع الاعتقاد، ولا تتوقف صحة الملكة على صحة الموضوع.

ففي الطبع الإنساني جوع إلى الاعتقاد كجوع المعدة إلى الطعام.

ولنا أن نقول: إن «الروح» تجوع كما يجوع الجسد، وإن طلب الروح لطعامها كطلب الجسد لطعامه، لا يتوقف على جودة الغذاء ولا على حلاوة المذاق، بل يتوقف على شعور الغريزة بالحاجة إليه.

ونخال أننا لا نخرج بالمشابهة عن مداها إذا قلنا: إن إنكار الحاسة الدينية لرداءة العقيدة الأولى أو سخف موضوعها كإنكار المعدة في الجوف لرداءة المأكول وسخافة الغذاء؛ فإنما المرجع إلى بنية الروح وبنية الجسد في الحالتين، وكلتاهما حق لا يقبل المراء.

حق لا يقبل المراء أن الحاسة الدينية بعيدة الغور في طبيعة الإنسان.

وحق لا يقبل المراء أن الإنسان يجب أن يؤمن ولا يستقر في وسط هذه العوالم بغير إيمان.

وهو قد وجد في وسط هذه العوالم لا مراء ، فإذا كان الإيمان هو الحالة التي يتطلبها منه وجوده - فضعف الإيمان شذوذ يناقض طبيعة التكوين ويدل على خلل في الكيان.

وقد اتفق علماء المقابلة بين الأديان على تأصل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان من أقدم أزمنة التاريخ، ولكنهم لم يتفقوا على أصل العقيدة أو أصل الباعث عليها، ولا بد لها من باعث، فلن يكون الوقوف على باعثها دليلا على بطلانها؛ لأنها لا تأتي بغير باعث يؤدي إليها كائنا ما كان.

نعم، هي ترجع إلى باعث يحفز الطبيعة الإنسانية إلى البحث عنها، وكذلك نبحث عن الطب إذا مرضنا، ونبحث عن الملجأ الأمين إذا فزعنا، ونبحث عن المال إذا افتقرنا، ولا يقدح ذلك بحال من الأحوال في صحة الطب أو الأمن أو المال.

فما هو الباعث في الطبيعة الإنسانية إلى طلب العقيدة، وهل يلزم أن يكون باعثا واحدا، أو يجوز أن يرجع إلى بواعث كثيرة؟ وهل يثبت هذا الباعث على حالة واحدة أو تتجدد له أحوال بعد أحوال بتعاقب الأطوار أو الأجيال؟

أما أنه باعث واحد فلا وجه للزومه، ولا مانع لتعدده، ويصح جدا أن تتفق جميع البواعث التي تفرق العلماء في شرحها وسرد الشواهد عليها، وألا ينفرد باعث منها بنشأة الدين منذ أقدم العصور، وألا توصد الأبواب على البواعث الأخرى التي قد تتجدد الآن، وقد تمضي في التجدد إلى غير انتهاء. •••

يرى كثير من العلماء أن الأساطير هي أصل الدين بين الهمج، وهو رأي لا يرفض كله ولا يقبل كله؛ لأن العقائد الهمجية قد تلبست بالأساطير في جميع القبائل الفطرية، فلا يسهل من أجل هذا أن نرفض القول بالعلاقة بين الأسطورة والعقيدة، ولكن لا يسهل من جهة أخرى أن نطابق بين العقيدة والأسطورة في كل شيء وفي كل خاصة؛ لأن العقيدة قد تحتوي الأسطورة ولكن الأسطورة لا تحتويها؛ إذ يشتمل عنصر العقيدة على زيادة لا يشتمل عليها عنصر الأسطورة، وهي زيادة الإلزام الأخلاقي والشعور الأدبي بالطاعة والولاء، والأمل في المعونة والرحمة من جانب الرب المعبود.

وقد وجدت أساطير كثيرة لا تتجاوز الأوصاف الرمزية والمشابهة الفنية التي طبع عليها الخيال: فهي ترجع إلى ملكة التجسيم والتصوير، ولا ترجع إلى ملكة الإيمان والاعتقاد.

ووجدت أساطير كثيرة سببها عجز اللغة الإنسانية في نشأتها الأولى، كما ثبت للعلامة اللغوي ماكس موللر صاحب هذا التفسير لنشأة الأساطير، فإن الذي يقول: إن الأرض أم الثمرات كالذي يقول في العصر الحديث: إن فرنسا أم الثورة، ولكننا نعرف التلاقح الحي فلا نخلط بين الحقيقة والمجاز، ولم يكن الأقدمون على علم بذلك، فلا يمضي الزمن على التشبيه حتى تصبح الأمومة المجازية كأمومة الواقع بين الأحياء.

ولا شك أن الإنسان يسمع الأسطورة ولا يتدين بها، ويتدين بالعقيدة ولا يلزم من ذلك أن تصطبغ أمامه بصبغة الأساطير، فليست كل أسطورة عقيدة، وإن كانت كل عقيدة في الجاهلية الأولى قد تلبست ببعض الأساطير. •••

ويرى تايلور

Tylor

أن ملكة الاستحياء

Animism

هي أصل الاعتقاد بالأرباب.

فالطفل يضرب الكرسي إذا أوقعه كما يضرب الإنسان والحيوان، وتايلور يعتقد أن الإنسان الأول كان كالطفل في تخيله للأشياء وتمثله لها في صور الأحياء، فالنجوم أرباب حية تشعر وتسمع وتطلب ما يطلبه الحي من غذاء ومتاع، وكذلك الرياح والسحب والينابيع والعوارض الطبيعية على اختلافها، فلا جرم يشعر الهمجي الأول بما حوله من هذه القوى الحية شعور الرهبة والرغبة، ويحتاج إلى استرضائها بالصلاة والدعاء كما يسترضي الأقوياء من بني قومه بالملق والرجاء.

ويسبق هربرت سبنسر هذا التفسير بتفسير يوافقه في ظواهر الاستحياء ولا يوافقه في تعليل الاستحياء.

فالإنسان الأول - على ما يرى سبنسر - كان يؤمن بحياة الأرباب؛ لأن عبادة الأسلاف هي أقدم العبادات، وكان يرى الأطياف في المنام فيحسب أنها باقية ترجى وتخشى، وأنها تتقاضاه فروضا لها عليه كفروض الآباء على الأبناء وهم بقيد الحياة.

ولكن يرد على القول بعبادة الأسلاف أنها لم تستغرق عبادات الأقدمين في زمن من الأزمان، وأن النائم يرى أطياف الغرباء كما يرى أطياف الآباء، ويرى أطياف الأطفال الضعفاء، بل يرى أطياف السباع التي يخافها في يقظته فلا يعبدها؛ لأنه يخافها وتتردد عليه أطيافها، بل يقتلها ويحول بينها وبين الطعام.

ومهما يبلغ من قصور العقل في الهمج فهم لا يجهلون أن «الروح» الذي يحوم حولهم في طلب الطعام والشراب يحتاج إليهم ولا يستغني عنهم، فإن شاءوا منعوا عنه القوت فأردوه، وإن شاءوا والوه بالقوت فأبقوه، ولو لم يكن محتاجا إليهم لما حام حولهم ولا انتظر منهم أن يسترضوه بإشباعه وإروائه، ولماذا لا يسعى لنفسه كما كان يسعى لها وهو مقيم بين ذويه؟

ومن الواجب أن تسأل إذا كان الهمجي كالطفل ينظر إلى جميع الأشياء كنظرته إلى الحي الذي يقصد ما يفعل: ترى لماذا لم يعبد الهمجي جميع الأشياء؟

لا بد أنه قد عرف قبل العبادة وصفا للربوبية يميز به طائفة من الكائنات عما عداها، ويرى ذلك الوصف موفورا في هذا الشيء وغير موفور في سواه.

وقد نقل السائحون عن أقزام أفريقيا الوسطى - وهم في حضيض الهمجية - أنهم يؤمنون برب عظيم فوق الأرباب، وعرفت من الهمج قبائل مسفة في الجهالة لم تعبد الأسلاف، وجعلت ظواهر الطبيعة مسخرة لروح عظيم.

ويرجح آخرون أن السحر هو أصل العبادة وأصل الشعائر الدينية.

ولكن يقال في الرد عليهم: إن السحر يستلزم وجود الأرواح التي تعالج به وتراض بتعاويذه؛ لأن السحر لا يخلق الآلهة وإنما يخلقه السحرة والكهان الذين يخدمون تلك الآلهة، ويزعمون أنهم على مقربة منها وعلى علم بما يغضبها ويرضيها.

وقد شوهد منذ القدم أن طبيعة السحر غير طبيعة العبادة في أساسها؛ لأن السحر منوط أبدا بالأمور الخبيثة والوسائل الدنسة والنفايات التي تعاف وتنبذ في الخفاء، ولم تخل العبادة قط من توسل إلى الخير ورجاء في كرم المعبود، وقلما تخلو من «تطهر» بنوع من أنواع الطهارة يناقض وسائل السحر الخبيث، فكأنما فرق الناس بين العبادة والسحر عندما فرقوا بين الأرباب المرجوة والأرباب المرهوبة، فاتخذوا العبادة لأرباب الخير والمحبة، واتخذوا السحر لأرباب الشر والبغضاء.

ومهما يكن من تعليل نشوء السحر فليس لنا أن نزعم أن الناس سحروا ثم عبدوا، بل يحق لنا أن نزعم أنهم قد عبدوا ثم سحروا؛ لأن السحر اختراع لا معنى له ما لم يسبقه إيمان بالمعبودات التي يروضها السحرة ويخافها العباد. •••

والأكثرون من ناقدي الأديان يعللون العقيدة الدينية بضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه فيه من القوى الطبيعية والأحياء، فلا غنى له عن سند يبتدعه ابتداعا ليستشعر الطمأنينة بالتعويل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه.

على أن القول بضعف الإنسان تحصيل حاصل إن أريد به بطلان العقيدة الدينية وإثبات التعطيل؛ لأن الإنسان ضعيف على كلا الفرضين، فليس من شأن ضعفه أن يرجح أحد الفرضين على الآخر.

فإذا ثبت أنه من خلق إله فعال قدير فهو ضعيف بالنسبة إلى خالقه، وإذا لم يثبت ذلك فهو ضعيف بالنسبة إلى الكون ومظاهره وقواه، فماذا لو كان قويا مستغنيا عن قوى العالم؟ أيكون ذلك أدعى إلى إثبات العقيدة الدينية والإيمان بالله؟

إننا إذا حكمنا ببطلان العقيدة الدينية لضعف الإنسان فقد حكمنا ببطلانها على كل حال، ثبت وجود الله أو لم يثبت بالحس أو البرهان! لأنه لن يكون إلا ضعيفا بالنسبة إلى الخالق الذي يبدعه ويرعاه.

لكن الواقع أن الضعف لا يعلل العقيدة الدينية كل التعليل؛ لأنها تصدر من غير الضعفاء بين الناس، وليس أوفر الناس نصيبا من الحاسة الدينية أوفرهم نصيبا من الضعف الإنساني سواء أردنا به ضعف الرأي أو ضعف العزيمة، فقد كان الأنبياء والدعاة إلى الأديان أقوياء من ذوي البأس والخلق المتين والهمة العالية والرأي السديد، ومهما يكن من الصلة بين ضعف الإنسان واعتقاده فهو لا يزداد اعتقادا كلما ازداد ضعفا ولا يضعف على حسب نصيبه من الاعتقاد، وما زال ضعفاء النفوس ضعفاء العقيدة، وذوو القوة في الخلق ذوي قوة في العقيدة كذاك.

فليس معدن الإيمان من معدن الضعف في الإنسان، وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل، ولا إمام الناس في الاعتقاد إمامهم في الوهن والهزال.

وربما كان الأصح والأولى بالتقرير والتحقيق أن العقيدة تعظم في الإنسان على قدر إحساسه بعظمة الكون وعظمة أسراره وخفاياه، لا على قدر إحساسه بصغر نفسه وهوان شأنه.

فمبلغ الإحساس بالعظمة هو مبلغ الإحساس بالعقيدة الدينية، وصغر الكون في نظر الإنسان نقص في الشعور بظاهره وخافيه، ونقص من أجل ذلك في طبيعة الاعتقاد وطبيعة الإيمان.

ومن هنا تكون الحاسة الدينية مجاوبة صحيحة للوجود العظيم الذي يحيط بالإنسان، سرمديا بعيد الأغوار عميق القرار.

فليس الكيان الصحيح هو الذي يمر بهذا الوجود السرمدي كأنه لا يراه ولا يهتز له ولا يستجاش من أعماقه إذا سبر غوره فقصر عن مداه.

وإنما الكيان الصحيح هو الذي يجيش بتلك الحاسة القوية، فيستهول الكون ويستقبله بالحيرة والتقديس؛ لأنه في الواقع هائل محير جامع لمعاني القداسة من حيث نجمت في لغة اللسان أو لغة الضمير.

وعلى هذا تكون العقيدة من مصدر الصحة؛ لأنها تجاوب الوجود المحيط بالنفس الإنسانية، ولا تكون من مصدر النقص والغفلة عن حقائق الأمور.

وإذا رجح العقل بأن العقيدة «ظاهرة اجتماعية» يتلقاها الفرد من الجماعة فليس الضعف إذن بالعامل الملح في تكوين الاعتقاد؛ لأن الجماعة تحارب الجماعة بالسلاح المصنوع وقوة الجنان مع القوة العددية، وتقيس النصر والهزيمة بهذا المقياس المعلوم، فلا تلجأ إلى مقياس العقيدة المجهول إلا إذا آمنت به لباعث غير باعث التسلح والاستقواء.

ورأي فرويد

Freud

قريب من رأي هؤلاء الذين يردون العقيدة الدينية إلى شعور الخوف في وسط العناصر الطبيعية، وربما اختلط به مزيج من الغريزة الجنسية في بعض المتهوسين وذوي الأعصاب السقيمة، فإن حب الله - كما يفسره فرويد عند هؤلاء - هو بمثابة الحب الجنسي في حالة «التسامي» أو حالة الحماسة، وتتشابه العوارض كلها مع هذا الفارق بين الحبين.

قال فرويد في مقاله مستقبل وهم: «ومتى نما الطفل ورأى أنه قد كتب عليه أن يظل طفلا ما طوال حياته، وأنه لن يستغني عن حماية في وجه القوى الجبارة المجهولة - خلع عليها صورة الأبوة، وخلق لنفسه الآلهة التي يخافها ويرجو أن يستميلها، ولا بد له من أن يكل إليها أن تحميه وترعاه، ومن هنا يصبح تفسير الشوق إلى الأبوة مقرونا بالباعث الآخر وهو حماية الإنسان من جرائر ضعفه، فتؤدي حالة الطفل الذي يشعر بقلة حيلته ولا يقوى على الحرمان من حنان الأبوة - إلى حالة الرجل الكبير الذي يشعر بقلة الحيلة أيضا ويفتقر إلى نوع من الحنان الأبوي، فيصيبه في الديانة.»

وقال في الحضارة ومقلقاتها بعد أن أشار إلى آلام الواقع ومحاولة الهرب منها إلى التعزي بالأوهام: «إن ديانات بني الإنسان جميعا ينبغي أن تحسب في عداد الأوهام الجماعية التي من هذا القبيل، ولا حاجة إلى القول بأن الذي يخضع للوهم لا يعلم أنه من الواهمين.» •••

ومن الواضح أن حالة «التسامي» هي آخر ما ارتقت إليه الديانات، فلا يمكن أن يقال إنها ينبوع العقيدة الهمجية الأولى.

ولا يمكن كذلك أن يقال إن «العقيدة الدينية» حالة مرضية في الآحاد والجماعات؛ لأننا لا نتخيل حالة نفسية هي أصح من حالة البحث عن مكان الإنسان من هذا العالم الذي ينشأ فيه، ولا يتجاهل حقيقته إلا وهو في «حالة مرضية» أو حالة من أحوال الجهالة تشبه الأمراض.

ولا بد أن نسأل: ما هو الكون في نظر الهمج الأولين؟ لأن الهمجي إذا أدرك أن الكون «كل واحد» كان قد ارتفع بنظرته عن الجهالة البدائية وقضى دهرا طويلا وهو متدين على مختلف الديانات، فلا يقال إذن إنه بقي بغير أرباب حتى أدرك الكون العظيم، وأدرك ضعفه وقلة حيلته بالقياس إليه.

أما إن كان الهمجي الأول يخاف العناصر المحيطة به فهو لا يتوهم أنها أحياء تفهم وتسمع دعاءه بعد أن ينحلها عواطف الأبوة، بل يتوهم ذلك قبل أن ينحلها تلك العواطف، ويشعر بأنها قابلة لأن تحل منه محل الآباء من الأبناء، فمرحلة الشعور بالأبوة مسبوقة لا محالة بمرحلة أخرى قد نشأت فيها الأرباب والعبادات.

وقد أسلفنا في هذه الصفحات أن معدن العقيدة غير معدن الضعف، فليس أكثر الناس اعتقادا هم أكثرهم ضعفا، وليس الضعيف دائما بالقوي في التدين والاعتقاد. •••

وطائفة أخرى من علماء الإنسان يقرنون بين «الطوطم» والدين، ويظنون أن الطواطم هي طلائع الأديان بين الهمج الأولين.

وقد تحقق أن شعائر الطواطم منتشرة بين مئات القبائل الهمجية في أستراليا وإفريقية والأمريكتين وبعض أقطار القارة الآسيوية وجزائرها.

فلا تزال في هذه القارات قبائل كبيرة وصغيرة تتخذ لها على الأكثر حيوانا تجعله طوطما وتزعمه أبا لها أو تزعم أن أباها الأعلى قد حل فيه، وقد يكون الطوطم في بعض الحالات نباتا أو حجرا يقدسونه كتقديس الأنصاب.

وإذا اتخذت القبيلة «طوطما» لها حرمت قتله وأكله في أكثر الأحوال، وحرمت الزواج بين الذكور والإناث الذين ينتمون إلى ذلك الطوطم ولو من بعيد، وقد يكون للقبيلة الكبرى بطون متفرقة تتعدد طواطمها ويجوز الزواج بين المنتمين إليها، ولكنهم يحرمونه في الطوطم الكبير.

ومن هذه اللوازم الطوطمية يرجح المخالفون لهذه الفكرة أن الطوطمية لم تكن أصل العقيدة الدينية؛ لأنها تنشأ بعد اتساع القبائل واعترافها بأنظمة الزواج وآداب المعاملات، وليست هذه المرحلة أولى المراحل في تطور الاعتقاد.

ولا شك أن الناس قد عرفوا شيئا يسمى «الروح» يحل في جسد الحيوان أو يتلبس به قبل أن يعرفوا الطوطمية، وعرفوا كذلك تقديس الأسلاف قبل أن يعرفوها، وقد وجدت قبائل شتى تتخذ الطواطم وتعبد أربابا غيرها، ووجدت قبائل لا تخلع على الطواطم صفة الأرباب على الإطلاق. •••

والفيلسوف الفرنسي - هنري برجسون - يرجع بالعقيدة الدينية إلى مصدرين: أحدهما اجتماعي لفائدة المجتمع أو فائدة النوع كله، والآخر فردي يمتاز به آحاد من ذوي البصيرة والعبقرية الموهوبة.

فالحاسة الدينية الاجتماعية هي «حيلة نوعية» يلجأ إليها خيال النوع الإنساني لكبح الأثرة الفردية وإقناع الإنسان بنسيان مصالحه في سبيل المصالح الكبرى التي تتعلق بها حياة النوع في جميع الأحوال، فإن الإنسان لو استوحى عقله وحده خدم نفسه وأطاع لذته، ولم يحمل الألم ولا الخسارة من أجل أبناء نوعه، ولما كانت إرادة الحياة مستكنة في النوع كما هي مستكنة في آحاده على انفراد نشأت من الغريزة النوعية ملكة يسميها برجسون بملكة الخرافة الرمزية أو ملكة الأساطير، وتكفلت للإنسان بخلق العوض الذي يستعيض به عن منافعه ولذاته حين يهجرها لمنفعة نوعه، فاعتقد الجزاء بعد الحياة، وأحس أنه محاسب على الإضرار بغيره، مثاب على الخير الذي يسديه إلى أبناء نوعه، واقترنت فيه أثرة الفرد بأثرة النوع، فاستقامت على التوازن بينهما مصلحته ومصلحة الناس أجمعين.

أما الحاسة الدينية في الفرد الممتاز فهي الإلهام أو الكشف الذي يصل بينه وبين قوة الخلق أو دفعة الحياة

Elan Vital

كما يسميها برجسون، وقد تطورت دفعة الحياة هذه في ذهن الفيلسوف حتى أصبحت في كتبه الأخيرة «ذاتا» إلهية تغير ولا تتغير، ولكنها كونية غير منفصلة عن هذه الموجودات، وهي تتجلى على أكملها وأوضحها في بديهة النخبة المختارين من كبار العباقرة الروحانيين، وهم خالدون كما يرجح الفيلسوف أو أن خلودهم مسألة لا يمنعها العقل ولا يبعد أن تحققها الدراسات النفسية بالأسانيد العلمية، ولو بعد حين.

ويسأل السائل هنا: إذا كانت للخلق قوة كونية تتجلى لبعض الملهمين فلماذا تكون الحاسة الدينية الاجتماعية وهما مختلفا أو خرافة مزخرفة أو اختراعا لا أساس له غير الحيلة النوعية لحفظ البقاء؟ لماذا لا تكون من قبيل «التلمس» البديهي لتلك القوة الكونية؟ لماذا لا تكون في هذا «الوجود» ذات إلهية ثم نسمي البحث عنها حيلة مختلفة أو وهما من الأوهام؟ •••

وممن يسمع لهم رأي راجح في مباحث العقيدة إمام علماء اللغات المحدثين «ماكس موللر» صاحب الرأي المعدود في اشتقاق اللغات ومعاني الأساطير وعلاقتها بالعقائد والعبادات، فهو يؤمن بأن «البصيرة» هبة عريقة في الإنسان، وأننا كما قال - في كلامه على مقارنة الأساطير: «مهما نرجع بخطوات الإنسان إلى الوراء لن يفوتنا أن نتبين أن منحة العقل السليم المستفيق كانت من خصائصه منذ أوائل عهده، وأن القول بإنسانية متسلسلة على التدريج من أعماق البهيمية إنما هو قول لن يقوم عليه دليل.»

ومصداقا لهذا الرأي يرجح موللر أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذي ليس له انتهاء، وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراه في الكون وهو الشمس التي تملأ الفضاء بالضياء، فهي محور الأساطير والعقائد كما ثبت له من المقابلة بين اللغات واللهجات.

وإذا قيل لموللر إن «الأبد» أو اللانهائية معنى لا توجد له كلمة في اللغات الهمجية ولا الحضارة الأولى قال إن الإحساس بالمعاني يسبق اختراع الكلمات، وقد ثبت أن الإنسان الأول لم يضع في لغاته كلمات لبعض الألوان، مع أنها قديمة محسوسة بالنظر موصولة بتجاربه اليومية. فإذا بحثنا عن لفظة تدل على معنى اللانهاية فلم نجدها في لغات الإنسان القديمة فليس ذلك بدليل على أن المعنى النفساني غير موجود أو غير محسوس. •••

ويبدو لنا أن القول بإدراك «الهمجي» لفكرة اللانهاية بعيد التصديق، وأنه لو كان قد أدركها قبل أن يتدين لتنزهت عقائده الأولى عن كثير من السخف الذي لا يجمل بتلك الحقيقة الكبرى، ولا يسلم من فساد الذوق ولا من العجز عن فهم العظائم التي تتجاوز أفقه الضيق ومعيشته المحدودة. •••

وإلى هنا نحسب أننا قد ألممنا بأهم الفروض التي خطرت على الأذهان في تعليل العقيدة الدينية، أو تعليل نشأتها الأولى.

وجملة ما يقال فيها أننا لا نجد فرضا منها يستوعب أسباب العقيدة كلها ويغنينا عن التطلع إلى غيره.

وجملة ما نفهمه من ذلك أن مسألة العقيدة أكبر من أن يحصرها تعليل واحد، وأنها قد تتسع لجميع تلك التعليلات معا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات.

وهكذا كل شعور واسع النطاق في طبيعة الإنسان.

فما من شعور متغلغل في أصول الطبيعة يقبل التفسير على وجه واحد والانطواء في هيئة واحدة، ولو كان مقصورا على العالم المحسوس فضلا عن عالم الغيب أو عالم ما بعد الطبيعة.

فلا يكفي في تفسير الحب مثلا أن نفسره بحب البقاء أو بحب الجمال أو بحب اللذة أو الغلبة أو بحب التضحية والمفاداة.

ولا يكفي في تفسير الوطنية مثلا أن نفسرها بالمصلحة أو باللغة أو بوحدة التاريخ أو بوحدة المكان أو بوحدة الدين أو بعصبية القرابة.

فالمسألة الكونية - بل المسألة الأبدية - أعظم جدا من المسألة النوعية أو المسألة الوطنية، وأحق من جميع المسائل بتعدد الأسباب وتشعب المناحي وغرابة الأطوار.

وليس مما يقدح في النتيجة أنها نجمت من هذا السبب أو ذاك، على اختلاف قيمة الأسباب في الفكر والشعور.

فالإنسان قد وصل إلى الطب النافع من طريق الشعوذة، ووصل إلى الكيمياء الصحيحة من طريق الكيمياء الكاذبة، ووصل إلى الصواب على الإجمال من طريق الخطأ على الإجمال، ولا يقول أحد: إنه لن ينتهي إلى صواب إلا إذا بدأ على صواب، وإنه إذا أخطأ في المحاولة وجب أن يلزمه الخطأ بغير أمل في الهداية.

ويجوز على هذا أن تنبعث العقيدة عن أكثر الفروض المتقدمة ولا تنبعث عن فرض واحد، ولكنها على تعدد الأسباب يمكن أن تجتمع في تفسير يشملها جميعا لأنه يعتبر بمثابة التعميم الذي لا تشذ منه ناحية من نواحي التخصيص.

فنحن لا نهمل سببا يخطر على البال إذا قلنا: إن العقيدة هي ترجمان الصلة بين الكون والإنسان، أو قلنا: إنها مظهر الصلة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر كما يقول جماعة المتصوفة والنساك.

فلا بد من صلة بين الكون وبين كل موجود فيه.

ولا بد من أن تمتزج هذه الصلة بالوعي والشعور متى كان الموجود من أصحاب الوعي والشعور.

ومن العجيب أن يعرف العلماء شيئا يسمى الغريزة النوعية، بل شيئا يسمى غريزة الجماعة، ولا يعرفون شيئا يسمى الغريزة الكونية أو السليقة الكونية، أو ما شاءوا من الأسماء.

فمن المحقق أن الصلة بين الكون وموجوداته ماثلة في جميع الموجودات، ومن المحقق أن «الوعي» لا يخلو من ترجمان لهذه الصلة لا يحصره العقل؛ لأنه سابق له محيط به غالب عليه.

ومن المحقق أن «الوعي الكوني» ملكة قابلة للترقي والاتساع؛ لأن الحقائق التي تقبل الفهم في الكون لا تزال على اتساع وارتفاع يفوقان كل وعي ترقى إليه بنو الإنسان.

بل هذه الحواس الجسدية - ودع عنك الحقائق الأبدية - لا تحيط بكل ما تحسه العيون والأنوف والآذان، فبعض الحيوان يستنشق الرائحة على بعد أميال وهي كالعدم في أنف حيوان آخر ولو كانت منه على مدى قراريط، وبعض الأصوات نلتقطها بالآلات من وراء البحار والقفار وقد كان الظن قبل العصر الحاضر أن الصوت «عدم» على مد البصر القريب، ومن زعم أن «الموجود» هو ما تناوله الحس دون غيره كذبه الحس نفسه وقامت الحجة عليه من العيون والأنوف والآذان فضلا عن البصائر والعقول.

ففي الكون مجال «للوعي الكوني» أوسع من مجال الحواس والملكات، وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلا بد من دخولها في نطاق وعيه على مثال من الأمثلة، ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التي تطيقها ملكات الجنس البشري، ومنها ملكة الاعتقاد والإيمان.

وفي الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلى الآن.

ولا يوجد عقل سليم يمنع أن تترقى المقابلة بين الحواس النفسية وبين تلك الحقائق، ما دامت قائمة، وما دام الوعي في طريق الارتفاع والاتساع.

ولا يوجد عقل سليم يمنع التفاوت في هذه الحواس النفسية - التي نسميها بالوعي الكوني - فيمتلئ بها أناس ويقفر منها أناس، ويكون الفارق فيها بين الموهوبين والمجردين كالفارق - على الأقل - بين أذن الموسيقي التي تميز مئات الألحان، وآذان السواد الذين يحسبونها كلها صوتا واحدا أو بضعة أصوات.

ونقول: «على الأقل»؛ لأن المحسوسات التي تدرك بالأذن أضيق من المحسوسات التي تدرك بالكيان كله مما يعيه وما لا يعيه.

فإذا قال لنا قائل إنني أحس «الحقيقة الكونية» أو أحس خالق الكون فلا ينبغي أن نكذبه لزعمنا أن الحقيقة الكونية مستحيلة وأن الوعي الكوني مستحيل؛ فإن الحقيقة الكونية لا شك فيها وإن الوعي الكوني لا شك فيه، ولكننا نكذبه - إن كذبناه - متى شككنا في صدقه كما نكذب من نشك في روايته لوقائع العيان، ولا شك في وقائع العيان.

ولنا أن نستبعد هذا الأصل أو ذاك من أصول العقائد الهمجية الغابرة أو الحاضرة، ولكن ليس لنا أن نستبعد «الوعي الكوني»؛ لأنه حقيقة يستلزمها العقل وتؤكدها المشاهدة في كل زمن وفي كل موطن وفي كل قبيل.

فالعقل الذي يرى للإنسان غرائز نوعية وغرائز اجتماعية يستبعد كل الاستبعاد أن يخلق الإنسان وهو ذرة من قوى الكون ومادته ثم يخلو من وعي يترجم هذه العلاقة التي هي أكثر من علاقة؛ لأنها احتواء واشتمال.

والديانات في كل قبيل تترجم هذا الوعي الكوني منذ القدم وتمثله بما تشاء من الرموز والعبارات، وهذا عدا الآحاد الممتازين الذين يبلغ فيهم هذا الوعي أقصاه ولا يسهل تفسير حالاتهم بعوارض الجنون كما يقول عنهم الجهلاء من أبناء قومهم، فإن هؤلاء الآحاد هم في الغالب من أعظم الرجال وأقدرهم على تبديل أحوال الشعوب والأجيال، ولا يسعنا أن نصرف حالاتهم بهذه السهولة أو بكلمة واحدة تسمى الجنون، وهي هي الحالات التي ترتبط بها عقائد الملايين وألوف الملايين، ونعلم أنها لازمة ومعقولة بل أعظم من اللازم والمعقول؛ لأننا إذا حذفنا تلك الحالات وما تعبر عنه من العقائد نظرنا إلى الإنسان بعدها فإذا هو أعجب من أعجب الخرافات في أسخف البدائه والعقول؛ إذ نحن نراه موجودا في عالم منبت عنه لا يحسه ولا يبالي أن يحسه ولا يربط حياته بظواهره وخوافيه ولا يقابل تلك الأسرار بسر فيه، وإن غيلان الصحراء وهامات الجاهلية وأصداءها لأقرب إلى العقل من هذا الإنسان.

أطوار العقيدة الإلهية

يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب: وهي دور التعدد

.

ودور التمييز والترجيح

Henotheism .

ودور الوحدانية

Monotheism .

ففي دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات وقد تتجاوز العشرات إلى المئات، ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور وتقبل الصلوات والقرابين.

وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها ويأخذ رب منها في البروز والرجحان على سائرها، إما لأنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة وتعتمد عليها في شئون الدفاع والمعاش، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة، كأن يكون رب المطر، والإقليم في حاجة إليه، أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء أو خشية، يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية.

وفي الدور الثالث تتوحد الأمة فتجتمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة، ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها، ويحدث أيضا أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلهها، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع والحاشية للملك المطاع.

ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلا بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة ويتعذر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية، فتصف الله بما هو أقرب إلى صفات الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية، وكثيرا ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية.

والرأي الأرجح عند علماء المقابلة بين الأديان أن الاعتقاد بالثنائية

Dualism

يأتي أحيانا كثيرة بعد اعتقاد الوحدانية على الصورة التي أجملناها، وهي الوحدانية الناقصة التي تأذن بوجود الأرباب معها أو بتنازع الوحدانية بين إله دولة وإله دولة أخرى.

وهم يعللون ظهور الثنائية بعد الوحدانية بأن الإنسان يترقى في هذا الطور فيحاول تفسير الشر في الوجود بنسبته إلى غير إله الخير، ولا يكون هذا من قبيل النكسة في عقيدته؛ لأنه لا يزال يسيغ تعدد الأرباب ويسيغ التمايز والترجيح بينها والتفاوت بين درجاتها وطبائعها، فلا تكون الثنائية بعد الوحدانية نكسة من الأعلى إلى الأدنى، بل تقدما من الأدنى إلى الأعلى لتنزيه الله والارتفاع بصفاته إلى أرفع صور الكمال الموافقة لترقي الإنسان في أطوار العبادة.

وأثبت من هذا عندهم - أي عند علماء المقابلة بين الأديان - أن وحدة الوجود

تأتي بعد جميع الأطوار توفيقا بين النقائض والضرورات، وإثباتا لوجود الله من طريق الثبوت الذي لا شك فيه، وهو ثبوت الكون بالحس والعقل والإيمان. •••

ولم تكن أرباب الأمم الماضية في جميع أطوارها نوعا واحدا أو مثلا لفكرة واحدة، ولكنها أنواع شتى يمكن أن نجمعها في الأنواع التالية، وهي: (1)

أرباب الطبيعة أو الأرباب التي تتمثل فيها مشاهد الطبيعة وقواها كالرعد والبرق والمطر والفجر والظلام والينابيع والبحار والشمس والقمر والسماء والربيع. (2)

أرباب الإنسانية وهي الأرباب التي تقترن بأسماء الأبطال والقادة المحبوبين والمرهوبين، ويحسبهم عبادهم من القادرين على الخوارق والمعجزات. (3)

وأرباب الأسرة وهم الأسلاف الغابرون، يعبدهم أبناؤهم وأحفادهم ويحيون ذكراهم بالحفلات والمواسم المشهودة كما يحيي الناس ذكرى الموتى في هذا الزمان ويزورونهم بالأقوات والألطاف، ولكن مع هذا الفارق البين: وهو أن الرجل الهمجي لا يمنعه مانع أن يجعل الذكرى عبادة وأن يجعل هدايا القبر في حكم الضحايا والقرابين. (4)

أرباب المعاني كرب العشق ورب الحرب ورب الصيد ورب العدل ورب الإحسان ورب السلام. (5)

أرباب البيت كرب الموقد ورب البئر ورب الجرن ورب الطعام. (6)

أرباب النسل والخصب، وهي على الأغلب الأعم في صورة الإناث، ويسمونها بالأمهات الخالدات، وقد ترقت مع الزمن إلى واهبات الخلود بعد هبة الحياة. (7)

آلهة الخلق التي ينسب إليها خلق السماء والأرض والإنسان والحيوان. (8)

الآلهة العليا وهي آلهة الخلق التي تدين عبادها بشرائع الخير وتحاسبهم عليها وتجمع المثل العليا للمحاسن والأخلاق، وتضمن السعادة الأبدية للأرواح في عالم البقاء.

وهذه الطبقة من طبقات العبادة هي أرقى ما بلغته الإنسانية في أطوارها المتوالية، واستعدت بعده للإيمان بإله واحد لجميع الأكوان والمخلوقات بغير استثناء أمة من الناس. •••

ومن العسير جدا أن نبني من هذه الأطوار جميعا سلما متعاقب الدرجات لا تتقدم فيه درجة على درجة ولا يتلاقى فيه نوعان أو أكثر من نوعين من المعبودات.

فقبائل الهوتنتوت الأفريقية التي لم تفارق مرتبة الهمجية حتى اليوم، ولا يزال أناس منها يأكلون لحوم البشر، تعرف إلها واحدا فوق جميع الآلهة يسمى أبا الآباء.

وقبائل البانتو الأفريقيون يقسمون المعبودات إلى ثلاثة أنواع: نوع هو بمثابة الأطياف الإنسانية الراحلة وهو الذي يسمونه ميزيمو

Mizimu ، ونوع هو أرواح لم تكن قط في أجساد البشر وهو الذي يسمونه بيبو

ويزعمونه قابلا للتفاهم والاتصال بالعرافين والحكماء، ونوع مفرد لا جمع له وليس من الأطياف ولا من الأرواح المتعددة ويسمونه «مولنجو»

Mulungu . لا يمثلونه في وثن ولا تعويذة ولا تفلح فيه رقية الساحر ولا حيلة العراف، وفي يديه الحياة والسطوة ووسائل النجاح في الأعمال، ويصفونه بأعلى ما في وسعهم من صفات التجريد والتفرد والكمال.

وكفار العرب كانوا قبيل البعثة المحمدية يدين أناس منهم بالمسيحية وأناس باليهودية ويذكرون «الله» على ألسنتهم ويسمون أبناءهم بعبد الله وتيم الله، ويعبدون مع ذلك أسلافهم فيقولون إن أصنام الكعبة تماثيل قوم صالحين، كانوا يطعمون الطعام ويصلحون بين الخصوم، فماتوا، فحزن أبناؤهم وإخوانهم عليهم، وصنعوا تلك الأصنام على مثالهم، وعبدوهم من فرط الحب والذكرى، ولكنهم لم يعبدوهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.

ووصل المصريون إلى التوحيد، وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة على حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله، فكان أوزيريس هو إله الشمس باسم رع، وهو الإله الخالق باسم خنوم وهو الإله المعلم الحكيم باسم توت وهو في الوقت نفسه إله العالم الآخر وإله الخلق أيضا حيث ينبت منه الزرع ويصورونه في كتاب الموتى جسدا راقدا في صورة الأرض تخرج منه السنابل والحبوب، وكانوا بعد كل هذه الأطوار يرسمون أوزيريس على مثال مومياء محنطة ويردون أصله إلى العرابة المدفونة، كأنهم لم ينسوا بعد عبادة الإله الواحد الخالق للكون كله - عبادة الموتى أو عبادة الأسلاف.

واليهود عبدوا العجل بعد عبادة الله الواحد، وسموا الإله الواحد باسم الجمع وهو في العبرية «الوهيم» أو الآلهة، ثم أصبح الجمع علامة التعظيم. •••

فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه، ولكنه لم يكن على سلم واحد متعاقب الدرجات، بل كان على سلالم مختلفة تصعد من ناحية وتهبط من أخرى، وقد أوجب هذا الاختلاف أن الشعب على حدته لا يطرد في التقدم عقيدة بعد عقيدة، ولا تزال له عقائد شتى قلما يسري عليها حكم واحد في عوامل التطور والارتقاء، وأن الديانات نشأت في شعوب كثيرة لا في شعب واحد، فما تقدم هنا لم يلزم أن يتقدم هناك، وما استعاره شعب من شعب غريب عنه قد يكون أرفع من طبقته التي ارتقى إليها من طبقات الحضارة، فيتفق له في الوقت الواحد ضربان من العبادة أحدهما سابق والآخر متخلف، ويتقهقر السابق أحيانا قبل أن يتقدم المتخلف إليه، وربما سمت قبيلة متخلفة ربا من أربابهم باسم خالق الأشياء جميعا ولم يكن ذلك دليلا على ارتفاع في فهم الربوبية، على ضيق في حصر نطاق المخلوقات وقصرها على الحيز المحدود الذي تعيش فيه القبيلة. •••

إلا أن المشاهدات التي أحصاها علماء المقابلة قد تتوافى كلها إلى نتيجة يجمعون عليها، وهي: أن الإيمان بالأرواح شائع في جميع الأمم البدائية، وأن الأمم التي جاوزت هذا الطور إلى أطوار الحضارة وإقامة الدول لا تخلو من مظاهر العبادة الطبيعية، أو عبادة الكواكب على الخصوص وفي طليعتها الشمس والقمر والسيارات المعروفة، وأن عبادة الأسلاف تتخلل هذه الأطوار المتتابعة على أنماط تناسب كل طور منها حسب نصيبه من العلم والمدنية.

أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبرى، فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو على الآلهة قدرا وقدرة وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتى تزول أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله الأعلى.

لكن الأديان الكتابية - بعد كل هذا - هي التي بلغت بالتوحيد غاية مرتقاه وعلمت الناس شيئا فشيئا عبادة الإله «الأحد» الذي خلق الوجود من العدم ووسعت قدرته على كل موجود في السماوات والأرضين، ولم يكن له شريك في الخلق ولا في القضاء. •••

وذاك التوحيد الإلهي الذي نشأ من توحيد الدولة لم يعرض لخلق الكون كله، ولم يذهب بفكرة التكوين إلى أبعد من خلق الإنسان من مادة موجودة لا حاجة بها إلى موجد، ولما بحثوا في خلق الأرض والسماء كانت فكرة الخلق عندهم بمثابة فكرة التنظيم والتجميل؛ لأنهم نظروا إلى مادة الأرضين والسماوات كأنها حقيقة راهنة ماثلة للحس والنظر في غنى عن المبدع ولا حاجة بها إلى شيء غير التركيب والتنسيق، وفرضوا لتركيبها أسلوبا من الصناعة كأسلوب الإنسان في تركيب مصنوعاته من موادها الحاضرة بين يديه، وظل العقل البشري محصورا في هذا الأفق إلى عهد الديانة الإغريقية قبيل الدعوة المسيحية بل بعد الدعوة المسيحية في بعض الجهات بزمن غير قليل، فلم يكن «زوس» كبير الآلهة خالقها ولا خالق الكون بما رحب من أرض وسماء، ولكنه كان بينها كرب الأسرة بين الأبناء والأحفاد؛ أو كالسيد المطاع بين الأعوان والأتباع، وبلغ من سريان هذه «الحالة العقلية» في الأذهان أن الفلاسفة أنفسهم لم يجهدوا عقولهم في البحث عن أصل للمادة الأولى أو الهيولى، كأن وجودها حقيقة مفروغ منها لا تتوقف على مشيئة خارجة عنها. فلما ترقى الإنسان في فهم الوحدانية الإلهية أصغر من الكون بمقدار ما أكبر من الله، فجاء تفكيره في خلق الكون من طريق تعظيمه لقدرة الله وإفراده بالوجود الصحيح والقدرة السرمدية على الإيجاد فاقتحم بالإيمان بابا لم يقتحمه بالتأمل والتفكير.

فالإيمان بالأرواح كان أشيع إيمان وألزمه لبديهة الإنسان في مبدأ هدايته للتدين والاعتقاد.

ولا مانع من تعليل اهتدائه إلى «الروح» بالعلة التي شرحها سبنسر وتيلور: وهي الأحلام واستحياء الجماد؛ إذ لم يكن في طاقته أن يفهم الروح فهما أصح من هذا الفهم في ظلمات الجاهلية وعثرات النظر بين غياهب تلك الظلمات.

فكان ينام ويرى أنه كان يعدو ويرقص ويأكل ويشرب ويقاتل في منامه، ثم يستيقظ فإذا هو في مكانه لم ينتقل منه قيد خطوة إلى مكان غيره، فيقع في حدسه أنه فعل ذلك بالروح الذي يسكن جسده ويتركه أو يعود إليه حين يريد، وكان يرى الموتى في منامه فيحسبهم أحياء يتحركون مثله كما تحرك بروحه وهو نائم بجسده، وراقب الموتى، فرأى أنهم يفقدون النفس حين يموتون، فوقع في حدسه من ذاك أن النفس هو الروح المفارق للأجساد في حالة الموت، فهي شيء في لطف الهواء الخفي يحتجب عن الأنظار فلا تراه، ولا شك على الإطلاق في ارتباط الروح بالهواء في بديهة المؤمنين الأولين بالأرواح، فإن الكلمات التي تطلق عليها في العربية تدل كلها على ذلك، وهي الروح والنفس والنسمة، وكلمة بسيشي

اليونانية معناها النفس كمعنى سبريت

Spirit

في اللغات الأوربية الحديثة، وفي ذلك دلالة لا شك فيها على أصلها الأول من بداهة الإنسان.

ونحن الآن نفهم الظل الذي يلازمنا ونفهم الصورة التي تتراءى لنا حين ننظر في الماء، ولكن الهمجي لم يكن يفهم هذه الظلال ولا هذه الصور كما نفهمها الآن، بل كان يحسبها نسخا حية منه يصاب من جهتها بالسحر والطلاسم، ويصونها من كيد أعدائه كما يصون أعضاء جثمانه، ويحار في هذا الازدواج فيلحقه بازدواج الأشباح والأجساد على نحو من الأنحاء.

ولم يكن جهله بالأشياء دون جهله بالظلال والأشباح، فلا يستغرب منه أن يلبسها ثوب الحياة كما يفعل الطفل حين يعطف على ما حوله من الأشياء أو يقابلها بالرهبة والإحجام، وكثيرون من الراشدين المثقفين في عصرنا هذا يهتاجون فيخاطبون الجماد بالزجر والسباب كما يخاطبون الأحياء، وتغلبهم عاطفة الحزن أو الوجد فيعتبون على الشيء الذي لا حس له، كأنه يحس منهم العتب والدعاء.

والمهم أن الإنسان الأول قد اهتدى إلى فكرة «الروح» من نواحيه التي تلائمه، فكانت هذه الهداية مفرق الطريق في الثقافة الإنسانية سواء منها ثقافة العقل أو ثقافة الضمير.

فتسنى له بذلك أن يفتح لعقله منفذا إلى ما وراء المادة المطبقة على حسه وفكره، ولو ظلت مطبقة عليه هذا الإطباق لفاته العلم كما فاته الدين.

وتبدلت قيم الحياة كلها منذ دخل في روعه إمكان الوجود لما لم يلمس باليد وينظر بالعين. فمن هنا كل تفرقة بين الروح والجسد، وبين العقل والمادة، وبين الحركة والجمود، وبين الخير والشر، وبين النور والظلام، وبين المعاني المجردة والأجسام المحسوسة، ومن هنا كل اتساع في أفق النظر وراء أفق الحيوان.

وإذا حسب الإنسان مكسبه من هذه الهداية فلا ينبغي أن يحسبه بما قصد بل بما وجد، ولا ينبغي أن يقيسه على خطئه في التعليل بل على صوابه بعد ذلك في التوفيق بين العلل والمعلولات.

وينفعنا هنا أن نذكر قصة الأب الذي أوصى أبناءه، وهو يودعهم ويودع الحياة أن ينبشوا الأرض عن كنز دفنه فيها ونسي مخبأه منها، فلما نبشوا الأرض لم يجدوا كنزا من الذهب والفضة، ووجدوا كنزا يساوي الذهب والفضة، ويثمر لهم في كل عام كنوزا بعد كنوز.

فلما وقع الإنسان الأول على فكرة الروح وقع عليها خطأ لا شك فيه، ولكنه خطأ توقف عليه إلهام الصواب في عالم العقل وعالم الضمير. •••

وقد امتزجت عقيدة الروح بكل عقيدة دينية بعد أطوار العقيدة البدائية وفي أثنائها فعبادة الأسلاف لا تخطر على بال ما لم تخطر معها فكرة بقاء الأرواح، وإنما تترقى الأنماط على حسب الترقي في المعارف والمعقولات، فالهمجي الذي جهل أسرار التناسل قد يتخذ له جدا معبودا يتمثله في شبح الأسد أو الكلب أو الصقر أو العقاب، ولا ينكر أن يكون أبوه من سلالة الحيوان جسدا وروحا بغير مجاز؛ لأنه لا يفقه المانع الذي يمنع الروح أن تسكن جسم حيوان كما تسكن جسم إنسان، والحضري الذي تهذب واستطلع أسرار الخليقة بعض الاستطلاع يجعل أباه روحا تتجلى في الشمس، ويفرق بين أبوة الأجساد وأبوة الأرواح، وعلى هذا المثال ولا ريب زعم الكهنة أن هذا الفرعون أو ذاك من الفراعين ابن الشمس أو ابن أوزيريس، ولم يفهموا ولا فهم أحد من ذلك أنهم ينكرون أبوته الجسدية المسجلة بالميراث، وبحقها يجلس على عرش أبيه.

ولا يرى علماء المقابلة أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة، ولكنهم يقررون أن «ديانة الشمس» لم تنتشر في تلك الأطوار؛ لأنها تستلزم درجة من الثقافة العلمية والأدبية لا تتيسر للهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ، فلا بد قبل ذلك من نظرة فلكية عالمية تحيط بعض الشيء بنظام الأفلاك وعلاقة الشمس بالفصول ومواعيد السنين حتى تنتظم «للديانة الشمسية» مراسم ومواسم، وتقام لها معابد ومحاريب، وتنتظم لها شعائر وصلوات وقرابين، ولا بد للمتدين بالديانة الشمسية من علم بآثار الشمس في إنبات الزرع، وتسيير الرياح، وشفاء الأمراض، وتقليب الأيام والأعوام، وضبط مواقع السيارات، وما يتخيلونه بها من طوالع السعود والنحوس، ولهذا سبقت عبادة القمر عبادة الشمس في قبائل شتى؛ لأنهم ربطوا بين القمر والحيض والولادة، لانتظام الحيض في مواعيد قمرية وسهولة هذه الملاحظة من غير حاجة إلى علم الفلك والحساب.

وتستدعي ديانة الشمس غير هذا أن يرتفع العقل البشري بفكرة الخلق من أفق الأرض القريب إلى الآفاق العليا في السموات، فتتسع دنياه وتتعاظم فيها دواعي الحركة والسكون والحياة والموت، ويقترب من الأوج الذي يستوعب فيه الكون بنظرة شاملة، ويلتمس له سببا واحدا «للحصول» كما حصل بعد أن أصبح الكون كله في حاجة إلى التعليل، فإنه كان قبل ذلك يعلل حياته بهذه القوة أو بتلك من العلل الكونية، فإذا بالكون كله لا يستغني عن تعليل مريح.

فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح؛ لأنها أكبر ما تقع عليه العين وتعلل به الخليقة والحياة، فإذا دخلت هي أيضا في عداد المعلولات فقد أصبح الكون كله في حاجة إلى خالق موجد للأرض والسماء والكواكب والأقمار، وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق على فحوى قصة إبراهيم في القرآن الكريم

فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون .

وقد وصل الإنسان إلى عبادة الشمس حين قامت له دول وحضارات، فتلاقت حوله جميع الطرق مجتمعة في طريق التوحيد الصحيح.

ذاك أن القبيلة عبدت أسلافها، وظلت القبائل متفرقة في عبادة الأسلاف حتى غلبت قبيلة على سائر القبائل في أمة واحدة، فوجب أن يسود رب القبيلة الغالبة سائر الأرباب، وتنحدر الأرباب المرجوحة إلى مكان دون المكان الأول، وعمل دون العمل الأعظم المنسوب إلى رب الأرباب، فإذا كان العمل الأعظم هو الخلق فالأرباب التي تتولى ما دونه لا تتسامى إلى مرتبة الإله الخلاق المستأثر بأشرف الصفات وأوحد الأعمال، ثم تنطوي الأمم في الدولة أو الإمبراطورية فيقترب الناس من عبادة إنسانية عامة ، ومن تخصيص الإله الأكبر بما هو أعظم وأشرف من صفات الخلق والتقدير.

وفي الدولة تستفيض العلوم الفلكية والحسابية وتحتل الشمس مكانها المنفرد بين ظواهر الطبيعة جمعاء، فالجد القديم إذن هو الشمس في عليائها وأبناؤه قبس على الأرض من روحها أو من قضائها، وتلتقي الديانة الشمسية بالديانة السلفية من هذا الطريق.

وإذا بقيت في الأمة فرق قوية لا تفنى كل الفناء في الديانة التي يدين بها الملك الأكبر - فهي تحتفظ باستقلال كيانها في عناوين آلهتها المترادفة لا في حقيقة الإله وعنصره الأصيل، فالشمس مثلا هي أوزيريس وخيرا ورع وآمون وآتون، ولكنما اختلفت الأسماء لاختلاف الكهانات والأقاليم.

ومما لا منازعة فيه بين الثقات من علماء المقابلة أن أوزيريس جد قديم في مصر الوسطى، وأن قصته قصة إنسان عاش عيشة الآدميين في زمن من الأزمان، ومما لا منازعة فيه أيضا أن أوزيريس اسم من أسماء الشمس في مغربها أو في جهة المغرب التي اعتقدوا دهرا طويلا أنها هي عالم الأموات، ومما لا منازعة فيه مع هذا وذاك أن اسم أوزيريس أطلق بعد ذلك على الشمس في جميع الأحوال، فكان هذا التدرج نموذجا للسلم الذي تترقى عليه الديانات.

فأوزيريس أول ميت خالد بروحه معبود في قبيلة من جملة قبائل البلاد، ثم تمتزج القبائل فتعبده الأمة كلها أو تميزه بالعبادة على سائر الأرباب، ثم تبرز ديانة الشمس بما ينبغي لها من العلو والتفرد في أفق العبادات، فيتدرج أوزيريس في التلبس بالشمس حتى تنسى أشكاله الأولى فيعود هو والشمس مرادفين لذات واحدة: فهو «أولا» روح إنسان محتفظ بسلطانه بعد الموت ممثل في صورة المومياء للدلالة على الموت والخلود، ثم هو الشمس في حالة الغروب لأنه انتقل من الأرض إلى عالم الأموات، ثم هو الشمس في جميع أحوالها مع تقادم الزمان.

وتستفيد الديانات هنا من عقيدة الروح العريقة أنها جعلت للشمس روحا أو معنى غير محسوس، ينتقل منها إلى البشر المعبودين فيستحقون العبادة لأنهم كائنات علوية لا لأنهم رجال عظماء أو مجرد أسلاف مذكورين بالتجلة والتقديس، وما من أحد في مصر واليونان كان ينكر أن الإسكندر ابن فيليب بالوراثة الجسدية، ولكنهم مع هذا لم يروا شيئا من التناقض في انتمائه إلى عطارد حين زعمت أمه أن عطارد نفخ فيها من روحه وهي تحمل هذا الجنين، ولا رأوا شيئا من التناقض في انتمائه مرة أخرى إلى آمون حين زعم كهان سيوة القديمة أنه ابن آمون.

ولنا أن نقول: إن ديانة الشمس كانت هي القنطرة الكبرى بين عدوة التعديد وعدوة التوحيد، وإنها وافقت اتحاد الأمم في نطاق الدول الجامعة فانتشرت حيث انتشرت الدول الجامعة من أقدم العصور؛ لأنها انتشرت في مصر وبابل وفارس والهند واليابان، وكانت رموزا للقوة الكونية العظمى بعد أن كانت مبدأ الأمر جرما محسوسا يعبد لذاته، وتضاف إليه الروح حينا لأنه معبود حي، ولا حياة بغير روح.

ولا تزال بداءة التوحيد من طريق تأليه الشمس مسألة تخمين لا مسألة يقين، فالحضارات القديمة في الدول قد عمت الأقطار الشرقية بين مصر وبابل وفارس والهند منذ ثمانية آلاف سنة أو تزيد، كلها قد عبدت الشمس وميزتها بالعبادة في دور من الأدوار، فأيها هي الأمة السابقة إلى التوحيد؟ أهي فارس أم الهند أم بابل أم آشور أم مصر أم اليابان في مجاهل القدم قبل اتصالها بالحضارة الآسيوية؟ ليس الجواب على هذا كما أسلفنا مسألة يقين بل مسألة تخمين. وأغلب الظنون المدعمة بالقرائن المعقولة أن مصر بدأت بتوحيد الدين كما بدأت بتوحيد الدولة. فالمؤرخ هيرودوت القديم يقول: إن الإغريق تعلموا أمور الدين من المصريين، والسير إليوت سميث - وهو مرجع موثوق به في تاريخ مصر - يقول: إن شعائر الهند القديمة في الجنائز نسخة محكية من كتاب الموتى، وتفرق الديانات معقول في الدول الأخرى ولكنه غير معقول في قطر يجري فيه نيل واحد ويتحد وجهاه قبل خمسة آلاف سنة على أقل تقدير. •••

وجملة القول: إن أطوار العقيدة الإلهية تشعبت بين الناس فلم تطرد على مراحل متشابهة في جميع الأمم ولا في جميع الأزمان.

ولكننا إذا أحطنا بوجهتها العظمى وجدنا أن عقيدة الأرواح لم تفارق أطوارها الأولى، وأن عبادة الأسلاف امتزجت بعقيدة الأرواح، ثم اتسعت نظرة الإنسان إلى دنياه حتى التمس لها علة في السماء فكانت الشمس هي أكبر ما رآه وتوجه إليه بالعبادة، ثم أصبحت الشمس رمزا للخالق حين تجاوزها الإنسان بنظره إلى ما هو أعظم منها وأعلى، فهي القنطرة الأخيرة بين العدوتين: عدوة التعديد وعدوة التوحيد.

ولم يبق بعد اعتبار الشمس رمزا للقوة الكونية إلا قبول التوحيد الصحيح، فتعلمه الإنسان من الديانات الكتابية شيئا فشيئا حتى بلغ بالقوة الإلهية نهاية التنزيه.

ويبدو لنا هذا الترقي الديني من ترقي العقل في تفسير كلمة الإله، فكلمة «إيل» بالآرامية مرادفة لمعنى القوي أو البطل، ثم أصبحت كلمة الإيل بالتعريف مرادفة لبطل الأبطال أو للبطولة المطلقة، كما نميز عالما بكلمة العالم مع التعريف، لنقول: إنه العالم دون سواه.

ومن فكرة البطل إلى فكرة الله الحي القيوم الأول الآخر الصمد الدائم الذي لا شريك له تاريخ طويل: هو تاريخ العقل في الترقي إلى التوحيد.

وقد ظل الموحدون يناضلون ديانة الشمس مئات السنين لأنها لم تتزحزح عن معقلها بغير جهاد عنيف، ولا ننس أن الموحدين في جهادهم القديم لم ينكروا وجود الأرباب الأخرى، بل سلموا وجودها واعتبروها من شياطين الشر التي ترين على العقول وتحجبها عن هداية الدين القويم. فبقيت إلى عصرنا هذا أيام يحتفل بها أتباع الديانات الإلهية، ولا موجب للاحتفال بها إلا أنها كانت مواسم لعبادة الشمس على الخصوص، فأخذتها الديانات الإلهية؛ لأن الله أحق بالتكريم من أرباب الوثنية ومضى زمن طويل قبل إقصاء تلك الأرباب من حظيرة الوجود، فإنما أخرجها العقل البشري أولا من حظيرة القدس والعبادة وسمح لها بالبقاء في زي الشياطين الخبيثة التي تغتصب الربوبية من الجهلاء فترقى في فهم التوحيد ولم تنته جهوده بالوصول إليه.

الوعي الكوني

ما هي صفة الوجود؟

وبعبارة أخرى: ما هو ألزم لوازم الوجود؟

إننا لا نعرف الشيء الموجود تعريفا سائغا إذا قلنا: إنه هو الشيء الذي ندركه بالحس أو بالعقل أو بالبصيرة؛ لأننا - بهذا التعريف - نعلق الوجود على موجود آخر هو الذي يدركه بحسه أو بعقله أو ببصيرته، فلا يكون الشيء موجودا إلا إذا كان له محسون ومدركون.

إلا أننا نعطي الوجود ألزم لوازمه إذا قلنا: إنه «غير المعدوم» فيكفي أن ينتفي العدم ليتحقق الوجود، وكل ما ليس بمعدوم فهو لا محالة موجود.

وليس من الضروري لانتفاء العدم قوام الكثافة أو قوام التجسد الذي يقبل الإدراك بحاسة من هذه الحواس الجسدية.

فليس هذا القوام الكثيف أو المتجسد ضروريا لإثبات وجود المادة نفسها، وهي التي عرفها الناس ماثلة في الأجسام الكثيفة وسائر المحسوسات.

لأن الأجسام المادية كلها تنتهي إلى ذرات ثم إلى إشعاع في الفضاء، ويحق لنا أن نقول: إن الإشعاع «معنى» أبسط من الحركة؛ لأن الحركة تقع في جسم متحرك وفي وسط تتأتى الحركة فيه، ونحن لا نعرف الوسط الذي يسري فيه الإشعاع إلا بالفروض والتخمينات، ولا نبصر كل إشعاع بالعين المجردة ولو كان على مقربة من العين.

فقوام الكثافة ليس ضروريا لإثبات وجود العناصر المادية فضلا عما عداها، ولا يستلزم وجود الشيء المادي أن يكون له هذا القوام، فيجوز لنا أن نقول: إن الوجود أقرب إلى طبيعة المعقولات المجردة منه إلى طبيعة الملموسات والمحسوسات.

وسواء جاز هذا أو لم يجز فلا شك أن العدم ينتفي بمجرد العلم بالوجود، ولا يستلزم انتفاؤه أن يتلبس هذا العلم بمادة لها قوام، فعلم الموجود بوجوده يحقق له كل صفات الوجود التي ينقضها العدم، وليس لها نقيض سواه.

وليس لأحد أن ينكر وجود شيء من الأشياء لأنه لا يدركه بحاسة من حواسه التي تعود أن يدرك بها الأشياء.

فقد تتم للشيء كل صفات الوجود وهو غير محسوس، وقد تدق الحاسة الطبيعية حتى تتجاوز أضعاف مداها المعهود في معظم الأحياء، وقد تتضاعف بالوسائل الصناعية فيثبت لنا أن الأسماع والأبصار قد فاتها شيء كثير مما يدرك بالآذان والعيون.

فالموجودات إذن غير محصورة في المحسوسات.

ومن الواجب أن نسلم بقيام موجودات لا تحيط بها الحواس والعقول؛ لأن إنكارها جهل لا يقوم على دليل ، ولأن وجودها ممكن وليس بالمستحيل! بل هو ألزم من الممكن على التحقيق؛ لأن الحواس كلها لم تكن إلا محاولة مترقية لإدراك ما في الوجود، ولم تقف هذه المحاولة ولا هي مما يقبل الوقوف؛ إذ وقوفها يستلزم مانعا يعوقها أن تزداد كما ازدادت فيما مضى، وأن تترقى كما ترقت في طبقات المخلوقات، وليس هذا المانع بالمعروف.

فمما لا شك فيه أن الكون أعم من الوعي الإنساني على اختلاف درجاته، وأن الوعي الإنساني كله أعم من هذا الوعي الظاهر الذي تترجم عنه الحواس ويدخل أحيانا في نطاق المعقولات، وقد أصبحت كلمة «الوعي الباطني» من الكلمات الشائعة على الأفواه، وما «الوعي الباطني» مع هذا بجماع ما احتواه تركيب الإنسان، وما تزود به من طبيعة الحياة والوجود.

وغاية ما يملكه المتردد في حقيقة الموجودات الخفية أن يقول: إن وجودها غير ثابت لديه. فأما أن يقول: إن وجودها غير ثابت له ولا لغيره، وأنها لن يثبت لها وجود على الإطلاق - فذلك قول لا حق له فيه ولا سند له عليه، وقد يكون المصدق بالخرافات أحكم منه رأيا وأصوب منه فكرا؛ لأنه يصدق شيئا قد يتسع للتصديق والتكذيب.

ولا نقصر القول هنا على «الوعي الكوني» الذي أشرنا إليه في خاتمة الفصل المتقدم، ولكننا نطلقه على كل وعي يتجاوز آماد الحواس المعهودة، وهو على ضروب كثيرة يبحثها العلماء في عصرنا هذا ولا يقطع أحد منها باستحالتها وقلة جدواها، ولكنهم يتفاوتون في تقرير نتائجها وتعليل هذه النتائج، ويتركون الأبواب مفتوحة فيها لزيادة البحث والاستقراء. •••

والملكات النفسانية التي يدور عليها بحث العلماء، في الوقت الحاضر أكثر من نوع واحد في أفعالها وتجاوزها لمألوفات الحواس الإنسانية والحيوانية، ولكنها تتلخص في بضعة أنواع هي: الشعور على البعد أو ال

Telepathy

والتوجيه على البعد أو ال

Telergy

والتنويم المغناطيسي أو ال

Magnetism .

وقراءة الأشياء أو معرفة الأخبار عن الإنسان من ملامسة بعض متعلقاته كمنديل أو قلم أو خاتم أو علبة أو ما شاكل هذه المتعلقات

Object reading or psychometry .

وتفسير الأحلام

Dream Interpretation .

والاستيحاء الباطني أو

Automatism .

والوسواس أو

Hallueination .

واستطلاع المستقبل أو

.

واستطلاع الماضي

Retrocognition .

والكشف

Clairvoyance .

وتحضير الأرواح

Spiritualism .

وكل هذه الملكات قديم معهود في جميع الأجيال والعصور، لم يجد عليه إلا التسمية العصرية ومحاولة العلماء أن يحققوه بالتجربة والاستقصاء.

وربما كان أشيع هذه الملكات وأقربها إلى الثبوت وأغناها عن أدوات المعالجة والتناول بأساليب التلقين والتدريب هو الشعور على البعد أو «التلباثي» كما سمي في أواخر القرن التاسع عشر - تركيبا مزجيا من كلمتي البعد والشعور في اللغة اليونانية.

وقد تواترت أحاديث الناس في الشعور «على البعد» فرويت فيه روايات كثيرة يتفق أصحابها في أقوال متقاربة، وفحواها أنهم يستحضرون في أخلادهم سيرة إنسان بعيد لغير سبب يعلمونه فإذا هو ماثل أمامهم ساعة استحضاره، أو يقلقون لغير سبب في لحظة من اللحظات ثم يعلمون بعد ذلك أن إنسانا عزيزا عليهم كان يتألم أو يذكرهم في تلك اللحظة وهو في ضيق وتغويث، وقد يسمعون هاتفا يلقي إليهم بعض الكلمات ثم يقال لهم إن هذه الكلمات قد هتف بها مريض يحبهم ويحبونه وهو غائب عن وعيه، وندر من الناس في الحواضر والقرى من لم يسمع برواية من هذا القبيل.

وقد جرب الشعور على البعد باحثون مختلفون، منهم المؤمن بالنفس ومنهم الملحد الذي لا يؤمن بغير المادة، ومنهم المتدين الذي يلتمس لهذا الشعور علة من العلل الطبيعية، ولا يرى ضرورة للرجوع به إلى عالم الروح والعقل المجرد.

فالنفساني الكبير وليام مكدوجال - وهو من المؤمنين بالعقل المجرد - يقول في خطاب الرياسة لجماعة البحوث النفسية سنة 1920: «إنني أعتقد أن التلباثي وشيك جدا أن يتقرر بصفة نهائية في عداد الحقائق المعترف بها علميا بفضل هذه الجامعة على الأكثر، ومتى بلغنا هذه النتيجة فإن خطرها من الوجهتين العلمية والفلسفية سيربي كثيرا على جملة المسائل التي أدركتها معاهد التحقيق النفساني في جامعات القارتين.»

وفي سنة 1927 قال الدكتور ت. و. متشل في خطابه لقسم المباحث النفسية في المعهد البريطاني: «لا بد من الاعتراف بالتلباثي أو بوسيلة من الوسائل التي قد نسميها الآن خارقة للعادة. لأننا إذا أنكرناه وقفنا حائرين بين يدي الظواهر المعززة بأدلة الثبوت ، مما لا نستطيع له نفيا ولا تعليلا.»

والكاتب الأمريكي المشهور أبتون سنكلر

Upton Sinclair

يؤمن بالفلسفة المادية دون غيرها ويجرب الشعور على البعد بينه وبين زوجته على ملأ من الشهود والمتعقبين، ويقرر أنه أجرى مائتين وتسعين تجربة يعتبر ثلاثا وعشرين في المائة منها ناجحة كل النجاح وثلاثا وخمسين ناجحة بعض النجاح وأربعا وعشرين مخفقة كل الإخفاق، ويقول الدكتور والترفرانكلن برنس صاحب كتاب ما وراء المعرفة المألوفة

Beyond Normal Cognition

وهو من المتعقبين لسنكلر وغيره من أصحاب التجارب في هذا الموضوع: «إنني - بعد سنوات من التجارب في تفسير مئات من الألغاز الإنسانية التي تشمل على الغش المقصود وغير المقصود وعلى الوهم والضلال - أسجل هنا اعتقادي أن سنكلر وزوجته قد أقاما الشواهد إقامة وافية على الظاهرة المعروفة بالتلباثي.»

وقد كانت تجارب سنكلر يدور معظمها على الرسوم والأشكال، فيطلب من بعض الحاضرين أن يختار له شكلا هندسيا أو حيوانيا ثم يحصر ذهنه فيه، وزوجته في بلد آخر تتلقى عنه شعوره في تلك اللحظة، فإذا هي ترسم الشكل بعينه، وقلما يكون الاختلاف في غير الحجم أو درجة الإتقان.

وقد سمى سنكلر هذه الظاهرة بظاهرة الإشعاع الإنساني

Human Radio

لأنه لا يؤمن بأسباب لنقل الأفكار والأحاسيس غير الأسباب التي من قبيل أجهزة البرق والمذياع. •••

ومن أصحاب التجارب المتعددة في هذه المسائل جوزف سينل

Joseph Sinel

صاحب كتاب الحاسة السادسة

1

الذي يدل اسمه على رأي صاحبه في تعليل هذه القدرة على الكشف والتلقي والإيحاء وما شابهها من الصلات النفسية عن طريق غير طريق الحواس المعروفة.

فهو يقرر أن الأجسام المادية يمكن أن تحس من بعيد لأنها لا تني تبعث حولها ذبذبات متلاحقة تسري إلى مسافات بعيدة، وقد تخترق الحوائل كما تفعل الأشعة السينية، ويعلل غرائز الأحياء التي تهتدي إلى أمثالها أو إلى الأماكن المحجوبة عنها على المسافات الطويلة بحاسة تتلقى هذه الذبذبات وتتبعها إلى مصادرها. أما الإنسان وسائر الحيوانات الفقارية فهي تعتمد على الجسم الصنوبري في الدماغ للشعور بالأشياء التي لا تنتقل إليها بحاسة النظر أو الشم أو السمع أو الملامسة، ويستبعد الأستاذ سينل أن يخلق هذا الجسم الصنوبري عطلا بغير عمل في جميع الأحياء الفقارية؛ لأن ملاحظاته الدقيقة عن موضع هذا الجسم في الدماغ واختلاف حجمه بين الأحياء قد دلته على تفسير عمله حسب اختلاف موضعه وحجمه، فهو في الأنثى أكبر منه في الذكر، وفي الهمجي أكبر منه في المتحضر، وفي الطفل أكبر منه في الرجل، وفي الحيوان أكبر منه في الإنسان، وهو قريب إلى فتحات الرأس في بعض الأحياء التي تعول على التحسس البعيد ولا تستغني عنه بالقياس العقلي أو بالوسائل الصناعية كما يفعل الإنسان، وكلما انصرف الحي عن استخدام هذا الجسم الصنوبري ضمر واقترن ضموره بضعف الشعور بالذبذبات والرسائل المتنقلة من المسافات القصيرة.

قال الأستاذ سينل: «أما الكشف كما أعرفه أنا - وكما ينبغي أن يعرف - فهو إدراك الأشعة المغنطيسية أو قل الموجات المغنطيسية المنبعثة من الأجسام المحيطة بنا والتي من شأنها أن تخترق كل جسم يعترضها بدون حاجة إلى الاستعانة بأي عنصر من أعضاء الحس المعروفة، والكاشف في رأيي هو كل من يستطيع أن يضبط جانبا من مخه ويعده لكي يستقبل الإشعاع الصادر عن الحاجز، يعني من شيء ما بعد استبعاده كل أشعة أخرى، شأنه في ذلك شأن الجهاز اللاسلكي الذي يضبط لكي يستقبل موجة منبعثة من محطة ما مع استبعاد كل موجة أخرى سواها.»

وفي حسبان الأستاذ سينل أن تلقي الأحاسيس على البعد ضرورة حيوية في الأحياء الدنيا، فهي من أجل هذا أقدر على استخدام هذه الحاسة، ومما نقله عن العالم الطبيعي الفرنسي الكبير جان هنري فابر

Fabre «أنه وجد ذات يوم يرقة نوع كبير من الحشرات فحملها إلى منزله ووضعها داخل صندوق في غرفة مكتبه، وبينما هو جالس في غرفة الطعام ذات ليلة إذ دخل عليه خادمه فزعا وأخبره أن غرفة مكتبه امتلأت بفوج كبير من الذباب الضخم، فلما ذهب ليرى ما حدث وجد أن يرقته - وكانت أنثى - قد خرجت من هذا الطور، وأن عددا كبيرا من ذكورها يحوم حول الصندوق، ولما كانت كلها من نوع غير مألوف في هذه المنطقة فقد حكم بأنها لا بد جاءت من مكان سحيق، فأغلق النافذة وأمسك بها جميعا وعددها خمسة عشر ذكرا. وأراد أن يعرف هل استعانت هذه الذكور في حضورها بحاسة الشم أو لم تستعن بها، فنزع منها ملامسها، وهي الأعضاء التي تحمل هذه الحاسة، ثم وضع الذكور في كيس، ووضع الكيس في قمطر، وفي صباح اليوم التالي نقلها إلى غابة تبعد نحو الميلين، وأطلق سراح الذكران جميعا، ولكنها لم تلبث بعد الغسق أن شوهدت كلها متجمهرة في حجرة مكتبه لم يتخلف واحد منها، عندئذ أيقن أن حاسة الشم لم تكن النبراس الذي اهتدت به الذكور إلى مكان الأنثى.»

2

فالأستاذ سينل كما نرى لا يتأثر في إثباته لقدرة الكشف والشعور على البعد بإيمانه بوجود الروح أو العقل المجرد، ولا يعتمد في تجربة من تجاربه الكثيرة على تعليل غير التعليل الجسدي والمباحث الطبيعية، وقد سبقه إلى التنويه بشأن الجسم الصنوبري فيلسوف كبير من المؤمنين بالقوة الروحية والقائلين بالتفرقة بينها وبين الكائنات المادية، وهو رينيه ديكارت الذي يلقب بأبي الفلسفة الحديثة، فإنه اعتقد أن الجسم الصنوبري هو الجهاز «الموصل» بين الروح والجسد، أو هو موضع التلاقي بين حركة الفكر وحركة الأعضاء.

أما الذين اعتقدوا أن الجسم الصنوبري غدة منظمة للوظائف الجنسية أو أطوار النمو الأخرى فالأستاذ سينل يرد عليهم قائلا: «إذا كان هذا الجسم غدة وظيفتها تنظيم التطور أو الأمور الجنسية كما يقولون فكيف صح أن يكون مقره وسط المخ بين المراكز التي تستقبل المرئيات؟ ولماذا هو محمول على ساق؟ ولماذا كان في الفقاريات الدنيا فتحة تشبه النافذة في الجمجمة فتسمح لهذه الحيوانات بالاتصال بما حولها قدر المستطاع؟»

على أننا إذا راجعنا أنواع التجارب التي سجلها النفسانيون لم نستغن بفكرة الإشعاع ولا بفكرة الجسم الصنوبري عن تعليل آخر يتصل بالعقل أو الروح.

فنحن نفهم أن الإشعاع ينقل المجسمات والمحسوسات ولكننا لا نفهم كيف ينقل الفكرة أو الصورة المتخيلة، فإذا تذبذب الشعاع بحركة الكلمات الملفوظة وصلت هذه الكلمات بحروفها وأصدائها إلى جهاز التلقي فنسمعها كلمات كلما فاه بها المتكلم من محطة الإرسال، ولكن الفكرة التي في الدماغ لا تتحول إلى كلمات بحروفها وأصدائها ولا تتأتى من تحولها حركة تهز الأثير كما تهزه حركات لأفواه، فكيف تنتقل الفكرة بالأشعة من دماغ إلى دماغ؟

وإذا فكر أحد في صورة هندسية أو حيوانية فكيف تصبح هذه الصورة حركة إشعاع كحركة المذياع؟ لقد شوهد كثيرا أن الذي ينتقل في هذه الحالة هو معنى الصورة لا شكلها ولا خطوطها التي تكونها: فإذا كان المرسل يفكر في عصفور ولا يحسن رسمه فإن المتلقي يحسن رسم العصفور إن كان من الحاذقين للرسم ولا ينقله نقلا آليا كما تمثل في الذهن الذي أرسل الصورة إليه، وكذلك يحدث في أشكال المثلثات والدوائر والمستطيلات، وكل شكل يختلف بالحجم والإتقان ويحافظ على معناه مع هذا الاختلاف.

فإذا ثبت الكشف والشعور على البعد بالتجربة التي لا شك فيها فلا بد من إثبات الأشعة العقلية أو الروحية لتعليل انتقال الأفكار بغير ألفاظ، والصور بغير حركات في الأثير.

أما الجسم الصنوبري فإذا كان عضوا طبيعيا وجب أن يكون عمله على أشده وأصحه في أصحاب الأجساد الطبيعية والأمزجة السوية، ولكن الذي يشاهد في أصحاب القدرة على التلقي أنهم يشذون عن سواء المزاج المعهود في الأصحاء، وأن هذه الملكة فيهم لا تحيا كما تحيا الأعضاء الأثرية المهملة بل تحيا كما تحيا العبقريات الخلاقة لمعاني الفنون ومبتكرات الفهم والخيال، وأن الذي يمتاز بها لا يكون أقرب إلى الحيوان بل أقرب إلى المثل الإنسانية التي تتجافى كثيرا عن الغرائز الحيوانية والنوازع الجسدية.

وإذا كان الجسم الصنوبري متلقيا للحس على أسلوب العيون والآذان والآناف وجب أن تتساوى عنده جميع المرسلات، وألا يميز ذبذبة عن ذبذبة ولا مكانا عن مكان، ووجب عند جلوس عشرة في بقعة واحدة أن يتلقوا جميعا صوت الاستغاثة المنبعث من الأماكن القصية؛ لأن هذا الصوت حركة مادية والأجسام الصنوبرية عند هؤلاء العشرة أجسام مادية تهتز بتلك الحركة على السواء، ولا يقال إن الذي يعنيه الخبر هو الذي يسمعه؛ لأن العناية تتولد من سماع الخبر لا قبل سماعه، وقد يكون المقصود بالخبر غافلا عنه غير متهيئ لسماعه في تلك اللحظة، وإذا كانت العناية من الجانبين تضيف شيئا إلى قوة الحس فهي إذن شيء «عقلي إرادي» ينحصر في العقل والإرادة ولا يعم كل حركة تخطر في الأثير.

ولا غرابة في ندرة الظواهر الروحية بين العوامل المادية، فيحس بالآثار الروحية آحاد ولا يحس بها الأكثرون؛ لأننا قد تعودنا أن نرى كائنات لا تحصى بمعزل عن فعل العقل أو الروح، ولكن الغرابة البالغة أن يكون في كل دماغ جسم صنوبري وأن تنبعث الذبذبات من جميع الأجساد بغير انقطاع ثم تنحصر ظواهر الكشف أو الشعور البعيد في آحاد معدودين.

ولا يصح أن يقاس هذا على أجهزة المذياع التي تسكن عن الإذاعة بغير تحريك أو توجيه؛ لأن امتناع هذه الآلات عن الحركة بغير مدير يعرف تركيبها هو الحالة الطبيعية التي لا يتصور لها العقل حالة سواها. أما الأحياء فإنهم هم المحركون والمتحركون، وهم المفاتيح ومديرو المفاتيح، فامتناع العمل الطبيعي فيهم مع شيوع أسبابه عجب يحتاج إلى تفسير.

وحسب الناظر في الأمر بعد هذا أن يعرف أن تجارب الشعور البعيد وما جرى مجراه تثبت عند أناس لا يعللونها بالروح ولا بالعقل المجرد، لينتفي من ذهنه أنها وهم من أوهام العقيدة وأنها خرافة متفق عليها فلا تستحق الجد في دراستها من طلاب الحقائق على سنن العلماء.

ويبدو للأكثرين من مراقبي هذه الظواهر النفسانية أن التنويم المغناطيسي أثبت من الشعور على البعد وأشيع منه وأقرب إلى التصديق والتعليل، وهو فيما نرى يعرض لنا أمثلة كثيرة لا نصادفها في ظاهرة الشعور على البعد لإثبات الاتصال العقلي بوسيلة غير وسيلة الذبذبات واستخدام الأجسام الصنوبرية؛ لأن النائم يتلقى عن منومه صورا لا يتأتى تعليلها بالإشعاع أو ما شابهه من التيارات المادية، وكثيرا ما تكون الرسائل المغناطيسية قائمة على تخيل لا وجود له في عالم الحس ولكنه ينتقل إلى ذهن النائم؛ لأن المنوم لفقه وأمره بتلقيه وتصديقه، وهو ما يرى ما في خيال المنوم ولا يرى ما في خيال غيره ولو كان معه في حجرة واحدة، وقد تعددت تعليلات الاتصال بين فكر وفكر بالوسائل المغناطيسية، ولكنها جميعا أعجب من القول بإمكان الاتصال بين العقل المجرد، والعقل المجرد بمعزل عن الحواس والوسائط المادية، ويكفي في التجارب المتواترة أن يلقي المنوم نظرة على كلمة مكتوبة أو صورة مرسومة أو يستحضر الكلمة أو الصورة في خلده ليراها النائم كما رآها المنوم أو تخيلها تخيلا لا يمثله شكل محسوس قابل لتحريك الأشعة أو التيارات، ولا ندري لماذا لا يتأتى تنويم الحيوان الأعجم ونقل المحسوسات إلى دماغه إذا كانت المسألة كلها مسألة الحواس والأعصاب والتيارات التي تنتقل كما ينتقل الشعاع.

ومما لا نزاع فيه أن حق الفكر الإنساني في قبول هذه الظواهر أرجح جدا من حقه في إنكارها، والبت باستحالتها كأنها شيء لا يتأتى وقوعه بحال من الأحوال، فلا استحالة في ظاهرة من هذه الظواهر، غير مستثنى منها النادر المستغرب بالغا ما بلغ من الندرة والغرابة في جميع الأزمان.

فالإطلاع على المستقبل غريب لم تثبته تجربة علمية قابلة للتكرار، ولكننا لا نستطيع أن نجزم باستحالته إلا إذا استطعنا أن نجزم بحقيقة الزمن وحقيقة المستقبل، ثم جزمنا بأن هذه الحقيقة تناقض العلم بشيء قبل أن يأتي أوانه ويجري في مجراه.

فما هو الزمن؟

نحن نتخيله في أوهامنا على صور كثيرة لا تخلو إحداها من نقص ومناقضة لبقية المقررات المسلمة لدينا.

فنحن تارة نتخيل الزمن كأنه بحر يزداد قطرة في كل لحظة ويمتلئ شيئا فشيئا، ولا يزال فيه فراغ مهيأ للامتلاء، وهو فراغ المستقبل المعدوم، ولكن هل الماضي إذن هو الموجود؟ وهل هو الحاصل المتجمع في بحر الزمان والمستقبل هو المعدوم؟ وما هو «الآن» الذي ليس بماض ولا بمستقبل ولا يوصف إلا بأنه حاضر غير ماض ولا آت؟

وتارة نتخيل الزمن كأنه محيط شامل لما كان وما هو كائن وما سيكون، ونحن نتقدم فيه كما يتقدم المسافر في أرض يراها بعد أن تقع عليها عيناه، فالمستقبل في هذه الحالة موجود، ولكننا نحن لا نراه إلا حين نصل إليه.

وتارة نتخيل الزمن كأنه خط ممتد الأوقات المتتابعة كالنقط المنطوية فيه، ولكننا إذا تتبعنا هذا الخيال لم يذهب بنا إلى بعيد؛ لأن الخط ممتد في كل جانب متعمق في كل باطن، فلا تشابه بينه وبين الخطوط.

وتارة نتخيل الزمن قابلا للتجزئة ولكننا لا نستقر على المقياس الذي يحكم لنا بالقرب أو البعد أو العمق بين مسافات الأجزاء.

وإذا جزأنا الزمن حكمنا بأن الزمان كله محدود؛ لأن مجموع المحدود محدود، ولكن ما هي حدود الحاضر، وما هو الخارج منه والداخل فيه؟ وما هو الفرق بين حاضر وحاضر بمقياس الزمان أو بمقياس الفضاء؟

على أنه إذا كان الزمان أجزاء وكان محدودا كأجزائه فقد بقي أمامنا «الأبد» الذي لا ماضي فيه ولا حاضر ولا مستقبل ولا ينقسم إلى أجزاء ولا يدرك له ابتداء ولا انتهاء ولا حركة بين الابتداء والانتهاء.

فمن الجائز أن «المستقبل» معدوم في الزمان المنقطع موجود في الأبد الذي ليس له انقطاع.

ومن الجائز أن يكون الزمن نفسه متعدد الأبعاد فيتلاقى فيه شيء من الحاضر وشيء من الماضي وشيء من المستقبل في بعض تلك الأبعاد.

ومن الجائز أن المستقبل يتكشف لعقل الإنسان من إيحاء العقل الأبدي المطلع عليه كما يطلع على ما حصل وما هو حاصل بلا اختلاف، وقد جاز أن ينتقل علم من عقل إنسان إلى عقل إنسان فينطبع فيه بالتوجيه والإيحاء كأنه منظور ومسموع، فلماذا لا يجوز أن تنتقل وقائع المستقبل إلى علم الإنسان من العقل الأبدي؟ وهل نستطيع أن نقرر وجود العقل الأبدي دون أن نقرر أنه مطلع على كل ما يقع في الأبد الأبيد؟

فالذي يجزم باستحالة الاطلاع على المستقبل عليه أولا أن يجزم بالصورة الصحيحة للزمن ويجزم بأنها لا توافق الاعتراف بوجود المستقبل على وجه من الوجوه.

وعليه «ثانيا» أن يجزم باستحالة «العقل الأبدي» واستحالة الإيحاء منه إلى العقول الإنسانية.

وعليه أن يقيم الدليل على هذا المستحيل أو ذاك المستحيل، ولا دليل.

وربما خطر لبعضهم - عند النظرة الأولى - أن استطلاع الماضي

Retrocognition

ظاهرة لا تثير الاعتراض ممن يعترضون على العلم بما سيكون؛ لأننا نعلم حوادث التاريخ كأنها من حوادث الوقت الحاضر التي تنقل إلينا من مكان بعيد، ولأن حوادث الماضي متفق على وجودها في زمانها، ولا اتفاق على وجود ما سيكون قبل أن يكون.

لكن الحقيقة أن استطلاع الماضي واستطلاع المستقبل على حد سواء في طبيعة الملكة التي تقدر عليه؛ لأن القائلين بهذه الملكة لا يقصدون معرفة الماضي كما نعرف روايات التاريخ أو روايات الشهود، ولكنهم يقصدون أن صاحب هذه الملكة ينكشف له منظر مضى دون أن يبلغه من طريق القراء والسماع، فيشهد مثلا مجلسا من المجالس المجهولة عنده وعند غيره، ويبصر كل جالس في مكانه الذي كان فيه، ويسمع ما قالوه ولو لم تدونه الكتب وتردده أقوال الرواة.

فالكشف عن الماضي محتاج إذن إلى التعليل الذي يحتاج إليه الكشف عن المستقبل؛ لأنه دائما يتأتى بإيحاء عقل إلى عقل، أو بتقدير صورة للزمن لا ينتفي فيها الماضي ولا المستقبل كل الانتفاء. •••

وهذه الظواهر كلها - أغربها وأقربها معا - ليست بالشيء الجديد في تاريخ الإنسان، وإنما الجديد عليها في زماننا هذا أنها دخلت في متناول البحوث العلمية، وأن الباحثين يتخذون منها شيئا فشيئا مواقف من العطف والفهم أقرب من مواقفهم الأولى في مطلع «الثورة العلمية» على سلطان رجال الدين.

ففي الأزمنة الماضية كان الناس يصدقون هذه الظواهر بغير بحث في حقيقتها وحقيقة من يدعونها، أو كانوا يكذبونها تكذيبا باتا بغير بحث كما يفعل المصدقون.

ومضى زمن كان العالم الطبيعي فيه يحسب الإنكار المطبق أمام هذه الظواهر أجدر شيء بوقار العلم وكرامة المباحث العلمية، ومن هؤلاء عالم في طبقة اللورد كلفن

Kelvin

الذي قال في بعض خطبه سنة 1883: «والآن قد أومأت إلى حاسة سابعة محتملة وأعني بها الحاسة المغناطيسية، ولنفاسة الوقت وضيقه عن الاستطراد وابتعاد الموضوع عما نحن بصدده أود أن أدفع الظن بأنني - على أي نحو من الأنحاء - أومئ إلى شيء من قبيل تلك الخرافة التعسة: خرافة المغناطيسية الحيوانية وتحريك الموائد وتحضير الأرواح ومناجاتها والتنويم المغناطيسي المعروف بالمسمرية والكشف والتخاطب بالدقات والنقرات الروحانية وما إلى ذلك مما سمعنا عنه كثيرا في الزمن الأخير، فليس هناك حاسة سابعة من هذا النوع الغامض، وإنما الكشف وما إليه نتيجة خطأ في الملاحظة على الأكثر يمتزج أحيانا بالتزوير المتعمد على عقل بسيط جانح إلى التصديق.»

ولكن هذا الموقف يتغير على التدريج، ولا يشعر العالم اليوم أنه يعطي العلم حقه من الوقار حين يبتدئ بالإنكار في هذا المجال، أو يرجح الإنكار بغير دليل قاطع يقاوم أدلة التصديق، فمن لم يقبلها من العلماء لم يأنف من اعتبارها صالحة للقبول مع توافر الأدلة وتمحيص التجربة من الوهم وخطأ الملاحظة.

على أنها سواء دخلت في مقررات العلم أو لم تدخل فيها - لن تكون هي وحدها عماد الإيمان والتصديق بالغيوب، فإن الإيمان يحتاج إلى حاسة في الإنسان غير العلم بالشيء الذي هو موضع الإيمان، وقد تتساوى نفسان في العلم بحقائق الكون كله ولا تتساويان بعد ذلك في طبيعة الإيمان؛ لأن الإنسان لا يؤمن على قدر علمه، وإنما يؤمن على قدر شعوره بما يعتقد ومجاوبته النفسية لموضوع الاعتقاد، وطبيعة الاعتقاد في هذه الخصلة مقاربة لطبيعة الإعجاب بالجمال أو لطبيعة التذوق والتقدير للفنون، فإذا وقف اثنان أمام صورة واحدة يعلمان كل شيء عنها وعن صاحبها وعن أدواتها وألوانها وتاريخها لم يكن شرطا لزاما أن يتساويا في الإعجاب بها والشعور بمحاسنها كما يتساويان في العلم بكل مجهول عنها، وصدق من قال: إن القداسة مزيج من العجب والرهبة، ولا يتوقف العجب من الأمر المقدس على استكناه كل ما ينطوي عليه.

وستظل هذه الظواهر تفصيلا يجوز الشك فيه لقاعدة مقررة لا يجوز الشك فيها: ونعني بالقاعدة المقررة أن الموجودات أعم من المحسوسات.

فهناك موجودات أكثر مما نحس، بل هناك موجودات قابلة للإحاطة بها من طريق الإحساس أكثر مما نحسه الآن بالآلات ووسائل التقريب والتضخيم.

ولا تزال غرائز الحيوان تدلنا على ضروب من الإحساس الخفي لا يعللها العلماء بأكثر من تسميتها باسم الغريزة، كأنهم إذا لجأوا إلى كلمة مبهمة لا يفهمونها كانوا أجدر بكرامة العلم من الجاهل الذي يفسر الأمر كله بقدرة إله.

وفي الغريزة عبر كثيرة لا تنسى في صدد الكلام على الحاسة الدينية وخطأ الإنسان في التعبير عنها وتمثيل موضوعاتها.

فقد يساء استخدام الغريزة ولا يقدح ذلك في نشأتها ولا في وجهتها، كالطير الذي يهاجر طلبا للسلامة أو للغذاء فيسقط في البحر من الإعياء لأنه يختار طريقا انقطع بطغيان البحر عليه منذ عصور، فباعث الغريزة موجود ومعقول، وحب السلامة موجود ومعقول، وخطأ المحاولة في استخدام الغريزة لا ينفي صدق هذا ولا صدق ذاك.

والإنسان في غريزته النوعية يخدع نفسه ويضل عن الغاية من حيث يشعر أو لا يشعر بانخداعه وضلاله: يخدع نفسه حين يحسب أنه يعمل للذته أو يعمل لذاته، ويضل ضلالا بعيدا حين يقتل عشرين رجلا كبيرا؛ ليكفل القوت أو السلامة لطفل واحد هو ابنه الذي لم يلده إلا لبقاء النوع كله، يقتل عشرين مخلوقا ناميا من النوع لبقاء مخلوق منه غير موثوق بنمائه، وهو يطاوع الغريزة النوعية بذلك ولا يناقضها في نهاية المطاف؛ لأن حب الأبناء لو توقف على الحساب العددي والموازنة بين الكثرة والقلة لما حرص الناس على الأبناء، ولا ظفر النوع بالبقاء.

وأدخل من ذلك في ضلال الغريزة وثبوتها في وقت واحد أن الأب الذي يدس عليه طفل غير ابنه ولا يخالجه الشك فيه يحبه ويرعاه ويفتدي بقاءه ببقاء الكثيرين، ولا يجوز من أجل ذلك أن يقال: إن الغريزة النوعية غير صحيحة؛ لأن الولد غير صحيح.

فالتعبيرات عن الحاسة الدينية تقبل الخطأ الكثير، ولا يستفاد من ذلك أن الحاسة الدينية غير لازمة أو أنها مكذوبة النشأة في أساس التكوين.

وهذا الذي سميناه «بالوعي الكوني» هو الذي يحس بوطأة الكون فيترجمها على قدر حظه من التصور والتصوير، فيقع الخطأ الكثير في التعبير وفي محاولة التعبير، ولا يمتنع من أجل ذلك أن نتلقى الكون بوعي لا شك في بواعثه وغاياته، وإن أحاطت بتعبيراته شكوك وراء شكوك.

وربما كان هذا «الوعي الكوني» فرضا صادقا أو راجحا ثم ينتهي به الأمر عند ذلك لو لم تكن ظاهرة التدين التي تترجم عنه ملازمة لبني آدم في جميع الأماكن ومن أقدم الأزمان، ولو لم ينبغ في الناس أفراد من ذوي العبقرية تملؤهم روعة المجهول، ولكن الأديان تعم البشر ولا تغنيهم عنها غريزة حب البقاء أو غريزة حب النوع أو حب المعرفة أو دواعي السياسة الاجتماعية، وقد وجدت أديان تبشر بالفناء ولا تبشر بالبقاء وتحرم على كهانها النسل ولا تعدهم شيئا في السماء، فهي - أي الأديان - من وعي غير وعي التحفظ والسلامة وغير وعي السياسة ودواعي الاجتماع، وقام في العالم عباقرة دينيون لا يهدأون بما يجيش في نفوسهم من قوة الشعور بالمجهول، ولو كان هذا المجهول المغيب عن الناس لا يستحق أن تجيش به نفس إنسانية لصرفنا سيرة هؤلاء العباقرة بكلمة واحدة: هي كلمة الجنون الذي وصفوا به كلما ظهروا بين قبيل من المعاندين، ولكن «المجهول المغيب» أحق من جميع الموجودات بهذا الجيشان العظيم؛ فالطبائع التي امتازت باستيعابه واتسعت لدوافعه لا تمتاز بخلل خلو من المعنى، بل تمتاز باستقامة في التكوين فيها كل معنى كبير من معاني الشعور العميق.

وقد أحس الإنسان قبل أن يفكر، فلا جرم ينقضي عليه ردح من الدهر في بداءة نشأته وهو يفكر حسيا أو يفكر «لمسيا» فلا يعرف معنى الوجود إلا مرادفا لمعنى المحسوس أو الملموس، فكل ما هو منظور أو ملموس أو مسموع فهو واقع لا شك فيه، وكل ما خفي على النظر أو دق عن السمع واللمس فهو والمعدوم سواء.

وقد كان «للحاسة الدينية» فضل الإنقاذ الأول من هذه الجهالة الحيوانية؛ لأنها جعلت عالم الخفاء مستقر وجود ولم تتركه مستقر فناء في الأخلاد والأوهام، فتعلم الإنسان أن يؤمن بوجود شيء لا يراه ولا يلمسه بيديه، وكان هذا «فتحا علميا» على نحو من الأنحاء، ولم ينحصر أمره في عالم التدين والاعتقاد؛ لأنه وسع آفاق الوجود وفتح البصيرة للبحث عنه في عالم غير عالم المحسوسات والملموسات، ولو ظل الإنسان ينكر كل شيء لا يحسه لما خسر بذلك الديانات وحدها، بل خسر معها العلوم والمعارف وقيم الآداب والأخلاق.

ويجيء الماديون في الزمن الأخير فيحسبون أنهم جماعة تقدم وإصلاح للعقول وتقويم لمبادئ التفكير، والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقرى إلى أعرق العصور في التفكير، والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقرى إلى أعرق العصور في القدم، ليقولوا للناس مرة أخرى إن الوجود هو المحسوس، وإن المعدوم في الأنظار والأسماع معدوم كذلك في ظاهر الوجود وخافيه، وكل ما بينهم وبين همج البداءة من الفرق في هذا الخطأ - أن حسهم الحديث يلبس النظارة على عينيه ويضع المسماع على أذنيه!

ويحسبون على هذا أنهم يلتزمون حدود العلم الأمين حين يلتزمون حدود النفي ويصرون عليه في مسألة المسائل الكبرى، وهي مسألة الوجود، بل مسألة الآباد التي لا ينقطع الكشف عن حقائقها في مئات السنين ولا ألوف السنين ولا ملايين السنين. «لا» إلى آخر الزمان في هذه المسألة الكبرى، ونحن لا نستطيع أن نقول: «لا» إلى آخر الزمان في مسألة من مسائل الحجارة أو المعادن أو الأعشاب أو مسائل البيطرة وعلاج الأجسام.

وليس النوع البشري على أبواب محكمة يخاصم فيها من يثبتون أو ينكرون، ويتحداهم وهو جالس في مكانه أن يثبتوا له ما ينفيه ولا يهتدى إليه بالعين والمجهار ولكنه على الأقل أمام «معمل للتجارب» يبدأ فيه البحث ويعيده ثم يبدؤه ويعيده في كل عصر على ضوء جديد، وهو أمام الكون خاصة لم يكد يبدأ البحث في مسألة الآباد إلا منذ مئات معدودة من السنين، فياله من علم بديع هذا العلم الذي يقطع بالنفي إلى آخر الزمان، دون أن يتردد أو ينتظر مفاجآت الزمان.

والواقع أن العلم كله يقوم على أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم على أساس النفي والإصرار. وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوي في سجلها تاريخا طويلا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوت، وإن تكررت دواعي الشك بل دواعي القنوط، فبحث الإنسان عن العقاقير وبحث عن المعادن، وبحث عن الثمرات والغلات بروح ترتقب إيجابا وثبوتا ولا تنتقل من نفي إلى نفي ومن إصرار إلى إصرار، وهذه هي روح العلم أمام الصغائر من شئون البيوت والأسواق، فلماذا تكون روح العلم إصرارا محضا وإنكارا متلاحقا على غير أساس وبغير ترقب أو انتظار في نفي كبرى المسائل على الإطلاق؟

وأجدر الأزمنة أن يتبدل فيه هذا الموقف هو الزمن الذي تكشفت فيه الأجسام عن عنصرها الأول، فإذا هو إشعاع أو حركة في فضاء، فاقترب الوجود المادي نفسه من عالم المعقولات والمقدورات، وتقرر لنا أن الحواس لا تستوعب معنى الوجود في الصميم؛ لأن زوال العدم هو الصفة الوحيدة اللازمة للوجود، ولا يستلزم زوال العدم تجسما ولا تجرما ولا كثافة من هذه الكثافات التي تتمثل بها الأجسام للحواس، بل يكفي فيه حركة مقدورة أو معنى كأنه من طبيعة المعقولات، فما أضيق النطاق الذي بقي للحس الظاهر من أسرار الوجود، وما أحرانا أن نفسح للوعي الكوني وللبداهة مجالا يتسع مع الزمان، ولا نحبسه في نطاق يضيق ثم يضيق حتى يسقط من الحسبان.

والإنسان قد رأى نور الشمس والكواكب بعينه منذ مئات الألوف من السنين، ولم يقبس نور الكهرباء من ينبوع الضياء الكوني إلا في القرن الأخير، فتدرج من قدح الحجر إلى حك الحطب إلى فتيلة الدهن إلى غاز الاستصباح إلى نور الكهرباء في هذا الأمد الطويل من الدهور وراء الدهور.

فوعيه الباطن لم يقصر عن وعي عينيه في هذا الشوط البعيد؛ لأنه تنقل من عبادة الحصى والحشرات إلى عبادة الإله الواحد في بضعة آلاف من الدورات الشمسية، وجاز لنا أن نقول: إن ضميره كان أسرع من عينيه إلى اقتباس الضياء، وكان أقدر من فكره على مغالبة الظلام، وأي ظلام؟ إنه لم يكن ظلاما كظلام الليالي والكهوف يسلم مقاده لكل قادح زند أو نافخ عود، ولكنه كان ظلاما تجوس فيه مردة الجهل وشياطين العادات وأبالسة المطامع والشهوات، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على حاجة الضمير إلى ذلك النور الذي اهتدى به، واهتدى إليه.

الله ذات

الله ذات واعية.

فلا يجوز في العقل ولا في الدين أن تكون له حقيقة غير هذه الحقيقة، وأن يوصف بأنه معنى لا ذات له أو قوة لا وعي لها كما وصف في بعض المذاهب النسكية - كالمذهب البوذي - الذي تفرع على البرهمية، ولا يخرج الباحث من مراجعته على وصف مستقر للمعنى الذي أرادوه.

والكلمة العربية التي تعبر عن هذه الحقيقة - وهي كلمة الذات - أصح الكلمات التي تقابلها في لغات الحضارة الغربية أو الشرقية المعروفة؛ لأنها تمنع كثيرا من اللبس الذي يتطرق إلى الذهن من نظائر هذه الكلمة في اللاتينية ومشتقاتها.

فكلمة برسون تدل على «الشخص» وهو يوحي إلى الذهن صورة شاخصة للعيان، وأصله من برسونا

أو النقاب الذي كان الممثلون يلبسونه ويستعيرون به على المسرح وجوه أبطال الرواية أو وجوه بعض الأحياء العجماء التي لها دور في الرواية، ثم أطلقوا الكلمة على الأشخاص الممثلين في عقد من عقود الاتفاق، فيقال إن الاتفاق معقود بين شخصين أي بين طرفين، ويقال إن هذا «شخص» في الموضوع أي طرف له صفة في الموضوع، ومن هنا أصبحت كلمة الأغراض الشخصية مرادفة للأغراض المتحيزة أو التي تنحرف عن النزاهة والاستواء.

ومن العسير أن يطلق الفيلسوف هذه الكلمة على الذات الإلهية إلا وهو يشعر بشائبة فيها تتنزه عنها فكرة الكمال المطلق والإله المتعالي على صفات «الشخوص» والأشباه.

وكلمة «سبستانس»

Substance

مأخوذة من كلمة

Substare

وهي مركب مزجي من كلمة

Sub

بمعنى تحت وكلمة

Stare

بمعنى يقف، والمراد بها الراسب الذي يستقر تحت السائل ويبقى هناك، كأنهم عبروا بها عن الجوهر لأنه يبقى بعد زوال الأعراض؛ ولأن العرض يذهب جفاء ويمكث الجوهر في مكانه، ثم استعاروها للماهية وهي حقيقة الشيء الباقية، ثم استعاروها «للذات»؛ لأنها جوهر لا يتجزأ بتجزؤ الأعراض.

فإذا أطلقت هذه الكلمة فالذهن ينصرف لا محالة إلى الماهية والجوهر والذات ويجعل لها حكما واحدا في التصور والتقدير، فيستدق عليه الفارق بين المقصود بالذات والمقصود بالجواهر والماهيات.

أما كلمة الذات باللغة العربية فلا تستلزم التشخيص في الحقيقة ولا في المجاز، ولا تقتضي نزاهتها عن التشخيص أنها معنى بغير كيان مشتمل على الوعي والصفات الواعية، فهي تدل على الجوهر الذي تضاف إليه الأوصاف وتدل على الكائن الذي يملك صفاته فهو «ذو» تلك الصفات، ولا تعارض صفة الوعي والإرادة والاستقلال بالكيان.

وإذا قلنا: إن «الكمال المطلق» ذات لم نشعر بما يومئ إلى التناقض بين صفة الكمال الذي لا حدود له وصفة «الشخص» أو المادة المستقرة بعد رسوب.

وعلى خلاف ذلك نعدد صفات الكامل المطلق الكمال، فلا نستطيع أن نفهم بداهة أن هذه الصفات الموجودة تكون لغير ذات، فإن كان الكمال المطلق يشتمل على الحكمة المطلقة والجمال المطلق والخير المطلق والإرادة المطلقة فهل يكون ذلك إلا لحكيم جميل خير مريد؟ وهل يكون الحكيم الجميل الخير المريد معنى عاما بغير ذات؟

قال شكسبير في روميو وجولييت: ماذا في اسم؟ ثم قال إن الوردة تفوح عطرا ولو سميت بغير ذلك من الأسماء.

ولكن الواقع أن في الاسم كثيرا من الإيحاء حتى في عقول الفلاسفة، ومن إيحاء كلمة «الشخص» أنها حملت بعض الفلاسفة على التفرقة بين صفات الكمال المطلق وصفات «الذات» الإلهية؛ لأنهم أخطروا في بالهم الشخوص وأخطروا معها الحدود، ففرقوا بين الكائن المطلق الكمال وبين الكائن الذي له حدود.

ومن هنا وهم بعض الفلاسفة الأوروبيين أن الكمال المطلق

Absolute

معنى من المعاني يتعارض مع «الذاتية»؛ لأن الذاتية عندهم لا تكون بغير حدود.

أما كلمة «الذات» العربية فلا توحي إلى الذهن بتة معنى له حدود، بل يستوجب الكمال المطلق أن يكون مالكا لكل شيء، وأن يكون «ذاتا» في لفظه وفي معناه.

والكمال المطلق يحتوي كل موجود، و«الذات» الإلهية تعبر عن هذا المعنى أصح تعبير.

فالعقل يستلزم أن يكون الكمال المطلق «ذاتا» وتتطلب كائنا «كاملا» يوصف بالكمال، وينكر أن يجعله معنى خلوا من الوعي؛ لأن نقص الوعي نقص من الكمال ونقص من صفات الكامل الذي لا يعاب! وأعجب الصور العقلية حقا وجود يتصف بكل كمال ولا يعلم أنه كامل، والعلم بالذات فضلا عن العلم بالغير أول صفات الكمال!

أما الدين فلا يستقيم بغير إله تتصل به المخلوقات ويتقبل منها الحب والرجاء ويستمع لها استماع العالم المريد.

ولا نعتقد أن دينا من الأديان قط دان به الإنسان وهو في قرارة نفسه مجرد من فكرة «الذات الإلهية» كل التجريد.

فالبرهمية، وقد ذاع عنها أنها دين بغير إله، مملوءة بأسماء الأرباب والشياطين والملائكة والأرواح، وعقيدتها الكبرى قائمة على الثالوث المؤلف من برهما وفشنو وسيفا، وفيها للآلهة صفات الذكورة والأنوثة فضلا عن صفات الشخوص.

ولما انشقت البوذية عن البرهمية قالت إن القضاء على الآلام لا يكون إلا بالقضاء على الوعي والتجرد من لباس الجسد للدخول في «النرفانا»، وهي السعادة العليا التي تتاح للمخلوقات.

ولزم من أجل ذلك أن تنكر الواعية في الإنسان وفي الإله، فالنرفانا هي الإله الذي لا يعي نفسه ولا يعي غيره، والروح الإنسانية ليست «ذاتا» مستقلة منفصلة عن سائر الموجودات، ولكنها سلسلة من الأعراض والأحاسيس تتمثل في صورة «الذات» للعقل المخدوع بالمظاهر والأوهام.

إلا أنها تنكر الروح المستقلة من ناحية وتقول من ناحية أخرى إن الإنسان يولد مرات بعد مرات، وإنه يلبس أجسادا بعد أجساد، وإن القضاء الكوني يجزيه من طريق هذا التطهير بالدخول في «النرفانا»، حيث يفنى آخر الأمر فلا يولد ولا يحمل الجسد في صورة من صور الأحياء.

فهذا الإنسان الذي يتجدد مرة بعد مرة - بأي شيء يتجدد في الأجسام إن لم يتجدد بذات باقية وروح واعية؟

وهذا القضاء الكوني الذي يتتبع المخلوق يتطهر بالولادات المتعاقبة ماذا عسى أن يكون وكيف يتتبع المخلوقات ويحسبها ويحاسبها إن لم تكن له صفات التقدير والوعي والقضاء؟

فلا انفصال بين طبيعة الدين وطبيعة الذات الإنسانية والذات الإلهية، ولا يتأتى أن يتدين الإنسان وهو ينكر ذاته وينكر ذات الإله، ويؤمن في قرارة الضمير بالقوى الكونية التي لا تعقل ولا تعي ولا تريد.

والعقل والدين في ذلك متفقان.

فلا يفهم العقل إلها بغير ذات، ولا يفهم أن الكمال المطلق يتأتى لغير كائن كامل أو يتأتى له ناقصا منه الوعي، ثم يوصف بغاية الكمال.

وإنما عرض هذا الوهم من التناقض بين كلمة ال

وكلمة

Absolute

أو كلمة «الشخص» وكلمة الكمال بغير حدود.

وحاول بعضهم كما حاول الفيلسوف الإنجليزي برادلي

Bradley

أن يقرب الفكرة إلى الفهم فطبق عليها مذهبه المعروف عن الحقائق والظواهر، وهو أن الظواهر تدل على الحقائق ولكنها ليست هي إياها في الجملة والتفصيل، فالكمال المطلق هو الله، ولكن الكمال المطلق هو الحقيقة، والله هو الظاهرة التي يحيط بها وعي الإنسان، فهي «ذات» كما تظهر له، ومعنى مطلق من وراء هذه الظواهر، وهي حقيقة في معناها أو معنى في حقيقتها بلا اختلاف.

ولم تكن بالفيلسوف حاجة إلى هذا التقريب لو أحضر في خلده أن الذات التي لا حدود لكمالها معقولة، بل واجبة، فإما أن نفهم أن الكمال المطلق ذات واعية وإما أن ننفي عنه الوعي وننفي عنه الوجود؛ لأنه لا كمال بغير علم بالنفس كما أسلفنا - فضلا عن العلم بالموجودات.

فمن فكر في الله فكر في ذات.

ومن آمن بالله آمن بذات.

ومن قال إن الكمال المطلق شيء وإن الله شيء آخر كما قال بعض الفلاسفة لم يكن هناك معنى لتخصيصه قوة من قوى الكون باسم الله، من غير فارق بينها وبين تلك القوى، يجعلها ذاتا لها كيان.

ولم نر أحدا من المفكرين يقول بأن الله «معنى» إلا ليجعله أكبر من ذات لا ليجعله أقل من ذات، ولكنه لا يكون أكبر من ذات بالتجرد من صفات الذاتية بل بالزيادة عليها، فينتهون بالتنزيه إلى ذات أكبر من جميع الذوات. •••

والقول بالذات الإلهية يبطل القول «بوحدة الوجود»، كما يبطل القول بأن الله معنى لا ذات له أو قوة غير واعية.

فإن القائلين بوحدة الوجود يرون أن الكون هو الله وأن الله هو الكون، وأنه لا فرق بين الخلق والخالق ولا بين المظاهر المادية والحقائق الإلهية، وقد صدق الفيلسوف الألماني شوبنهور حين قال إن أصحاب هذا المذهب لم يصنعوا شيئا سوى أنهم أضافوا مرادفا آخر لاسم الكون! فزادوا اللغة كلمة ولم يزيدوا العقل تفسيرا ولا الفلسفة مذهبا ولا الدين عقيدة. فالكون إذن و«الوجود الواحد» مترادفان لا يفسر أحدهما الآخر ولا يزيد عليه، وليس هذا هو المقصود بالبحث في الحقائق الإلهية؛ لأنك لا تفسر الكلمة بكلمة تؤدي معناها بعينه ولا تفسر الشيء بالشيء نفسه، أو لا تفسر الماء بالماء كما يقول بعض الأدباء.

فما الله؟ هو الكون كله!

وما الكون كله؟ هو الله!

وهذا قصارى ما يؤخذ من «وحدة الوجود» وليس هو البحث المقصود، وكأنما التفسير النهائي لجملة الأشياء يلجئنا إلى «ذات» لا محالة تقصد وتريد، فلا تفسر القوى بالقوى ولا المعاني بالمعاني ولا الأكوان بالأكوان، ولكنك تفسرها جميعا «بذات» مريدة فيسمى ذلك تفسيرا تستريح إليه العقول، وشوبنهور نفسه يقرر أن الوجود فكرة وإرادة، وأن الفكرة هي القداسة الإلهية والإرادة هي مظاهرها الدنيوية، وأن الفكرة تدخل في حيز الإرادة لتعود إلى حالة لا سعي فيها ولا عنت ولا مجاهدة؛ لأن العنت كله من الإرادة في محاولاتها الكثيرة، فلا تفسير لشيء لا فكرة له ولا إرادة إلا بكيان يفكر ويريد، وليس تصور «الذات الإلهية» عادة إنسانية تعودها الإنسان بغير تفكير - كما يرى بعض النفسانيين - لأنه تعود أن يخلع صورته على الأشياء ويحسبها ظلالا له تحكيه في ملامحه وخوافيه، ولكنها نهاية ما يدركه العقل واعيا صاحيا مع التفكير ومتابعة التفكير إلى أقصى مداه.

مصر

رأينا في فصل سابق أن تعميم العقائد المشتركة كان مرتهنا بقيام الدول الواسعة التي تطوي فيها عقائد القبائل والشعوب وتتجاوز أطرافها حدود الأمة الواحدة، ونسميها في عصرنا هذا بالإمبراطوريات.

والدول التي كان لها القسط الأوفى من هذه المساهمة العامة هي مصر وبابل والهند والصين وفارس واليونان، وتضاف إليها اليابان لولا أنها في عزلتها قد أخذت أكثر مما أعطت، وقد تخلفت من جراء هذه العزلة عن بعض الأطوار التي سبقتها إليها الأمم المتصلة بالمعاملات والمبادلات، فتلبثت ببقايا الوثنية إلى مطلع العصر الحديث.

أما مصر فتاريخها في أطوار الاعتقاد هو تاريخ جميع الأطوار من أدناها إلى أعلاها بلا استثناء.

فشاعت فيها «الطواطم» في كلا الوجهين قبل اتحاد المملكة وبعد هذا الاتحاد، ويظن الكثيرون من علماء الأديان أن تقديس الصقر والنسر وابن آوي والقط والنسناس والجعل والتمساح وغير ذلك من فصائل الحيوان هي بقايا «طوطمية» تحولت مع الزمن إلى رموز، ثم فقدت معنى الرموز واندمجت في العبادات المترقية على شكل من الأشكال.

وشاعت فيها عقيدة الأرواح، فكان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالروح، ثم آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت، ورمزوا للروح «كا» تارة بزهرة، وتارة بصورة طائر ذي وجه آدمي، وتارة بتمساح أو ثعبان، وقالوا بأن الروح تتشكل بجميع الأشكال، ولكنهم لم يقولوا بتناسخ الأرواح، ولعل اختلاف الرموز من بقايا اختلاف الطواطم في زمان سابق لزمان الاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب.

أما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها إلى آخر العصور فهي عبادة الموتى والأسلاف دون مراء، فإن عناية المصري بتشييد القبور وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات لا تفوقها عناية شعب من الشعوب، وقد بقيت آثار هذه العبادة إلى ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وتمثيل أوزيريس بالشمس الغاربة، ثم تغليبه على عالم الخلود وموازين الجزاء.

فقصة أوزيريس هي قصة آدمية تشير إلى واقعة قديمة مما كان يحدث في الأسر المالكة في تلك العصور السحيقة، وهي قصة ملك أحبه شعبه ثم نازعه أخوه «ست» عرشه فقتله، وجاءت زوجته «إيزيس» بعد ذلك بابن اسمه «حوريس» أخفته في مكان قصي حتى بلغ الرشد، فرشحته للملك فساعده أنصار أبيه على بلوغ حقه في العرش، وعاد «ست» ينازعه هذا الحق أمام الآلهة ويدعي عليه أنه ابن «غير شرعي» من أب غير أوزيريس، فلم تقبل الآلهة دعواه وحكمت لحوريس بالميراث.

وتقول الأسطورة: إن أوزيريس ولد في الوجه البحري، ولكن رأسه دفن في الصعيد بقرية العرابة المدفونة، وإن «ست» حين قتله فرق أعضاءه بين البقاع لكيلا يعثر على جثته أحد من المطالبين بثأره، ولكن إيزيس جمعت هذه الأعضاء وتعهدتها بالصلوات والأسحار حتى دبت فيها الروح من جديد وحملت منه بحوريس الذي قدح عمه في نسبه، وقد حاول أوزيريس أن يعود إلى الملك فأخفق في محاولته وقنع بالسيادة على عالم «المغرب» حيث تغيب الشمس وتنحدر إلى عالم الأموات.

وللخصب شأن لا يستغرب في ديانة مصر القديمة، فهم يرمزون إلى الكون كله ببقرة تطلع من بطنها النجوم، أو بامرأة تنحني على الأرض بذراعيها ويسندها «شو» إله الهواء بكلتا يديه، وأقدم ما تخيلوه في أصل العالم المعمور أنه عيلم واسع من الماء طفت عليه بيضة عظيمة خرج منها رب الشمس، وأنجب أربعة من الأبناء هم «شو» و«تفنوت» القائمان بالفضاء، و«جب» رب الأرض، و«نوت» رب السماء، ثم تزاوجت السماء والأرض فولد لهما أوزيريس، وإيزيس وست ونفتيس، فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الأرض والسماء، ثم استقر الأمر لثلاثة من هؤلاء هم أوزيريس وإيزيس وحورس، وهناك صيغة أخرى من قصة الخلق فحواها أن «رع» كان مزدوج الطبيعة، فتولد منه الخلق فهو منهم بمثابة الأبوين.

ويتراءى لفريق من المؤرخين أن «رع» نفسه - إله الشمس - كان ملكا على مصر في زمن من الأزمان، ويستدلون على ذلك بخلاصة قصته المتداولة في الأساطير: وهي أن رع ملك الدنيا قبل سكانها من البشر فتمرد عليه رعاياها فسلط عليهم ربة النقمة «حاتحور»، ثم أشفق عليهم من قسوتها، فاعتزل الدنيا وحملته بقرة السماء على ظهرها فأقام هناك، واندمج شخصه بعد حين بشخص أوزيريس.

وقد فعل غربال الزمن فعله في تصفية هذه العقائد والأرباب، فنسي أوزيريس السلف المعبود ورسخ في الأذهان وصف أوزيريس الشمس القائمة على المغرب أو عالم الأموات، وتوحدت عبادة الشمس بمعناها وتعددت بأسمائها ومواعدها، وجمعت بينها كلها عبادة «آمون» ثم عبادة آتون.

وعبادة «آتون» هي أرقى ما وصل إليه البشر من عبادات التوحيد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

فلم يكن المراد بآتون قرص الشمس ولا نورها المحسوس بالعيون، ولكن الشمس نفسها كانت رمزا محسوسا للإله الواحد الأحد المتفرد بالخلق في الأرض والسماء.

وإنما جاء هذا الطور بعد تمهيدات دينية وسياسية تهيأت لمصر ولم تتهيأ لغيرها من الدول الكبرى في تلك الفترة.

فكانت في أقاليم القطر - قبل ظهور عبادة آتون - ثلاث عبادات «شمسية» تتنافس في المبادئ الروحية ووسائل النفوذ التي تتغلب بها على النظراء.

فكانت منف تدين لإله الشمس باسم فتاح.

وكانت عين شمس أو «هيليوبوليس» تدين له باسم رع وأحيانا باسم «آتوم»، وكانت طيبة تدين له باسم آمون.

ويتبين من مراجعة الدعوات والصلوات المحفوظة أن عبادة «فتاح» كانت أقرب هذه العبادات إلى المعاني الروحية، فارتفع «فتاح» من صانع حاذق بالبناء والتماثيل وسائر الصناعات إلى صانع مختص بإقامة الهيكل المقدس الذي أصبح في اعتقادهم مثالا للعالم بأرضه وسمائه، وما هي إلا خطوة واحدة بين بناء الهيكل الذي يمثل العالم كله وبناء العالم كله من أقدم الأزمان قبل خلق الإنسان، وارتفع فتاح طبقة أخرى في مدارج القدرة والتنزه عن النظراء، فتعالى عن الأجساد الشاخصة للحس وتمثل لعباده روحا مسيطرة على كل حركة وكل سكون في جميع المخلوقات، من ذات حياة وغير ذات حياة، فكان فتاح كما جاء في إحدى صلواته هو «الفؤاد واللسان للمعبودات، ومنه يبدأ الفهم والمقال، فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء، أو كل ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح.»

وما وجد شيء من الأشياء قط إلا بكلمة من لسانه صدرت عن خاطر في فؤاده، فكلمته هي الخلق والتكوين.

ويرى المؤرخ الكبير برستيد أن عقيدة فتاح هي أساس مذهب الخلق بالكلمة

Logos

عند الإغريق الأقدمين، فلا حاجة بالخالق إلى أداة للخلق غير أن يشاء ويأمر فإذا بما شاء موجود كما شاء، ومن المحتمل جدا أن كهان تلك العصور تدرجوا إلى فهم قوة الكلمة الإلهية من فهمهم لقوة الكلمة على لسان الساحر وقوة الكلمة على لسان المبتهل بالصلاة.

ونسج كهان عين شمس على منوال كهان منف في تنزيه رع وتجريده من ملابسات الحس والتجسيد، ولا سيما بعد تفرغهم للعبادة الروحية وانصرافهم إليها كلما تعاظم سلطان الكهان في طيبة وتفاقمت سيطرتهم على مناصب الدولة، وهم كهان آمون.

وقد توطدت كهانة آمون في أيام المملكة الوسطى، وبلغت أوجها بعد عهد تحوتمس الثالث أكبر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، ومرشح آمون - أو كهان آمون بعبارة أخرى للسيادة المطلقة على أرجاء البلاد.

واتسعت الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث حتى تجاوزت حدودها بلاد النوبة والصومال في الجنوب، وامتدت إلى الفرات وآسيا الصغرى في الشرق والشمال، وكان اتساع الأفق في السياسة مقترنا باتساع الأفق في تصور العالم وما ينبغي لخالقه من التعظيم والتنزيه، فارتقى الفكر الإنساني في هذا العهد من البيئة المحلية إلى بيئة عالمية، ثم إلى بيئة أبدية تنطوي فيها أبعاد المكان والزمان.

وطغى نفوذ الكهان الآمونيين على كل نفوذ في البلاد من جراء هذه القربى بينهم وبين الملك العظيم، فاستأثر رئيسهم بلقب «الرئيس» في أنحاء الديار، وضيقوا الخناق على كهان رع وفتاح، ولزموا حدودهم مع الملك العظيم في أثناء حياته لقوته ورهبته وعلو اسمه بالمظافر والفتوح، وفرط ما أغدق عليهم من الهبات والحبوس والأوقاف، ولكنهم ذهبوا في الطغيان كل مذهب على عهد خلفائه، فطمعوا في نفوذ الملك بعد اطمئنانهم إلى نفوذ الدين.

ومن هنا خطر للملوك خاطر الخلاص من هذا النفوذ، فتكلم أمنحتب الثالث عن آمون في بعض أوامره وتسجيلاته باسم آخر: هو اسم آتون.

وساعد على هذا التبديل الطفيف أن صفات الإله في أذهان المصريين كانت أقرب إلى صفاته عند كهان منف وعين شمس، وأن مسالك الكهان الدنيويين من شيعة آمون لم تكن وفاق الآداب والعادات التي استلزمها ارتقاء المصريين في فهم كمال الإله.

فلما تولى الملك أمنحتب الرابع - أو إخناتون كما تسمى بعد ذلك - كان التمهيد للعبادة الجديدة قد بلغ مداه، وكان اتساع الأفق في النظر إلى الدنيا والنظر إلى صفات خالقها قد وسع له المجال للابتكار والتجديد، وأعان عبقريته على التدعيم بعد التمهيد. •••

وقد حفظت لنا النقوش والتماثيل والألواح وأوراق البردي كثيرا من أخبار إخناتون وأحواله وملامحه وسيرته في مملكته وفي بيته، وتكفي لمحات عابرة إلى شكل جمجمته وتركيب بنيته وأساليب تفكيره ومناحي عباراته للعلم بأنه كان عبقريا من أولئك العباقرة الملهمين، الذين يحدثنا النفسانيون أنهم يتلقون العبقرية على حساب أبدانهم وهناءتهم في حياتهم ، كما نقول في تعبير هذه الأيام.

وكان الفتى إخناتون حدثا ناشئا عند ولاية الملك، معروفا بالعكوف على التأمل والتفكير والخلوة بنفسه في صلواته ومناجاته، وكان لطيف الحس حالم النفس منصرفا عن طلب البأس والقوة ومتابعة الفتوح والغزوات التي توطد بها ملك آبائه وأجداده فطمع فيه كهنة آمون، وخيل إليهم أنهم مالكون زمام الأمر كله على يديه.

غير أن الفتى الحالم كان عبقريا يحب الابتكار والتفقه في العبادة بالعقل والبداهة المستقلة، ولم يكن تقليديا يلقي بزمامه لمن يسيطر عليه.

وكان مع لطف حسه قوي النفس صعب المراس، فاستنكر دسائس الآمونيين وتهافتهم على المناصب والأموال.

فقمعهم قمعا شديدا ومحا اسم آمون من كل مكان حتى هياكل أبيه واسمه الذي يبدأ باسم آمون، وجهر بعبادة «آتون» دون سواه، وهجر العاصمة التي ساد فيها هذا الإله إلى عاصمة أخرى في أواسط الصعيد، وهبها لربه الواحد الأحد وسماها «أخت آتون».

وألغى جميع الأرباب وأعوانهم من الأرواح والجنة، وأولهم الرب القديم أوزيريس، فكان هذا من أسباب غلبته يومئذ، وأسباب التمرد عليه بعد حين.

ومن صلوات إخناتون تعرف صفات الله الذي دعا إلى عبادته دون سواه، فإذا هي أعلى الصفات التي ارتقى إليها فهم البشر قديما في إدراك كمال الإله.

فهو الحي المبدئ الحياة، الملك الذي لا شريك له في الملك، خالق الجنين وخالق النطفة التي ينمو منها الجنين، نافث الأنفاس الحية في كل مخلوق، بعيد بكماله قريب بآلائه، تسبح باسمه الخلائق على الأرض والطير في الهواء، وترقص الحملان من مرح في الحقول فهي تصلي له وتستجيب لأمره، ويسمع الفرخ في البيضة دعاءه فيخرج إلى نور النهار واثبا على قدميه، قد بسط الأرض ورفع السماء وأسبغ عليهما حلل الجمال، وهو ملء البصر وملء الفؤاد، وهو هو الوجود وواهب الوجود، وشعوب الأرض كلها عبيده لأنه هو الذي أقام كل شعب في موطنه ليأخذ نصيبه من خيرات الأرض ومن أيام العمر في رعاية الواحد الأحد آتون.

وقد عقد كل من هنري برستيد وآرثر ويجال

Weigall

مقارنة بين صلوات إخناتون وأحد المزامير العبرية، فاتفقت المعاني بينهما اتفاقا لا ينسب إلى توارد الخواطر والمصادفات.

ومن أمثلتها قول إخناتون: «إذا ما هبطت في أفق المغرب أظلمت الأرض كأنها ماتت، فتخرج الأسود من عرائنها والثعابين من جحورها.»

ويقابله المزمور الرابع بعد المائة وفيه: «إنك تجعل ظلمة فيصير ليل يدب فيه حيوان الوعر وتزمجر الأشبال لتخطف، ولتلتمس من الله طعامها.»

ويمضي المزمور قائلا: «... تشرق الشمس فتجتمع وفي مآويها تربض والإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله في المساء، ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت! والأرض ملآنة من غناك، وهذا البحر الكبير الواسع الأطراف، وهناك دبابات بلا عدد مع صغار مع كبار، هناك تجري السفن، ولوياثان «التمساح» خلقته ليلعب فيه.»

ومثله في صلوات إخناتون: «ما أكثر خلائقك التي نجهلها. أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره، خلقت الأرض بمشيئتك، وتفردت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان الكبار والصغار.» «... تسير السفن مع التيار وفي وجهه، وكل طريق يتفتح للسالك لأنك أشرقت في السماء، ويرقص السمك في النهر أمامك، وينفذ ضياؤك إلى أغوار البحار.» «... وتضيء فتزول الظلمة ... وقد أيقظتهم فيغتسلون ويسعون ويرفعون أيديهم إليك ... ويمضي سكان العالم يعملون.» •••

وقد خطر لويجال - كما قال في كتابه عن حياة إخناتون وعصره - أن آتون وآتوم تصحيف «أدوناي» بمعنى السيد أو الإله في اللغة العبرية، وأن إخناتون ورث آراءه من أمه وهي تنتمي إلى سلالة آسيوية من شعب يقيم بين سورية وآسيا الصغرى، حيث يعبد دوناي أو أتون، على مختلف اللهجات.

وهذا وهم جلبه التشابه في الأسماء؛ لأن «آتوم» من أقدم الأرباب المصرية في معابد رع، وقد كان رب الكون حيث لا شيء غير اللجة الطخياء المسماة في الأساطير المصرية «نون»، وجاء في الفقرة السابعة عشرة من القسم الأول في كتاب الموتى على لسانه: «... وأنا آتوم متفردا في نون، وأنا رع حيث يبزغ مع الفجر ليبسط يديه على الدنيا التي خلقها.»

وكانوا يمثلونه على تمثال رجل ملتح يضع على رأسه تاجي القطرين، أي التاج الأحمر لمصر السفلى والتاج الأبيض لمصر العليا مجتمعين، ويجعلونه رئيس مجلس الآلهة باسم رع هيرختي أتوم

Ra-Herakhty-atum .

فهو رب أصيل وليس بالرب المستعار، ولا شبه بينه وبين أدوناي أو أدونيس - في صيغته اليونانية - لأن أدونيس رب الربيع والغرام يتخيلونه في ميسم الشباب ويزعمونه زوج فينوس أو الزهرة، ولا شيء من هذا في خصائص آتوم الذي يبدو على مثال الكهول ذوي اللحى، ويتقلد مفاتح الحكم والحكمة، ويرجع إلى مبدأ الخليقة حيث لا شيء غير الماء والظلام.

والأرباب الشمسيون أشبه بهياكل عين شمس لأنها أرباب أصيلة فيها لا تحتاج تلك الهياكل إلى استعارتها من ديانة أجنبية، ولا سيما الرب الذي يحمل تاجي القطرين ويرأس المحكمة الإلهية في السماء.

وقد كانت لظهور آتون تمهيدات لازمة لم تحدث في غير المملكة المصرية، وهي تمهيدات الإمبراطورية، وتمهيدات التنافس بين آمون ورع وفتاح وتمهيدات العبقرية التي تبشر بالدين الجديد.

وكانت لأتون خصائص متفردة لم يشركه فيها إله آخر من آلهة الأمم القريبة إلى مصر، وهذا هو المهم في نشوء الديانات وليس المهم مجرد التشابه في مخارج الحروف، فليس أدونيس عند اليونان كأدوناي عند العبريين، وليس هذا ولا ذاك كأتوم في معبد عين شمس أو غيره من المعابد المصرية، وليس هؤلاء جميعا كالإله آتون الذي دعا إليه إخناتون، فلا وجود لآتون بهذه الخصائص لو لم تسبقه التمهيدات القديمة التي مرت بعبادة آتوم في مصر، ومنها اتساع الدولة وإيمان المصريين بصفات رع وفتاح وآمون، وحاجة الزمن إلى فهم جديد لصفات الكمال في الإله، ثم عبقرية إخناتون التي تممت بابتكارها واجترائها ما بدأه التاريخ.

وقد كان عرب الجاهلية مثلا يعرفون اسم الله كما نعرفه اليوم، ولكن الله الذي وصفوه والله الذي وصفه الإسلام لا يتشابهان بغير الحروف، وبينهما من الفارق كما بين أبعد الأرباب. •••

على أن ويجال يقابل بين معاني إخناتون ومعاني المزمور فيرجح الاستعارة بينهما، ويعود فيرجح أن إخناتون كان في غنى عن الاستعارة لما طبع عليه من العبقرية الدينية وما اتسم به كلامه من طابع الابتكار.

وقد تناول العلامة «فرويد» مسألة المقابلة بين عقائد إخناتون والعقائد العبرية فألف آخر كتبه في موضوع هذه المقابلة وسماه «موسى والوحدانية»

Moses and monotheism

وانتهى من مقابلاته وفروضه إلى تقرير رأيه المرجح لديه: وهو أن موسى عليه السلام تربى في مصر في كنف الوحدانية، ونشأ في أعقاب المعركة بين آتون وآمون، واستعد للنبوة في هذه البيئة الموحدة، فعلم بني إسرائيل كيف يوحدون الله ويعظمون صفاته وآلاءه، وكان خروج بني إسرائيل فيما بين القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، أي في الجيل التالي لانتشار التوحيد بالبلاد المصرية، واسترسل فرويد في تقديراته - وهو من بني إسرائيل - حتى ظن أن موسى عليه السلام من دم مصري، وليس من اللاويين كما جاء في العهد القديم.

لكن المحقق أن بني إسرائيل قد أخذوا كثيرا من عقائد المصريين وشعائرهم قبل عهد إخناتون بعدة قرون، وبعده بعدة قرون.

إلا أن هذه الدعوة - دعوة إخناتون - كانت صحوة وجيزة تبعتها نكسة سريعة من جراء الأحداث السياسية التي أحاطت بالدولة، ومن كيد الكهان المخلوعين في طيبة وما جاورها، وهم كهان آمون الأقوياء الذين سلبهم إخناتون مناصبهم وحبوسهم وسيطرتهم على العرش والمحراب، ولعلهم كانوا مخفقين في كيدهم لو اصطنع هذا المصطلح الكبير شيئا من الدهاء ولم تدفعه الحماسة الروحانية وراء كل تقدير وتدبير؛ لأنه هجم على الشعب في أعز العقائد عليه وهي عقيدته في أساطير عالم الأموات وشعائر الإله أوزيريس رب المغرب والخلود، فأنكر سلطان أوزيريس على الأرواح، وجرده من قدرة الحكم عليها بالعقاب أو العذاب، فلم يؤمن بجحيم أوزيريس ولا بجحيم غيره؛ وبشر الناس بحياة خالدة كحياة الأطياف، تحياها الروح بين الهدوء في ظلمة الليل واستقبال الضياء من وجه آتون.

ولهذا بقيت عبادة أوزيريس وإيزيس بين المصريين، كما بقيت بين اليونان والرومان وانطوت أيام آتون بانطواء أيام نبي آتون.

الهند

ترجع الديانة الهندية القديمة إلى أزمنة أقدم من العصر الذي دونت فيه أسفارها المعروفة بالكتب الفيدية.

ويختلف المؤرخون المختصون بالهند في العصر الذي تم فيه هذا التدوين، فمنهم من يرده إلى ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، ومنهم من يرده إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، ولكنهم لا يختلفون في سبق الديانة الهندية لهذا العصر بزمن طويل.

ومن المتفق عليه أن الديانة الهندية القديمة مزيج من شعائر الهنود الأصلاء وشعائر القبائل الآرية التي أغارت على الهند قبل الميلاد بعدة قرون، وقد كانت هذه القبائل الآرية تقيم على البقاع الوسطى بين الهند ووادي النهرين، فاتجهت طائفة منها غربا إلى أوربة، واتجهت طائفة منها شرقا إلى الأقاليم الهندية من شمالها إلى جنوبها على السواحل الغربية، قبل أن توغل منها إلى جميع أنحاء البلاد.

ويعتقد فريق من المؤرخين أن الديانة الهندية القديمة لا تخلو من قبس منقول إليها من البابلية والمصرية، ويعللون ذلك بتوسط الموقع الذي أقام فيه الآريون الأولون، وأنهم لم تكن لهم في موقعهم ذاك حضارة سابقة لحضارة مصر وبابل وآشور، فلا خلاف في أن تاريخ الأسر المصرية أسبق من تاريخ الكتب الفيدية وأسبق من كل حضارة عرفها التاريخ للآريين، حيثما أقاموا من البقاع الآسيوية أو الأوروبية.

وقد اشتملت الديانة الهندية القديمة على أنواع شتى من الآلهة التي تقدمت الإشارة إليها.

ففيها آلهة تمثل قوى الطبيعة وتنسب إليها، فيذكرون المطر ويشتقون منه اسم «الممطر» فهو الإله الذي يتوجهون إليه في طلب الغيث، ومن هنا اسم «أندرا» إله السحاب المشتق من كلمة «أندو» بمعنى المطر أو بمعنى السحاب.

وكذلك يذكرون إله النار وإله النور وإله الريح وإله البحار ويجمعونها في ديانة شمسية تلتقي بأنواع شتى من الديانات.

وأقدم معاني الإله عندهم معنى «المعطي» أو ديفا

Deva

بلغتهم التي بقيت آثار منها في اليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوروبية الحديثة، فكلمة «ديو» الفرنسية

Dieu

وكلمة ديتي

Deity

الإنجليزية وكلمة زيوس اليونانية القديمة مأخوذة من أصلها الهندي المتقدم، ويرجحون أن جوبيتر عند اللاتين - وهو «المشتري» في اصطلاح علم الهيئة - هو مزيج من كلمة المعطي وكلمة الأب، بمعنى أبي العطاء أو الأب المعطي للجميع، وهما في الهندية القديمة ديوس بيتار

Dyaus-Petar

إذ لا تزال كلمة الأب في أكثر اللغات الأوروبية متفرعة من هذا الجذر الأصيل على تعدد اللهجات ومخارج الحروف.

واشتملت البرهمية القديمة على عبادة الأسلاف كما اشتملت على عبادة المظاهر الطبيعية. فتقديس الملك عندهم إنما هو تقليد موروث من تقديس جد القبيلة، تحول إلى تقديس الرئيس الأكبر في الدولة بعد أن تحولت القبيلة إلى الأمة، ويحسب العلامة إليوت سميث - كما قال في كتابه «المبادئ»

The Beginning : «إن مراسم تقديس الملك التي لا تزال مرعية في جوار الهند كانت تحاكي مراسم قصة الخليقة كما تخيلها المصريون، فلم يكن حق الملك مستمدا من الجلوس على العرش أو من البناء بالمملكة التي تنقل إليه حقوقه الملكية، ولكنه يتولى هذا الحق بعد تقديسه في حفل يمثل قصة الخليقة، وكأنهم يعنون بهذا أن الملك يستمد من ذلك التقديس قدرته على الخلق ومنح الحياة، وهي قدرة لا غنى عنها لاضطلاعه بالفرائض الملكية.»

وقصة الخليقة في الهند تشبه قصة الخليقة المصرية في أكثر من صيغة واحدة من صيغها العديدة: فالحياة خرجت من بيضة «ذهبية» كانت تطفو على الماء في العماء، والإله الأكبر كان ذكرا وأنثى فهو الأب والأم للأحياء كما جاء في «رع» في بعض الأساطير المصرية، وبناء العالم من صنع بناء ماهر في أساطير مصر والهند على السواء، وتتفق مصر وبابل والهند على أن الإله الأكبر قد خلق الأرض بكلمة ساحرة، فأمرها بأن توجد فبرزت على الفور إلى حيز الوجود. •••

وتعززت في الهند عبادة «الطواطم» بعقيدتهم في وحدة الوجود وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول.

فعبدوا الحيوان على اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة، ثم تخلفت عبادة الحيوان حتى آمنوا بأن الله يتجلى في كل موجود أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه، وآمنوا بتناسخ الأرواح فجاز عندهم أن يكون الحيوان جدا قديما أو صديقا عائدا إلى الحياة في محنة التكفير والتطهير، فعاشت عندهم الطوطمية في أرقى العصور كما عاشت في عصور الهمجية، لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم.

لكنهم خلصوا كما خلص غيرهم من هذه العبادات إلى الإيمان بالإله الواحد، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه، فلم يكن إيمانهم به على الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد.

فهم قد بدأوا بإبطال جميع المظاهر فنسبوا إليها التعدد والاختلاف لأنها تتكرر وتزول وتستر من ورائها الحقيقة الأبدية التي لا تتكرر ولا تزول، وتلك هي حقيقة القضاء والقدر، التي تقدر للآلهة وتقضي عليهم كما تقدر لسائر الموجودات وتقضي عليها في أجلها المحدود.

وهنا ذهب حكماؤهم إلى مذهبين غير متفقين: فبعضهم تمثل تلك الحقيقة إلها واحدا قريبا من الإله الواحد في أكثر ديانات التوحيد. قال ماكس موللر الثقة الحجة في اللغات الآرية: «أيا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المسطورة في الرجفيدا فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثى ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية، وارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلى أوج في إدراكهم لكنه الربوبية لم يترق إليه مرة أخرى غير أناس من فلاسفة الإسكندرية المسيحيين، ولكنه فوق هذا لا يزال أرفع وأعلى مما يطيف بأذهان قوم يدعون أنفسهم بالمسيحيين.»

وتبدو مداناة هؤلاء البراهمة لمذهب الموحد المؤمن «بالذات الإلهية» من إيمانهم بالخلاص على يد الله، وبقاء فريق منهم بعد ذلك بمئات السنين ينقسمون في شرح سبيل الخلاص على نهجهم الذي لا نستغربه من قوم يعظمون الحيوان ذلك التعظيم، فمنهم من يسمي سبيل الخلاص بالسبيل القردية ومنهم يسميها بالسبيل القطية، ويقصدون بهذه التسمية أن الله يخلص الإنسان إذا تشبث به كما يتشبث ولد القرد الصغير بأمه وهي تصعد به إلى رءوس الأشجار، أو أن الله على اعتقاد الآخرين يخلص الإنسان وهو مغمض العينين مستسلم للقضاء، كما يستسلم ولد القطة لأمه وهي تحمله مغمضا من مكان إلى مكان.

فالله الذي يخلص عباده هذا الخلاص أو ذاك هو «ذات» على كلتا الحالتين يتشبث بها العابد أو يستسلم لقضائها فتسهر عليه وإن غفل عنها.

ويتسمى هذا الإله بثلاثة أسماء على حسب فعله في الوجود، فهو «برهما» حين يكون الموجد الخالق، وهو فشنو حين يكون الواقي المحافظ، وهو سيفا حين يكون المهلك الهادم، ولا نهاية للتداخل ولا للترجيح بين هذه الأسماء والوظائف والأفعال، على تباين النحل والملل والأجيال.

أما الفريق الثاني فالحقيقة الأبدية عنده معنى ليس له قوام من «الذات» الواعية، وإنما هو قانون يقضي بتلازم الآثار والمؤثرات، ويقابل الاعتقاد بالقضاء والقدر عند المؤمنين بالأديان الكتابية، ونعني بها الإسرائيلية والمسيحية والإسلام.

إلا أنه قضاء يسري على الآلهة كما يسري على البشر، ويتغلغل في طبائع الخالقين كما يتغلغل في طبائع المخلوقات، وحكمه الذي لا مرد له هو حكم التغير الدائم والفناء، وحكم الإعادة والإبداء.

ولا نحسب أن أحدا من الأقدمين بلغ في إعظام الأكوان المادية مبلغ البراهمة، سواء في تقدير السعة أو تقدير القدم أو تقدير البقاء، فإن أناسا من الأقدمين لم يجاوزوا بعمر الأكوان المادية بضعة آلاف سنة، وأناسا منهم جعلوا لها خلقا واحدا وفناء واحدا خلال أجل مقدور من القرون، ولكن البراهمة جعلوا لها أربعة أعمار تساوي اثني عشر ألف سنة إلهية وأربعة ملايين وثلثمائة وعشرين ألف سنة شمسية، وبعض المتأخرين يضاعفها ألف ضعف ويقولون جميعا إنها دورة واحدة من دورات الوجود، وإن هذه الدورة هي يوم يقظة يقابله ليل هجوع، ينقضي بين كل دورة فنيت وكل دورة آخذة في الابتداء.

والقانون الأبدي

Karma

يقلب هذه الأدوار فيبدئها ويحفظها ويفنيها ثم يختم هذا النهار بليل من ليالي الهجوع، ثم يعود فيطلع النهار كرة أخرى دواليك إلى غير انتهاء؛ لأنه لا انتهاء للزمان.

ويتضاءل الإنسان الفاني كلما تعاظم هذا الفناء الخالد أو هذا الخلود الذي يتجدد بالفناء، فليس للإنسان حساب كبير في هذه الحسبة الأبدية؛ لأنه «رقم» ضئيل يغرق في طوفان الأرقام التي لا يحيط بها العد والإحصاء.

وعلى هذه القاعدة قامت البوذية التي بشر بها البوذا جوتاما قبل الميلاد المسيحي بحوالي خمسة قرون.

فقبل «جوتاما» بمئات السنين كان نساك الهند يتغنون بمضامين النشيد المرهوب الذي ترجمه ماكس موللر إلى الإنجليزية وجاء فيه عما كان قبل أن يكان أو يكون:

حينذاك لم يكن ما وجد أو ما لم يوجد، ولم يكن ما تثبته ولا ما تنفيه.

لا أجواء ولا سماء وراء الأجواء.

وماذا عساها تنطوي عليه؟ أين كانت وأين قرارها؟ أهي هاوية الماء التي ليس لها من قرار؟

لم يكن موت، فلم يكن خلود.

لم يمكن ما يموت، فلم يكن ما ليس يموت.

ولم يكن ثمة نهار ولا ليل، ولم يكن إلا «الأحد» يتنفس حيث لا أنفاس.

ولا شيء سواه.

وكان البدء في ظلام، عيلم بلا ضياء.

ومن البذرة في تلك القشرة قام «الأحد» بحرارة الحياة.

وانتصر الحب حين نبتت البذرة من لباب العقل السرمدي، وناجى الشعراء قلوبهم فتبينوا بالحكمة ما هو مما ليس هو، فقد نفذ شعاع القلب خلال ما هنالك، فماذا نظروا فوق الأحد وماذا نظروا دونه؟ كل ما هنالك حملة لبذور، قوى، قوة من أدنى ومشيئة من أعلى، ولا أحد يدري، ولا من يعلم من أين جاء ما جاء، فإنما جاءت الأرباب بعد ذاك، فمن إذن يعلم ما جرى؟ أهو الذي حدثت منه الخليقة؟ لعل الذي يعرفه «أحد» واحد في أعلى عليين، ولعله لا يدري كذاك.

وقبل «جوتاما» آمن البرهميون بالدورة في وجود الكون والدورة في وجود الإنسان، فالكون يتجدد حلقة بعد حلقة، والإنسان يتنقل في جسد بعد جسد، وسلسلة الأكوان ليس لها انتهاء، وسلسلة الحياة الإنسانية قد تنتهي إلى السكينة أو الفناء.

فالبوذية إنما قامت على أساس البرهمية في كل عقيدة من عقائد الأصول، وإنما تميزت البوذية بتبسيط العقائد لطبقات من الشعب غير طبقات الكهان، فأخرجتها من حجابها المكنون في المحاريب إلى المدرسة والبيت وصفوة المريدين، ولا تعتبر البوذية إضافة في صميم العقائد الدينية بل إضافة في آداب السلوك وفلسفة الحياة، وإضافة في عرض الآراء على غير المستأثرين بها قديما من سدنة الهيكل والمحراب.

وخلاصة الفلسفة التي أتى بها البوذا جوتاما هي تقريره هذه المبادئ الأربعة وهي:

أولا:

إن هناك عذابا وشقاء.

وثانيا:

إن هناك سببا للعذاب والشقاء.

وثالثا:

إن هذا السبب قابل للزوال، و«رابعا»: إن وسيلة الانتهاء إلى هذه الغاية موجودة لمن يختار.

ورابعا:

إن وسيلة الانتهاء إلى هذه الغاية موجودة لمن يختار.

أما سبب الشقاء فهو الجهل الذي جعلنا نتعلق بالأوهام وننسى لباب الأمور، أو نتعلق بالعرض ونعرض عن الجوهر الأصيل.

والعرض هو كل ما يزول ويتغير، وهو من شر وفساد، وكل ما نحسه هو عرض تشمله لعنة الزوال. فما من شيء ثم «يكون» بل كل شيء يصير ولا يكف عن التغير، أو كما قال: «إن الناس يؤمنون بالثنائية، فيؤمنون بأن الشيء إما كائن وإما غير كائن، ولكن الناظر إلى الأمور بعين الصدق يعلم أن الرأيين طرفان متطرفان، وأن الحقيقة وسط بين الطرفين.»

وعلى هذا النحو ينكر البوذا وحدة «الشخصية الإنسانية» لأنها لا تتجاوز أن تكون تلاحقا مستمرا للأحاسيس يبدو لنا كأنه حزمة مضمونة في كيان واحد، ومفسروه في العصر الحديث يمثلون لذلك بشريط الصور المتحركة الذي يلوح لنا شيئا واحدا وهو خطفة بعد خطفة من الألوان والظلال.

وإذا كان الشقاء في التطرف بالحس إلى النقيضين، فالخلاص من الشقاء لا يتأتى بغير الاعتدال بين كل طرفين، وبهذا نميط عنا غشاوة الخداع الذي يتراءى على ظاهر الأشياء للنفاذ إلى ما وراءها من سر الوجود.

فلا استغراق في إرضاء الحس ولا استغراق في قمعه وتجريده، بل توسط بين الغايتين في أمور الحياة الثمانية، وهي الفهم والعزم والكلام والسلوك والمعيشة والعمل والتأمل والفرح.

فالفهم طرفاه التصديق بكل ما يقال وإنكار كل ما يقال، والوسط بينهما التمييز بين الباقي والزائل والظاهر والباطن والثابت والذي ليس له ثبوت.

والعزم طرفاه التهافت والإهمال، والوسط بينهما إرادة الحكمة متى تبين السبيل إليها بالفهم الصحيح.

والكلام منه المهجور ومنه المطروق، والوسط بينهما قول الصدق وصون اللسان عن العيب والنميمة والمحال.

والسلوك طرفاه المحاباة مع الغرض والإجحاف مع الغرض، والوسط قوام بين الغرضين لا ينقاد لهذا ولا لذاك.

والمعيشة الصالحة قوامها أن يتخير الإنسان رزقا حلالا يتورع فيه عن التكسب بما يضر الآخرين.

والعمل الصالح أن يعرف ما يبتغيه ويقيس طاقته على مراده ويلتزم في كل ما يريد جادة الرشد والحكمة والإنصاف.

والتأمل الصالح سلام العقل وصفاء البصيرة ونبذ الوهم والعكوف على الحق البريء من النزعات.

والفرح الصادق هو فرح الرضوان الذي يتاح للإنسان في هذه الحياة فيبلغ به ملكوت «النرفانا» الأرضية في انتظار النرفانا الصمدية، وهي السكينة أو الفناء، وبينها وبين العدم فرق كبير. لأنها هي وجود يفنى في وجود، ويفسرها بعض العصريين من أذكياء البوذيين بفناء ألوان الطيف في البياض الناصع الذي ليس له لون، وهو ملتقى جميع الألوان.

بهذه الآداب ينجو الإنسان من رباط ذلك الدولاب الدائر بالولادة والموت والتجدد في حياة بعد حياة وجثمان وراء جثمان، فيدخل في «النرفانا» ولا يولد بعد ذلك ولا يموت.

وحكمه في هذا المصير حكم الأرباب والملائكة وحكم السماوات والأرضين، فكلها خاضع لقانون القضاء والقدر الذي لا فكاك منه لموجود، وكلها عرضة للتكفير والتطهير والتحول والتغيير، ثم للذهاب في غمرة الفناء الأخير.

وموضع التناقض في هذه الفلسفة أنها تنكر «الشخصية الإنسانية» ولا تعترف بالذات أو بالروح وهي مع هذا تؤمن بتناسخ الأرواح وثبوت شيء في الإنسان يبقى على التنقل بين الأجساد والدورات.

وأنها تؤمن بالكل أو «المطلق» الصمدي الوجود، ثم تنفي عنه الذات كما تنفيها عن الإنسان. مع أن الكل بغير ذات لا يكون كلا بمعنى من معاني الكلية، ولكنه شتات من أجزاء متفرقات.

وعلينا أن نحترس من مغالاة الشراح الأوربيين بهذه الفلسفة البوذية؛ لأنهم يتعصبون لكل منسوب إلى الآرية على اعتبارها عنصر الأوربيين الأقدمين والمعاصرين.

فقد رفعوها فوق قدرها بلا مراء، وزعموا أنها «جرأة العقل الكبرى» في مواجهة المشكلة الكونية، وأنها الخطوة المقتحمة التي لم يذهب وراءها ذو عقيدة في مطاوح التأمل والإقدام.

لكنها لا تحسب من الجرأة العقلية بوصف من الأوصاف، فما هي إلا جرأة حسية في أقصى ما تطوحت إليه من الفروض والأظانين، وما البوذية كلها إلا تململا من وطأة الحس والجسد، ولا سعادتها القصوى إلا ضيقا بالحس وهربا منه إلى الفناء أو «اللاوعي» على أحسن تقدير.

والمحسوس عندها شامل للمعقول، والكائن بحق الحس عندها شامل للكائن بحق العقل وحق الوعي وحق الذات.

والآلهة عندها تأتي في المرتبة التالية بعد مرتبة الأكوان، وما ارتفعت الأكوان عندها إلى هذه المرتبة إلا بأنها هي المحسوس، وهي أول ما يفاجئنا قبل أن نفكر وقبل أن نتأمل وقبل أن ندين باعتقاد.

نعم إنها قد مدت نطاق الأكوان في الزمان والفضاء مدا قصر عنه المتدينون الأقدمون في معظم الأمم والأقطار.

ونعم إنها نفذت وراء الظواهر فتجاوزتها إلى ظواهر أعم منها وأبقى، فكان البرهميون يجزمون بأن الشمس لا تغيب عن الفضاء حين تغرب في المساء، يوم كان الأقدمون يحسبونها تهلك في مغربها أو يحسبونها تحجب وراء الجبال أو تتوارى بما تخيلوه من ضروب الحجاب.

ولكنها مدت نطاق الأكوان بحسية كبيرة لا بالخروج من الحسية والجرأة عليها، واختصرت الظواهر بالإقلال منها بعد تكثيرها ولم تردها آخر الأمر إلى ظاهرة واحدة، ولا إلى عقل تتساوى فيه هذه الظواهر في عنصر التجريد.

والبوذيون المعاصرون يسوغون تجريد «الكل» من الذات، أو تجريد الإله الأعظم من الذات، بأن الذات شبهة إنسانية نشأت من تخيل الإنسان كل موجود على مثاله ومنحاه.

ولكن تخيل الإنسان طبقة أعلى من تخيل الإله مجموعة من هذه الأكوان البكماء، وكل ما يقولونه عن ربوات ربوات الفراسخ التي يمتد إليها الفضاء لا تزيده على أن يكون فضاء في كل مكان: وذرة واعية في نواة تعيش الألوف منها على سن الإبرة - هي أوسع امتدادا في آفاق الوجود من أوسع فضاء لا وعي فيه.

ومن راعه امتداد الفضاء ولم يرعه امتداد «الوعي» فهو يقيس العالم بالأشبار والأمتار ولا يقيسه بعمق الحياة وكنه الوجود الذي يعلم أنه وجود، وما من فارق كبير بين وجود لا وعي له وبين معدوم.

فالبوذية فتح في ميدان التصوف أو ميدان «الوجدانيات» والفضائل الخلقية، ولكنها ليست بالفتح الجريء في معارج الوصول إلى الكمال: كمال الإله.

الصين واليابان

أما الصين فإنها - كالمنتظر من أمة في ضخامتها وكثرة شعوبها وترامي أطرافها - قد اختبرت جميع أنواع العبادات من أدناها إلى أرقاها.

ولكنها - على كثرة العبادات التي دانت بها - لا تحسب من أمم الرسالات الدينية كمصر وبابل والهند وفارس وبلاد العرب؛ لأنها لم تخرج للعالم قيما دينية تلقاها منها، وهي باصطلاح التجارة تحسب من الأمم المستنفدة في مسائل الديانات؛ لأنها أخذت من الخارج قديما وحديثا عقائد البوذية والمجوسية والإسلام والمسيحية ولم تعط أمة عقيدتها، مع استثناء اليابان التي أخذت عنها نحلة كنفشيوس.

وأهل الصين لا يخوضون كثيرا في مباحث ما وراء الطبيعة، ويوشك أن يكون التدين بينهم ضربا من أصول المعاملة وأدب البيت والحضارة.

فأشيع العبادات بينهم عبادة الأسلاف والأبطال، وأرواح أسلافهم مقدمة بالرعاية على جملة الأرواح التي يعبدونها ويمثلون بها عناصر الطبيعة أو مطالب المعيشة، ولا يقدر الصيني قربانا هو أغلى في قيمته وأحب إلى نفسه من قربانه إلى روح سلفه المعبود، وهو يحتوي الأغذية والأشربة والأكسية والطيوب، ومنهم من يحرق ورق النقد هبة للروح التي يعتقدون أنها تحتاج إلى كل شيء كانت تحتاج إليه وهي في عالم الأجساد.

والخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال أبنائهم.

فما أرضى السلف فهو خير وما أسخطهم فهو شر، وقد يختارون فردا من أفراد الأسرة ينوب عن جده المعبود فيطعمونه ويكسونه ويزدلفون إليه ويحسبون أن روح الجد هي التي تتقبل هذه القرابين في شخص ذلك الحفيد.

وتتمشى عبادة العناصر الطبيعية جنبا إلى جنب مع عبادة الأسلاف والأبطال، فالسماء والشمس والقمر والكواكب والسحب والرياح آلهة معبودة أكبرها إله السماء «شانج تي» ويليه إله الشمس فبقية الأجرام السماوية فالعناصر الأرضية.

وهم يتقربون إلى «شانج تي» بالذبائح ويبلغونه صلواتهم بإشعال النار على قمم الجبال، فيعلم الإله - مما أودعه الكاهن دواخينها - فحوى الرسالة التي يرفعها إليه عباده، ولا يحسنون الترجمة عنها كما يحسنها الكهان.

وإله السماء هو «الإله» الذي يصرف الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل إنسان مجرى حياته الذي لا محيد عنه، وإنما يداول تركيب الوجود من عنصرين هما «ين» عنصر السكون و«يانج» عنصر الحركة، وقد يفسر عنصر السكون بالراحة والنعيم وعنصر الحركة بالشقاء والعذاب، فهما بهذه المثابة يقابلان عنصري الخير والشر وإلهي النور والظلام في الأديان الثنائية.

وقد امتزجت عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية في القرن العاشر حين تسمى عاهل الصين باسم «ابن السماء»، ويقال إنه استعار الفكرة من كاهن ياباني أراد أن يزدلف إليه فعلمه مراسم تأليه الميكاد في بلاده، فنقلها العاهل إلى بلاط الصين.

وأراد الفيلسوف «شوهسي» في القرن الثاني عشر أن ينشئ بوذية صينية توافق مذهب بوذا في أمور وتخالفه في أمور، فدعا إلى دين لا إله فيه ولا خلود للروح، ووضع «لي» موضع «كارما» الهندية أو القانون أو القضاء والقدر.

وسمى دولاب الزمن «تايشي» لأنه هو المحرك لجميع الكائنات، وجعل القانون والدولاب والمادة أو «ووشي» قوام العالم ظاهره وخافيه، فالمادة تحد من القانون، والقانون خالد لا وعي له ولا يسمع ولا يجيب، وإنما ينشأ الوعي أو الإدراك في الإنسان من قدح القانون للمادة كما ينقدح الحجر من الزناد فيخرج الشرر ثم ينطفئ فيموت، وتزول الأرواح كما تزول الأجساد متى نضجت كما تنضج الثمرة في أجلها المعلوم، وقد يبطئ النضج فيطول بقاء الروح فهي إذن طيف أو شبح، كأنها الثمرة في حالة العفن والإهمال.

وليس لأهل الصين رسل وأنبياء بل لهم معلمون ومربون، فاسم كنفشيوس أشهر هؤلاء المعلمين «كنج فو» وأضيفت إليه تسي أي المعلم، وكذلك «لاو» الذي ولد قبله ولم يشتهر في خارج الصين مثل اشتهاره يعرف بلاوتسي أي المعلم لاو، وكلاهما يبشر بالحلم والصبر والبر بالوالدين والعطف على الأقربين والغرباء، والفرق بينهما هو فرق في الخلق والمزاج وليس بفرق في العقيدة والإيمان، فلاو يقول: «من كان طيبا معي فأنا طيب معه، ومن أساء إلي فأنا طيب معه كذلك. فلنجز السيئة بالحسنة ولنعمل الطيب على كل حال» أما كنفشيوس فهو يوصي بأن نقابل السيئة بالعدل وأن نقابل الإحسان بالإحسان.

ولما مات كنفشيوس 478ق.م أقاموا له الهياكل وعبدوه على سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة «رسمية» أي حكومية على عهد أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة. ولم تزل عبادته قائمة إلى العصور المتأخرة بل إلى القرن العشرين، فخصوه في سنة 1906 بمراسم قربانية كمراسم الإله الأكبر «شانج تي» إله السماء لأنه في عرفهم «ند السماء» ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه، وقد جعلوا يوم ميلاده - وهو السابع والعشرون - من شهر أغسطس عيدا قوميا يحجون فيه إلى مسقط رأسه، وينوب عن الدولة موظف كبير في محفل الصلاة أمام محرابه.

وشعائر الدين بين أهل الصين هي شعائر الطريق أو شعائر «السلوك» وفرائض التهذيب والتثقيف، ومحورها الحلم والسلم والتحذير من العنف والغضب والإفراط والإسراف، وليس في تدين الصين مغالاة ولا حماسة ولا سورة من سورات الغيرة القوية والتعصب العنيف، بل ليس شيء من ذلك في معرض من معارض الروح القومي التي تعبر عنها الثقافة أو الفن أو الحكمة أو قواعد الأخلاق. لأن الدعة سمة عامة لمزاج القوم و«روح الأمة»، وهم متفائلون قلما يحنقون على الحياة ولا على الأحياء، وغالب الرأي بين حكمائهم أن الإنسان طيب بالفطرة، وأن الحياة ترضي من لا يسرف في تقاضيها ويلحف في الطلب عليها، ولا تأتي الحماسة الدينية إلا حين يمتحن الإنسان بالشدة البالغة والحيرة الثائرة فيندفع إلى غاية الإصرار، وينقلب من ضميره إلى أعمق الأغوار، ولا شك أن شعور النفس «بالقدرة الإلهية» يتوقف على هذه الحالات التي تتناهى إليها قدرة الإنسان. فلا جرم «يتوسط» أهل الصين في عقائدهم فيخلو إيمانهم بالإله من ذلك العمق الذي يغوص إليه الإنسان كلما جاشت نفسه بقوة الشعور.

ويظهر أن بيئة الصين لم تواجه أبناءها بالعقد النفسية ولكنها واجهتهم بتقلبات العناصر الطبيعية التي تعودت الشعوب قديما أن تروضها بالسحر والكهانة، فجار نصيب الإيمان بالسحر على نصيب الإيمان بالدين، وذاع عن أهل الصين من ثم أنهم أقدر أمة على تسخير الطبيعة بالطلاسم والأرصاد. •••

وموقف اليابان من الرسالة الدينية كموقف الصين على الإجمال، فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية، واستعاروا البوذية والإسلام والمسيحية على تفاوت في عدد الأتباع من كل دين، ومزجوا ديانة الشمس بديانة الأسلاف، فلا مخالفة بينهم في هذا إلا بإفراط أهل اليابان في تأليه صاحب العرش واعتدال أهل الصين في تقديسه كاعتدالهم في جميع الشئون.

وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا ربة أنثى لعبادة السلف الأعلى حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها، وتلك الربة هي «أميتراسوا- أموكامي» التي لا تزال معبودة إلى اليوم.

ويؤخذ من الأساطير اليابانية أنها كانت ربة الغزاة الذين أغاروا فيما قبل التاريخ على جزيرة كيوشو وأخضعوا أهلها وطردوهم منهزمين إلى الجبال، وكان أهل كيوشو الأولون يعبدون إله الريح والمطر «سوسا-نو-وو» فهبط هذا الإله بهزيمتهم إلى المرتبة التالية لمرتبة الربة السلفية، ثم انعقد الوئام بين الفريقين بعد تناسي الإحن والترات وامتزاج القبائل الغازية والمغزوة، فأصبح الإلاهان أخوين وأصبحت «أميتراسو» هي كبرى الأخوين.

ولا يعتقد اليابانيون أن هذه الربة خلقت الكون أو خلقت الإنسان؛ لأنهم يعتقدون أن عهدها قد سبقته عهود مديدة تنازع فيها الأمر عشرات الألوف من الأرباب، وهذه الأرباب عندهم هي بمثابة الأرواح والملائكة والجنة والشياطين من عناصر الخير والشر عند الأمم الكتابية. ويسمون الواحد منها «كامي»، وهي كلمة تطلق على كل رائع خارق للعادة بالغ في القوة أو الجمال، ثم استسلمت هذه الأرباب بعد كفاح طويل وصار الأمر إلى الربة الكبرى برضوان من خالق السماوات والأرضين.

أما الخلق فهو منسوب عندهم إلى إله السماء «أزاناجي-نوميكوتو» وزوجته وأخته إلهة الأرض «أزانامي-نوميكوتو»، فولدا جزر اليابان وألقحها ببذور الآلهة وجاء أبناء اليابان الآدميون من سلالة هذه الآلهة، فكلهم في النسب الأعلى - وليس الميكاد وحده - إلهيون.

وفي إحدى الروايات الأسطورية أن ربة الأرض احترقت وهي تضع إله النار، فجرد رب السماء سيفه وضرب به إله النار، فانبعث من وميض سيفه ومن ضرباته رهط من أرباب الزوابع والبروق والوعود. ولم ترجع الأرض إلى خصبها إلا بعد شفاء ربتها وخروجها من هاوية الظلام لتلد الماء والطمي وعناصر الزرع والحياة.

وينسبون الخلق في رواية أخرى إلى «ازاناجي» وحده وهو يبحث عن رفيقة صباه، فمن عينه اليسرى خلقت الشمس ومن عينه اليمنى خلق القمر، ومن عطسته خلق «سوسا-نو-وو» رب الرياح والأمطار، ولكنه أعجب من بين أبنائه بالشمس دون شقيقيها فخلع عليها عقدا يتلألأ بالجواهر وبوأها أرفع عرش في السماء.

فالديانة اليابانية الأصلية ديانة شمسية سلفية جمعت معنى التوحيد أولا في إله السماء حيث تصوروه أبا للخليقة بمفرده أو بمشاركة زوجه، ثم جمعتهما في الربة الواحدة على اعتبارها ربة مختارة بين أرباب.

فارس

لعل تاريخ الديانة الفارسية القديمة أهم التواريخ الدينية بين الأمم الآسيوية، لتوشج القرابة بينه وبين الديانات الهندية والطورانية والبابلية واليونانية، وارتباطه بالتواريخ السابقة له واللاحقة به واقتباس الديانة الفارسية من غيرها واقتباس غيرها منها، وتقدم الفكرة الإلهية على يد زرادشت صاحب الشريعة القومية في بلاد فارس وأرفع الأعلام شأنا بين دعاة المجوسية من أقدم عصورها إلى أحدثها.

فالفرس الأقدمون من السلالة الهندية الجرمانية، وموقع بلادهم قريب من دولة بابل، قريب من أقاليم الطورانيين، قريب من مسالك الحضارة بين المشرق والمغرب، وقد تلاقت حضارة فارس وحضارة مصر في السلم والحرب غير مرة، وانقضى زمن طويل على الدنيا المتحضرة وهي تقرن بين المجوسية وبين الحكمة أو العلم بأسرار الطبيعة والسيطرة عليها بالسحر والمعرفة الإلهية، وكان لليهود وأبناء فلسطين وأمم العرب علاقات قديمة بالدولة الفارسية تارة والدولة البابلية تارة أخرى. فاتصل من ثم تاريخ المجوس بتاريخ اليهود والمسيحيين والمسلمين.

فالأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة «مترا» إله النور وتسمية الإله بال «أسورا» أو إله ال «أهورا» وإن اختلفوا في إطلاقه على عناصر الخير والشر، فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح وجعلته الهند من أرباب الشر والفساد.

والبابليون عرفوا عبادة «مترا» في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ورفعوه إلى المنزلة العلية بين الآلهة التي تحارب قوى الظلام.

واستعار الفرس من البابليين كما أعاروهم، فأخذوا منهم سنة التسبيع في عدد الآلهة، وجعلوا أورمزد على رأس سبعة من أرباب الحكمة والحق وقوى الطبيعة وأنواع المرافق والصناعات .

ولم تخل الديانة المجوسية من عقائد الطورانيين؛ لأن «زرادشت» عاش بينهم زمنا وبشرهم بدينه فاضطر إلى مجاراتهم في عباداتهم ليجاروه في عبادته، وأدخل أربابا لهم في عداد الملائكة المقربين.

ويعتقد المجوس في بعض أساطيرهم أن «زروان» أبو الإلهين إله النور والظلام، ولعل «زروان» هذا صنو لإله البابليين «نون» أو القدر الذي يتسلط على الآلهة كما يتسلط على المخلوقات.

وقد آمن المجوس بالعالم الآخر كما آمن به المصريون، وآمنوا كذلك بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، ولكنهم قالوا بقيامة الموتى ونهاية العالم وبعث الأرواح للحساب في يوم القيامة، ولعلهم جمعوا بذلك بين عقيدة الهند في نهاية العالم وعقيدة المصريين في محاسبة الروح ووزن أعمالها في موقف الجزاء.

ولم يكن اليهود يتكلمون عن «الشيطان» قبل السبي أو قبل الإقامة فيما بين النهرين، فتكلموا عنه بعد أن شبهوه «بأهرمان» الذي يمثل الشر والفساد عند المجوس.

وفي الكتب المسيحية أن حكماء المجوس شهدوا مولد السيد المسيح وعلموا بنبئه فاهتدوا إليه بنجم في السماء.

وذكر أفلاطون زرادشت في كتاب «السيبادس» فسماه زرادشت بن أورمزد، وقال بليني في تاريخه الطبيعي إنه المولود الذي ضحك يوم ولادته، وقال ديوكريسستوم

Dio Chrysostom

إنه لا الشاعر هوميروس ولا الشاعر هزيود بلغا مبلغ زرادشت في الإشادة بمجد «زيوس» رب الأرباب في علياء مجده.

فتاريخ الديانة الفارسية عامة وتاريخ زرادشت خاصة على ارتباط وثيق بتواريخ العقائد الآسيوية وتواريخ بعض العقائد في مصر واليونان.

ولكن «زرادشت» لا يعرف له تاريخ مفصل على التحقيق، فالمراجع اليونانية ترده إلى القرن الستين قبل الميلاد، والمراجع العربية ترده إلى ما قبل الإسكندر بنحو مائتين وسبعين سنة. فهو على هذا قد ولد حوالي سنة 660 قبل الميلاد وهو أصح التقديرات، وقد اعتمده الثقات الباحثون في تاريخه فرجحوا، كما رجح كاسارتللي وجاكسون، أنه ولد سنة 660 ومات سنة 583 قبل الميلاد.

ويقول الشهرستاني: إن أباه من أذربيجان وأمه من الري، ويكاد يتفق المؤرخون على أنه ولد في الناحية الغربية الشمالية من البلاد الفارسية على شاطئ نهر يسمونه في الكتب المجوسية داريزا ويعرف أخيرا باسم أراس.

ويزعم بعض مؤرخيه أن اسمه مركب من كلمتين في اللغة القديمة معناهما معاكس الجمل؛ لأنه كان في صباه يعبث بالجمال، ويجعلون لهذه التسمية شانا في وصاياه العديدة بالإشفاق على الحيوان، كأنه يكفر بذلك عن قسوته عليه في صباه.

وخلاصة ما جاء به «زرادشت» من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشر إلى ما دون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية على إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه.

وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية، فقد سبقه الفرس إلى عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام، ولكنه تولى هذه العقائد بالتطهير وحملها على محمل جديد من التفسير والتعبير.

فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمى زروان ويكنى به عن الزمان. وأنه اعتلج في جوفه وليدان فنذر السيادة على الأرض والسماء لأسبقهما إلى الظهور، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتى شق له مخرجا إلى الوجود قبل «هرمز» الطيب الكريم، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء وعز على أبيهما أن ينقض نذره، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة، ويعود الحكم بعده لإله الخير خالدا بغير انتهاء، ويؤذن له يومئذ في القضاء على إله الشر وتبديد غياهب الظلام.

وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة وأهرمان غافل عنه في قراره السحيق، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه فأشفق على نفسه من العاقبة وعلم أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض فلا يترك له ملاذا يعتصم به ويضمن فيه البقاء، فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد، فأحبطت سعي هرمز وملأت الكون بالخبائث والأرزاء، وران هذا البلاء على الكون حتى كانت معركة «زرادشت » فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين بل آذن بتحول النصر من صف إلى صف، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور، وسيدوم هذا الصراع اثني عشر ألف سنة، ينجم على رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت فيعزز جحافل هرمز ويوقع الفشل في جحافل أهرمن، وتنقضي المدة فينكص أهرمن على عقبيه مخلدا في أسفل سافلين، لا فكاك له أبد الأبيد من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان.

وتدل تسمية الإلهين دلالة واضحة على انتقال الفكرة الإلهية طبقة فطبقة من صورة التجسيم إلى صورة التنزيه، فإن هرمز مأخوذ من «أهورا» بمعنى السيد و«ومازدوا» بمعنى الحكيم، وأهرمن مأخوذة من «أنجرو» بمعنى السيء وماينوش بمعنى الفكر والروح، والمعنيان معا من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد، ثم أصبحت كلمة أورمزد مرادفة لروح القدس وكلمة أهريمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذى والفساد، وقيل في مجمل الأساطير المجوسية أن أهريمان إنما هو فكرة سيئة خطرت على بال زروان فكان منها إله الظلام.

ويخيل إلينا أن زرادشت كان خليقا أن يسمو بعقيدة المجوس إلى مقام أعلى من ذلك المقام في التنزيه، وأن يسقط بأهرمن من منزلة الند إلى منزلة المارد المطرود، لولا أن وجود «أهرمن» كان لازما لبقاء الكهانة الفارسية في عهود المحن والهزائم التي منيت بها الدولة وتجرعت فيها الأمة غصص الذل والانكسار، فلو قال الموابذة للمؤمنين بهرمز أنه هو الإله المتفرد في الكون بالتصريف والتقدير لكفروا بدينهم وحاروا في أمرهم، ولكنهم يكبرون من قوة أهرمن ويجعلون انتصاره عقوبة للناس على تركهم للخيرات وحبهم للشرور، ثم يبشرونهم بغلبة الإله الحكيم الرحيم بعد الهزيمة، فتهدأ وساوسهم إلى حين. •••

على أن «زرادشت» قد استخلص من أخلاط المجوسية عقيدة وسطا بين العقيدة الوثنية الأولى والعقيدة الإلهية الحديثة، سواء في تصحيح الفكرة الإلهية أو مسائل الأخلاق ومسائل الثواب والعقاب.

فالله في مذهب زرادشت موصوف بأشرف صفات الكمال التي يترقى إليها عقل بشري يدين على حسب نشأته بالثنائية وقدم العنصرين في الوجود.

فالخير عند زرادشت غالب دائم، والشر مغلوب منظور إلى أجل مسمى، وما زال «أهرمن» يهبط في مراتب القدرة والكفاية على هذا المذهب حتى عاد كالمخلوق الذي ينازع الخالق سلطانه، ولا محيص له في النهاية من الخذلان.

وفي «الزندفستا» يقول زرادشت إنه سأل هرمز: «يا هرمز الرحيم! صانع العالم المشهود، يا أيها القدس الأقدس: أي شيء هو أقوى القوى جميعا في الملك والملكوت؟

فقال هرمز: إنه هو اسمي الذي يتجلى في أرواح عليين، فهو أقوى القوى في عالم الملكوت.

فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له إنه «هو السر المسئول» وأما الأسماء الأخرى فأولها هو «واهب الأنعام» وثانيها هو المكين، وثالثها هو الكامل، ورابعها هو القدس، والاسم الخامس هو الشريف، والاسم السادس هو الحكمة، والاسم السابع هو الحكيم، والاسم الثامن هو الخبرة، والاسم التاسع هو الخبير، والاسم العاشر هو الغنى، والاسم الحادي عشر هو الغني، والاسم الثاني عشر هو السيد، والاسم الثالث عشر هو المنعم، والاسم الرابع عشر هو الطيب، والاسم الخامس عشر هو القهار، والاسم السادس عشر هو محق الحق، والاسم السابع عشر هو البصر، والاسم الثامن عشر هو الشافي، والاسم التاسع عشر هو الخلاق، والاسم العشرون هو «مزدا» أو العليم بكل شيء.»

وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان وقدس النار على أنها هي أصفى وأطهر العناصر المخلوقة، لا على أنها هي الخلاق المعبود، وقال إن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال «أهرمن» أو يلبسها الجسد لتقدر على حربه والصمود في ميدانه؛ لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد، فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع.

ويتخيل زرادشت «هرمز» أو أورمزد أو «أهورا مازدا» أو يزدان - على اختلاف اللهجات في نطقه - مستويا على عرش النور محفوظا بستة من الملائكة الأبرار، تدل أسماؤهم على أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة، ثم استعيرت لها سمات «الذوات » بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله.

وتفيض أقوال «زرادشت» كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء على عبادة الأوثان، ومن أمثلة هذا اليقين قوله: «أنا وحدي صفيك الأمين، وكل من عداي فهو عدو لي مبين.» وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله على الناس، وأن زرادشت هو هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلى حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتستصلح من فيه بقية للصلاح، وكلما انقضى ألف عام برز إلى حيز الوجود خليفة له من سلالته، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلى رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود.

ويتخيل زرادشت أنه يناجي هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه. فيناديه: رب! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق، ويسأله: رب ألا تنبئني عن جزاء الأخيار؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد؟ أو يسأله: من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط؟ ومن خلق الماء والزرع؟ ومن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء؟

ولا يبعد أنه كان من أصحاب الطبائع التي تغيب عن الوعي أو تسمع في حالة وعيها أصواتا خفية من هاتف ظاهر أو محجوب، كما روي عن سقراط وأمثاله من الموهوبين والملهمين. •••

ورواية الخليقة في مذهب زرادشت أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار، فبدأ بخلق السماء، ثم خلق الماء، ثم خلق الأرض، ثم خلق النبات، ثم خلق الحيوان، ثم خلق الإنسان.

وأصل الإنسان رجل يسمى «كيومرت» قتل في فتنة الخير والشر فنبت من دمه ذكر يسمى ميشة وأنثى تسمى ميشانة، فتزوجا وتناسلا وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين.

ويفرق المجوس بين الخلائق جريا على مذهبهم في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث، أو بين إله النور وإله الظلام، فالأحياء النافعة من خلق أورمزد كالثور والكلب والطير البريء، والأحياء الضارة من خلق أهرمن كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام.

والناس محاسبون على ما يعملون، فكل ما صنعوه من خير أو شر فهو مكتوب في سجل محفوظ، وتوزن أعمالهم بعد موتهم فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلى السماء، ومن رجحت عنده أعمال الشر هبط إلى الهاوية، ومن تعادلت عنده الكفتان ذهب إلى مكان لا عذاب فيه ولا نعيم، إلى أن تقوم القيامة ويتطهر العام كله بالنار المقدسة فيرتفعون جميعا إلى حضرة هرمز في نعيم مقيم.

وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمى قنطرة «شنفاد» تتوافى إليها أرواح الأبرار والأشرار على السواء بعد خروجها من أجسادها، فيلقاها هناك «رشنوه ملك العدل وميتر رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات» ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم.

ونعيم المجوس من جنس الحسنات التي تجزى بذلك النعيم؛ لأن المجوس لا يستحبون الزهد في الحياة ولا يصدفون عن المتاع المباح، فمن عاش في الدنيا عيشة راضية وكسب رزقه بالعمل الصالح وأنشأ أبناءه نشأة حسنة فجزاؤه في النعيم رغد العيش وجمال السمت وطيب المقام بين الأقرباء والأصفياء، ويسقى من لبن بقرة مقدسة درها غداء الخلود، ومن كسب رزقه من السحت والحرام فجزاؤه في الجحيم عيشة ضنك وألم كألم الجوع والعري والذل والاغتراب عن الأحباب. •••

وهذه الخلاصة ترسم لنا اتجاه مذهب «زرادشت» ولكنها لا ترسم لنا شعب المجوسية التي يشتبك بها هذا المذهب في مواضع ويفترق عنها في مواضع أخرى، وقد أجمل الشهرستاني بيان هذه المذاهب في كتابه الملل والنحل فقال في فصل مطول عن المجوس وأصحاب الاثنين والمانوية وسائر فرقهم المجوسية: «... كانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل راجعة إلى صنفين: أحدهما الصابئة والثانية الحنفاء، فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب يماثلنا في المادة والصورة. قالوا:

ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون

والحنفاء كانت تقول: إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية، فيتلقى الوحي بطرف الروحانية ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية، وذلك قوله تعالى:

قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي

وقد قال جل ذكره:

قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا

ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة والتقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السيارات السبع وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن الإنسان شيئا، والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب والثانية هم عبدة الأصنام، وكان إبراهيم مكلفا بكسر المذهبين على الفرقتين وتقرير الحنيفية السمحة السهلة.»

ثم قال عن الثنوية إنهم: «... أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد، ويسمون أحدهما النور والثاني الظلمة، وبالفارسية يزدان وأهرمن، ولهم في ذلك تفصيل مذهب، ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين: أحداهما بيان سبب امتزاج النور بالظلمة، والثانية سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاج مبدأ والخلاص معادا، إلا أن المجوس الأصلية زعموا أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين، بل النور أزلي والظلمة محدثة، ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها: أمن النور حدثت والنور لا يحدث شرا جزئيا فكيف يحدث أصل الشر؟ أم شيء آخر ولا شيء يشترك مع النور في الأحداث والقدم؟ وبهذا يظهر خبط المجوس، وهؤلاء يقولون: المبدأ الأول في الأشخاص كيومرث وربما يقولون زروان الكبير، والنبي الآخر زرادشت، والكيومرثية يقولون: كيومرث هو آدم عليه السلام، وقد ورد في تاريخ الهند والعجم: كيومرث آدم ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ.»

ثم قال عن الكيومرثية: إنهم «... أثبتوا أصلين : يزدان وأهرمن، وقالوا: يزدان أزلي قديم وأهرمن محدث مخلوق، قالوا: إن يزدان فكر في نفسه أنه لو كان لي منازع كيف يكون؟ وهذه الفكرة رديئة غير مناسبة لطبيعة النور، فحدث الظلام من هذه الفكرة، وسمي أهرمن، وكان مطبوعا على الشر والفتنة والفساد والضرر والإضرار، فخرج على النور وخالفه طبيعة وقولا، وجرت محاربة بين عسكر النور وعسكر الظلمة، ثم إن الملائكة توسطوا فصالحوا على أن يكون العالم السفلي خالصا لأهرمن وذكروا سبب حدوثه، وهؤلاء قالوا سبعة آلاف سنة ثم يخلي العالم ويسلمه إلى النور، والذين كانوا في الدنيا قبل الصلح أبادهم وأهلكهم ثم بدأ برجل يقال له كيومرث وحيوان يقال له ثور، فقتلهما فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس وخرج من أصل ريباس رجل يسمى ميشة وامرأة اسمها ميشانة وهما أبوا البشر، ونبت من مسقط النور الأنعام وسائر الحيوانات، وزعموا أن النور خير الناس وهم أرواح بلا أجساد بين أن يرفعهم عن مواضع أهرمن وبين أن يلبسهم الأجساد فيحاربوا أهرمن، فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهرمن على أن يكون لهم النصرة من عند النور والظفرة بجنود أهرمن وحسن العاقبة، وعند الظفر به وإهلاك جنوده يكون الغاية: فذاك سبب الامتزاج وذاك سبب الخلاص.»

وقال عن الزروانية: «إن النور أبدع أشخاصا من نور كلها روحانية نورانية لكن الشخص الأعظم الذي هو زروان شك في شيء من الأشياء فحدث في أهرمن الشيطان من ذلك الشك، وقال بعضهم: لا بل إن زروان الكبير قام فزمزم تسعة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة ليكون له ابن، فلم يكن، ثم حدث في نفسه هم من ذلك وقال: لعل هذا العالم ليس بشيء، فحدث أهرمن من ذلك الهم الواحد، وحدث هرمز من ذلك العلم، فكانا جميعا في بطن واحد، وكان هرمز أقرب من باب الخروج، فاحتال أهرمن الشيطان حتى شق بطن أمه فخرج قبله وأخذ الدنيا، وقيل إنه لما مثل بين يدي زروان فأبصره ورأى ما فيه من الخبث والشرارة والفساد أبغضه فلعنه وطرده، فمضى واستولى على الدنيا، وأما هرمز فبقي زمانا لا يدله عليه، وهو الذي اتخذه قوم ربا وعبدوه لما وجدوا فيه من الخير والطهارة والصلاح وحسن الأخلاق، وزعم بعض الزروانية أنه لم يزل كان مع الله شيء رديء إما فكرة رديئة وإما عفونة رديئة، وذلك هو مصدر الشيطان، وزعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن، وكان أهلها في خير محض ونعيم خالص، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن. وكان بمعزل من السماء، فاحتال حتى خرق السماء، وصعد، وقال بعضهم: كان هو في السماء، والأرض خالية عنه، فاحتال حتى خرق السماء ونزل إلى الأرض بجنوده كلها، فهرب النور بملائكته، واتبعه الشيطان حتى حاصره في جنته، وحاربه ثلاثة آلاف سنة لا يصل الشيطان إلى الرب تعالى، ثم توسطت الملائكة، وتصالحا على أن يقيم إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة بالثلاثة آلاف التي قاتله فيها ثم يخرج إلى موضعه، ورأى الرب تعالى - على قولهم - الصلاح في احتمال المكروه من إبليس وجنوده، ولا ينقص الشر حتى تنقضي مدة الصلح، فالناس في البلايا والفتن والخزايا والمحن إلى انقضاء المدة.»

وقال عن الزرادشتية: «... زعموا أن الله عز وجل خلق في وقت ما في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقا روحانيا، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على تركيب صورة الإنسان، وأحف به سبعين من الملائكة المكرمين وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض وبني آدم غير متحرك ثلاثة آلاف سنة، ثم جعل روح زرادشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين، وغرسها في قلة جبل من جبال أذربيجان يعرف بأسموية ضر، ثم مازج شبح زرادشت بلبن بقرة، فشربه أبو زرادشت، فصار نطفة ثم مضغة في رحم أمه، فقصدها الشيطان وغيرها، فسمعت أمه نداء من السماء فيه دلالات على برئها فبرأت، ثم لما ولد زرادشت ضحك ضحكة تبينها من حضر، واحتالوا على زرادشت حتى وضعوه بين مدرجة البقر ومدرجة الخيل ومدرجة الذئب، وكان ينتهض كل واحد منهم بحمايته من جنسه، ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة فبعثه الله نبيا ورسولا إلى الخلق، فدعا «كشتاسف» الملك فأجابه إلى دينه، وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث، وقال: النور والظلمة أصلان متضادان، وكذلك يزدان وأهرمن، وهما مبدأ موجودات العالم، وحصلت تراكيب من امتزاجهما وحدثت الصور من التراكيب المختلفة، والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعها وهو واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة كما قالت الزروانية، لكن الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، ولو لم تميزها لما كان وجود للعالم، وهما يتقاومان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر ثم يتخلص الخير إلى عالم والشر إلى عالم وذلك هو سبب الخلاص، والباري تعالى هو مزجها وخلطها، وربما جعل النور أصلا وقال: إن وجوده وجود حقيقي، وأما الظلمة فتبع، كالظل بالنسبة إلى الشخص، فإنه يرى أنه موجود وليس بموجود حقيقة، فأبدع النور وحصل الظلام تبعا لأن من ضرورة الوجود التضاد، فوجوده ضروري واقع في الخلق لا بالقصد الأول كما ذكرنا في الشخص والظل، وله كتاب قد صنفه، وقيل: أنزل ذلك عليه وهو «زندوستا» يقسم العالم قسمين: ميته وكيتي؛ يعني الروحاني والجسماني، والروح والشخص، وكما قسم الخلق إلى عالمين يقول: إن ما في العالم ينقسم إلى قسمين بخشش وكنس، ويريد به التقدير والفعل، وكل واحد مقدر على الثاني، ثم يتكلم في موارد التكليف وهي حركات الإنسان فيقسمها ثلاثة أقسام منش وكونس وكنش، يعني بذلك الاعتقاد والقول والعمل، وبالثلاث يتم التكليف.» •••

ولم تختم المذاهب المتجددة في المجوسية بمذهب زرادشت وتفسيراته المتعددة، بل بقيت هذه المذاهب تتجدد إلى ما بعد شيوع المسيحية بعدة قرون: وأشهرها وأهمها في تاريخ المقابلة بين الأديان، مذهب مترا ومذهب ماني المعروف بالمانوية.

انتشر مذهب «مترا» في العالم الغربي بعد حملات «بومبي» الآسيوية وتدفق الآسيويين من جنوده إلى حواضر سورية وآسيا الصغرى، وأيده القياصرة لأنه كان يرفع سلطان الملوك إلى عرش السماء، ويقول: إن الشمس تشع عليهم قبسا من نورها وهالة من بركتها فيرمزون بعروشهم على الأرض إلى عرش الله في عليين.

وشاع هذا المذهب بعض الشيوع في القرن الثاني قبل الميلاد، وقصر أتباعه على الذكور دون الإناث وجعل لهم درجات سبعا يرتقونها إلى مقام العارفين الواصلين رمزا إلى الدرجات التي تصعد عليها الروح بعد الموت من سماء إلى سماء، حتى تستقر في نهاية المرتقى عند حظيرة الأبرار.

ويحتفل بالمريد كلما انتقل من درجة إلى درجة في وليمة يتناول فيها الخبز المقدس ويمسح بالماء الطهور، ولا يطلع قبل الدرجة الرابعة على أسرار المحراب، بل يقتصر في العلم بتلك الأسرار على التقليد، ثم يترقى في معرفة السر الأعظم إلى أن يعرف كلمة الله الخالقة في مقام العارفين الواصلين.

وأصل «مترا» قديم في الديانة الآرية، يدين به الهنود كما يدين به الفارسيون، وقد هبط في الديانة الزرادشتية إلى مرتبة الملك الموكل بهداية الصالحين، ولكنهم جعلوه في الديانة المترية إله الشمس ورب الكون وخالق الإنسان وقاهر أهرمن بعد جلاد طويل.

ولا يسبقه في الوجود شيء غير «الأبد» أو «الزمان» أبي الأرباب عندهم وأبي كل موجود.

ويمثلون مترا حين تجسد على الأرض مولودا من صخرة نائية في مكان منفرد لم يعلم بمولده أحد غير طائفة من الرعاة ألهموا معرفته فتقدموا إليه بالهدايا والقرابين، ومضى بعد مولده فستر عريه بورق من شجرة التين، وتغذى بثمرها حتى جاوز سن الرضاع.

وكان أهرمن يحاربه ويتعقبه بالكيد ويحبط كل عمل له من أعمال الخير والفلاح فأرسل مترا على الأرض طوفانا أغرقها، ولم ينج معه إلا رجل واحد حمل آله وأنعامه في زورق صغير وجدد على الأرض بعد ذلك حياة الإنسان والحيوان، ثم طهر الأرض بالنار، وتناول مع ملائكة الخير طعام الوداع وصعد إلى السماء، حيث هو مقيم يتولى الأبرار بالهداية ويعينهم على النجاة من حبائل الشيطان.

وكان أتباعه يفردون لعبادته يوم الشمس أو يوم الأحد، ويحتفلون بمولده في الخامس والعشرين من ديسمبر لأنه موعد انتقال الشمس وتطاول ساعات النهار، ويقيمون له عيدا سنويا في اليوم السادس عشر من الشهر السابع في تقويم الفرس القديم، وقد كان المسيحيون الأولون يقابلون ذلك - بعد ظهور المسيحية وانتشارها - بتمجيد السيد المسيح في الأيام التي كان عباد مترا ينصرفون فيها إلى تمجيد هذا الإله الشمسي القديم.

أما المانوية فهي مذهب ماني بن فاتك الذي يرجح أنه ولد في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد، ومذهبه يخالف مذاهب المجوس الأقدمين في زعمه أن آدم من خلق الشيطان لا من خلق الله، وأن الشيطان أودعه كل ما استطاع أن يختلسه من نور السماء ليكفل له البقاء، فلما بصر به الملائكة ولمحوا فيه قبس النور ذهبوا يستخلصونه من قبضة الشيطان ليرتفعوا به إلى العالم الذي هم فيه، ولا يزالون يعملون في استخلاصه حتى يرجع إلى السماء آخر قبس من الضياء المسروق، فيتجلى الله في سمائه ومن حوله تلك الأرواح النورانية، ويتخلى الملائكة الذين يحملون الدنيا عن حملهم فتتساقط كسفا وتلتهمها النيران تطهيرا لها من بقايا الرجس والمكيدة، ويتم الانفصال يومئذ بين عالم النور وعالم الظلام.

قال الشهرستاني عن صاحب هذا المذهب: «إنه أخذ دينا بين المجوسية والنصرانية، ويقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام. حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم: إن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الحيز متحاذيان، تحاذي الشخص والظل.» «ثم ذكر أمثلة من الاختلاف بين جوهر النور وجوهر الظلمة فقال: إن جوهر النور حسن فاضل كريم صاف نقي الريح حسن المنظر، وإن جوهر الظلمة قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر، وإن أجناس النور خمسة: أربعة منها أبدان والخامس روحها، فالأبدان هي النار والنور والريح والماء، وروحها النسيم، وإن أجناس الظلمة خمسة: أربعة منها أبدان والخامس روحها ، والأبدان هي الحريق والظلمة والسموم والضباب، وروحها الدخان.» •••

وقد أصاب الشهرستاني حين قال إن هذه الثنوية هي ألزم سمات المذاهب المجوسية؛ لأنها تتراءى في كل مذهب منها بلا استثناء، وهي كذلك أبقى ما بقي منها في مجال التفكير ومجال الاعتقاد على السواء؛ لأننا نرى منها ملامح واضحة في مباحث التفرقة بين العقل والمادة، ولا سيما مباحث حكماء اليونان.

بابل

والحضارة البابلية من أقدم الحضارات المروية في التواريخ.

ويزعم المتشيعون للحضارة الشمرية التي ازدهرت في أرض بابل قبل انتقال الساميين إليها أنها أقدم الحضارات البشرية على الإطلاق، ولكنها على الأرجح نزعة من نزعات العنصرية التي تجعل بعض الكتاب الأوربيين يتجاوزون كل حضارة سامية إلى حضارة سابقة لها منسوبة إلى عنصر آخر من العناصر البشرية، ولهذا يبالغون في قدم الحضارة الشمرية وتقدير زمانها السابق لجميع الحضارات.

إلا أن الحضارة البابلية قديمة لا شك في عراقتها على تباين الروايات.

وهي على قدمها لم يكتب لها أن تؤدي رسالة ممتازة في تاريخ الوحدانية، فكل ما أضافته إلى هذا التاريخ يمكن أن يستغنى عنه ولا تنقص منه بعد ذلك فكرة جوهرية من أفكار التوحيد والتقديس؛ لأن الوحدانية تحتاج إلى «تركز وتوحيد» لا يستتبان طويلا في أحوال كأحوال الدولة البابلية؛ إذ كانت لها كهانات متعددة على حسب الحواضر والأسر المتتابعة، وكانت الحواضر بمعزل عن البادية التي تترامى حولها وتنفرد بعقائدها وأساطيرها، أما الأسر المالكة فقد كانت شمرية ثم أصبحت سامية تنتمي إلى أرومات شتى في الجزيرة العربية من الجنوب إلى الشمال، وكانت أرض بابل في وسط العمران الآسيوي مفتحة الأبواب على الدوام لما تقتبسه من عقائد الفرس والهنود والمصريين والعبريين، وغير هؤلاء من أصحاب الديانات المجهولين في التاريخ.

فلم تتوحد فيها العقيدة حول مركز دائم مطرد الاتساع والامتداد بعيد من طوارئ التغيير والتعديل، وكانت من ثم ذات نصيب في الشريعة وقوانين الاجتماع أوفى من نصيبها في تطور العقيدة الوحدانية على التخصيص.

ويستطاع الجزم بأن الرسالة البابلية في الدين لم تتجاوز رسالة الديانة الشمسية السلفية.

فالغزوات التي تروى عن الأرباب الأقدمين هي غزوات أبطال من الأسلاف الذين برزوا بملامح الآلهة بعد أن غابت عن الأذهان ملامحهم الإنسانية، ثم تلبست سيرتهم بظواهر الكون العليا فسكنوا في مساكن الأفلاك، وحملت الأفلاك أسماءهم ولا تزال تحمل بقية منها إلى اليوم.

فمردوخ إله الحرب هو كوكب المريخ، وقد تغلب على تيمات ربة الأغوار المظلمة، فأخذ زوجها وخلائفها الأحد عشر وسلسلهم أسارى في مملكته السماوية، فهم المنازل الاثنا عشر التي بقيت في علم الفلك إلى اليوم.

وقد اتفق الساميون والشمريون على الأرباب الكبرى كإله النور الذي يسميه الساميون شمس ويسميه الشمريون «آنو»، أو كالزهرة ربة الحب التي يسميها الساميون عشتار ويسميها الشمريون ننسيانة، ولكن الأرباب البابلية أوفر عديدا من أن ينتظمها اتفاق بين قومين مختلفين؛ لأنهم ارتفعوا بعددها إلى أربعة آلاف وقرنوا بها أندادا لها من الشياطين والعفاريت تبلغ هذا العدد أو تزيد.

ولم ينقض على هذه الأرباب وقت كاف لإدماج صغارها في كبارها ثم فنائها جميعا في أكبر الأرباب المشرفة على الكون، أو في رب واحد ينفرد بهذا الإشراف، كأن الطواطم التي عبدتها القبائل والأسر لم يطل بها عهد التطور حتى يفعل بها فعله من التصفية والاستخلاص والإدماج والتوحيد، فجاءت الأرباب التالية ولا تزال الأرباب السابقة لها على عهدها من النفوذ والاستقرار.

ولهذا كانت سياسة الكون كما تخيلوها في الأدوار الأولى أشبه بالجمهورية بل بالمشيخة القبلية، فكانوا يتخيلون أن الأرباب تجتمع كل سنة في يوم الاعتدال الخريفي لتنظر في السماء مقادير السنة كلها وتكتبها في لوح محفوظ لا يمحى قبل نهاية العام، وكان الملك نفسه يتلقى سلطانه على الأرض عاما بعد عام في مثل ذلك الموعد، فيمثل الكهنة رواية الخلق ويشهدها الملك فردا من الأفراد، ويعتمدون في بعض مواقف التمثيل أن يهينوه ويستخفوا به ليقرروا بذلك أنه فقد كل سلطان كان له على رعاياه، فلا يعود إليه السلطان إلا بإذن جديد من «مردوخ» يتلقاه قبل ختام الرواية من يد حبر الأحبار.

ولم يؤثر عنهم في عهد الشمريين إيمان بعالم آخر أو بيوم للحساب والجزاء، فمن اجترأ على فعل محرم أو قصر في الصلوات والقرابين فالآلهة تجزيه على ذنبه بمرض يصيبه لا يشفيه منه غير كاهن المعبد بعد التوبة والتكفير، وإن لم يكن جزاؤه مرضا فهو خسارة في المال أو البنين أو ذوي القربى والأعزاء، وكل مصبية من هذه المصائب تنبيه إلى ذنب مقترف أو فريضة منسية، وحث على التذكير وطلب الغفران.

وقد تعم الذنوب فيعم العقاب، وترسل الآلهة على الأرض طوفانا أو وباء يأخذ البريء بذنب المسيئين، ولكنها تنذر الناس قبل حلول العقاب وتلهم الكهان وحدهم تفسير ذلك النذير.

وهم يذكرون لتلك الأرباب غزوات وأخبارا قبل خلق هذه الدنيا كأنهم كائنات لا تحتاج إلى خالق، ولكنهم يذكرون أخبارا قبل تلك الأخبار يروونها عن «تيمات» ربة الغمر أو ربة الأغوار والظلمات، ولا يفهم من أخبارهم هذه أن تيمات أنشأت الأرباب بقدرة الخلق؛ لأنها عندهم ربة الفوضى والعماء، ولكنهم يحسبون أن الأرباب كانت تحوم في أغوارها كما تحوم الأشباح في الظلام، ويصورونها في إحدى أساطيرهم - كما يصورون البشر الأولين - فنصفها سمك ونصفها إنسان.

أما قصص الخلق عندهم فهي مناسبة لموقع البلاد البابلية واشتغال أهلها القديم برصد الكواكب ومراقبة الأنواء، وتدل القصة من أجل هذا على أنها من مأثورات قوم عريقين في سكنى تلك البلاد ولم ينقلوها إليهم من بلاد أجنبية عنها، ويرجح ذلك على التخصيص ذكر الطوفان المفصل في بعض القصص البابلية؛ لأن الباحثين في الآثار يعتبرون أن الطوفان قد غمر ما بين النهرين إلى الشمال، وأن الجبل الذي استقرت عليه سفينة نوح هو الجبل المعروف اليوم بجبل أرارات، ولم تشتمل قصص الطوفان في البلاد الأخرى على تفصيل كهذا التفصيل.

وفحوى قصة الخلق بعد استخلاصها من الأوشاب الكثيرة أن الدنيا كانت قسمة بين تيمات ربة الأغمار أو ربة الماء الأجاج وبين «إيا» إله الماء العذب وعنصر الخير في الوجود، وموقع الأرض البابلية يجعلها في قبضة هذين الربين ويوحي إلى أهلها الإيمان بما عندهما من المخاوف والخيرات.

وقد انهزم «أنو» إله السماء أمام جحافل تيمات فلم ينتصر إلا بعد أن برز من الماء بطل وليد: هو مردوخ رب الجنود وسيد الحروب.

ثم عمد مردوخ إلى تيمات فشقها نصفين: صنع الأرض من أحدهما وصنع قبة الفضاء من النصف الآخر، ثم قيد أسراه في هذه القبة فهم لا يبرحونها إلا بإذنه، ورفع إلى السماء ما شاء من الأرباب.

وقد كشفت الألواح التي تضمنت شروح هذه القصة بالخط المسماري في أواخر القرن التاسع عشر، ونقلت إلى المتحف البريطاني بلندن حيث تحفظ الآن، وهي مقسومة إلى سبعة أقسام: كل قسم يتحدث عن يوم من أيام الخلق آخرها اليوم الذي خلق فيه الإنسان، وقد جاء في اللوح المخصص لشرح قصته أن «مردوخ» أفضى إلى «إيا» بأنه سيخلق الإنسان من دمه وعظمه، وأمر حاشيته أن تضرب عنقه - عنق الإله مردوخ - ففعلت، وسال الدم فنجم عنه الإنسان، ويظهر أن ضرب عنق الإله لا يقتله ولا يقضي عليه؛ لأن مردوخ كان يتصدر بروحه حشد الأرباب التي اجتمعت في السماء احتفالا بخلق أبي البشر، وسمع منها نشيد الفرح والثناء.

ويتمم البابليون قصة خلق الإنسان بقصة أخرى عن طموحه إلى الخلود واجتهاده في اختلاس سره من الآلهة، فيعاقب على ذلك بالموت، وتأبى الآلهة أن يشاركها أحد من الخلق في نعمة الحياة الباقية.

وتعتبر قصة الخلق البابلية أهم نصيب ساهمت به المأثورات البابلية في علم المقابلة بين تواريخ الأديان.

اليونان

أما تاريخ العقيدة في بلاد اليونان فقد حفل بجميع أنواع العقائد البدائية قبل أرباب «الأوليمب» الذين خلدوا في أشعار هومير وهزيوذ.

فعبدوا الأسلاف والطواطم ومظاهر الطبيعة وأعضاء التناسل ومزجوا هذه العبادات جميعا بطلاسم السحر والشعوذة، واستمدوا من جزيرة «كريت» عبادة النيازك وحجارة الرواسب التي شاعت بين أهل الجزيرة من أقدم عصورها البركانية، فرمزوا بها إلى أرباب البراكين والعوالم السفلية، واتخذها بعضهم «طواطم» ينتسبون إليها انتساب الأبناء إلى الآباء.

ولما شاعت بين الإغريق عبادة «أرباب الأوليمب» كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلى الحضارة وتنظيم العبادات.

فالإله «زيوس» أكبر أرباب الأوليمب هو الإله «ديوس» المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة، واسمه متداول في العبادات الأوروبية جميعا مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات، ومن تصحيفاته أسماء الله والإلهية عند الفرنسيين والطليان والإنجليز المعاصرين.

والربة أرتميس - ومثلها الربة أفروديت أو فينوس - هي الربة عشتار اليمانية البابلية، ومنها كلمة «ستار» التي تدل على النجم في بعض اللغات الأوروبية الحديثة.

والربة «ديمتر» هي إزيس المصرية كما قال هيرودوت، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق وعبادتها بين قدماء المصريين.

وأضيفت إلى هذه الأرباب «أدونيس» من «أدوناي» العبرية بمعنى السيد أو الإله، وأضافوا إليها في مصر بعد الإسكندر المقدوني عبادة إله سموه سرابيس وهو اسم مركب من اسمي أوزيريس وأبيس المعبودين المصريين، وكان لهما معبد تدفن فيه العجول التي تعبد باسم أبيس بعد موتها وذهابها إلى مغرب أوزيريس.

كما أضيفت إليها عبادة «ديونسيس» في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرا بعبادة «مترا» في الديانة الأورفية السرية.

وقد ترقى اليونان في تصور صفات الأرباب خلال العصور التاريخية، فعبدوها قبل المسيح ببضع مئات من السنين وهي على أسوأ مثال من العيوب الإنسانية، وعبدوها بعد ذلك وهي تترقى إلى الكمال وتقترب إلى فكرة «التنزيه» التي سبقهم إليها المصريون والهنود والفرس والعبرانيون.

فكان أرباب الأوليمب في مبدأ الأمر يقترفون أقبح الآثام ويستسلمون لأغلظ الشهوات، وقد قتل زيوس أباه «كرونوس» وضاجع بنته وهجر سماءه ليطارد عرائس العيون والبحار ويغازل بنات الرعاة في الخلوات، وغار من ذرية الإنسان فأضمر له الشر والهلاك، وضن عليه بسر «النار» فعاقب المارد برومثيوس لأنه قبس له النار من السماء.

ولم يتصوروه قط خالقا للدنيا أو خالقا للأرباب التي تساكنه في جبل الأوليمب وتركب معه متن السحاب، فهو على الأكثر والد لبعضها ومنافس لأنداده منها، وتعوزه أحيانا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد.

ولم يزل «زيوس» إلى عصر «هومير» خاضعا للقدر مقيدا بأوامره، عاجزا عن الفكاك من فضائله.

ثم صوره لنا هزيود الشاعر المتدين على مثال أقرب إلى خلائق الرحمة والإنصاف ومثال الكمال، ولكنه نسب الخلق إلى أرباب أقدم منه ومن سائر المعبودات الأولمبية، وهي «جيا» ربة الأرض و«كاوس» رب الفضاء وإيروس رب التناسل والمحبة الزوجية، وجعل إيروس يجمع بين الأرض وزوجها الفضاء فتلد منه الكائنات السماوية والأرضية وأخرها أرباب الأوليمب، وعلى رأسهم «زيوس» الملقب بأبي الأرباب.

وكان «أكسينوفون» المولود بآسيا الصغرى قبل الميلاد بنحو ستة قرون أول من نقل إلى الإغريق فكرة الإله الواحد المنزه عن الأشياء، فكان ينعي على قومه أنهم يعبدون أربابا على مثال أبناء الفناء، ويقول: إن الحصان لو عبد إلها لتمثله في صورة الحصان، وأن الأثيوبي لو تمثل إلها لقال إنه أسود الإهاب، وأن الإله الحق أرفع من هذه التشبيهات والتجسيمات، ولا يكون على شيء من هذه الصفات البشرية، بل هو الواحد الأحد المنزه عن الصور والأشكال، وإنه فكر محض ينظر كله ويسمع كله ويفكر كله ويعمل كله في تقويم الأمور وتصريف أحكام القضاء.

وكان أثر الديانات الآسيوية والمصرية أظهر من كل ما تقدم في الديانة الأورفية السرية. لأنها كانت ملتقى عبادة إيزيس وعبادة مترا وعبادة المجوس والبراهمة.

فعرفوا «الروح» وعرفوا تناسخ الأرواح، وعرفوا أدوار التطهير والتكفير، ومزجوا بها عبادة «ديونيس» الذي كان في عصورهم الغابرة إله الخمر والقصف والترف، فجعلوا خمره رمزا إلى النشوة الإلهية: نشوة الحياة والشباب الخالد المتجدد على مدى الأيام.

وكانت محاريبه الكبرى بآسيا الصغرى، ولكنهم كانوا يحتفلون في أثينا بعيد يسمونه الأنشستريا

Anthezteria

يوافق شهر فبراير، وتقوم شعائره على مزيج من عبادة الحياة وعبادة الأسلاف والموتى، فيشربون الخمر في جرار الجنائز والقرابين، ويعتقدون أن هذه الخمر تسري إلى الأجساد البالية فتنفث فيها الحياة، وتصلحها للبعث من جديد في أجسام الأجنة المطهرة من أدران حياتها الماضية.

ونحن لا نعني هنا بالفلسفة اليونانية: بل نقصر القول في هذا الفصل على العقيدة اليونانية التي تطورت عندهم تطور الأديان لا تطور الأفكار والمباحث العلمية أو الفلسفية.

ففي هذا المجال - مجال العقيدة - يمكن أن يقال: إن اليونان أخذوا فيها كل شيء ولم يعطوا شيئا يضيف إلى تراث البشر في مسائل الإيمان، وإنهم حين بدأوا عصر الفلسفة كان أساسها الأول ممهدا لهم في العقائد التي أخذوها عن الديانات الآسيوية والمصرية، وأنهم ظلوا بعد الفلسفة يدينون بالوثنية التي كانوا يدينون بها قبل الميلاد بعدة قرون.

مرحلة جديدة في الدين

بنو إسرائيل

ومثل بني إسرائيل - أو العبرانيين - مثل جميع الأمم الغابرة في تطور العقيدة.

فقد دانوا زمنا بعبادة الأسلاف كما دانوا بعبادة الأوثان والكواكب وظواهر الطبيعة وطواطم الحجارة والأشجار والحيوان.

وبقيت فيهم عبادة الأوثان بعد دعوة إبراهيم عليه السلام وظهور الأنبياء، فعبدوا «عجل الذهب» في سينا، بعد خروجهم من الديار المصرية، وفي الإصحاح الثامن عشر من كتاب الملوك الثاني أن حزقيا ملك يهودا «... أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ...»

وجاء في الإصحاح التاسع عشر من كتاب صموئيل الأول أن إحدى زوجات داود عليه السلام - ميكال - «أخذت الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب.»

والمعروف أن الترافيم أو الطرافين بصيغة الجمع هي تماثيل على صورة البشر تقام في البيوت وتحمل في السفر، ويرمز بها إلى الله.

وقد دعاهم موسى عليه السلام إلى التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان، وقيل إنه عليه السلام أول من سمى الإله «يهوا»، وهو اسم لا يعرف اشتقاقه على التحقيق، فيصح أنه من مادة الحياة، ويصح أنه نداء لضمير الغائب؛ لأن بني إسرائيل كانوا يتقون ذكره توقيرا له ويكتفون بالإشارة إليه، ويصح غير ذلك من الفروض.

وعبدوا الإله باسم «إيل» أي القوي في اللغة الآرامية، ولكن الأسماء العبرية تدل على أنهم قد لبثوا زمانا يصفون الإيل بالصفات البشرية ويقبلون نسبة القرابة الإنسانية إليه، كما في اسم عمائيل من «العمومة» أو «إيل أب» من الأبوة وغير ذلك من أواصر الأسرة البشرية.

وظلوا إلى ما بعد أيام موسى عليه السلام ينسبون إلى الإله أعمال الإنسان وحركاته، فذكروا أنه كان يتمشى في الجنة، وأنه كان يصارع، ويأكل ويشرب، ويغشي مركبات الجبال، وأنه دفن موسى حينما مات في موآب.

وقد خلت الكتب الإسرائيلية من ذكر البعث واليوم الآخر، فالأرض السفلى أو الحب، أو شيول هي الهاوية التي تأوى إليها الأيتام بعد الموت، ولا نجاة منها لميت، «وإن الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد.»

وأول إشارة ليوم كيوم البعث وردت في الإصحاح الرابع والعشرين من كتاب أشعيا الذي عاش نحو القرن الثالث قبل الميلاد، وفيه نبوءة عن يوم «يطالب فيه الرب جند العلاء في العلاء ويجمعون جمعا كأسارى في سجن، ويخجل القمر وتخزى الشمس؛ لأن رب الجنود قد ملك في جبل صهيون وفي أورشليم»، وفي الإصحاح السابع والعشرين بعده «أن الرب يعاقب بسيفه القاسي الشديد في ذلك اليوم لوياثان الحية العارية: لوياثان الحية المتحوية ويقتل التنين الذي في البحر»، ومن أعمال ذلك اليوم كما جاء في الإصحاح الخامس والعشرين: «إن رب الجنود يصنع لجميع الشعوب وليمة سمائن: وليمة خمر على دردي سمائن ممخة: دردي مصفى.»

وجاءت إشارة أخرى إلى يوم البعث والدينونة في الإصحاح الثاني عشر من كتاب دانيال، وهي أصرح من الإشارات السابقة حيث يقول فيها النبي: «إن كثيرين من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون: هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي»، ويلاحظ أن كتاب دانيال لا يحسب من كتب العهد القديم في جميع النسخ.

ويرجع تاريخ هذه النبوءة إلى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد حوالي سنة مائة وخمس وستين، وإنما كان الثواب والعقاب قبل ذلك نصرا يؤتاه الإسرائيليون على الأعداء أو بلاء يصابون به على أيدي الأقوياء، جزاء لهم على خيانة «يهوا» وعبادة غيره من أرباب الشعوب.

وكان معنى الكفر في الإسرائيلية الأولى كمعنى الخيانة الوطنية في هذه الأيام، فكانت للشعوب آلهة يؤمن الإسرائيليون بوجودها، ولكنهم يحرمون عبادتها كتحريم الانتماء إلى دولة أجنبية، فرب الشعب أحق بولائه وعبادته من الأرباب الغرباء.

وظلوا على ذلك إلى أن فهموا «الوحدانية» التي تتعالى على الشبيه والنظير في أيام أشعيا الثاني القائل بلسان الرب: «بمن تشبهونني وتسوونني وتمثلونني لنتشابه؟» وهو الذي شدد النكير عليهم قائلا: إن الله هو الأول منذ القدم، وهو المخبر منذ البدء بالأخير، ونعى عليهم أن يعبدوا صنما «يرفعونه على الكتف ويحملونه ويضعونه في مكانه ليقف في موضع ولا يبرحه، ويناديه الداعي فلا يجيب.»

وكان سقوط الدول الكبيرة في عهد أشعيا الثاني مؤذنا باقتراب يوم إسرائيل الموعود، فقد تداعت بابل ومصر وآذنت فارس بالتداعي والانقسام، فتجدد رجاء إسرائيل في ملك العالم، وفسروا سقوط الدول الكبرى بغلبة «يهوا» عليها وعقوبته لها على ما أسلفت من الإساءة إلى شعبه، ولاح لهم - لأول مرة - أن ربهم يبسط ظله على الأرض بما رحبت، وأن يوم الخلاص الموعود جد قريب.

والغالب في وصفهم للإله أنه غيور شديد البطش متعطش إلى الدماء، سريع الغضب ينتقم من شعبه كما ينتقم من أعداء شعبه، ولكن موسى عليه السلام وصفه بالرحمة وفريقا من أنبيائهم وصفوه بالحب واللطف وعلموهم أنه يحب عباده ويطلب من عباده أن يحبوه، أو كما قال هوشع «إنه يريد رحمة لا ذبيحة» وأن خلائق العدل والحق والإحسان والمراحم هي خلائق الأبرار. •••

وقد شغلت العقائد الإسرائيلية حيزا كبيرا من مقارنات الأديان؛ لأنها «أولا»: نقطة التحول بين العبادات القديمة والعبادات في الديانة الكتابية، ولأنها «ثانيا»: صحبت التطور في فكرة المسيح المنتظر في مبدئها، فكانت تمهيدا متواليا للدعوة المسيحية، وهي أوسع الدعوات الكتابية انتشارا بين الأمم التي عنيت بالدراسات العلمية الحديثة في مقارنات الأديان.

ولأنها «ثالثا»: موضوع مقابلة مستفيضة بينها وبين عقائد البابليين والمصريين والفرس والهنود الأقدمين، ولها صلة قريبة بعقائد اليونان قبل عصر الفلسفة وبعدها إلى عصر السيد المسيح.

فكانت العقائد الإسرائيلية نقطة التحول؛ لأنها بدأت بتصور الإله على صورة إنسان يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويغار من منافسيه ويخص قبيلته وحدها بالبركة والتشريع، وقرنت هذه الصورة تارة بعبادة الأصنام وتارة بعبادة الموتى أو ظواهر الطبيعة وتماثيل الطواطم من الحيوان والنبات، ثم تطورت صفات الله في اعتقاد أبنائها من أعلى إلى أعلى حتى عبدوا الإله الأحد المنزه عن التجسد وعن خلائق البشر القادر على كل شيء والعليم بما كان ويكون، والرحيم الذي يحب الرحماء والودعاء والعاملين بالبر والعدل والإحسان.

ثبتت فكرة «المسيح المنتظر» في عقائد بني إسرائيل بعد زوال ملكهم وانتقالهم إلى الأسر في بابل قبل الميلاد بنيف وخمسة قرون، ومعنى كلمة المسيح «الممسوح بزيت البركة»؛ لأنهم كانوا يمسحون به الملوك والأنبياء والكهان والبطاريق، فكان شاؤل الملك يسمى بمسيح الرب كما جاء على لسان داود في كتاب صموئيل الأول: «حاشاني من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب ...» وكانوا يمسحون الأنبياء بالزيت المبارك كما جاء في كتاب الملوك الأول «وامسح أليشع بن شافاط ... نبيا عوضا عنك» ويمسحون به الكهان كما جاء في كتاب الخروج: «هذا ما نصنعه لهم لتقديسهم ... نأخذ دهن المسحة ونسكبه على رأسه ونمسحه» ويمسحون به البطارقة ويسمونهم بالمسحاء كما جاء في المزمور الخامس بعد المائة: «لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا إلى أنبيائي ...» بل كانوا يمسحون به كل ما يريدون تقديسه كما جاء في كتاب اللاويين: «ثم أخذ موسى دهن المسحة ومسح المسكن وكل ما فيه وقدسه، ونضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته والمرحضة وقاعدتها لتقديسها، وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه.»

وكانوا في مبدأ الأمر ينتظرونه ملكا فاتحا مظفرا من نسل داود، ويسمونه ابنا لله كما قال ناتان لداود عليه السلام في كتاب صموئيل الثاني: «هو يبني بيتا لاسمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد ... أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا.»

ولكنهم أطلقوا اسم المسيح على كل من يعاقب أعداءهم ويفتح لهم باب الخلاص من أسرهم كما فعل كورش بالبابليين، فجاء في كتاب أشعيا: «هكذا يقول الرب لمسيحه: لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس به أمما ...»

وخطر حينا للنبيين زكريا وحجاي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد أن زر بابل - والي يهودا - هو المسيح المنتظر؛ لأنه أعاد بناء البيت في السنة الثانية للملك داريوس.

وتهذبت هذه العقيدة مع الزمن فأصبحوا ينتظرون الخلاص على يد الهداة العادلين بعد طول انتظاره من زمرة الغزاة الفاتحين، فقال زكريا في رؤياه: «ابتهجي جدا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هو ذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع، راكب على حمار، على جحش ابن أتان.»

وقد طالت المقارنات بين بعض الصلوات الإسرائيلية وبعض الصلوات المصرية، ولكن علماء الأديان عقدوا المقارنة الكبرى بين مأثورات بابل وفارس ومأثورات إسرائيل.

فقصة الخليقة في العقائد الإسرائيلية الأولى تشابه قصة الخليقة في ألواح بابل، وعقيدة «المخلص» المنتظر موجودة في الديانة الفارسية وموجودة في الديانة الإسرائيلية، وكان البابليون يؤمنون بأن الإنسان تمرد على قسمة الموت، وطمح إلى خلود كخلود الأرباب، فبحث عن ثمرة البقاء في السماء، وخدعه إله ماكر عن بغيته، فناوله بديلا منها ثمرة تشبهها في ظاهرها ولكنها ثمرة الفناء، وهي ثمرة الحب التي تعطي الفناء في صورة البقاء، وهذه في جملتها لا في تفصيلها قريبة من المأثورات الإسرائيلية في هذا الموضوع.

وعند البابليين قصة مفصلة عن الطوفان، ولكنها في الواقع قصة متواترة شاملة توجد بقاياها في المأثورات القديمة من أمريكا الجنوبية إلى الهند، فيروي أهل إقليم كنديماركا

Cundimarca

بأمريكا الجنوبية أن امرأة الرجل المقدس بوشيكا أولعت بالسحر وأصغت إلى وسواس الشيطان فأخرجت نهر فونزا

Funzha

من مجراه وأغرقت الإقليم كله بإنسانه وحيوانه ونباته، فلم يعتصم منه إلا من تبع بوشيكا إلى الجبال، ثم عاد بوشيكا فجمع قومه وعلمهم عبادة الشمس وأسلم الروح.

وقصة الطوفان عند المكسيكيين المعروفين بالشيشميين

Chichimygues

أن العصر الأول من عصور الخليقة وهو المسمى عندهم بعصر أتوناتيو - أي عصر شمس الماء - قد انتهى بطوفان جارف نجا منه رجل واحد اسمه تزبي وامرأته ششكتزال، وكانت نجاتهما على زورق مصنوع من خشب الصفصاف، ويروي أهل بيرو قصة شبيهة بقصة المكسيكيين.

وأهل فريجية بآسيا الصغرى يروون قصة الطوفان ويجعلونها في زمن ملك من ملوكهم يسمى ناناشس

Nannachus

ويسمون البلد الذي لجأ إليه الهاربون من الطوفان باسم «كيبوتوس»، ومعناها السفينة في لغة الفريجيين.

وقد ترجم ماكس موللر قصة عن السنسكريتية خلاصتها أن ناسكا دعا بماء في الصباح ليغتسل، فوثبت له من الماء سمكة وقالت له: احفظني فإنني سأحفظك، فسألها: ومم تحفظينني؟ قالت : من الطوفان الذي سيغرق كل هذه الخلائق، وسيأتي الطوفان يوم أكبر، فاعلم يومئذ أن الساعة قد أزفت، وابن لك سفينة، واتخذني دليلا للنجاة.

ويعود الإغريق بقصة الطوفان إلى عهد أوجيج

Ogyge

ملك أتيكا الأول، ولعل اسمه مأخوذ من كلمة أوجا

Augha

السنسكريتية بمعنى الطوفان، وعندهم أن الماء علا حتى بلغ السماء فلاذ الملك وخاصة أهله بسفينة صنعها فنجا عليها من الموت، وفي رواية إغريقية أخرى أن زيوس غضب على البشر فأغرقهم، وعلم برجيوس بما انتواه فنصح لابنه دوكاليون أن يصنع السفينة لينجو عليها، فصنعها ونجا عليها مع زوجته بيرها إلى جبل البرناس.

ويقول اللتوانيون في قصتهم عن الطوفان: إن الإله برمزيماس غضب على الدنيا فأرسل عليها ماردين هما «واندو» و«ويجاس» أي الماء والريح، فغرق كل من في الأرض إلا من ألهمه الإله أن يعتصم بالجبل.

وقصة البابليين كما نقلها المؤرخ الإغريقي بيروسس

Berosus

قديما تزيد على قصة الغرق والنجاة بقصة ألواح التشريع، وخلاصتها أن إكزيسترس

Xisurus

الذي نجا بالفلك أحس قرب الطوفان فدفن في الأرض ألواح الشريعة، وتفقدها أبناؤه بعد هبوط الماء فاستخرجوها من مكانها، فهي أساس النظام في دولة البابليين.

وتستند قصة الطوفان عند البابليين إلى تقدير من تقديرات علم الفلك أو على الأصح علم التنجيم، يزعمون فيه أن العالم تتعاوره في الآباد الطوال أدوار الطوفان وأدوار الحريق، ويختلفون في تقدير هذه الأدوار بالسنين الكونية ولكنهم يحسبون السنة الشمسية كأنها ثانية بالنسبة إلى اليوم العالمي أو كأنها ثانيتان بحسابنا؛ لأنهم كانوا يقسمون النهار والليل إلى اثنتي عشرة ساعة لا إلى أربع وعشرين، ويحسبون السنة العالمية كأنها يوم في السنة الكونية التي تقع أدوار الفناء بحسابها، وقد اختلفوا كما أسلفنا في تقدير مدة هذه الأدوار، ولكنهم يقولون إن الغرق الكوني يحصل كلما اجتمعت الأفلاك السماوية في برج الجدي، وإن الحريق الكوني يحصل كلما اجتمعت في برج السرطان، وهنا يقع الخلط بين حساب الآباد وحساب الفصول الأرضية كما لاحظ العلامة جومبيرز مؤرخ الفلسفة اليونانية الكبير، فإنهم وهموا أن الحريق الكوني من حرارة الصيف، وأن الغرق الكوني من برد الشتاء كما يقعان في تقلبات الفصول.

وعموم قصة الطوفان يثبت وقوع الطوفان وإن تقادم به العهد فتعددت به الروايات.

وقد طالت المقارنات كما أسلفنا بين مصادر العقيدة عند الإسرائيليين ومصادرها عند شعوب بابل ومصر وفارس والهند على التخصيص.

فبعض علماء المقارنات يرى أن البابليين نقلوا قصة الخليقة وقصة الطوفان من قوم إبراهيم عليه السلام لأنه نشأ فيهم قبل الميلاد بألفي سنة على التقريب.

وبعضهم يرى على نقيض ذلك أن هذا النقل جائز في المأثورات التي انقطعت أسنادها وأمكن أن تبدأ عند البابليين والإسرائيليين على السواء، ولكنه غير جائز في المأثورات التي تسلسلت مما قبلها في عقائد بابل وفارس.

ونحن هنا لا تعنينا مقارنات العقائد إلا من جانب واحد، وهو جانب التطور البشري في إدراك صفات الله.

ومتى قصرنا النظر على هذا الجانب فالثابت من تاريخ الديانة الإسرائيلية أنها انقلبت بعد عصر إبراهيم عليه السلام إلى وثنية كالوثنية البابلية، وأن التوحيد الذي بشر به إخناتون في مصر القديمة سابق لشيوع التوحيد في شعوب إسرائيل، ولكن العقيدة الإسرائيلية عاشت بعد اختفاء عقيدة إخناتون وبعد عصر موسى عليه السلام، فكانت هي كما تقدم نقطة التحول في تطور الاعتقاد بالله بين الأمم التي تؤمن اليوم بالأديان الكتابية.

الفلسفة

أول ما يقع في النفس من متابعة الأطوار الدينية كما أوجزناها كل الإيجاز فيما تقدم - أن مهمة الدين هي مهمة النوع الإنساني كله، قد تلمس فيها السبيل القويم من أقصى عصور ماضيه إلى حاضره الذي نحن فيه، وأنه كلما ترقى بتفكيره وترقى بأخلاقه وأحواله تهيأ لقبول عقيدة التوحيد، وترقى في هذا الاتجاه من تنزيه إلى تنزيه، ومن كمال إلى كمال.

وتتجلى هذه الظاهرة في الأديان القديمة التي أتمت نضجها وبلغت مستقرها في زمانها واستكملت من قبل جميع شعائرها، كالديانة المجوسية التي أسلفنا تلخيصها كما اعتقدها أهلها قبيل الميلاد وبعده بقليل، فإن أبناءها قد أخذوا بعقيدة التوحيد بعد احتكاكهم بالمسلمين، وأصبح المجوس الذين يسمون اليوم بالپارسيين يؤمنون بإله واحد: هو إله الخير يزدان ، ولا يشركون معه أهرمن كما فعل أسلافهم الأقدمون. قال العلامة جيمس دارمستتر

Darmesteter

في كلامه على زرادشت من كتاب حوادث العالم الكبرى: «إنهم قد انتهوا إلى الوحدانية، وإن الدكتور ويلسون حين كان مشغولا بمناقشة الپارسيين منذ أربعين سنة - نعت دينهم بالثنوية، فأنكر مجادلوه هذه التهمة، وقالوا: إن أهرمن لم يكن له وجود حقيقي، وإنما هو رمز لما يجيش بنفس الإنسان من خواطر السوء، فلم يعسر على الدكتور أن يبدي لهم أنهم يناقضون بذلك كتبهم المقدسة، ولم يزل النقاد الأوربيون حينا بعد حين يعجبون للتقدم الذي تقدمه الپارسيون في المذهب العقلي بعد مدرسة فولتير وجيبون، ولكن الواقع أنه ليس للمذاهب الأوربية تأثير وراء هذا التقدم، فإن الپارسيين قبل أن يسمعوا بأوربة والمسيحية وجد فيهم من فسر أسطورة تاموراث الذي امتطى هرمن ثلاثين سنة كما يمتطى الحصان - بأنها تعني أن ذلك الملك قد كبح شهواته وزجر نوازع الشر التي تحيك بسريرة الإنسان، وشاع فيهم هذا التفسير المثالي نحو القرن الخامس عشر للميلاد، ولا يزال شائعا اليوم بين المفسرين، وليس في الوسع أن نقرر على التحقيق مبلغ تأثير الديانة الإسلامية في هذا التحول، فقد نلمح هنالك علامات ضعيفة على ابتدائه منذ عهود المجوس الأقدمين.»

ولا بد أن نلاحظ هنا أن المهم هو تهيؤ الذهن للتوحيد، وليس المهم هو ما قصده الإنسان في نيته وعمله فعلا في هذا السبيل.

فلا الحقائق الدينية ولا الحقائق العلمية يقدح فيها ما قصده العقل أو قصدته النوازع النفسية قبل الوصول إليها.

فإن الإنسان قصد تسيير السفن وتنظيم الملاحة فعرف الفلك ورصد ظواهر السماء، وقصد قياس المزارع فعرف الهندسة، وقصد الذهب فعرف الكيمياء، وقصد الشعوذة فعرف الطب، وبدأ بالفلسفة من بداءات أعجب من بداءات الأديان، ولم يحسب ذلك عيبا على الحقائق التي انتهى إليها من هذا السبيل.

فالمهم في الأطوار الدينية هو الحافز الدائم الذي لزم النوع الإنساني من أقدم عصوره، وهو الوجهة القويمة التي يسعى إليها ويقترب منها، ولا تزال بداهة الفطرة سابقة فيها لأشواط العقل في مضمار الفلسفة والتفكير ، وهذه هي معجزة الجهود الدينية عند الالتفات إليها وإنعام النظر فيها، فإن عقول الفلاسفة أقدر على التأمل من بداهة الجماعات، ولكن الذي رأيناه في تاريخ الفلسفة قديما وحديثا أنها أخذت من بداهة الجماعات آساسها المتينة، ولم ترتفع إلى ذروة أعلى من التي ترقى إليها الضمير بعقيدة التوحيد والتنزيه، ولا نفهم هذا عقلا إلا على اعتبار واحد، وهو أن هداية الله تأخذ بيد الإنسان خطوة فخطوة في هذا المرتقى الوعر، فيهتدي في كل مرحلة من مراحلها بمقدار.

لقد آمن الإنسان بالإله الواحد من طريق العقيدة قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، ولكنه لم يعرف «السبب الأول» من طريق الفلسفة إلا حوالي القرن الرابع قبل الميلاد، وكان جل اعتماده في ذلك على الدين.

فمن الدين تلقى الفلاسفة فكرتهم عن الروح، ومن الدين تلقوا فكرتهم عن بطلان الظواهر المادية، ومنه تعلموا التفرقة بين العقل والمادة فتعلموا كيف ينفذون إلى ما وراء الحس ويوغلون في تصفية كنه الموجودات إلى أعماق لا تغوص فيها الأجسام وآفاق لا تدركها الأبصار.

وقد استعاروا من الأديان الأولى عقائد المؤمنين بها في تعليل أصول الكائنات والتنبؤ عن مصيرها بعد وفاء آجالها من الوجود، فقالوا: إن السماء والأرض خلقتا من الماء، وقالوا بالدورات الكونية التي تبدئ العالم وتعيده كرة أخرى على طويل الأدهار والآباد، وقالوا بالحساب والعقاب كما قال سابقوهم من المتدينين، وفهموا أن قدرة الله تخالف قدرة القوى المادية التي تعمل بالجهد والعناء، فتعلموا أن الله يخلق بالكلمة أو بالمشيئة فيفعل ما يريد، وأخذوا من الديانات القديمة صوابها وخطأها وحقائقها وأوهامها، ثم محصوها ومحضوها فلم يجاوزوا بالتمحيص والتمحيض آفاق الإيمان بوحدانية الله.

وإننا لنحسب أن الاهتداء إلى القوة الروحية أو قوة العقل هو أعلى ما ارتفع إليه فكر الإنسان وضميره، بإلهام الدين وبحث الفلسفة والعلوم، فليست القوة كثافة ولا مادة مجسمة للعينين واليدين، وإن القوة المادية نفسها حين تدخل في حساب العقل لهي أقرب إلى أن تقاس بالأرقام والتقديرات من أن تقاس بالثقل والضخامة، بل الثقل نفسه ليس هو إلا معنى من المعاني نسميه بالجاذبية ونقيسه بالتقديرات الرياضية.

ولهذا نستكبر على البادئين بهذه الفكرة المنزهة قبل عشرات القرون أنهم وثبوا إليها وثبة واحدة وقصدوا بها ما نقصده اليوم حين نتكلم في الفلسفة تارة ونتكلم في العلوم الطبيعية تارة أخرى.

ونتخذ من تطور هذه الفكرة مثالا للأساليب الإنسانية في الوصول إلى حقائق الأشياء، ودليلا على القاعدة التي نقررها لوزن الأطوار الدينية بميزانها الصحيح، وهي أن العبرة بالوجهة التي نبلغها لا بالدواعي التي تحركنا إلى تلك الوجهة، وإن قصد الإنسان لا يعبر تمام التعبير عن قصد القضاء الذي يسيره ويغريه بالعمل والاجتهاد.

فنحن نرجح أن العقل الذي خطر له أن الله يخلق بكلمة ولا يخلق بجهد من جهود الحركة المادية - قد استعار هذه الفكرة السامية من شيء رآه لا من شيء بحثه واستقصاه.

وأقرب هذه الأشياء المرئية إليه هي قدرة الساحر على التأثير بكلمة يقولها والسيطرة على الأجسام والأجرام الضخام بالهمهمة والتعزيم، وهي ضرب من الكلام.

والله أقدر من الساحر، فإذا قدر الساحر أن يحرك الصخور بكلمة ويكسر السلاح بكلمة، ويقتل العدو الشجاع بكلمة، فأولى بالخالق الأعظم أن يملك هذه القدرة ويملك ما هو أعظم منها وأدل على المضاء ونفاذ المشيئة، فلا جرم يشاء فيكون ما يشاء.

فلما جاءت الفلسفة وتناولت هذه الفكرة الكبرى لم تصل إلى شوط أبعد من شوطها ولكنها وصلت إلى بداءة أقوم من بداءتها، فكان مثلها في هذا كمثل من وجد الكنز ورسم الدروب التي تتأدى إليه، وكان مثل الأسبقين كمثل من عثر بالكنز فوقع فيه، وبقي الكنز بجوهره ونفاسته لمن يسلك إليه منهجه القويم.

وسنرى للفلسفة - كما رأينا العقيدة - بدايات كثيرة كهذه البداية وتوفيقات كثيرة كهذا التوفيق.

بل سنرى أن بداية الفلسفة نفسها لم تخل من توفيق بين لا يد فيه لتدبير ذويه. •••

فقد كان للتوفيق يد ملحوظة في زمان الفلسفة ومكانها، فبدأت حوالي القرن السادس قبل الميلاد في العصر الذي بلغت فيه الديانات القديمة أقصى آمادها من تصور الفكرة الإلهية والعقيدة الروحية، وكان ذلك العصر هو عصر النضج والتمام في الديانة الإسرائيلية، وهي آخر الحلقات في السلسلة القديمة وأول الحلقات في سلسلة جديدة من ديانات الوحي والأنبياء، أو الديانات الكتابية.

أما مكان الفلسفة اليونانية فهو رقعة من الأرض على اتصال بأبناء كل دين قديم من تخوم الهند إلى ضفاف النيل، وزاد اتصالها بتلك الأمم زحوف الفاتحين وجموع المهاجرين، تارة من الشرق إلى الغرب وتارة من الغرب إلى المشرق، فكان اليونان في آسيا الصغرى يعرفون عبادات المجوس والبابليين والمصريين واليهود وكان روادهم ورحالوهم يتنقلون بين الأقطار فيعرفون فيها ما لا يعرف في بلادهم من الخفايا والأسرار، وساعدهم الحظ فخلت بلادهم من الكهانات الراسخة التي تستأثر بالتفكير في مسائل الكون ومسائل العقيدة؛ لأن الكهانات الراسخة إنما تقوم مع العروش العريقة على أودية الأنهار الكبار، كمصر والعراق وبعض الأقاليم الهندية، ولم يكن في أرض يونان كلها نهر تتأثل عليه دولة شامخة وكهانة مستقرة، فطرقوا أبواب الفكر أحرارا غير محجمين عن معضلة معقدة ولا منقادين لإمامة متحكمة، فاختاروا فيما أخذوه واختاروا فيما نبذوه، وتزودوا من رسالة الإيمان لرسالة البحث في الحكمة والعلوم.

وهم - على إعفائهم من سلطان الهياكل العريقة - لم تخل فلسفة لهم قط من فكرة دينية في أساسها أو في مضامينها، ولا استثناء في ذلك لأكبرهم وأقدرهم، وهم سقراط وأفلاطون وأرسطو. فإن طلاقة أرسطو في مباحثه العلمية والفلسفية لم تخرجه من سلطان الفكرة الدينية في القول بالهيولى والحركة الأولى، فلولا الإيمان بالخالق والمخلوق والروح والجسد لما خلص أرسطو إلى الصورة والمادة والتفرقة بين العقل والهيولى.

وأول المشهورين من فلاسفة اليونان طاليس المليطي الملقب بأبي الحكماء، كان يقول - كما قالت الأديان - من قبله إن الماء أصل كل شيء، وإن الروح تحرك المادة، فما من متحرك إلا وهو ذو روح أو منقاد لذي روح، ولا يستطيع المغناطيس مثلا أن يجذب الحديد إلا بروح فيه.

ويظن شارحوه أنه قال بأصالة الماء لأنه رأى النطفة سائلة ورأى النبات الرطب يدخل الجسم فينقلب فيه إلى حرارة حيوانية، ووهم أن الأرض سابحة على الماء ، وأن الشمس تخرج منه وتعود إليه، فإذا غلظ فهو أرض وإذا رق فهو بخار أو نار أو هواء.

والعالم على زعمه مملوء بالأرباب، وهي التي تحرك فيه كل متحرك من الحي والجماد.

وجاء بعده أنكسماندر - ولعله أكبر الحكماء من هذا الطراز - فقال إن الأشياء كلها تخرج من مادة أولية، ولكنها ليست الماء ولا النار ولا الهواء ولا التراب؛ لأن الماء لو كان أصلا لهذه العناصر لغلب عليها وطردها، وكذلك التراب والهواء والنار فهي إذن سواء كلها في الانتساب إلى أصل أقدم منها، وهي تتزاوج وتتمازج ويود كل عنصر منها أن يجور على حصة غيره في الوجود، فإذا خرج بها الشطط عن سواء الاعتدال عادت كلها إلى معدنها الأول وزالت الفوارق بين الأجسام والأحياء لتعود إلى الوجود من جديد، وهكذا دواليك في حركة دائمة لا انقطاع لها منذ القدم إلى غير نهاية، فهي على هذا دورات كونية كالدورات التي قال بها الهنود البابليون.

ويقول أنكسماندر بالتطهير والتكفير في دورات الخلق المتعاقبة كما يقول بهما الهنود، «فإلى المعدن الذي خرجت منه الأشياء تعود كرة أخرى كما قضي عليها، تكفيرا وترضية عن جور بعضها على بعض، وفقا لقضاء الزمن.»

وهو يقول بخروج الإنسان الأول من الماء وطين البحر، ولكنه يستبعد خروجه دفعة واحدة لأنه في طفولته غير مستغن عن الحضانة والكفالة، وكان الأقدمون يزعمون أن سمك «القرش» يقذف جنينه من فيه ثم لا يزال يبتلعه ويقذفه في كل مرة أكبر مما قبلها حتى يبلغ أشده، فيرسله في الماء ولا يعود إلى ابتلاعه، فخطر لأنكسماندر أن الإنسان الأول ربما خرج من جوف حيوان آخر على هذه الوتيرة، ولا يبعد أنه استعار هذا الخاطر من أساطير أهل بابل وما يروونه عن «الإنسان» المائي الذي يتألف من نصف إنسان ونصف حوت.

وظاهر من أقوال أنكسماندر أن مسألة الخلق عنده هي مسألة تحول من شكل إلى شكل ومن صورة إلى صورة، وليست مسألة إنشاء أو إحداث بعد عدم، وإن المادة الأولية التي تئول إليها جميع الموجودات هي كذلك مصدر الأرباب وأنصاف الأرباب، ومصدر الحركات والمتحركات، ولا مهرب لرب أو مربوب من الفناء آخر الأمر في معدنها الأصيل، وهذا بعينه هو مذهب الهنود كما قدمناه.

ولم يزد أناكسمين - تلميذ أنكسماندر - شيئا يذكر عن أقوال أستاذه في باب المعرفة الإلهية، وإن كانت له تخمينات قيمة في الجاذبية والذرات وتعريفات الحركة، وقد ختمت به مدرسة مليطية ومات في الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد. •••

وكأنما كانت مدرسة مليطية نفخة في بوق مسموع في طليعة جند الحكمة، ولا سيما الحكمة الإلهية، فإن آسيا الصغرى وما حولها أنجبت في الجيل التالي لجيل طاليس وزملائه طائفة من أعظم الفلاسفة أثرا في مذاهب الحكمة الإلهية، ومن هذه الطائفة أكسينوفان وهيرقليطس وفيثاغورث وديمقريطس وأنكسغوراس ورسالة أكسينوفان الكبرى تنحصر في إنحائه الشديد على كل تشبيه أو تمثيل توصف به الأرباب؛ لأن حقيقة الإله عنده من وراء خيال الإنسان، وإنما يتخيل الإنسان أربابه على هيئته ويعزو إليها أخلاقا كأخلاقه وأعمالا كأعماله، ولو كان للحصان يد تحسن التصوير وسئل أن يصور إلهه لصوره حصانا مثله، ولو تخيل الأثيوبي ربه لتخيله أسود أفطس على مثاله، وهيهات للعقل البشري أن ينفذ إلى الحقيقة الإلهية أو يقاربها بعض المقاربة، فكل ما قيل عنها وما سيقال قد يكون فيه الصواب أو بعض الصواب، ولكنها مصادفة يجهلها القائل ولا يقيسها السامع بقياس معلوم.

أما هيرقليطس فلعله أعظم هؤلاء الأربعة أو أعظم فلاسفة آسيا الصغرى على الإطلاق.

ويرجح أن هيرقليطس اتصل ببعض الآراميين أو ببعض اليهود؛ لأن الآراميين الذين تهودوا كان من عادتهم - كما يتبين من ترجمتهم للتوراة المعروفة بالترجوميم - أن يذكروا كلمة الله «ممرا»

Memra

والحضور «شكينة» من السكن أو مكان الحضور، وينسبون إليها أعمال الله في مقام الإشارة والتعظيم، فيقولون حضرة الله كما يقولون كلمة الله وهم يعنون الإله، ويؤثرون الإشارة إليه تعظيما له عن الذكر الصريح، ومثل هذا شائع إلى اليوم في اللغات الشرقية التي تذكر الحضرة وتعني صاحب الحضرة، وتذكر الأمر والكلمة وتعني صاحب الأمر والكلمة، فكلمة الله على هذا المعنى ترادف أمر الله أو مشيئة الله عند الآراميين واليهود.

وكان هيرقليطس يقول: إن الكلمة

Logos

هي مساك الوجود كله، وإنها هي النظام الذي يحيط به ويتغلغل فيه، وإنها لا تصنع إلا الصالح من الأمور «فعند الله كل شيء جميل وخير، ولكن الناس هم الذين يعتبرون بعض الأمور من الخير وبعضها من الشر.»

وتكاد الكلمة عنده أن تكون مرادفة لمعنى الله، فهي النظام الذي يضع كل شيء في موضعه. وكذلك الله: «هو النهار والليل والشتاء والصيف، والحرب والسلم، والشبع والجوع، ويتخذ الأشكال والمظاهر على اختلاف، كالنار وهي تمتزج بالأبازير فيسمى كل منها باسمه لا باسم النار.»

والاختلاف هو أساس الانسجام والنظام، فلولا النقائص لما كان النغم المنسجم، ولولا التعدد لما كانت الوحدة، «فكل شيء يأتي من الأحد، والأحد يأتي من كل شيء، ولكن الكثرة دون الوحدة في الوجود الحقيقي، وذلك هو الله.»

لكن هيرقليطس لا يقول بالخالق ولا بحاجة الموجودات إلى موجد. «فهذه الدنيا التي هي سواء للجميع لم يخلقها أحد من الآلهة ولا من الناس، ولكنها كانت منذ الأزل وتكون الآن وتظل كائنة في كل زمان، نارا خالدة تتقد بحساب وتنطفئ بحساب.»

فالنار هي أصل العناصر وهي المصدر الأول لجميع الكائنات، وهي حركة دائمة لا انقطاع لها في لحظة من اللحظات، فأنت لا ترى الشيء الواحد غير مرة واحدة، ولا ترى شمسا واحدة كل صباح، أو أنت على تعبيره لا تنزل النهر مرتين؛ لأن أمواجه تطرد ولا تبقى كما لمستها في المرة الأولى، وهذا الجيشان الدائم يستخرج من كل شيء ضده، وتتم الألفة بين الأضداد المتقابلة بميزان العدل الذي لا يغفل ولا يني عن تسوية المقادير وزيادة الناقص ونقص الزائد، ولهذا الرأي في الأضداد وتناسقها شأنه في مذاهب الفلسفة الحديثة؛ لأنه رائد الثنائية التي قال بها «هيجل» واشتق منها كارل ماركس مذهبه المشهور في الثنائية المادية.

وهيرقليطس كما تقدم يقول باستغناء الموجودات عن الموجد، ولكنه يقول بحاجتها إلى العدل الإلهي الذي لا قوام لها بغيره، ويتكلم عن الله كلامه عن «ذات» مدبرة مريدة ومن ذاك قوله «إن الله لا شك مساك العدل في الكون كله»، و«إن أعمال الإنسان خلو من العقل ولكن أعمال الله لا تخلو منه ... وما الإنسان إلا كالطفل بالقياس إلى الله ... وأعقل الناس كالنسناس بالنسبة إلى الإله، وهو إذا قورن بالإله كان دميما شأئها كما يشوه أجمل القردة إذا قرن بالإنسان ...»

وقد ولد فيثاغوراس في جزيرة «ساموس» على مقربة من آسيا الصغرى وكان مذهبه نسخة يونانية من الديانة الهندية، فهو يقول بتناسخ الأرواح وبطلان المادة وتجدد الدورات الكونية، ولا يرى حقيقة غير الحقيقة الإلهية المنبثة في الكون كله، ويفهم من كلامه أنه يقول بوحدة الوجود كما يقول بالحلول أي حلول الروح الإلهية في الإنسان حتى يصبح أكثر من إنسان وأقل من إله، كما قال: «هناك أرباب وأناسي، وكائنات مثل فيثاغورث» وأقدم الكائنات عنده أربعة هي: الأب والصمت والعقل والحق، ومن الأولين صدر الاثنان الآخران.

وهو يوصي بالحيوان ويحرم أكل لحمه، ويعتقد أن جسد الحيوان قد يشتمل على روح إنسان يتطهر بالتناسخ حتى يكفر عن آثامه فيلحق بالرفيق الأعلى، وتعفى روحه من عقوبة الرجعة إلى الأجساد.

وليست النار ولا عنصر من العناصر التي حصرها القدماء في النار والتراب والهواء والماء أصلا للموجودات، ولكن العدد هو أصل كل موجود لأنه يلازم الوجود ولا ينفصل عنه كما قد ينفصل عنه اللون أو الثقل أو الحجم أو الكثافة المحسوسة، فالنسب العددية هي مناط الاختلاف بين جميع الأشياء، وهذا الرأي - على ما يبدو من سخفه - هو أقرب إلى الصواب من آراء الفلاسفة الآخرين؛ لأنه يتعزز بالكشوف العلمية عن المادة وسبب الاختلاف بين عناصرها وردها جميعا إلى حركات تتمايز بالنسب العددية في الخلايا والذرات، وكان ديمقريطس يقول مثل قوله في تركيب الأشياء من العدد، ولكنه يخالفه في المادية ويعني بالعدد عدد الذرات الصغيرة التي تتركب منها جميع الموجودات ومنها الأرباب.

ويأتي أنكسغوراس بعد فيثاغوراس في الزمن والمكانة بين حكماء آسيا الصغرى، وهو الذي عمم كلام هيرقليطس عن الكلمة

Logos

وسماها

Nous

أي العقل ، ووصفه بأنه جوهر مجرد خالد واحد لا يتعدد، وأنه هو مصدر حركة دوارة تدفع ما خف إلى أعلى الكون، وتهبط بما سفل إلى مركزه، وما من شيء إلا وفيه أضداد حتى أصغر الذرات التي لا ترى بالعين، إلا العقل فإنه منزه عن التعدد والتناقض، وهو الله أو هو الصلة بين الله والعالم، ولا فرق بين العقل في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد إلا بالأداة التي يستخدمها، ولولا تفاوت الأجساد في إتقان الأداة لما اختلفت عقول البشر وعقول الحيوانات وعقول الحجارة الصماء.

والأثر الأكبر الذي يذكر لهذا الفيلسوف أنه كان أول من نقل الفلسفة من آسيا الصغرى إلى أثينا في أيام بركليس، وكانت أثينا قبل ذلك تتنكر للمباحث الفلسفية وتتهم من يبحثون فيها وينقطعون عن الشعائر الدينية، ولم يسلم أنكسغوراس من تعصب أهلها لأنهم سنوا قانونا يعاقب كل من يتعرض للأشياء «التي في العلى» ويهجر عبادة الأرباب الأولمبية وما جرى مجراها، واتهموه بالكفر؛ لأنه كان يقول بأن الشمس صخر محمي، وأن القمر كالأرض من تراب، ولولا بركليس لما نجا من مصير كمصير سقراط بعده بقليل.

وقبل أن ننتقل إلى المدرسة الأثينية الكبرى - وهي مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو - نلم بمدارس ثلاث من مدارس الفلسفة التي كانت لها عناية خاصة، أو كان لها شأن خاص - بمسائل العقيدة الدينية، وهي مدرسة إيطاليا الجنوبية ومدرسة الرواقيين ومدرسة أبيقور، وبعض فلاسفة هذه المدارس لاحق للمدرسة الأثينية في الزمان.

ويرجع نشاط المدرسة الإيطالية أيضا إلى مدارس آسيا الصغرى؛ لأن فيثاغوراس وأكسينوفان هما صاحبا الفضل الأكبر في تنبيه الأذهان إلى مباحث الفلسفة في إيليا وصقلية بعد هجرتهما من وطنهما الأول، وقد نبغ هنالك كثير من أصحاب الآراء الفلسفية أجدرهم بالذكر في هذا المقام ثلاثة: هم بارمنيد وزينون وأمبدوقليس؛ لأنهم يمثلون كل ناحية من نواحي التفكير في مدارس إيطاليا الجنوبية.

ولباب مذهب بارمنيد أنه لا وجود لغير الواحد، وأن كل وجود غيره وكل ما نراه من التعدد والتغير إنما هو وهم الحس وخداع الظواهر، فلا تغيير ولا أضداد كما يقول هيرقليطس، وإنما هي حالة واحدة نراها على درجات ونحسبها لذلك من قبيل الأضداد، فالبرد قلة في درجة الحرارة، والظلام قلة في درجة الإضاءة، والمرض قلة في درجة الصحة، وقس على ذلك جميع الأضداد من هذا القبيل.

قال مدللا على بطلان التغيير: «كيف يتأتى أن الشيء الذي هو كائن يفقد الكينونة؟ وكيف يتأتى أن يكون بعد أن لم يكن؟ فإذا أحدث هذا الشيء فلا بد قبل حدوثه من زمن لم يكن فيه. وكذلك يقال إذا كان حدوثه سيبدأ في المستقبل، وأين تبحث عن أصل الشيء الذي هو كائن؟ وكيف ومتى يحدث نماؤه؟ لا أرى لك أن تقول: إنه يأتي من لا شيء، فإن اللاشيء لا يقبل التعبير، ولا يقبل التفكير.

وما هي يا ترى تلك الضرورة التي توجده في زمن من الأزمان دون سائر الأزمان؟ كذلك يمنعك النظر الثاقب أن تصدق أن الشيء الذي هو كائن يموت إلى جانبه كائن آخر.»

ومعنى هذا أنه لا شيء يأتي من لا شيء، فالعلم قديم لم يحدث، والواحد الذي يؤمن به بارمنيد ليس خالقا للكون بل هو حقيقة الكون، ويقول في وصفه: إنه كرة محيطة لا تقبل التجزئة؛ لأن كلها حاضر في كل جزء منها.

ويعتبر زينون الأيلي أبرع المدافعين عن مذهب أستاذه بارمنيد، فإنه أبدع تلك النقائض التي رد بها على أنصار هيرقليطس وفيثاغوراس حين أنكروا الوحدة وسخروا من مذهب بارمنيد بتلفيق الأحاجي والأماثيل، فأبدع لهم تلك النقائض البارعة التي تثبت بها الإحالة والخلف على القائلين بالتغير والكثرة، ونجتزئ منها ببعض الأمثلة للدلالة على طريقة هذه المدرسة في إثبات الوحدة الكونية ونفي التعديد والتغيير.

قال ما فحواه: إن الشيء الكثير إذا كانت كثرته بالامتداد فهو قابل للقسمة إلى شطرين، وكل شطر منهما قابل للقسمة إلى شطرين، وهكذا إلى غير نهاية، وهو مستحيل؛ لأن المحدود لا يقبل القسمة بغير حدود. أما إذا قلنا: إن الجزء الذي تنتهي إليه لا يقبل القسمة، فهو مستحيل أيضا لأنه ذو امتداد، وكل ذي امتداد ينقسم إلى نصفين .

ويقال في الكثرة بالعدد ما يقال في الكثرة بالامتداد، فإن الأعداد منفصل بعضها عن بعض، وبين كل منفصلين تقبل القسمة، ولا تزال تقبلها على النحو الذي تقدم في كثرة الامتداد.

وهو يبطل الحركة؛ لأن التغيير إنما يقوم عليها، ويبدع لذلك نقيضه من قبيل نقائض الكثرة فيقول: إن الحركة لا تنتهي إلى غايتها إلا إذا قطعت نصف المسافة ثم نصف النصف إلى غير نهاية، ومن التناقض أن يقال إن حركة تنتهي بلا نهاية، ويضرب مثلا آخر بالمسابقة بين عداء وسلحفاة فيقول: إذا سبقت السلحفاة العداء بأقصر مسافة فإن العداء لا يلحق بالسلحفاة إلا إذا عبر المسافة التي بينهما، وفي هذه الأثناء تكون السلحفاة قد سبقته إلى مسافة أخرى لا بد له من عبورها، وهكذا إلى غير انتهاء، وهو محال.

وأكثر هذه النقائض من قبيل المغالطات؛ لأنه يعتبر فيها الزمان ولا يعتبر المكان أو يعتبر فيها المكان ولا يعتبر الزمان، ولكن كلامه عن الجزء الذي لا يتجزأ ينطوي على معنى صحيح يدل على ضلال الحس في تصور المادة والفضاء، ولعل أفضل الحلول لهذه المناقضة هو حل الأفلاطونيين الذين قالوا إن الجسم يتجزأ إلى أن ينمحق فيصير هيولى، أي مادة أولية، والمادة الأولية هي الذرة المنحلة.

ولم يأت زينون الأيلي في باب الإلهيات برأي يزيد على رأي أستاذه، فهو يؤمن بالواحد الذي لا يتعدد، ولا يجعله إلها خالقا منشئا للعالم من العدم؛ لأنه لا يؤمن بالتغيير ولا بحدوث شيء من لا شيء!

أما أمبدوقليس فهو أقرب الفلاسفة إلى زمرة الشعراء، وكان ينظم فلسفته ويعتمد فيها على الخيال، فقد تخيل العالم كرة، وقال: إن الحب هو إله العالم، والنزاع عدوه الراصد له على الدوام، وكان الحب بداءة في داخل الكرة والنزاع خارجها، فكان الناس يعبدون أفروديت ربة الحب وحدها، ويتجنبون التقرب إليها بالذبائح وسفك الدماء، ثم تطرق النزاع إلى داخل الكرة وخرج الحب منها، ولا يزالان كذلك حتى يتغلب النزاع على الحب، فتتمزق أوصال الوجود، وتنتهي دورة من دورات الأبد، ويبدأ الخلق من جديد .

وكان أمبدوقليس يدعي الحلول ويزعم أنه مشتمل على روح إله، ويروي تلاميذه معجزات له تحسب من خوارق العادات، ويلتمسون منه البركة والرضوان كأنه من القديسين.

وأبقى ما بقي من آرائه في الإلهيات والطبيعيات أن الله «حب» وأن العناصر أربعة: وهي النار والتراب والهواء والماء، وكان السابقون له يذكرونها عرضا ولكنهم لا يعتبرونها مبادئ المادة على سبيل التحديد. •••

أما المدرسة الرواقية فقد أوشكت أن تكون نحلة دينية؛ لأنها امتازت بعلم كعلم اللاهوت في المسيحية أو علم الكلام في الإسلام، وهي لاحقة لمدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو في تاريخ الظهور، ولكننا نفردها على حدة قبل الكتابة عن المدرسة الأثينية؛ لأنها نمط مستقل في مباحث الفلسفة على الإجمال، وبينها وبين المدرسة الأثينية فرق واضح في الطبيعة والموضوع.

وأشهر فلاسفتها المستجمعين لنواحي التفكير فيها ثلاثة: هم زينون وكليانتاس وشريسبس، وكلهم متقاربون في تاريخ الميلاد.

فزينون ولد سنة 336 قبل الميلاد في قبرص وعاش وعلم في أثينا، وخلاصة رأيه أن الموجود هو الفاعل أو المنفعل، وأن أصل الموجودات كلها النار، وأصل النار الهيولى، والله هو العقل الفاعل والهيولى هي المادة المنفعلة، ولكنه لا يؤمن بوجود لشيء غير مادي، فالله عنده «أثير» لطيف، وروى عنه جالينوس أنه يعارض أفلاطون؛ لأن أفلاطون كان يرى أن الله جوهر منزه عن المادة الجسدية، وزينون يقول: إنه جوهر ذو مادة

Soma

وأن الكون كله هو قوام جوهر الإله، وإن الإله يتخلل أجزاء الكون كما يتخلل العسل قرص الخلايا، وأن الناموس

Nomos

وهو بعبارة أخرى مرادف للعقل الحق

Orthos Logos

أو الكلمة الحقة - هو والإله زيوس شيء واحد يقوم على تصريف مقادير الكون، وكان زينون يرى الكواكب والأيام صفة إلهية، ويعتقد أن الفلك ينتهي بالحريق، وتستكن في ناره جميع خصائص الموجودات المقبلة وأسبابها ومقاديرها، فتعود كرة بعد كرة بفعل العقل وتقديره، ويشملها قضاء مبرم وقانون محكم، كأنها مدينة يسهر عليها حراس الشريعة والنظام.

ويترادف عنده معنى الله والعقل والقدر وزيوس، فكلها وما شابهها من الأسماء تدل على وجود واحد، وقد كان هذا الوجود الواحد متفردا لا شريك له فشاء أن يخلق الدنيا فأصبح هواء، وأصبح الهواء ماء، وجرت في الماء مادة الخلق أو كلمة الخلق

Spermatikos Logos

كما تجري مادة التوليد من الأحياء، فبرزت منها مبادئ الأشياء وهي النار والماء والهواء والتراب، ثم برزت الأشياء كلها من هذه المبادئ على التدريج.

وتعريف القدر عند زينون أنه القوة التي تحرك الهيولى، وهي قوة عاقلة؛ لأن ما يتصف بالعقل أعظم مما يتجرد منه، ولا شيء أعظم من الكون

Cosmos ، فهو عاقل لأنه عظيم.

ويفسر زينون تعدد الآلهة في معتقدات العامة بأنهم بحثوا عن الله في مظاهر الطبيعة المتكاثرة فعددوها ونسجوا حولها الأساطير من تشبيهات الخيال، ولكن هذه التشبيهات إن هي إلا رموز مجازية على حقيقة واقعية، فلما قال الأقدمون إن أورانوس إله السماء خصاه ابنه كرونوس إله زحل - كانوا يفهمون من ذلك أن كوكب زحل هو مناط النظام في السيارات وأنه قادر بذلك على تقسيم دورات الفلك وتقسيم الفصول والسنين، ومن هنا التشابه بين كلمة كرونوس

Kronos

إله زحل وكلمة كرونوس

Chronos

أي إله الزمان، كأنهم يقولون إن الزمن قد حد من حركات الأفلاك والسيارات.

ولكن زينون على بلوغه هذه المنزلة من التوحيد وإنكار التشبيهات لم يخلص من اللوثة المادية في تصور الله ولا في تصور الروح، فالروح عنده هي جوهر غازي حار، وهي مركبة من النفس «سيكي

» بمعنى التنفس ومن العقل

Varros

وهو من عنصر الأثير، ومن نقائض المذهب الرواقي أنه يأبى إقامة الهياكل لله مع هذه المادية فيه؛ لأنها أقل من أن تبلغ مرتقاه.

ولا ينكر زينون كهانة الكهان، بل يقول: إنها لازمة عقلا؛ لأنه لا غنى عن الكهانة مع وجود العناية التي تتكفل بالسبق إلى التقدير والهداية.

وقد ولد كليانثس

Cleanthes

بعد زينون بسنوات؛ لأنه ولد على الأرجح سنة 332ق.م، وكان مولده بآسيا الصغرى.

ورأيه أن الله روح يسري في جميع أجزاء الكون، وأن الروح الإنسانية قبس من ذلك الروح، وأن الشمس هي مناط النظام في الكون؛ لأنها تنشئ الليل والنهار وتقلب الفصول والسنين.

وهو يقول بالدورات الكونية كما يقول زينون، فمن النار تبدأ جميع الأشياء وإلى النار تعود.

وقد كان إمام اللاهوتيين بين فلاسفة الرواقيين؛ لأنه أول من أسهب في إقامة الأدلة على وجود الله، ومن براهينه اللاهوتية أن اختلاف المزايا والطبائع يستدعي تمييز بعضها على بعض، وأن يكون بعضها أفضل من الجميع، فالحصان مثلا أفضل من السلحفاة، والثور أفضل من الحمار، والأسد أفضل من الثور، وليس على الأرض ما هو أفضل من الإنسان، ولكنه مع ذلك لا يرتقي إلى المنزلة الفضلى ولا يسلم من الضعف والشر والحماقة، فليس هو مثال الكمال بين الموجودات، ولا بد أن يكون الموجود الحي الكامل شيئا غير الإنسان، وأن يكون موجودا مستكملا للفضائل منزها عن كل سوء، ومثل هذا الموجود يطابق صفات الإله، فالإله إذن موجود.

ومن أسباب الإيمان بالله عند كليانثس أربعة أسباب يخصها بالتنويه: وهي الوحي الذي يكشف الغيب، وعظمة الخيرات التي تجود بها الأرض والسماء، ورهبة النفس أمام أسرار الوجود وظواهره الرائعة كالبروق والرعود والعواصف والأهوال والأوبئة والصواعق والبراكين، وهذا النظام المحكم الذي يبدو للنظر في حركات الأجرام السماوية ومواعيد الأفلاك والبروج، مما يرفض العقل حدوثه بالمصادفة والاتفاق.

وكانت لهذا الفيلسوف صلوات يخاطب بها الله كأحسن ما تكون الصلاة، ولكنه يذكر الله باسم زيوس كما كان معروفا بين الإغريق. •••

وولد شريسبس

Chrisppus

ثالث هؤلاء الفلاسفة بعد كليانثس بنحو خمسين سنة، وكان مولده في قليقية ومقر تعليمه في أثينا، وهو أوفرهم محصولا وإن لم يحفظ من كتبه غير شذرات.

وقد شغل باللاهوت الرواقي كما شغل به كليانثس، ولا سيما براهين وجود الله وبراهين عدله وحكمته في قضائه.

فمن براهينه على وجود الله أن الكون أكبر من أن يخلق للإنسان وحده، فوجوده عبث إن لم يكن هناك إله أكبر من الإنسان.

ومن تلك البراهين أنه «إذا كان هناك شيء يعجز الإنسان عن صنعه فالذي يصنع ذلك الشيء أعظم من الإنسان، وأن الإنسان يعجز عن خلق الكون فلا بد أن يكون القادر على خلقه أعظم منه، وأي موجود أعظم من الإنسان غير الله؟»

ويرد على من يتخذون الشر دليلا على بطلان العناية الإلهية بأدلة كثيرة يقول منها في كتابه عن العناية «إنه ليس أضل من أولئك الذين يتخيلون أن الخير قابل للوجود بغير وجود الشر معه؛ لأن الخير والشر ضدان يستلزم وجود أحدهما وجود الآخر، فكيف يتأتى للعدل معنى من المعاني بغير الأخطاء والإساءات؟ وما هو العدل إن لم يكن هو منع الظلم؟ وماذا يفهم إنسان من معنى الشجاعة إلا أنها نقيض الجبن؟ أو من معنى العفة إلا أنها نقيض الشراهة؟ وأين محل الحكمة إن لم تكن هناك حماقة؟ وما بال هؤلاء القوم في حماقتهم يطلبون أن يكون هناك حق ولا يكون هناك باطل؟ وقل مثل ذلك في الخير والشر، والراحة والتعب، والسرور والألم، فإن هذه الأشياء آخذ بعضها برقاب بعض كما قال أفلاطون، فإن نزعت أحدها نزع معه قرينه لا محالة.»

ويعلل الفيلسوف بعض الآلام بأنها عقوبة من الله، أو أخذ من الجزء لإعطاء الكل، وحرمان للفرد لإغداق الخير على المجموع، ويقول: إن زيوس المخلص المنعم مصدر العدل والنظام والسلام يتنزه عن فعل ما لا يحسن ولا يجوز، ولكنه يصنع في الكون كما تصنع الدولة التي تضيق بسكانها، فتبعث بفريق منهم إلى المستعمرات النائية أو إلى ميادين القتال.

ويجيز شريسبس وجود آلهة تتمثل في القوى الكونية دون الإله الأعظم زيوس، ولكنه يعتبرها من أهل الفناء ولا يعفيها من قضاء القيامة التي تشمل الموجودات في نهاية كل دورة كونية، فإن هذه الدورات تأتي على كل موجود غير الإله الباقي وهو مصدر النار ومعيدها إلى التركيب ليستخرج منها أجزاء كون جديد. •••

وتأتي مدرسة أبيقور 342-270 في الموضع الوسط بين مدرسة الرواقيين ومدرسة أثينا الكبرى: ونعني منها على الخصوص مذهب أرسطو الذي اشتهر بمذهب المشائين.

فكان أبيقور وتلاميذه يعظمون الآلهة كتعظيم الرواقيين، وينسبون الإله والروح إلى مادة لطيفة كالأثير أو أرق من الأثير، ولكنهم يخالفون الرواقيين في الإيمان بالقيامة الإلهية ويقولون: إن الآلهة في رفيقها الأعلى سعيدة خالدة، وإن السعيد الخالد لا يكرث نفسه بأمره ولا يأمر غيره، ولكنهم يقيمون فوق الكون

metakosmia

في نعيم وفرح صاف مقيم، لا يعرفون تعبا ولا يتعبون أحدا، وإنما تحري الأمور عفو السجية بغير تقدير ولا حاجة إلى التقدير.

وهناك مدرسة أخرى غير مدرسة أبيقور ومدرسة زينون لها شأنها في التفكير ولكن لا شأن لها في العقيدة؛ لأنها لا تنقض فيها ولا تبرم، وهي مدرسة الشكوكيين أو اللاأدريين، فلا موضع لها في هذا المقام. •••

هذه المذاهب كلها كان لها تأثير ملحوظ في تفكير المفكرين بعدها في المسائل الإلهية، فما من مذهب منها إلا وقد أعقب فكرة قام عليها رأي فيلسوف متأخر أو دخلت في رأيه على نحو من الأنحاء.

إلا أن الإجماع متفق على أن المدرسة الأثينية - مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو - هي أعظم مدارس الفلسفة بين الإغريق على التعميم، سواء منها ما نشأ قبل الميلاد وما نشأ بعده، وسواء منها ما نشأ في آسيا الصغرى أو إيطاليا الجنوبية أو مدينة الإسكندرية.

وليس هذا التمييز مرتبطا بضخامة الأثر في المسائل الإلهية؛ لأن فلسفة الرواقيين وفسلفة فيثاغوراس لا تقل أثرا في هذه المسائل عن مذاهب الفلسفة الأثينية، ولكنما ارتبط هذا التمييز «أولا» بعظمة الفلاسفة أنفسهم لأنهم كانوا على اليقين أعظم فلاسفة اليونان قدرا وأرجحهم عقلا وأبرزهم عبقرية في شئون البحث والدراسة والحكمة على تعدد جوانبها، وارتبط هذا التمييز ثانيا بمقياس المنطق الذي خلفوه واصطلح المفكرون بعدهم على الاحتكام إليه في إقامة الحجة وفصل الحدود وتمحيص التعريفات، فاعتمد عليه أقطاب اللاهوت كما اعتمد عليه أقطاب العلم والفلسفة، ولم يزل إلى هذه الأيام مرجعا معولا عليه لمن يقبله على علاته ومن يتناوله ببعض التنقيح والتعقيب.

ورأس هذه المدرسة هو سقراط 469-399ق.م أستاذ أفلاطون، وأسبق القائلين في القدم برد العقيدة والعبادة إلى الضمير.

وقد كان سقراط من أصحاب الهواتف الخفية، وكان يستمع إلى هاتف يخيل إليه أنه يلازمه ويوحي إليه وينفخ في روعه بما يلهمه الرشد والصواب.

ولكنه لم ينصرف إلى مباحث ما وراء الطبيعة كانصرافه إلى مباحث الأخلاق والسياسة وقواعد المعرفة والثقافة النفسية، فكان قصارى ما أثر عنه من الآراء في مسائل العقيدة أنه يؤمن بخلود الروح وسلامتها من الفساد مع الجسد بعد الموت، وأنها ترجع إلى معدنها الأول من الصفاء المنزه عن التجسيد والتركيب، وكان يتكلم عن الآلهة تارة وعن الإله تارة أخرى، إلا أنه ينزهها جميعا عن تلك الخلائق البشرية التي تعزى إليها في قصص الرواة وأساطير الشعراء، ويؤمن برعايتها للبشر وعكوفها على الخير والسعادة، وينعي على الذين يحسبون العبادة قائمة على القرابين والضحايا وذبائح الماشية، ولا يرى الإنسان عبادة مقبولة إذا خلا من خلوص النية وصفاء الضمير.

ولعله قد أسس قواعد البحث والمنطق بتعويده تلاميذه أن يستخلصوا الحدود والتعريفات من المشاهدات والمحسوسات، وأن يجعلوا هذه الحدود أساسا للقياس وترتيب النتائج من المقدمات.

ولا شك أن هذه الحدود قد وجهت المفكرين بعده إلى الفصل بين خصائص الأشياء ومقوماتها، وكان أرسطو يتوخاها في تقسيماته المنطقية وتطبيقاته الفلسفية، وبها أقام ذلك السد الحائل بين جميع خصائص العقل وجميع خصائص المادة الأولية أو الهيولى، فكان وضع الحد عندهم أهم من تقرير الجوامع والمقاربات. •••

وخلفه تلميذه أفلاطون 427-437ق.م فتبعه في مباحث الأخلاق والسياسة والثقافة النفسية، وتبع فيثاغوراس في العقائد الروحية ومزج الفلسفة بالرياضة والدين.

ولو لم يكن أفلاطون وثني البيئة لكان أرفع الإلهيين تنزيها للوحدانية، ولكن البيئة الوثنية غلبته على تفكيره بحكم العادة وتواتر المحسوسات، فأدخل في عقيدته أربابا وأنصاف أرباب لا محل لها في ديانات التوحيد، ولا سيما عند الفلاسفة والموحدين.

فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقة العقل المطلق وطبقة المادة الأولية أو الهيولى

Hule .

والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولى.

وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولى.

وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب وبعضها أنصاف أرباب وبعضها نفوس بشرية، وقد ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة، فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق لتوسطها بين الإله القادر والهيولى العاجزة، فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين.

وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع؛ لأنها تتغير وتتلون وتتراءى للحس على أشكال وأوضاع لا تصمد على حال.

وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره، وفي العقل المجرد تستقر الموجودات «الصحائح» أو المثل كما سميت في الكتب العربية، وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد.

هذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يتلبس بالمادة أو الهيولى، فكل شجرة - مثلا - فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية، فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها؟ هي في عقل الله منذ القدم، وكل ما تلبس بالمادة من خصائص الشجرية فهو محاكاة لذلك المثل الأعلى.

وبقاء هذه الموجودات هو أيضا محاكاة لبقاء الله.

فبقاء الله بقاء أبدي لا أول له ولا آخر ولا تحول فيه ولا تقلب، ولا تعرض له الزيادة ولا النقصان.

أما بقاء هذه الموجودات فهو بقاء في الزمان، والزمان مخلوق من حركة الأفلاك، فهو مقياس لبقاء المخلوقات وليس بمقياس لبقاء الخالق، وإنما شاء الله بجوده ورحمته أن يعطي الموجودات نصيبها من البقاء فأعطاها الزمان، وهو محاكاة للأبد السرمدي الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، كما أن الموجودات المحسوسة محاكاة للموجودات المثالية التي يعقلها الله وتخرجها أنصاف الأرباب إلى حيز الوجود، فتنقص؛ لأن أنصاف الأرباب لا تعقلها كما يعقلها الله؛ ولأن التلبس بالمادة يحيطها بالحدود وينضح عليها من عوامل الفساد.

والعقل البشري يعلو فيدرك الحقائق المجردة، ويهبط فيدرك المحسوسات بالتجربة والمشاهدة، ومن أمثلة الحقائق التي تدرك بغير تجربة حسية حقائق الرياضة العليا، فإن الله مهندس، وأحكامه هي الهندسة القائمة على نسب الأعداد المجردة، ومعرفتها معرفة عقلية يدركها الإنسان بصفاء القريحة، وربما كانت هذه النسب أو الأعداد مرادفة للمثل العليا أو للصحائح في فلسفة أفلاطون، ولا سيما ما ذكره عنها في أيامه الأخيرة، ورجع به إلى فيثاغوراس.

وقد رجع أفلاطون إلى فيثاغوراس في القول بتناسخ الأرواح وتجدد الآجال على حسب الحسنات والسيئات.

فالنفس البشرية إذا استلهمت القدرة من العقل الإلهي تغلبت على عجز المادة والجسد وصعدت إلى معدنها الأول، فخلصت إلى عالم البقاء الذي لا يشوبه فساد، ولكنها إذا رزحت بثقل المادة واستسلمت لعجزها ونسيت قدرتها على مكافحتها هبطت من جسد إلى جسد أحقر منه وأدنى، فكانت في جسم حيوان بعد أن كانت في جسم إنسان، وانحدرت من حيوان كريم إلى حشرة لئيمة، حتى تفيق من غشيتها وتستأنف في عالم العقل المجرد سيرتها الأولى.

فالهيولى مقاومة للعقل المجرد وليست موجودة بمشيئته من العدم، ولعل أفلاطون لم يحاول أن يردها إلى العدم، أو يقول بوجودها من العدم؛ لأنها كانت حقيقة واقعة في رأي سابقيه من فلاسفة اليونان، ولأنها ساعدته على تعليل النقص والشر والألم، فوقف بها بين الكمال المطلق الذي ينبغي للإله الأعظم، وبين عوارض القصور التي تقترن بغيره من الموجودات. •••

وقام بعد أفلاطون تلميذه العظيم «أرسطو» فتوسع فيما بعد الطبيعة توسعا لم يسبق إليه بين فلاسفة الأوائل، ووضع للجدل معياره الذي سمي بعد ذلك بعلم المنطق، وفصل بين الحدود فبالغ أحيانا في الفصل بينها، ولكنه أقام القواعد الأولى على أساس صحيح.

والله عند أرسطو هو العلة الأولى أو المحرك الأول.

فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولا بد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه، وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محرك لا يتحرك؛ لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية.

وهذا المحرك الذي لا يتحرك لا بد أن يكون سرمدا لا أول له ولا آخر، وأن يكون كاملا منزها عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مستغنيا بوجوده عن كل موجود.

وهذا المحرك الأول سابق للعالم في وجوده سبق العلة لا سبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني؛ لأن الزمان حركة العالم، فهو لا يسبقه، أو كما قال: «لا يخلق العالم في زمان.»

وعلى هذا يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارب اليقين، إلا أنه يقرر في كتاب «الجدل» أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان.

وإجمال براهينه في هذه القضية أن إحداث العالم يستلزم تغييرا في إرادة الله والله منزه عن الغير، فهو إذا أحدث العالم فإنما يحدثه ليبقى جل جلاله كما كان، أو يحدثه لما هو أفضل، أو يحدثه لما هو مفضول، وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حق الله، فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان فذاك عبث والله منزه عن العبث، وإذا أحدثه ليصبح أفضل مما كان فلا محل للزيادة على كماله، وإذا أحدثه ليصبح مفضولا فذلك نقص يتنزه عنه الكمال.

وإذا كانت إرادة الله قديمة لا تتغير - فوجود العالم ينبغي أن يكون قديما كإرادة الله؛ لأن إرادة الله هي علة وجود العالم، وليست هذه العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها، فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب لها غيره.

فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئا ثم يتأخر إنجازه، لنقص الوسيلة أو لعارض طارئ أو لعدول عن الإرادة، وكل ذلك ممتنع في حق الله.

وقد أفرط أرسطو في هذا القياس حتى قال: إن الله جل وعلا لا يعلم الموجودات لأنها أقل من أن يعلمها.

وإنما يعقل الله أفضل المعقولات، وليس أفضل من ذاته، فهو يعقل ذاته، وهو هو العاقل والعقل والمعقول، وذلك أفضل ما يكون.

والعقل بالنسبة إلى الله يخالف العقل بالنسبة إلى غيره من الموجودات الفانية، فإن الإنسان يعقل الجزئيات بعد وقوعها ثم يعقل الكليات بعد استقصاء الجزئيات، ويلزمه ذلك لأنه يعلم بعد جهل ويتوقف علمه على المعلوم، وليس علم الله متوقفا على ما عداه.

وكل صفة من صفات الله فهي تتعلق به ولا تتعلق بغيره، وهي قائمة به ولا تقوم على غيره، ومن هذه الصفات الإرادة والعلم كما تقدم، ومنها الكرم والرحمة والخير والعدل والحكمة وسائر صفات الكمال.

فالله لا يريد العالم؛ لأنه لا يحتاج إليه.

ولكن العالم يريد الله؛ لأنه متوقف عليه.

ويسأل السائل: إذن كيف يكون هذا التوقف إن لم يكن بعمل من أعمال المشيئة الإلهية في الجملة والتفصيل؟

وجواب أرسطو على هذا السؤال أنه يكون بسعي الناقص إلى طلب الكمال، أو بسعي الموجودات إلى التشبه بعلتها الأولى، فالله أعطاها العقل، والعقل يبعث فيها الشوق إلى مصدرها الأول. فتتحرك وتعلو بالحركة، أو تكسب في كل حركة صورة أرفع من صورتها، وحظا من الكمال أرفع من حظها، تقربا إلى الصورة التي لا تشوبها شائبة من عجز المادة أو الهيولى، وهي الصورة السرمدية الكاملة: صورة الله. •••

ولا يفهم معنى هذا الارتفاع إلا إذا فهم معنى الصورة في مذهب أرسطو فالصورة في مذهبه هي حقيقة الشيء وماهيته التي يقوم بها وجوده، وليست هي شكله البادي للعين أو تمثاله الملموس باليدين.

فصورة العصفور هي حقيقته التي يكون بها عصفورا، ولا يكون غير ذلك من الطيور أو الأحياء على العموم.

وصورة الدرهم هي جوهره الذي يميزه من سائر قطع الفضة وسائر قطع النقد ويجعله درهما وتزول عنه «الدرهمية» إذا زال.

ولا يخلو موجود في العالم من الصورة.

فكل موجود فهو صورة ومادة أو «هيولى.»

وتترقى الموجودات في شرف الوجود كلما عظم نصيبها من الصورة وقل نصيبها من الهيولى.

فالموجودات الخسيسة يوشك أن تكون هيولى محضا خالية من كل صورة، فلا فرق بين جزء وجزء ولا بين فرد وآخر من الجنس نفسه.

وكلما ارتقت في سلم الوجود زاد نصيبها من الصورة المميزة وقل نصيبها من الهيولى المتشابهة، وربما أصبحت صورة جسم مادة لجسم آخر، كالورق الذي هو صورة مميزة لبعض الموجودات وهو في الوقت نفسه مادة للكتاب.

وأعلى الموجودات على هذا القياس هو الله؛ لأنه صورة محض لا تشوبه المادة، ومعنى مجرد لا يقوم في جسد.

وأخس الموجودات جميعا هو الهيولى، وهي لم توجد قط منعزلة عن صورة من الصور، وإذا وجدت منعزلة عن الصورة فهي وجود بالقوة أي وجود لم يتحقق بالفعل ولا يزال في انتظار التحقيق.

والحركة هي التي تحققه.

والحركة هي التي ترتقي به من صورة إلى صورة.

ولما كان الله هو المحرك الأول كما تقدم فهو موجد العالم على هذا الاعتبار، وهو قبلته التي يرتقي إليها، شوقا إلى مصدره منها.

وهذه هي الصلة كلها بين الله والعالم: فلا ينسب إلى الله في مذهب أرسطو أنه يهتم بالعالم أو يفكر فيه؛ لأنه تفكير فيما دونه أو تفكير لا يليق بكماله، ولا يعقل الله جل وعلا إلا أشرف معقول، وهو ذاته دون سواها.

وهذا هو الخطأ الذي جاء من الغلو في مذهب أرسطو: تناوله الحكماء الدينيون فلم ينكروا المقدمات ولكنهم أنكروا النتيجة التي تأدى إليها أرسطو من مقدماته، فقالوا: إن الله لا يعقل إلا أشرف معقول. نعم لا جدال في ذلك، ولكن أشرف معقول هو المعقول الذي يتحقق به كمال صفاته من القدرة والعلم والرحمة والجود، وإنما يتحقق جوده بإيجاد المخلوقات، ويتحقق علمه بنفي الجهل بها، وتتحقق رحمته برعايتها وتهذيبها. أما كيف يكون ذلك فالبحث فيه هو علة الخطأ في جميع تلك الفروض والأقيسة؛ لأنه سبحانه وتعالى جل عن الشبيه، فليس كمثله شيء، وليست أعمالنا كأعماله على فرض من الفروض.

ويقول أرسطو بوجود الروح ولكنه لا يقول ببقاء الروح الفردية بعد الموت، فالروح من عالم العقل، والعقل واحد في جميع الأفراد، وهم إذا اختلفوا بالأذواق الجسدية لم يختلفوا بالمدركات العقلية، فلا اختلاف بين إنسانين في إدراك الحقائق المجردة كالرياضة والمنطق وما جرى مجراها، ومؤدى هذا عند أرسطو أن العقل المجرد لا فردية فيه، وأن الروح تعود إلى العقل العام بعد فراقها للجسد، فلا فردية لها بعد الموت، ولكنها لا تفنى ولا تقبل الفناء. •••

ذلك أوجز تلخيص مستطاع لمذهب المدرسة الأثينية في الحكمة الإلهية، وقد توخينا فيه ما يكفي لتقدير خطوتها في هذه المرحلة الإنسانية الخالدة، فليس يدخل في موضوع هذا الكتاب تلخيص آرائها في غير فكرة الإيمان بالله.

ولعلنا نقدر هذه الخطوة حق قدرها إذا قلنا: إن المدرسة الأثينية عرضت على الفهم ما أخذته من إيمان الأولين، فنقلت البناء من أساس الإيمان إلى أساس البحث والقياس، وإن موقفها من المادة كان كموقف التسليم «بالأمر الواقع» كما يقولون في لغة السياسة؛ لأنها لم تقل بقدم العالم إنكارا لوجود العقل المستقل كما أنكره الماديون في العصور التالية، ولكنها قالت بقدم العالم رأيا لأنها وجدته ماثلا أمامها حسا، فلم تستطع أن تقاوم الحس في الماضي كما لم تستطع أن تقاومه في الحال.

المسيحية

لما ولد المسيح عليه السلام - والأرجح أنه ولد قبل التاريخ المشهور بأربع سنوات - كان كل ما في الشرق ينبئ برسالة مرتقبة واعتقاد جديد.

كان اليهود يترقبون المسيح المنتظر على رأس الألف الخامسة للخليقة، وهي عندهم مبدأ التقويم؛ لأن الاعتقاد العام كما قدمنا في تاريخ فارس وما بين النهرين كان يتجه إلى انتظار الخلاص في مطلع كل ألف سنة على يد رسول من السماء.

فجاش الأردن وما حوله بدعوة يحيى بن زكريا أو يوحنا المغتسل المشهور بالمعمدان، وراح هذا النبي يدعوهم إلى التوبة والاغتسال من الذنوب، ويرمز إلى التطهر من الدنس بالتطهر في بحر الأردن على يديه، ويبشرهم أو ينذرهم بقرب «ملكوت الله» أو ملكوت السماء، وهو الملكوت الموعود منذ قرون.

وكان اليهود قد فهموا «ملكوت الله» على معنى غير الذي فهموه وتوارثوه من أيام السبي وزوال مملكة داود وسليمان.

فقد كانوا ينتظرون ملكا «مسيحا» من قبيل ملوكهم الذين كانوا يمسحونهم بالزيت المقدس ويسمونهم من أجل ذلك بمسحاء الرب أو المسحاء.

وكانوا يترقبون رجعة الدولة على يد فاتح ظافر من أبناء داود يجرد الكتائب ويجتاح القلاع والدساكر، ويقمع أعداءهم بالنار والحديد.

وتجدد رجاؤهم في مسيح من هذا القبيل بعد سقوط أعدائهم الأقوياء وذهاب دولة البابليين والمصريين، فلما تطاول الزمن ووقعت بلادهم في قبضة الدولة الرومانية - وهي في قوتها وعجز اليهود عن مقاومتها لا تقل في الدولتين الذاهبتين - يئسوا من الخلاص على أيدي الفاتحين الظافرين وتحولوا إلى الرجاء في قيام مسيح غير مسحاء العروش والتيجان، فترقبوه مسيحا في عالم الروح، وعلم الصالحون منهم أن الخلاص المنتظر إنما هو خلاص النفوس والضمائر بالتوبة والتطهير.

وكان أنبياؤهم قد بشروا بذلك المسيح قبل عصر الميلاد ببضعة قرون، فإذا هم يتدرجون من وصفه بالقوة والبأس إلى وصفه بالرحمة والحنان، ويتمثلونه وديعا رضيا يتجافى صهوات الخيل ويمتطي في موكبه حمارا ابن أتان.

هذا في نطاق الديانة الإسرائيلية.

أما في نطاق البحث والحكمة فإن الفلسفة كانت في ذلك العصر قد أوفت على غايتها، وأطلعت أعظم أعلامها وأكبر مدارسها، وشاعت في البلاد الفينيقية على الخصوص؛ لأن هذه البلاد كانت منشأ الرواقيين السابقين وكانت على اتصال دائم بآسيا الصغرى من جهة وبالإسكندرية من جهة أخرى، وهي يومئذ قبلة الفلاسفة والحكماء.

ومن هؤلاء الفلاسفة من بشر بالكلمة الإلهية وقال إن هذه الكلمة - ويعني بها العقل الإلهي - هي مبعث كل حركة ومصدر كل وجود.

ومنهم من قال إن الحب هو أصل جميع الموجودات ومساك جميع الأكوان، ومنهم من وعظ بالنسك والعفة وأوصى بالشفقة على الإنسان والحيوان وحرم ذبحه وزعم له روحا كانت تعقل في حين مضى وستعود إلى العقل بعد حين.

وليس أدل على تهيؤ الجو للرسالة الجديدة من التمهيد لها في نطاق الفلسفة ونطاق الديانة في وقت واحد.

فكانت دعوة «يوحنا المعمدان» تقابلها دعوة فيلون الفيلسوف الإلهي الذي ولد بالأسكندرية قبل مولد السيد المسيح بنحو عشرين سنة، وكان فيلون يجمع حكمة العصر من جميع أطرافها؛ لأنه كان يهوديا محيطا بثقافة قومه وفيلسوفا محيطا بمذاهب الفلسفة اليونانية، ووطنيا مصريا محيطا بالحكمة الدينية التي نبعت من معين التاريخ المصري القديم، وامتزجت بالعقائد السرية الأخرى في بلاد الرومان واليونان وآسيا الصغرى، وأهمها عقيدة إيزيس وعقيدة أوزيريس سرابيس التي تأسست بالإسكندرية وتفرعت في أثينا وبومبي ورومة وبعض الموانئ الآسيوية، وكانت لهذه الديانة مراسم خفية يترقى فيها المريد على أيدي الكهان والرؤساء في المحاريب السرية، وأول هذه المراسم صلاة القبول - التطهير - أو هي صلاة البعث التي يتقدم إليها المريد، كأنه ميت بالروح يطلب الحياة بالروح أو يطلب الخلاص من أرهاق الجسد وخبائث الشهوات، ويعتبر بعدها من الواصلين إلى حظيرة الرضوان.

وكان لتفسير هذه الرموز أثر في تفسير فيلون لرموز الديانة الإسرائيلية، فتجاور النصوص والمراسم إلى ما وراءها من الدلالات الروحية كما تكشفت له على أضواء الفلسفة اليونانية، ووصل من ثم إلى الإيمان بالعقل الإلهي أو الكلمة

Logos

كأنها «ذات» لها صفات الذات الإلهية.

بل وجد من وعاظ بني إسرائيل أنفسهم قبيل عصر المسيح من مزج الأقاويل اليونانية بالعقيدة الإسرائيلية، فكان أصحاب الرؤى في كتب أخنوخ يعلمون تلاميذهم أن الحكمة خلقت الإنسان من سبعة عناصر، فخلقت اللحم من التراب والدم من الندى والبصر من نور الشمس والعظام من الحجارة والذكاء من السحب والملائكة، والعروق من العشب، والروح من أنفاس الله، وإن خلق الأرواح سابق لخلق الدنيا بأرضها وسمائها؛ لأنها عنصر خالد لا يزول. •••

في هذا الجو المتطلع إلى الرسالة الروحية ولد السيد المسيح صلوات الله عليه، وكان يستمع العظات من يوحنا المعمدان ويتقبل «العمادة» من يديه، فلما قتل يوحنا لم يرهبه مصرعه الأليم، ونهض بأمانة الدعوة بعده في بلاد الجليل ثم في بيت المقدس، وفي الهيكل الأكبر معقل الأحبار والكهان وعاصمة «الدولة الدينية» في بني إسرائيل.

وكانت بشارته أعظم فتح في عالم الروح؛ لأنها نقلت العبادة من المظاهر والمراسم إلى الحقائق الأبدية، أو نقلتها من عالم الحس إلى عالم الضمير.

فلم ينتظر ملكوت الله في حادث من الحوادث الدنيوية الكبرى أو الصغرى، بل علم الناس أن ملكوت الله قائم في ضمائرهم وموجود في كل حقبة وكل مكان: «ولا يأتي على موعد فرتقب، ولا يقولون هو ذا هنا أو هو ذا هناك؛ لأن ملكوت الله فيكم.»

ولم يشهد التاريخ قبل السيد المسيح رسولا رفع الضمير الإنساني كما رفعه، ورد إليه العقيدة كلها كما ردها إليه.

فقد جعله كفؤا للعالم بأسره بل يزيد عليه؛ لأن من ربح العالم وفقد ضميره فهو مغبون في هذه الصفقة الخاسرة. «وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، وماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟»

والطهر كل الطهر في نقاء الضمير، فمناط الخير كله فيه ومرجع اليقين كله إليه: «فليس شيء من خارج الإنسان يدنسه، بل ما يخرج من الإنسان هو الذي يدنس الإنسان.»

وهناك حياته وبقاؤه : «فليس حياته من أمواله ...»

وهناك قوامه وطعامه: «فليس بالخبز وحده يحيا ... بل بكل كلمة من كلمات الله ...» و«... الحياة أفضل من الطعام.»

وكان ينعي على القراء والعاكفين على التلاوات ومراسم العبادة فرط الولع بظواهر الأفعال دون حقائق الإيمان، ويقول لهم: «نقوا الكأس من داخلها» فظاهرها لا يضير ما فيها.

وكان ينكر كل ما يراد به الظاهر ولا ينبعث من أعماق الوجدان، فلا إحسان عنده لمن يتراءى بالإحسان؛ لأنه تاجر أخذ ربحه، فلا حق له عند الله: «احترزوا من صدقة تصنعونها أمام الناس، وإلا فلا أجر لكم عند أبيكم الذي في السموات، وإذا بذلت الصدقة فلا تنفخ أمامك بالأبواق كما يفعل المراءون تفاخرا بين الناس، فالحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم، فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك، فأبوك الذي يراك في الخفاء يجزيك في العلانية.»

وكل شيء في عالم الحس ينقاد لقوة الضمير: «فلو كان لكم إيمان كحبة خردل لأمرتم هذه الشجرة أن تخرج من منبتها وتنغرس في ماء البحر فتطيع.»

وعلى تبشيره بالرحمة والمحبة لم يكن ينكص عن الثورة في عالم الروح؛ لأنها هي الثورة التي تستحق أن تثار: «جئت لألقي نارا فماذا علي لو اضطرمت النار؟»

فجانب الضمير هو الجانب الذي توجهت إليه رسالة السيد المسيح، ورعاية الله لروح الإنسان هي الملاذ الذي رأى الناس منصرفين عنه فعاد بهم إليه.

وكانوا يؤمنون بالله الخالق وبالله الذي ينزل عليهم الشرائع ويحاسبهم على الطاعة والعصيان، ولكنهم نسوا رعاية الله ولم يريدوا أن يحبوه كما أرادوا أن يطيعوه، فعلمهم أن الله محبة، وأن أقرب الناس إلى الله من أحب الله وأحب خلق الله، ومنهم المطرودون والعصاة، ولا يستحق غفرانه من لم يتعلم كيف يغفر للمسيئين إليه: «... إن أخطأ إليك أخوك فوبخه، وإن تاب فاغفر له، وإن أخطأ إليك سبعا في اليوم وتاب إليك سبعا في اليوم فاقبل توبته واغفر له.»

وقد وجد عند بني إسرائيل كفاية وفوق الكفاية من كلامهم عن إله الشرائع وإله الخلق وإله هذا الشعب من الشعوب دون سائر بني الإنسان، فذكرهم بالله الذي يرعاهم فوق رعاية الأب الرحيم، وعليهم أن يثقوا به فوق الثقة بسعيهم في طلب المال والحيلة في تحصيل المعاش: «أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن، وأبوكم السماوي يقوتها ... ألستم أنتم أحرى بالتفضيل عليها؟ من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو وهي لا تتعب ولا تغزل، وسليمان في كل مجده لا يلبس كواحدة فيها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله ذلك اللباس أفليس أحرى أن يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟!»

وعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم قول السيد المسيح حين قال: «ما جئت لأنقض على الناموس بل لأكمله»، وحين جاءوه بالزانية فقال لهم: «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر»، فإنه لم يأت بإلغاء الشريعة ولا بإسقاط الجزاء، ولكنه نقل الإيمان بالله من الحرف إلى المعنى، ومن القشور إلى اللباب، ومن ظواهر الرياء إلى حقائق الخير الذي لا رقابة عليه لغير الضمير، ورأى عند اليهود ما هو حسبهم من شرائع الأنبياء وشرائع الرومان فقال لهم: «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وذكرهم بجانب الرحمة والإحسان وقد نسوه، ولم يذكروا غير جانب الغضب والقصاص.

وقد أشار السيد المسيح إلى نفسه بتعريفات كثيرة رواها عنه كتاب الأناجيل، فكان إذا تكلم عن نفسه قال: «أنا ابن الإنسان» أو: «أنا نور العالم» أو: «أنا خبز الحياة» أو: «أنا الطريق والحق والحياة» أو: «أنا القيامة والحياة» أو: «أنا الراعي الصالح، وأنا المعلم والسيد» أو: «أنا الكرمة الحقيقية.» ولم يذكر نفسه باسم المسيح ولكنه بارك الحواري بطرس حين سماه به، وقال له إنه اهتدى إلى حقيقته بنفحة من نفحات الروح.

ولم تكتب هذه الأناجيل في عصر السيد المسيح بل بعد عصره بجيلين، ولكن مواضع الاتفاق فيها تدل على رسالة واحدة صدرت من وحي واحد، ويؤكد لنا وحدة هذه الرسالة أن فكرة الله فيها لا تشبهها فكرة أخرى في ديانات ذلك العصر الكتابية أو غير الكتابية، فقد كانت هناك ديانات طافحة بالشعائر الخفية والمراسم التقليدية، وكانت هناك ديانات تفهم العلاقة بين الله والإنسان كأنها ضرب من علاقة الحاكم بالمحكوم أو الصانع بالمصنوع أو العلة بالمعلول، ولكن الفكرة المسيحية التي قررتها الأقوال المتفقة في الأناجيل تتميز كل التميز عن مجمل الأفكار الإسرائيلية أو الأفكار الهندية والمجوسية أو أفكار المؤمنين بعقائد الفلسفة أو العقائد السرية، فالعلاقة بين الإنسان وخالقه في بشارة السيد المسيح هي العلاقة بين الروح ومصدرها وبين الحياة وينبوعها، بين المكفول وكافله، وبين الرعية وراعيها، ولم تتفق هذه الصفة في ديانة واحدة من ديانات ذلك العصر كما اتفقت في الديانة المسيحية، وهي في رأينا علامة جوهرية لا تقل في قوتها عن أسانيد التاريخ التي تبطل شكوك المترددين في وجود السيد المسيح.

وإنما طرأت الشبهة على أذهان أولئك المترددين من تماثل بعض الشعائر على النحو الذي أجملناه في نقدنا لكتاب إميل لدفج عن السيد المسيح حيث نقول: إن الذي يرددونه أكثر من سواه أن كل شعيرة في المسيحية قد كانت معروفة في ديانات كثيرة سبقتها، حتى تاريخ الميلاد وتاريخ الآلام قبل الصليب، فاليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر الذي يحتفل فيه بمولد المسيح كان هو يوم الاحتفال بمولد الشمس في العبادة المثرية؛ إذ كان الأقدمون يخطئون في الحساب الفلكي إلى عهد جوليان، فيعتبرون هذا اليوم مبدأ الانقلاب الشمسي بدلا من اليوم الحادي والعشرين في الحساب الحديث، وقد اعترضت الكنيسة الشرقية على اختيار اليوم الخامس والعشرين لهذا السبب، وفضلت أن تختار لعيد الميلاد اليوم السادس من شهر يناير الذي «تعمد» فيه السيد المسيح، على أن هذا اليوم أيضا كان عيد الإله ديونيسيس عند اليونان وبعض سكان آسيا الصغرى، وكان قبل ذلك عيد أوزيريس عند المصريين، ولا يزال متخلفا في العادات المصرية إلى اليوم، ففي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة - وكان يوافق السادس من شهر يناير في التاريخ القديم - كان المصريون يحتفلون بعيد إلههم القديم، ولا يزالون يحتفلون به في عصرنا هذا باسم عيد الغطاس، وقد اتخذت المسيحية اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس تذكارا لآلام السيد المسيح قبل الصلب، وهذا هو الموعد نفسه الذي اتخذه الرومان قبل المسيح لتذكار آلام الإله أتيس إله الرعاة المولود من نانا العذراء بغير ملامسة بشرية، والذي جب نفسه في هذا الموعد ونزف دمه في جذور شجرة الصنوبر المقدسة.

وقد كان اسم العذراء مريم بصيغه المختلفة اسما مختارا لأمهات كثير من الآلهة والقديسين مثل أدونيس ابن ميرة وهرمز ابن مايا وفيروش ابن مريانا وموسى ابن مريم وبوذا ابن مايا وكرشنا ابن مارتالا، وهكذا بحيث يظن أن هذا الاسم شائع لا يدل على ذات معينة.

ومما يجري في هذا المجرى أن تماثيل إيزيس وهي تحمل ابنها حوريس كانت رمزا في الكنائس الأولى للعذراء مريم وابنها المسيح، ولما كانت إيزيس إلهة البحر وكان اسمها عند الرومان كوكب البحر أي ستيلا ماريس

Stella Maris

فليس يبعد أن يكون لهذا الشبه علاقة بالتشابه في الأسماء، وقد رويت روايات كثيرة عن الآلهة والأبطال المولودين من الأمهات العذراوات قبل المسيح، فكان بعض الفرس يعتقدون أن زرادشت ولد من أم عذراء، وكذلك كان الرومان يعتقدون في أتيس والمصريون يعتقدون في رع والصينيون يعتقدون في فوهي ولاو، وقال فلوطرخس في رسالته عن إيزيس وأوزيريس إن الحمل يحصل في هذه الأحوال من الأذن وهو ما يفسر صورة العذراء في القرون الوسطى؛ إذ كانوا يرسمونها وشعاع من النور يتجه إلى إحدى أذنيها. وقال ترتوليان إن شعاعا سماويا هبط على العذراء فحملت بالسيد المسيح. أما التفكير بالموت فكثير في قصص الديانات القديمة، وأقربه إلى مواطن المسيحية عبادة تموز الذي كانوا يحتفلون بموته وبعثه في أنطاكية، وسرت عادة البكاء عليه إلى النساء اليهوديات فكن يندبنه على باب الهيكل وأنبهن على ذلك النبي حزقيال، وجاء في التلمود أن رجلا يسمى يسوع قتل وعلق على شجرة قبل الميلاد بمائة سنة.

والعشاء الرباني كان معروفا في عبادة مترا على الطريقة التي عرف بها في المسيحية ، بل الخبز الذي يتناوله عباد مترا في ذلك العشاء يصنع على شكل الصليب، وقد أسف جوستن مارتر في سنة 140م لهذه المشابهة وعدها مكيدة شيطانية لتضليل المؤمنين.

والمعجزة الأولى للمسيح وهي تحويل الماء خمرا معروفة في عبادة ديونيس إله الخمر وإله الشمس، ومن حيواناته المقدسة الحمل والحمار، وعلى الحمار كان ركوبه حتى قيل إنه كان له حماران فجعلهما نجمين في السماء، وبهذا الرمز يرمز البابليون إلى مدار السرطان، فالخلط بين المسيح وديونيس في ركوب الأتان وتحويل الماء موضع نظر، ومثله الخلط بينهما في المذود الذي وضعا فيه عند الولادة كما جاء في إنجيل لوقا حيث قال: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينته الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود؛ إذ لم يكن لها موضع في المنزل.» أما الإحصاء في هذا التاريخ فلم يرد له أي ذكر في تراجم أوغسطس ولم تجر العادة قط في دولة الرومان أن يكلف الناس السفر من بلادهم إلى البلاد التي عاش فيها أجدادهم الأسبقون ليكتبوا أسماءهم هناك، فالرواية مستهدفة للملاحظة من عدة جهات.

ولم يتفق على المكان الذي ولد فيه المسيح كما لم يتفق على الزمان الذي ولد فيه، فمن قائل أنه ولد في الناصرة، ومن قائل أنه ولد في بيت لحم، والذين يقولون أنه ولد في بيت لحم يذهبون إلى هذا القول لتأييد النبوءة التي تنبئ بظهور المسيح من نسل داود، وهو في بيت لحم لا في الناصرة، وجاء في إنجيل متى أن يوسف النجار رأى في المنام أن هيرود الطاغية سيقتل كل طفل يولد في بيت لحم لذلك العام، مع أن هيرود مات في السنة الرابعة قبل الميلاد، ومع أن يوسفيوس المؤرخ لم يذكر خبر هذه المذبحة فيما أحصاه لهيرود من الآثام، وقد سبقت روايات كهذه عن النمرود وفرعون مصر وغيرهما من الأمراء الذين أنذرتهم النبوءات بظهور أعدائهم قبل مولدهم. فهي روايات لا تدل على شيء يعتمد على التاريخ ولم تكتب هي ولا كتب غيرها مما ورد في الأناجيل إلا بعد عهد المسيح بعشرات السنين. أما الذين عاصروه أو قاربوه غير التلاميذ فلم يذكروا عنه شيئا ولم يدونوا له خبرا، حتى عجب فوتيوس بطريق القسطنطينية حين قرأ في القرن التاسع تاريخ جستس الطبري المكتوب بعد المسيح ببضع سنوات فوجده غفلا من ذكره، وهو مولود حيث ولد المسيح في الجليل، ولم يشر بليني الأكبر بكلمة واحدة إلى الخوارق التي نسبت إليه، وهو كثير العناية بجمع الخوارق في تاريخه الطبيعي المؤلف بعد المسيح بثلاثين أو أربعين سنة. وثبت أن النسخ الصحيحة من تاريخ يوسفيوس المنتهي بالسنة الثالثة والتسعين بعد الميلاد خلو من الفقرتين المشار فيهما إلى المسيح على عجل واقتضاب، وأن هاتين الفقرتين مدسوستان على بعض النسخ في القرون الوسطى، ويقال مثل ذلك في كتب أخرى وردت فيها مثل هذه الإشارات المبهمة بصيغة لا تثبت على المضاهاة والتمحيص.

وقد جمعنا فيما تقدم جميع الملاحظات التي أوردها المتشككون في وجود السيد المسيح، وهي جديرة بالتمحيص لأنها وثيقة الصلة بأسانيد المقارنة بين الأديان، ويتوقف على تقرير قيمتها تقويم الكثرة الغالبة من تلك المقارنات.

وأول ما نرى أن أصحاب هذه الملاحظات قد نسوه وأغفلوه ولم يقدروا قيمته أن السيد المسيح هو صاحب الدين الذي كان أكثر الأديان نعيا على ظواهر المراسم والشعائر والنصوص، فمن الغريب أن يجعلوا تشابه المراسم والشعائر والنصوص مبطلا لوجود من أنكرها وأقام دعوته الكبرى على إنكارها.

وأغرب من هذا أن يتخذوا تشابه المراسم والأخبار دليلا على تلفيق تاريخ السيد المسيح، مع أن التواريخ جميعا حافلة بأسماء الأبطال المحققين الذين نسب إليهم كل عمل من نوع أعمالهم وكل خليقة من نوع خلائقهم، فإذا اشتهروا بالشجاعة رويت عنهم كل أخبار الشجعان، ما ثبت منها لهم وما لم يثبت منها إلا لغيرهم، وإذا اشتهروا بالفكاهة نسبت إليهم فكاهات المعروفين والمجهولين، ولا تزال تنسب إليهم على ممر السنين، وهكذا يصنع الرواة بأخبار كل مشهور سواء كانت شهرته بالمحمود أو بالمذموم من الصفات.

فإذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح فليس في هذا الاختلاط بدع ولا دليل قاطع على الإنكار، وقد قلنا في تعليقنا على تلك الملاحظات: إنه «لو كان اختلاط الرموز والشعائر من موجبات الشك في ظهور الرسل لوجب أن نشك في وجود النبي عليه السلام؛ لما في الإسلام من شعائر الحج التي أحياها على سنن العرب قبله، ولوجب أن نشك في وجود علي بن أبي طالب؛ لما أحاط به من أساطير بعض المذاهب الغالية، وفي مقدمتها انتظار الإمام أو المهدي أو المسيح، وهي عقيدة تتشابه فيها تلك المذاهب المسيحية والإسرائيلية ووثنية المجوس.»

ومما فات أصحاب الملاحظات المتقدمة أن آباء الكنائس الأولى لم يحتفلوا بتلك الأعياد وهم يجهلون تواريخها، ولكنهم بدأوا بالاحتفال بها لاعتبارهم أن إكرام السيد المسيح فيها أجدر بالمسيحيين من إكرام الشمس والكواكب وسائر الأرباب الوثنية، وكانوا يرون أتباع الكنيسة يندفعون إلى محافل الوثنيين في تلك الأيام فيصرفونهم عنها بإحياء المحافل التي تقابلها وتمجيد السيد المسيح فيها بديلا من تمجيد الأوثان، وعلى هذه السنة خصصوا يوم الأحد للعبادة لأنه كان يوم الشمس في ديانة عبادها الأقدمين، واسم هذا اليوم بالإنجليزية

Sunday

يدل على بقايا ذلك الدين المهجور.

وأقطع من هذا في استضعاف تلك الملاحظات أن روح المسيحية في إدراك فكرة الله هي روح متناسقة، تشف عن جوهر واحد لا يشبهه إدراك فكرة الله في عبادة من تلك العبادات.

فالإيمان بالله على تلك الصفة فتح جديد لرسالة السيد المسيح لم يسبقه إليها في اجتماع مقوماتها رسول من الكتابيين ولا غير الكتابيين، ولم تكن أجزاء مقتبسة من هنا وهناك، بل كانت كلا متجانسا من وحي واحد وطبيعة واحدة، وإن وجدت هذه الأجزاء متفرقة هنا وهناك قبل ذاك.

الإسلام

مضى على مولد السيد المسيح نحو ستة قرون قبل ظهور الإسلام، تشعبت في خلالها المذاهب المسيحية بين قائل بطبيعة واحدة للسيد المسيح وقائل بطبيعتين اثنتين: هما الإنسانية والإلهية، وبين مؤله للسيدة مريم ومنكر لهذا التأليه، وبين مفسر لبنوة السيد المسيح بأنه ابن الله ولكنها بنوة على المجاز بمعنى القرب والإيثار على سائر المخلوقات، وقائل بأن السيد المسيح هو ابن الله على الحقيقة التي يفهمها المؤمن على نحو يليق بالذات الإلهية.

وتسربت هذه المذاهب جميعا إلى الجزيرة العربية مقرونة بالبراهين الجدلية التي يستدل بها كل فريق على صحة تفسيره وبطلان تفسير معارضيه، وكان كثير من تلك البراهين مستمدا من المنطق ومذاهب حكماء اليونان، فإن أوريجين ونسطور وآريوس أصحاب الآراء الفلسفية واللاهوتية التي جاءت بها الفرق المختلفة كانوا من المطلعين على الفلسفة الإغريقية والملمين على التخصيص بآراء هيرقليطس وأفلاطون وأرسطو وزينون.

وقد عرف العرب أطرافا من هذه المذاهب بعد هجرة المهاجرين منهم إلى العراق وسورية وفلسطين، كما عرفوها بعد هجرة المهاجرين إلى بلادهم من رهبان تلك الأمم وتجارها وسائحيها، وهم غير قليلين.

وتسربت مذاهب اليهودية قبل ذلك إلى أنحاء الجزيرة العربية، ولم تزل تتسرب إليها بعد ظهور المسيحية واحتكاك اليهود بالنصارى في جوانب الدولة الرومانية، وكانت لليهود مذاهب في الدين تمتزج بالفلسفة حينا وبالتأويلات اللاهوتية حينا آخر، على مثال الامتزاج بين مذاهب المسيحية وأقوال الفلاسفة واللاهوتيين.

وكانت جزيرة العرب على اتصال لا ينقطع بالفرس ومن جاورهم من أمم المشرق ولا سيما في بلاد البحرين وبلاد اليمن على الشواطئ وفي داخل الصحراء العامرة، فنقل الفرس إلى تلك الأصقاع هياكل النار وعبادة الكواكب وغيرها من بقايا الديانة المجوسية.

ولم يتلق العرب النصرانية من مصدر واحد أو من مصدر الشمال دون غيره، فقد كانت للحبشة نصرانية ممزوجة بالوثنية التي تخلفت من عقائدها الأولى، وكان يهود الحبشة على شيء من الوثنية يختلط بعقائد المجوس وعقائد الأحباش والعرب الأقدمين.

ودان قليل من العرب بهذه الديانات على أوضاعها الكثيرة التي يندر فيها الإيمان بالوحدانية الخالصة وعقيدة التنزيه والتجريد. أما الأكثرون منهم فكانوا يعبدون الأسلاف في صور الأصنام أو الحجارة المقدسة، وكانوا يحافظون على هذه العبادة السلفية كدأب القبائل جميعا في المحافظة على كل تراث من الأسلاف ولكنهم كانوا يعرفون «الله» ويقولون أنهم يعبدون الأصنام ليتقربوا بها إلى الله.

فلما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية كان عليه أن يصحح أفكارا كثيرة لا فكرة واحدة عن الذات الإلهية، وكان عليه أن يجرد الفكرة الإلهية من أخلاط شتى من بقايا العبادات الأولى وزيادات المتنازعين على تأويل الديانات الكتابية.

فإذا كانت رسالة المسيحية أنها أول دين أقام العبادة على «الضمير الإنساني» وبشر الناس برحمة السماء - فرسالة الإسلام التي لا التباس فيها أنها أول دين تمم الفكرة الإلهية وصححها مما عرض لها في أطوار الديانات الغابرة.

فالفكرة الإلهية في الإسلام «فكرة تامة» لا يتغلب فيها جانب على جانب، ولا تسمح بعارض من عوارض الشرك والمشابهة، ولا تجعل لله مثيلا في الحس ولا في الضمير، بل له

المثل الأعلى

وليس كمثله شيء.

فالله وحده

لا شريك له ،

ولم يكن له شريك في الملك ،

فتعالى الله عما يشركون ،

سبحانه وتعالى عما يشركون .

والمسلمون هم الذين يقولون:

ما كان لنا أن نشرك بالله ،

ولن نشرك بربنا أحدا .

ويرفض الإسلام الأصنام على كل وضع من أوضاع التمثيل أو الرمز أو التقريب.

ولله المثل الأعلى من صفات الكمال جمعاء، وله الأسماء الحسنى، فلا تغلب فيه صفات القوة والقدرة على صفات الرحمة والمحبة، ولا تغلب فيه صفات الرحمة والمحبة على صفات القوة والقدرة، فهو قادر على كل شيء وهو عزيز ذو انتقام، وهو كذلك رحمن رحيم وغفور كريم، قد وسعت رحمته كل شيء، و

يختص برحمته من يشاء .

وهو الخلاق دون غيره و

هل من خالق غير الله .

فليس الإله في الإسلام مصدر النظام وكفى، ولا مصدر الحركة الأولى وكفى، ولكن

الله خالق كل شيء ،

وخلق كل شيء فقدره

و

إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ،

وهو بكل خلق عليم .

ومن صفات الله في الإسلام ما يعتبر ردا على «فكرة الله» في الفلسفة الأرسطية كما يعتبر ردا على أصحاب التأويل في الأديان الكتابية وغير الكتابية.

فالله عند أرسطو يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها، ويتنزه عن الإرادة؛ لأن الإرادة طلب في رأيه والله كمال لا يطلب شيئا غير ذاته، ويجل عن علم الكليات والجزئيات؛ لأنه يحسبها من علم العقول البشرية، ولا يعني بالخلق رحمة ولا قسوة؛ لأن الخلق أحرى أن يطلب الكمال بالسعي إليه.

ولكن الله في الإسلام

عالم الغيب والشهادة

و

لا يعزب عنه مثقال ذرة

وهو بكل خلق عليم

وما كنا عن الخلق غافلين ،

وسع كل شيء علما ،

ألا له الخلق والأمر ،

عليم بذات الصدور .

وهو كذلك مريد وفعال لما يريد.

وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان

وفي هذه الآية رد على يهود العرب بمناسبة خاصة تتعلق بالزكاة والصدقات كما جاء في أقوال بعض المفسرين، ولكنها ترد على كل من يغلون إرادة الله على وجه من الوجوه، ولا يبعد أن يكون في يهود الجزيرة من يشير إلى رواية من روايات الفلسفة الأرسطية بذلك المقال.

وقد أشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء فيه من سورة الحج

إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد

وأشار إلى الدهريين فجاء فيه من سورة الأنعام:

وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين

وجاء فيه من سورة الجاثية:

وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون .

فكانت فكرة الله في الإسلام هي الفكرة المتممة لأفكار كثيرة موزعة في هذه العقائد الدينية وفي المذاهب الفلسفية التي تدور عليها، ولهذا بلغت المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية، وتضمنت تصحيحا للضمائر وتصحيحا للعقول في تقرير ما ينبغي لكمال الله، بقسطاس الإيمان وقسطاس النظر والقياس.

ومن ثم كان الفكر الإنساني من وسائل الوصول إلى معرفة الله في الإسلام، وإن كانت الهداية كلها من الله:

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ،

وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله .

ومجمل ما يقال في عقيدة الذات الإلهية التي جاء بها الإسلام أن الذات الإلهية غاية ما يتصوره العقل البشري من الكمال في أشرف الصفات.

فالله هو

المثل الأعلى .

وهو الواحد الصمد الذي لا يحيط به الزمان والمكان وهو محيط بالزمان والمكان و

هو الأول والآخر والظاهر والباطن ،

وسع كرسيه السماوات والأرض ،

ألا إنه بكل شيء محيط .

وقد جاء الإسلام بالقول الفصل في مسألة البقاء والفناء، فالعقل لا يتصور للوجود الدائم والوجود الفاني صورة أقرب إلى الفهم من صورتهما في العقيدة الإسلامية؛ لأن العقل لا يتصور وجودين سرمديين، كلاهما غير مخلوق، أحدهما مجرد والآخر مادة، وهذا وذاك ليس لهما ابتداء وليس لهما انتهاء.

ولكنه يتصور وجودا أبديا يخلق وجودا زمانيا، أو يتصور وجودا يدوم ووجودا يبتدئ وينتهي في الزمان.

وقديما قال أفلاطون - وأصاب فيما قال - إن الزمان محاكاة للأبد؛ لأنه مخلوق والأبد غير مخلوق.

فبقاء المخلوقات بقاء في الزمن، وبقاء الخالق بقاء أبدي سرمدي لا يحده الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنها كلها من حدود الحركة والانتقال في تصور أبناء الفناء، ولا تجوز في حق الخالق السرمدي حركة ولا انتقال.

فالله هو

الحي الذي لا يموت ،

وهو الذي يحيي ويميت

و

كل شيء هالك إلا وجهه .

ولا بقاء على الدوام إلا لمن له الدوام ومنه الابتداء وإليه الانتهاء.

وقد تخيل بعض المتكلمين في الأديان أن هذا التنزيه البالغ يعزل الخالق عن المخلوقات، ويبعد المسافة بين الله والإنسان.

وإنه لوهم في الشعور وخطأ في التفكير.

لأن الكمال ليست له حدود، وكل ما ليست له حدود فلا عازل بينه وبين موجود، وفي القرآن الكريم:

ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ،

ونحن أقرب إليه من حبل الوريد .

ولا شك أن العالم كان في حاجة إلى هذه العقيدة كما كان في حاجة إلى العقيدة المسيحية من قبلها، وتلقى كلتيهما في أوانه المقدور .

فجاءه السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإلهية.

وجاءه محمد عليه السلام بصورة «تامة» في العقل والشعور.

وربما تلخصت المسيحية كلها في كلمة واحدة هي الحب.

وربما تلخص الإسلام في كلمة واحدة هي «الحق.»

ذلك بأن الله هو الحق ،

إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ،

فتعالى الله الملك الحق ،

قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل .

ومن ملاحظة الأوان في دعوات الأديان أن المسيحية دين «الحب» لم تأت بتشريع جديد، وأن الإسلام دين «الحق» لم يكن له مناص من التشريع.

فما كان الناس عند ظهور المسيح بحاجة إلى الشرائع والقوانين؛ لأن شرائع اليهود وقوانين الرومان كانت حسبهم في أمور المعاش كما يتطلبها ذلك الزمان، وإنما كانت آفتهم فرط الجمود على النصوص والمراءاة بالمظاهر والأشكال، فكانت حاجتهم إلى دين سماحة ودين إخلاص ومحبة، فبشرهم السيد المسيح بذلك الدين.

ولكن الإسلام ظهر وقد تداعى ملك الرومان وزال سلطان الشرائع الإسرائيلية، وكان ظهوره بين قبائل على الفطرة، لا تترك بغير تشريع في أمور الدنيا والدين يزعها بأحكامه في ظل الحكومة الجديدة، ويوافق أطوارها كلما تغيرت مواطنها ومواطن الداخلين في الدين الجديد، والعبرة بتأسيس المبدأ في حينه، ولم يكن عن تأسيس المبدأ في ذلك الحين من محيد.

وإذا بقي الإيمان بالحق فقد بقي أساس الشريعة لكل جيل، وفي كل حال.

الأديان بعد الفلسفة

(1) اليهودية بعد الفلسفة

تقدم اليهود في الزمن وتقدموا في دراسة الفلسفة اليونانية، وبلغ اختلاطهم بمذاهب الفلسفة أتمه في مدينة الإسكندرية قبيل الميلاد لأنها أصبحت مركز الثقافة في العالم المتحضر، بعد انتهاء عصر الفلسفة من أثينا وسائر بلاد الإغريق.

واليهود كما هو معلوم لا يتحولون عن عقائد آبائهم وأجدادهم وإن خالفت كل ما تعلموه ودرسوه ودرجوا على التفكير فيه؛ لأن عقيدتهم بالنسبة إليهم أكثر من عقيدة دينية: هي جنس ومعقل دفاع في وجه الأمم التي يعادونها وتعاديهم، فهم أحوج الناس إلى التوفيق بين العقيدة والفكرة لفهم الدين على النحو الذي يستبقي الصلة بينهم وبين أسلافهم ولا يقطع الصلة بينهم وبين الزمن الذي يعيشون فيه، فإن استبقاء هذه الصلة بينهم وبين الزمن لازم لهم مفروض عليهم إذ هم لا يتسلطون على العالم بقوة الحكم والغلبة، ولكنهم يستفيدون منه بالتطور والمجاراة وملابسة المطالب الدنيوية، فاستبقاء الصلة بينهم وبين أسلافهم واستبقاء الصلة بينهم وبين العالم ضرورتان تتساويان وتصبحان ضرورة واحدة: هي ضرورة الحياة.

فالمفكرون اليهود لا ينقطعون عن أصولهم كل الانقطاع ولا ينقطعون عن ثقافة العالم كل الانقطاع، ولا سيما الثقافة التي تدخل في اعتقاد الجماعات وتتأثر بها حركات الأمم ونزعات المسيطرين عليها.

وأقدم فلاسفة اليهود الذين أسسوا قنطرة الاتصال بين الدين والفلسفة هو ولا شك فيلون الإسكندري الذي ولد في السنة العشرين قبل الميلاد وتوفي بعد ذلك بنحو سبعين سنة، فإن بناء هذه القنطرة بالنسبة إليه ضرورة روحية لا فكاك منها، فضلا عن ضرورة الزمن الذي عاش فيه وضرورة البيئة التي اشتجرت فيها عقائد مصر وعقائد أبناء جنسه وفسلفة اليونان، بعد امتزاجها بالديانات السرية في مصر وسائر الأقطار الرومانية.

وقد تعلم فيلون من دينه أن الله ذات، وتعلم من الفلسفة اليونانية أن الله عقل مطلق مجرد من ملابسات المادة.

فلم يستطع أن يقبل الصفات والأنباء التي أسندت إلى الله في كتب اليهود بدلالتها الحرفية ونصوصها الظاهرة، ولم يستطع أن يجاري الفلاسفة في عزلهم بين الله ومخلوقاته ورفعهم عناية الله عن الاشتغال بأحوال هذه المخلوقات.

إلا أنه كان على اقتناع مكين بتنزيه الله عن صفات التشبيه والتجسيم، وكان يرى أن عقل الإنسان لن يستثبت من صفات الله شيئا غير أنه موجود، ولكنه في وجوده الكامل المطلق أعلى من أن تحده صفة تدركها العقول.

فكيف يتأتى الاتصال بين هذا الخالق وبين مخلوقاته في هذه الصور المادية؟

وكيف يفهم الصفات والأنباء التي أسندت إليه في كتب أنبياء اليهود؟

أما كتب الأنبياء فهو لا يرفضها ولكنه يقبلها على الرمز والمجاز، ويقول: إنها تنطوي على حقيقة أعمق من الحروف والنصوص يفهمها المستعدون لها على درجات.

وأما الاتصال بين الخالق والمادة فإنما يكون بوسيلة العقل أو الكلمة، وهي عنده تارة تقابل كلمة لوجوس

Logos

وتارة تقابل كلمة نوس

Nous

اليونانيتين.

فالعقل يصدر عن الله، والمادة تنقاد للعقل فتتحرك وتنتظم وتتعدد فيها طبقات المخلوقات.

وكان فيلون يرفض أقوال الرواقيين التي تشبه القول بوحدة الوجود، وتجعل الله من العالم والعالم من الله.

ولكنه كذلك كان يرفض مذهب أرسطو في تجريده الله عن العمل للمخلوقات وزعمه أن كمال الله يقتضي هذا التجريد.

قال: «إن بعضهم ممن فاق إعجابهم بالعالم إعجابهم بصانعه يقولون: إن العالم أبدي بغير بداية، وينسبون إلى الله نسبة خلت من التقوى والحق إذ يجردونه من العمل، وكان أحرى بهم أن يقفوا موقف الروعة أمام قدرته: قدرة الصانع والأب، ولا يتجاوزوا الحد في تعظيم العالم وتمجيده، وقد كان موسى الذي بلغ الذروة في الفلسفة واهتدى بوحي الله إلى أعمق أسرار الطبيعة يعلم أن الضرورة أوجبت أن يوجد في الكون سبب محرك ومادة لا حراك بها، وأن السبب المحرك هو العقل

Nous

أو هو عقل الكون الطهور الذي يعلو على الفضيلة والعلم، ويعلو على الخير نفسه وعلى الجمال نفسه، أما المادة التي لا حراك بها فليست لها روح حياة ولا طاقة لها بالحركة من عند ذاتها، ولكنها متى تحركت بالعقل واستمدت منه روح الحياة صارت إلى هذا الصنع المحكم العجيب المتجلي لنا في هذا العالم، وإن أولئك الذين يحسبون العالم بلا بداية لا يبصرون أنهم يقطعون بذلك الحسبان ألزم عنصر من مقومات الدين وهو الإيمان بالعناية الإلهية؛ لأن العقل ينبئنا أن الأب الخالق يعنى بما خلق ...»

وغني عن القول كذلك أن فيلون يرفض زعم الزاعمين أن الله يحتويه مكان أو زمان لأنه محيط بكل مكان وكل زمان، ويرفض زعم الزاعمين أن الله لا يستجيب للصلاة لأن الصلاة أصل من أصول العلاقة بين الإنسان والله، وعنده أن الله يستجيب دعاء «الكلمة» أو اللوجوس لهذه الموجودات الأرضية، وأن موسى عليه السلام هو اللوجوس الذي استجاب الله دعاءه في سيناء، وهو الذي خلص من شوائب المادة فلحق بالطبيعة الإلهية

Transmutatur in divinus .

قال: «إن الله أحد، ولكنه بقدرته خير وحاكم، فبالخير صنع العالم، وبالحكم يديره، وثمة شيء ثالث يجمع بين القدرتين وهو اللوجوس أو الكلمة؛ لأن الله - بالكلمة - يجود ويحكم ... والكلمة كانت في عقل الله قبل جميع الأشياء ... وهي متجلية في جميع الأشياء.» •••

وقد كان مذهب فيلون مبدأ ثورة دينية في بني إسرائيل، فتابعه أناس في التأويل والتفسير، وأحجم أناس عن كل تأويل وتفسير مشفقين على التراث القديم، وانتهى الخلاف إلى انشقاق حاسم بين القرائين وهم المتلزمون للنصوص وبين الربانيين الذين يجيزون تفسيرها والتوفيق بينها وبين مقررات العلم ومذاهب الحكمة، ولم يحدث ذلك إلا بعد تسعة قرون من عصر فيلون، أي بعد شيوع الفلسفة الإسلامية واستفاضة البحث في مسألة القضاء والقدر على الخصوص؛ لأنها هي المسألة التي استحكم عليها الخلاف بين القرائين القائلين بالقضاء والربانيين القائلين بالاختيار. •••

وقد نبغ بعد فيلون فلاسفة من اليهود يدخلون في أغراض الفلسفة العامة ولا يدخلون في أغراض هذا الفصل؛ لأنهم لم يشتغلوا بالتوفيق بين أحكام النصوص الكتابية وأحكام الفلسفة الإلهية، وليس بين فلاسفتهم الذين اشتغلوا بالتوفيق بين النص والعقل من هو أولى بالذكر في هذا المقام من موسى بن ميمون.

وكان مولد ابن ميمون في قرطبة 1135-1204، وصناعته الطب والتجارة، وقضى أيام نضجه وبحثه بين مصر وفلسطين في أشد أوقات الخلاف بين القرائين والربانيين على تأويل نصوص التوراة والتلمود، فأوشك أن ينصرف بجملته إلى شروح الفقه والعبادة، ولكنه قرأ علوم الكلام وبحوث التوحيد الإسلامية واطلع على فلسفة اليونان باللغة العربية، فألف كتابه دلالة الحائرين، وتناول فيه مسائل الفلسفة ببعض التفصيل، ولا سيما مسألة الذات والصفات ومسألة المعاني والنصوص.

فقال عما جاء في سفر التكوين: «إننا نصنع إنسانا على صورتنا وشبهنا»: «إن الناس قد ظنوا لفظ صورة في اللسان العبري يدل على شكل الشيء وتخطيطه، فيؤدي ذلك إلى التجسيم المحض، ورأوا أنهم إن فارقوا هذا الاعتقاد كذبوا النص، وأما صورة فتقع على الصورة الطبيعية، أعني على المعنى الذي يجوهر الشيء بما هو ، وهو حقيقته من حيث هو ذلك الوجود المعنوي الذي عنه يكون الإدراك الإنساني، فيكون المراد من الصورة الصورة النوعية التي هي الإدراك العقلي لا الشكل والتخطيط.» ففسر الصورة في سفر التكوين بالصورة المقصودة في مذهب أرسطو، وهذا وأمثاله قد أثار عليه المحافظين فسموا كتابه بضلالة الحائرين.

وقال عن الألواح وكلام الله الذي كتب عليها بأصبع الله: «إنها موجودة وجودا طبيعيا لا صناعيا، إن كلام الله هو علمه الذي يدركه النبيون، وليس كلاما كالذي يصدر عن الإنسان أو كالذي نفهمه من لفظ الكلام.» وقال عن صفات الله كلها: «إنها وضعت بحسب الأفعال الموجودة في العالم، أما إذا اعتبرنا ذاته مجردا عن كل فعل فلا يكون له اسم مشتق بوجه، بل اسم واحد مرتجل للدلالة على ذاته.»

وليس أسلم عنده من وصف الله بالسوالب، أي بنفي كل صفة من صفات النقص عنه جل وعلا، فقد «تبرهن أن الله عز وجل واجب الوجود لا تركيب فيه، ولسنا ندرك إلا أنيته لا ماهيته، فيستحيل أن تكون له صفة إيجابية لأنه لا أنية له خارجة عن ماهيته فتدل الصفة على إحداها، فإما أن تكون ماهيته مركبة فتدل الصفة على جزئيها، وإما أن تكون لها أعراض فتدل الصفة أيضا عليها، فلا صفة إيجاب بوجه من الوجوه ... فسبحان من إذا لاحظت العقول ذاته عاد إدراكها تقصيرا، وإذا لاحظت صدور أفعاله عن إرادته عاد علمها جهلا، وإذا رامت بالألسن تعظيمه بأوصاف عادت كل بلاغة عيا وتقصيرا ...»

وهو يقول: «إن الله صورة العالم وسبب وجوده لأن وجود الباري هو سبب لكل موجود وهو يمد بقاءه بالمعنى الذي يكنى عنه بالفيض، فلو قدر عدم الباري لقدر عدم الوجود كله وبطلت ماهية الأسباب البعيدة منه والمسببات الأخيرة وما بينها، فهو له إذن بمنزلة الصورة للشيء الذي له صورة والذي بها هو ما هو، وبالصورة تثبت حقيقته وماهيته، فكذلك نسبة الإله للعالم: وبهذه الجهة قيل فيه: إنه الصورة الأخيرة وإنه صورة الصور، أي إنه سبب وجود كل صورة في العالم وقوامها مستند أخيرا إليه وبه قوامها.»

وهو يقول بحدوث العالم ولكنه يرى أن إثبات الحدوث بالبرهان عسير: «وغاية قدرة المحقق عندي من المتشرعين أن يبطل أدلة الفلاسفة على القدم، وما أجل هذا إذا قدر عليه.»

وعلى هذا الاعتبار يقول: «أما أنا فأقول: إن العالم لا يخلو من أن يكون قديما أو محدثا، فإن كان محدثا فله محدث بلا شك ... وإن كان العالم قديما فيلزم ضرورة أن ثم موجودا غير أجسام العالم كلها ليس هو جسما ولا قوة في جسم، وهو واحد دائم سرمدي لا علة له ولا يمكن تغييره، فهو الإله ...»

أما الملائكة فهو يرى أنهم موجودون بدليل النص، وأن وجودهم لا يمنعه العقل؛ لأنه يسلم وجود العقول المفارقة أي العقول المجردة عن الأجسام.

وجائز أن يوجد الله شيئا من لا شيء، «وإنا كما جهلنا حكمته التي أوجبت أن تكون الأفلاك تسعة لا أكثر ولا أقل، وعدد الكواكب ما هي عليه لا أكثر ولا أقل ولا أكبر ولا أصغر، كذلك نجهل حكمته في كونه أوجد الكل بعد أن لم يكن ...» •••

وقد سبق ابن ميمون في الأندلس فيلسوف يهودي بحث في الحكمة الإلهية وقال بضرورة الوساطة بين الله والعالم وأسند هذه الوساطة إلى المشيئة الإلهية، ولكنه لم يتوسع كما توسع ابن ميمون في تأويل النصوص والتوفيق بين الفلسفة واللاهوت، وأهم مساهمة له في الفلسفة عامة هي قوله بامتناع التناقض بين الروح والمادة، لوحدة العلة والمعلول في الطبيعة، وإلا انتفى تأثير العقل في الجسد أو تأثير الروح في المادة.

هذا الفيلسوف هو سليمان بن جبيرول الذي ولد في مالقة سنة 1020 وألف كتاب ينبوع الحياة، وربما كان له أثر في توجيه سبينوزا أكبر فلاسفة اليهود ومن أكبر فلاسفة الغرب على العموم. •••

ولا تزال المحافظة على أقدم النصوص الإسرائيلية شغلا شاغلا للمفكرين من اليهود حتى في هذه الأيام، ففي سنة 1937 ظهر لمردخاي كبلان كتاب بالإنجليزية عنوانه «معنى الله في الديانة اليهودية الحديثة» يفسر فيه نصوص الأسفار الإسرائيلية ويستمسك بكل نص من تلك النصوص مع تفسير جديد يلائم الحياة العصرية، ومن ذاك عهد لبني إسرائيل ليجعلنهم شعبه المختار بين الشعوب، فهو يقول: إن هذا العهد لا يناقض وحدة الإنسانية ولا وحدة الحضارة الإنسانية، بل يؤيد هذه الوحدة ويؤكدها؛ لأن العهد يبشر بإنجازه بين الله وإسرائيل يوم تستقر مملكة الله على الأرض ويبطل فيها البغي والعدوان ويتفق بنو الإنسان جميعا على عبادة الله بالحق والإخلاص، ولكن الله لم يخلق الإنسانية آحادا بل خلقها شعوبا وجماعات ووكل سعيها في سبيل الوحدة إلى جهود هذه الشعوب والجماعات: كل منها بما هو أهله وكل منها بما هو مقيض له ومعهود إليه.

والمحافظة هي المسحة الغالبة على التفسيرات العصرية للعقائد الإسرائيلية الأولى، ولا استثناء في ذلك لما يكتبه الأدباء الطلقاء من قيود الكهانة الدينية كالقصاص المعروف شولم آش

Sholem Asch

وبعض الشعراء والكتاب المحدثين، فيقول شولم في كتابه «ما أعتقد»:

إن جميع الديانات غير ديانة التوحيد كما أدركها إبراهيم يصح أن تشبه بآبار ملأها الإنسان بيديه، وإنما تجد الروح الخالقة في الإنسان تعبيرها الصحيح في الصور المجسمة، وقد يتلقى الإنسان الوحي من المعاني المجردة ولكنه لا يصنع ولا يعمل إلا بالتجسيم، وكل ما ادخرته روح الإنسان في المجسمات فذاك الذي أسميه بالدين.

خلق الله الإنسان على صورته، وعاد الإنسان فخلق الله على صورته وتمثله في طبيعته، ودرج من أقدم الأزمان على أن يزدلف إلى الله بأن يصفه بما هو أجمل الصفات وأفضلها في نظره، وكل جيل من أجيال البشر يرفع إلى الله خلاصة ثمرات عصره، وكل جيل من أجيال البشر قد صور الله على الصورة المثلى التي يستمدها من خلائقه ومزاياه، ومن هنا أصبحت الربوبية أوجا تلتقي فيه أفضل الفضائل التي تتخيلها الشعوب.

فلا ضير على هذا أن يظل التجسيم ملازما للديانة كما يراها شولم آش، ولكنه يفرق بين الديانة والعقيدة؛ لأن الديانة تتكون في باطن الإنسان فلا تعلو عليه، أما العقيدة فهي ثقة يتلقاها من فوقه ومن أمامه ولا يتمثلها في مثال. •••

وعلى الجملة يلاحظ أن الديانة اليهودية على قدمها هي أقل الديانات الكتابية تأثرا بشروح الفلسفة وعوارض التجديد الأخرى، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة: منها أن اليهودية عند نشأتها لم تنهض لها ضرورة قاضية بالتعجيل في التفسير والتأويل؛ لأن اليهودية نفسها كانت بمثابة فلسفة تجريدية بالقياس إلى العقائد الوثنية والأديان المجسمة التي نشأت بينها، وكان أنبياء اليهود يتلاحقون واحدا بعد واحد، فيشغل النبي الأمة بأقواله عن أقوال الذين سبقوه إلى استنزال الوحي من الله، وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن الدينين الكتابيين العظيمين اللذين ظهرا بعد اليهودية إنما كانا تعديلين في نصوص الدين اليهودي ومعانيه، فهما خليقان أن يشغلا كل فراغ كان متسعا لتفسير النصوص ومحاولة التوفيق بين المنقول والمعقول.

وقد تلاحقت الهجرة والتشتيت على الأمة اليهودية منذ أيامها الأولى وأصابتها المحن من ذوي قرباها، ونزل بها الحيف من الدول القوية المسلطة عليها، فاشتدت في نفوسها العصبية القومية، ونفرت كل النفور من البدع الأجنبية، وتحصنت دونها بحصن منيع من العزلة الروحية والفكرية، فأحجمت عن الفلسفة التي تطرقت إليها من جانب الإغريق وجانب المشارقة الفارسيين والهنديين، ولم تكن هذه الفلسفة على هذا قد تكاملت في بلاد الإغريق أو تفرقت منها بين الأقطار الشرقية؛ لأنها لبثت في دور التكوين والتكامل والتعليق إلى ما بعد ميلاد المسيح. (2) المسيحية بعد الفلسفة

أما المسيحية فقد تأخر تدوين كتبها وكان معظمها مسطورا باللغة الإغريقية، فلا يطلع عليها سواد المسيحيين، وقد كانت جمهرة المسيحيين في أوائل الأمر من عامة الناس الذين يقنعون بالإيمان اليسير ولا يتعمقون في النصوص ولا في التأويلات، فلما آمن المتعلمون بالدين الجديد كان اختلافهم مقصورا على بيئات الدرس والثقافة، إلى أن قام في العالم المسيحي ملوك يجلسون على العروش، فخرج الخلاف المدرسي إلى معترك السياسة الزبون، ونجمت الفرق والمذاهب، وهي في أحضان الدولة تعتمد على بأس الملوك والأمراء من أحد الطرفين أو من كلا الطرفين أو من جميع الأطراف في بعض الأحوال.

ومع هذا كتب إنجيل يوحنا في أواخر القرن الأول للميلاد وفي صدره هذا التمهيد الذي يعتبره بعض الشراح توطئة للكتاب ويعتبره بعضهم الآخر جملة أصيلة في الكتاب ، وهو: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان، فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه.»

وكتب بولس الرسول رسائله بعد ذلك، وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة، ولا سيما فلسفة الحلول، وكان يقول: إن المسيح جالس على يمين الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير «أن تسكن فيهم كلمته»، ويسأل لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الأرض، ويبدو من جملة كلامه أنه كان ينتظر معاده في زمن قريب، وكثيرا ما أشار إليه صلوات الله عليه «باسم ربنا يسوع المسيح» وسمى نفسه باسم «رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح.»

وكانت تعبيرات بولس الرسول وتعبيرات إنجيل يوحنا معا هي مثار البحث بين جماعة التفسير وجماعة النصوص حين بدأ الخلاف بينهم في أواخر القرن الثاني للميلاد.

وأقوى هؤلاء المفسرين وأبعدهم أثرا في تطور المسيحية الأولى هو أوريجين ابن الشهيد ليونيداس

Origen

الذي ولد بالإسكندرية سنة 185 للميلاد، وتعلم على الفيلسوف آمون ساكاس - معلم أفلوطين - إمام الأفلاطونية الحديثة المشهورة.

وكان أوريجين من الغلاة في النسك والعبادة، ولكنه تعلم الفلسفة وأدرك البدائة العقلية، فاضطره فرط الإيمان إلى التوفيق بينها وبين نصوص الكتب الدينية، ولا سيما النصوص التي تشير إلى بنوة السيد المسيح ودلالة الثالوث والتوحيد، فقال: إن البنوة كناية عن القربى، وفهم معنى الكلمة التي كانت في البدء فهم الرجل الذي اطلع على مذهب هيرقليطس ومذهب أفلاطون؛ لأن الأول يقول: إن الدنيا تتغير أبدا، فليس لها وجود حقيقي وراء هذه الظواهر غير وجود الكلمة المجردة أو العقل المجرد الذي لا ينقطع عن تدبيرها، ولأن أفلاطون يقول بسبق الصور المعقولة على الأجسام المحسوسة، فجاء أوريجين بعدهما ليقول: إن السيد المسيح هو مظهر العقل الخالد تجسم بالناسوت، وإن ظهوره في الدنيا حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الإله في خلقه، واجتهد في تأويل النصوص، فجعل للكتب الدينية تفسيرين ، أحدهما صوفي للخاصة والآخر حرفي لسائر الناس، وبشر بخلاص خلق الله جميعا في نهاية الأمر حتى الشياطين، ولم يكن ينكر الشياطين أو ينكر قدرة السحرة على تسخيرها، ولكنه - من عجب التناقض في الطبع الإنساني - كان يرى وهو منكر الحروف وداعية التفسير والتأويل أن الأسماء العبرية دون غيرها هي الأسماء التي تجدي في الاستدعاء والتسخير! وينسى أنه جعل هنا للأسماء والحروف سلطانا على الكون يقصر عنه سلطان المعاني والمسميات.

وخلف أوريجين تلميذان قويان: هما آريوس في الإسكندرية ونسطور في سورية، فمضيا في التأويل والتوفيق بين النصوص والمعاني، ولكنهما اختلفا بينهما أشد اختلاف يخلقه اللدد والشحناء، وتراميا كما ترامى أتباعهما زمنا بتهمة الكفر والجحود؛ لأن آريوس كان يقول بأن المسيح إنسان حادث، ونسطور كان يؤمن بالطبيعة الإلهية في المسيح ويأبى التسوية بينه وبين الله في الدرجة والقدم، ودخلت السياسة في هذا الخلاف فدفعت به إلى أقصى مداه.

هذه كلها كما رأينا مذاهب في الدين تصطبغ بالصبغة الفكرية ويمتزج فيها الإيمان بالتفكير، أما مذاهب الفلسفة المسيحية فلم تظهر في العالم المسيحي قبل انقضاء عدة قرون، وتأخر ظهورها - إذا استثنينا فلسفة القديس أغسطين - إلى ما بعد ظهور الفلسفة الإسلامية في أوربا الغربية.

على أن القرون الخمسة الأولى بعد المسيح لم تخل قط من خلاف محتدم بين المجامع والكنائس على تفسير المقصود من كلمات الأب والابن والروح القدس والكلمة وغيرها من الأوصاف الإلهية التي وردت في الأناجيل، فاتفقوا جميعا على الوحدانية ولكنهم اختلفوا في أقانيم الثالوث: هل الابن مساو للأب؟ وهل هو ذو طبيعة واحدة أو ذو طبيعتين إلهية وإنسانية؟ وهل هو إله أو إنسان مفضل على سائر البشر؟ وهل يصدر الروح القدس من الأب وحده أو من الأب والابن معا؟ وهل المسيح هو الكلمة أو هو الابن فقط أو أن الكلمة والابن مترادفان؟ أو أن الكلمة هي الأب والإله؟

وليس من موضوعنا هنا أن نبسط أوجه الخلاف وأسانيد المختلفين وقد كتبت فيها مئات المجلدات، ولكننا نلخص الرأي الغالب في تفسير الأقانيم: وهو أن الأقانيم جوهر واحد، وأن الكلمة والأب وجود واحد، وإنك حين تقول الأب لا تدل على ذات منفصلة عن الابن أو عن الروح القدس: لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية، ولكنها تتجلى بالأبوة في معرض الإنعام وبالبنوة في معرض التلقي والقبول، ويوشك أن يكون الشأن في تعدد الأقانيم كالشأن في تعدد الصفات عند بعض المفسرين.

وقد استقر الرأي على ذلك مع خلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية في موضوع الروح القدس وعلاقته بالأب والابن، فإن الكنيسة الشرقية تقول: إنه يصدر من الأب وحده والكنيسة الغربية تقول: إنه يصدر من الأب والابن على السواء.

ولم تفصل المجامع - كمجمع نيقية ومجمع إفسس ومجمع خلقدونية - كل الفصل في موضوع هذه التفسيرات، فإن دعاة الإصلاح قد أعادوا البحث فيها خلال القرن السادس عشر، فوقف الأكثرون منهم عند التعبيرات القديمة، وخالفهم سوسينس

Socinus

في مسألة الطبيعة الإلهية، فنفي عن المسيح كل إلهية، وتفرع على مذهبه مذهب الموحدين

Unitarians

الذي نشأ في بولونية وقرر أن الإله لا يحل في البشر وأن السيد المسيح إنسان كسائر الناس.

ومما لا خفاء به أن آباء الكنيسة الأولين ما كانوا لينظروا إلى مسألة الثالوث كأنها مشكلة تتطلب الحل لو لم يكن عصرهم كله عصر فلسفة وعصر اتجاه إلى التوحيد؛ لأن هذه المسألة بعينها لو عرضت للمتدينين قبل المسيح ببضعة قرون لقبلوا حرفها على ظاهره في جميع نصوصه، ولم يجدوا في معاني الثالوث بالنسبة إلى الآلهة حاجة إلى التأويل.

على أن الفكرة الإلهية - بمعزل عن مسألة الثالوث - قد لقيت من آباء الكنيسة المفكرين أوفى نصيب من الدراسة الفلسفية التي تتلمذوا فيها على حكماء اليونان أو على حكماء المسلمين، وكان للفيلسوف الإسرائيلي فيلون أثر في توجيه هذه الدراسة غير قليل.

فالقديس أوغسطين - الذي ولد في منتصف القرن الرابع - كان أسبق هؤلاء المفكرين اللاهوتيين إلى البحث عن حقيقة الله وحقيقة النفس وحقيقة العبادة. قرأ شيشرون وأفلاطون وبعض المذاهب اليونانية، ودان في شبابه بالمانوية فلم يعجبه منها تسليمها بقوة الشر، ونفر منها إلى القول بأن الله لا يصنع الشر؛ لأن الشر ليس بشيء يصنع، ولكنه هو بطلان الخير، واحتكم إلى العقل في فهم المسائل الدينية، ولكنه قرر أن العقل وحده لا يهدي إلى الله، وأنه لا بد من الإيمان، ولا بد للمؤمن من تصديق ما لا يراه، فالعقل يعلمنا أن الأجسام المتغيرة لا تخلق نفسها، وأن العقل لا يخلق حقائقها بل قصاراه أن يفهمها، ولكن هذه الحقائق لها عقل خالق هو عقل الله، وهو جوهر مجرد لا تركيب فيه ولا تعديد، وإنما صفاته هي ذاته لا فرق فيها بين صفة وصفة على الإطلاق، فالقادر على كل شيء هو العالم بكل شيء، والقدرة المطلقة هي العلم المطلق، ومحل الإيمان - بعد محل العقل في الاهتداء إلى الله - هو تكملة العجز الذي يعتري العقل إذ يحاول أن يتصور ما لا قبل له بتصوره من عظمة الله وحكمته في خلقه، فليس للعقل من مخرج من هذه المآزق غير التسليم.

ولا يتردد أغسطين في الجزم بأن العالم مخلوق، وأنه لم يوجد هكذا من أزل الآزال، فلا تناقض بين قدم الإرادة الإلهية وحدوث المخلوقات، ولا يفهم خلق الله للعالم في ستة أيام على ظاهره بل على معناه؛ لأن اليوم من أيام الخلق غير اليوم الذي نحسبه من تقلب الليل والنهار، فلم يكن ليل ولا نهار قبل خلق الكواكب، وهي كما جاء في سفر التكوين قد خلقت في اليوم الرابع، فلا مناص من تقدير تلك الأيام بغير المقدار الذي نجريه في حساب الأفلاك، ولا محل للاعتراض على خلق العالم في هذا الزمان دون ذاك؛ لأن الزمان لم يكن قبل العالم حتى يقال: إنه خلق فيه فإذا خلق من العدم، فليس هناك مفاضلة بين زمانين، ولا موجب للسؤال عن تفضيل زمان على زمان.

ولا اعتراض بوجود الشر على وجود الله في مذهب أوغسطين كما تقدم؛ لأن الشر ليس بموجود فيخلق وينسب خلقه إلى الله، ولكنه هو عدم الخير ولا بد من عدم بعض الخير في المخلوق المحدود؛ لأن المحدود لا يمكن عقلا أن يكون خيرا محضا أو يكون هو كل الخير، ولكن الله يتدارك هذا النقص بحكمته ويمنح الإنسان إرادة تعينه على الاختيار وشوقا إلى الكمال يهديه إلى حسن الاختيار، ولا يفوت أغسطين أن القول بهذا يستلزم القول بحرية الإنسان، فهو في اعتقاده حر الإرادة ولولا ذلك لبطل التكليف.

وقد عرض القديس أغسطين لمسألة الثالوث فقال: «إن للأب والابن وروح القدس جوهرا واحدا ليس الأب فيه شيئا والابن شيئا آخر وروح القدس شيئا غيره، وإن كان الأب ذاتا والابن ذاتا وروح القدس ذاتا كذاك» ومثل هذا الاتحاد باتحاد نور النار ولهيبها، وهما جوهر واحد.

ويعتبر القديس أغسطين أوفى آباء الكنيسة الأسبقين بحثا في معضلات الفكر من وجهتي النظر الدينية والعقلية، ولكنه كان ينتهي منها أحيانا إلى حلول يراها فصل الخطاب، وهي في رأي غيره مثار بحث لا تقف العقول لديه.

ثم أخرجت الكنيسة بعده بأجيال مفكرا يعتبر تلميذه في كثير من تحقيقاته ويعتبر في طليعة المفكرين الإلهيين في العالم كله؛ لأنه - على استقلال فكره - قد وعى حكمة اليونان وحكمة المسلمين وحكمة الآباء الأسبقين، ونظر فيها جميعا نظر المتصرف في الفهم والانتقاد، وهو القديس توما الأكويني المولود في أوائل القرن الثالث عشر للميلاد.

وهو يعتمد على أرسطو كثيرا كما يعتمد على ابن سينا في الفكرة الإلهية، ويقول: «إن حدوث العالم مسألة يفصل فيها الوحي ولا يتأتى إثباتها بالبرهان، ويصف الله بجميع صفات الكمال ومنها العلم بكل شيء من الكليات والجزئيات، مخالفا بذلك أرسطو الذي يقول: إن الله يعقل ذاته وحدها لأنها أشرف المعقولات، ودليل القديس توما على ذلك أن الله يعلم ضرورة ما هو خلاف ذاته؛ لأنه يعقل ذاته عقلا تاما كا هو جلي ظاهر، وإلا كان وجوده ناقصا لأن وجوده هو عقله، ومتى كان الشيء معروفا معرفة تامة لزم من ذلك أن تكون قدرته أيضا معروفة معرفة تامة، ولكن هذه القدرة لا تعرف تماما إلا بمعرفة المدى الذي تمتد إليه، ومتى كانت قدرة الله تمتد إلى الأشياء بمقتضى أنها هي علتها الأولى فمن اللازم أن يعلم الله جميع الأشياء ...»

ويقول القديس توما كما قال بعض فلاسفة الشرق من قبله: إن صفات الله السلبية أيسر فهما من صفات الله الثبوتية، فالله غير مركب وغير متعدد وغير فان وغير ناقص، ويلزم من ذلك أنه كامل كل الكمال، وأن صفات العلم والخير والجمال هي من معاني هذا الكمال ولا تدل على التعدد والتركيب.

وقد عرض القديس توما لمسألة الثالوث فلم يخرج فيها عن مقررات الكنيسة، ولكنه رأى أن الصدور بالنسبة إلى الأقانيم لا يمكن تمثيله إلا بالصدورات العقلية لأنها أقرب الموجودات إلى الصفات الإلهية، فالروح القدس تصدر من الأب مثلا كصدور المعقول من العقل دون أن يقتضي ذلك فصلا أو تفرقة بين الصادر ومصدره، أو كصدور الكلمة من الإنسان وهي بصدورها لا تفارقه ولا تنفصل عنه.

وقد بلغ القديس توما الذروة في موضوعات الفلسفة المسيحية فلا حاجة إلى سرد الآراء الأخرى التي أثرت عن بعض الآباء، وهي لا تزيد شيئا على فحواه.

إلا أن الكلام على الفكرة الإلهية في المسيحية لا يتم بغير الإشارة إلى عقيدة الخطيئة وعقيدة التكفير.

فالأديان القديمة قد عرفت الخطيئة من عهود الإنسانية الأولى؛ لأنها عرفت المحرم

Taboo

وهو المحظور في العلاقات الجنسية أو في بعض المأكولات.

وقد عرف التكفير بعد ارتقاء الأديان، فقال الهنود والأورفيون وأتباع فيثاغورس بتناسخ الأرواح للتكفير والتطهير، وقال اليهود بالتكفير عن خطايا الشعب فسموه الخلاص، وهم يقصدون به خلاص الشعب من ربقة البابليين أو المصريين.

ولكن المسيحية جعلت للخطيئة معنى آخر وسمتها الخطيئة الأصلية، وهي مخالفة آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عنها، وجعلت آلام السيد المسيح كفارة عن الجنس البشري كله لوقوع آدم في تلك الخطيئة، وازداد القول بذلك تواترا بعد عهد الإصلاح. (3) الإسلام بعد الفلسفة

وكان الاستعداد لظهور الفرق والمذاهب في الإسلام على غير ما رأينا في اليهودية والمسيحية من جميع الوجوه؛ إذ كانت الأسباب مهيأة لظهورها منذ الجيل الأول، سواء من جانب الفلسفة أو من جانب المشكلات اللاهوتية التي شغلت عقول الباحثين بين اليهود والمسيحيين.

كان الإسلام خلوا من الكهانة التي تستأثر بالدرس والتأويل، وكان القرآن صريحا في الأمر المتكرر بالنظر والتفكير، وكان القرآن كتابا محفوظا في حياة النبي عليه السلام، فلم يطل العهد بالمسلمين في انتظار التدوين والاتفاق على نصوص الكتاب، وكان المسلمون يؤمنون بأن محمدا عليه السلام خاتم النبيين، فلا ينتظرون نبيا آخر يتمم الرسالة أو يغنيهم عن الاجتهاد في معاني الكتاب أو معاني الأحاديث النبوية.

ولم يجهر محمد عليه السلام بالدعوة الإسلامية حتى كانت مشكلات المذاهب المتقدمة قد ملأت آفاق الشرق العربي وانعقدت عليها الأقوال من طوائف المختلفين هنا وهناك، وتسرب الكثير منها إلى الجزيرة العربية قبل الدعوة الإسلامية سواء منها أقوال الفلاسفة وأقوال رجال الدين من جميع النحل والأجناس، وكان بعض المسلمين يسمعون بالتوراة ولم يطلعوا عليها، ولكنهم سمعوا أنها أنبأت بظهور النبي وبغير ذلك من أحداث آخر الزمان، وأن الأحبار يخفون هذه النبوءات إمعانا منهم في الكفر والضلالة وحب الرئاسة في الدنيا، وقال لهم كعب الأحبار: «ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة.»

وفهم المسلمون أن هذه الأسرار لا يعقل أن تودع في التوراة ولا تودع في القرآن، لأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، وإنما تبذل هذه الأسرار لأهلها، وإنما سبيلهم في معرفتها أن يتوسلوا بالتقوى ويستعينوا بمن سبقهم من أخبار الأمم الأولى، ويستدرجوهم بالمحاسنة والنصيحة إلى الكشف عنها، فلم يكن لطلاب المعرفة بد من الدخول في معترك الفرق الدينية بين من يزعم أنه على الحق ومن يقال إنه على الضلال.

ولما انتشر الإسلام كان انتشاره في الرقعة التي جمعت كل هذه الفرق والمذاهب وشهدت بينها مجالس المناظرة ومصارع النزاع والقتال، وكانت الفلسفة الإغريقية قد بلغت أوجها في آسيا الغربية ومدرسة الإسكندرية، وترددت أقاويلها ومناقضاتها ما بين مصر وسورية والعراق وأطراف البلاد الفارسية، حيث يتصدى للتعليم أطباء النساطرة ومعهم كتب الإغريق في الحكمة والتصوف والمنطق والجدل وأشباه هذه الموضوعات ، فلم يبق سبب من الأسباب التي تنشئ الفرق والمذاهب إلا وقد تهيأ للظهور من جميع نواحيه عند قيام الإسلام.

على أن السبب الذي طوى هذه الأسباب جميعا هو قيام الدولة مع قيام الدين الإسلامي في وقت واحد، وهو ما لم يحدث في بني إسرائيل ولا في عالم المسيحية، وعليه تدور الخلافات بين الفرق جميعا من قريب أو بعيد.

فالنزاع على الدولة بين علي ومعاوية مرتبط بنشوء الخوارج ونشوء الشيعة، ومرتبط كذلك بنشوء القدرية والمرجئة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، ومذهب أهل الحقيقة ومذهب أهل الشريعة، وما استتبعه من فرق الباطنية وأصحاب الرموز والأسرار، على تفاوت نصيبهم من الحكمة الدينية والحكمة الفلسفية.

ويستطاع رد الخلاف هنا إلى محور واحد: وهو الخلاف بين أنصار الواقع وأنصار التغيير، أو بين أنصار المحافظة وأنصار التجديد حيث كان.

روي عن يزيد بن معاوية وقد حمل إليه رأس الحسين أنه سأل من حوله وهو يشير إلى الرأس الشريف: «أتدرون من أين أتي هذا؟ إنه قال: أبي علي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر؛ فأما أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وأما جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه أتي من قبل فقهه ولم يقرأ:

قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء .»

فمن خدمه الواقع هذه الخدمة الجلى لا جرم يؤمن بأن الواقع هو قدر الله وقضاؤه الذي يدان به العباد، ومن خالفه في ذلك لا جرم يعتصم بالرأي والتفسير ليفهم القدر الإلهي على الوجه الذي ينهض به دليله ويسقط به دليل خصمه.

ومن ثم تنفرج الطريق بين طلاب الواقع وطلاب التغيير في كل مجال.

فطلاب الواقع يقولون بطاعة السلطان القائم، وطلاب التغيير يقولون بطاعة الإمام المستتر، ويقولون بعلم الظاهر وعلم الباطن، أو بعلم الحقيقة وعلم الشريعة، أو بالفرق بين الكلام الواضح الذي يفهمه الدهماء والكلام الخفي الذي يفطن له ذوو البصر والاطلاع.

يروى عن الإمام الباقر أنه قال: «إن اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا، يعرف منها سليمان حرفا واحدا تكلم به فأتي إليه بعرش مملكة، ونحن عندنا منها اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله استأثر به في عالم الغيب وحده.»

ويدور على هذا المحور في جانب آخر خلاف القائلين بإسلام بني أمية والقائلين بتكفيرهم والقائلين بإرجاء الحكم عليهم إلى يوم القيامة، وهم أصحاب الفرقة التي اشتهرت باسم المرجئة من أوائل فرق الإسلام.

ويغلو من هنا فريق كالخوارج فيكفرون عليا ومن والاه، ومن هنا فريق كالسبائية فيؤلهون عليا، وينكرون القول بموته، وإنما شبه للناس فقتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورته، وصعد علي إلى السحاب، فالرعد صوته، والبرق سوطه، وموعده يوم يرجع فيه إلى الأرض فيملأها عدلا ويقضي على الظالمين، أو يقولون كما قال البنانية أتباع بنان بن سمعان: إن روح الله حلت في علي ثم في ابنه محمد ابن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بنان، أو يقولون بتناسخ الأرواح من آدم إلى علي وأولاده الثلاثة، أو يقولون كما قالت الزرامية: إن الله قد حل في إمام بعد إمام إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية، وإنه لم يقتل ولا يجوز عليه الموت وفيه روح الله.

ويكثر الكلام بين هذه الفروض والظنون على ماهية الروح وماهية الحقيقة الإلهية، وما ينبغي لله جل وعلا من التنزيه وما يمتنع في حقه من التجسيم والتشبيه، وتمتزج النوازع الذهنية بنوازع المصلحة والسياسة والعواطف المكبوتة، فيستمد كل منها عونه من الآخر على الإقناع واستجلاب الأنصار والأشياع.

ومن البديه أن دعاة التغيير يتقون جهدهم سلطان الواقع حيث هو قائم عزيز الجانب مبثوث العيون، فابتعدوا من دمشق الشام واتخذوا لهم ملاذا مأمونا عند أطراف الدولة الشرقية فيما وراء النهر خاصة، كما كانت تسمى في تلك الأيام. •••

وأهم ما يتصل بالفكرة الإلهية من هذه البحوث هو البحث في القضاء والقدر والبحث في ذات الله وصفاته.

فالله عادل حكيم، وهو خالق كل حي وكل موجود، وهو يأمر وينهى ويعاقب على الطاعة والعصيان.

فكيف يكون التكليف؟ وكيف يكون الثواب والعقاب؟

إن الإنسان مخلوق مسخر لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكيف يحاسب على ما قضاه الله عليه؟

هل هو حر مريد قادر على الخروج من مشيئة القدر إن أراد؟ فكيف يكون حرا مريدا من هو مخلوق بأفعاله وبإرادته وبكل ما يحيك بنفسه ويوسوس في ضميره؟

وإذا كان مقيدا مكرها على فعله ونيته فكيف نفهم ما جاء في القرآن الكريم من الآيات التي تسند إليه الفعل وتنذره بالعقاب:

اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ،

اليوم تجزون ما كنتم تعملون ،

وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ،

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ،

فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ،

سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ،

بل سولت لكم أنفسكم ،

وما ربك بظلام للعبيد .

وتساءل المختلفون في هذا الأمر: هل يخلق الله الكفر؟ بل كان منهم من يسأل: هل يخلق الله الكافر، وكيف خلقه والله

أحسن كل شيء خلقه

وهو القائل:

ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق

فهل الكفر حسن؟ وهل الكفر حق؟

واختلفوا في الجواب كما اختلف جميع الباحثين في مسألة القضاء والقدر من جميع النحل الدينية والمذاهب الفلسفية.

فالمعتزلة يقولون: إن الإنسان حر مريد وإلا سقط عنه التكليف، ويقولون: إن الله لم يكره الناس على الذنب، ولكنه علم ما يكون من ذنبهم، وعلم أنهم يسيئون الاختيار، فرتب العقاب على هذا العلم:

ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين .

والأشعرية يقولون إن المخلوقات تريد كما تريد المخلوقات، ولكن الله يخلقها ويخلق أفعالها، وعلينا أن نؤمن بعدله وإن غابت عنا حكمته؛ لأن الوحي والعقل كليهما يمنعنان نسبة الظلم إلى الله، فهو عادل عدلا شاملا لا تحيط به عقول البشر، ولا ينتهون من البحث فيه إلى غير التسليم.

والمتشددون في التزام النصوص ينفرون من التعليل والتأويل ويقولون إن الله يفعل ما يريد بالعباد، وإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

قال الفخر الرازي في رده على من يقولون: لو أراد الله كفر الكافر لكان الكافر مطيعا بكفره: «إن الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، وإن الكفر ليس نفس القضاء بل متعلق القضاء.» •••

وتعد مسألة القضاء والقدر - أو مسألة العدل الإلهي - تابعة في الواقع لمسألة الصفات في جملتها، ولكنها سبقتها لأن مسألة القضاء والقدر من المسائل الدينية البحت التي تعرض للمؤمن بمعزل عن الفلسفة ولا تعرض للفيلسوف إلا إذا اعتقد الحساب والعقاب في عالم آخر كما يعتقدهما أصحاب الأديان.

أما الصفات الإلهية فليس في تعددها ما يناقض عقيدة المؤمن بعظمة الله وتفرده بالكمال، ولكنه يفتح باب البحث فيها متى عرف - من الفلسفة - أن الله هو المحرك الذي لا يتحرك، وهو العلة الأولى للوجود، وهو العقل المحض أو الصورة المنزهة عن الهيولى وما يجري عليها من قوانين التركيب والانحلال، فيخطر له التساؤل عن كنه الوجود وكنه الذات وما قد تدل عليه الصفات من التوحد أو التعدد، ومن البساطة أو التركيب.

وقد وصف «الإله» جل وعلا في الإسلام بالصفات التي تعرف بالأسماء الحسنى، ومنها: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، الغفار، القهار، السميع، البصير، الحكم، العدل، الخبير، الصمد، القادر، الظاهر، الباطن، الرزاق، النافع، الضار، المتكلم، الحسيب - وهي تدل على أفعال واقعة متجددة لا تقف عند الحركة الأولى ولا عند العلة الأولى كما يقول أرسطو وأتباعه، فحاول العلماء أن يوفقوا بين ما ينبغي لله في الدين وما ينبغي لله في المنطق والفلسفة، وتساءلوا: هل هذه الصفات متعددة أو هي أسماء مختلفة لحقيقة واحدة؟ وإذا كانت متعددة فهل في تعددها تركيب يمتنع في حق الله المنزه عن التركيب، أو هو تعدد لا يستلزم التركيب؟ وإذا كانت مفردة فهل يعلم الله بقادريته ويقدر بعلمه؟ وهل هذه الصفات جميعها هي عين الذات أو هي زائدة على الذات؟ وكيف تكون زائدة على الذات والله «أحد» لا زيادة على ذاته؟

واشتد الجدل في هذه المسألة حين ظهرت بدعة القول بخلق القرآن، فقال أناس بأن لفظ القرآن حديث ومعناه قديم، وقال غيرهم: إن كلام الله قديم بلفظه ومعناه، واحتج الأولون سائلين: كيف يقول الله في الأزل:

إنا أرسلنا نوحا

ونوح لم يرسل بعد؟ وكيف يكون له لفظ واللفظ صوت في الهواء من مخارج الأعضاء؟

وعادوا إلى مسألة العلم والإرادة، فقال أنصار أرسطو: إن العلم بالجزئيات يقتضي التغير، ولا تغير في ذات الله، وإن الإرادة تقتضي الطلب والاختيار، والله لا يطلب، ولا شيء بالنسبة إليه أفضل من شيء، فيقع الاختيار بين الشيئين.

وتبلغ الفرق الإسلامية التي خاضت في هذه البحوث عشرات معروفة بأسماء أصحابها أو بأسماء موضوعاتها، ولكننا نستطيع أن نجملها في ثلاث فرق جامعة وهي: أصحاب العقل، وأصحاب النقل، وأصحاب النقل مع اتخاذ الحجة والبرهان من المعقول.

فأصحاب العقل يقولون في مسألة الصفات: إنها تدل كلها على صفة واحدة هي الكمال، وإن كمال الله هو عين ذاته؛ لأن قولنا: «الذات الكاملة» لا يقتضي ذاتا وكمالا، بل يدل على معنى واحد، وإن ماهية الله هي عين وجوده إذ لم يكن له مشارك في الماهية، ويتلخص مذهبهم في أن طريق السلب أقرب من طريق الإيجاب في فهم صفات الله، فأنت لا تجد صعوبة في الفهم حين تقول إن الله غير جاهل، وإنه غير عاجز، وإنه غير متعدد، وإنه غير مركب، وإنه غير ظالم، ولكنك تجد الصعوبة حين تتفهم كنه العلم وكنه القدرة وكنه الوحدانية وغيرها من معاني الأسماء الحسنى، وأجمل ابن مسكويه ذلك في كتاب الفوز الأصغر فقال: «إن البراهين المستقيمة الموجبة يحتاج فيها إلى إثبات مقدمات موجبة للمبرهن عليه ذاتية له أولية، وهي التي يوجد الشيء بوجودها ويرتفع بارتفاعها، والله تعالى أول الموجودات كما بيناه وبرهنا عليه، وهو فاعلها ومبدعها، فإذن ليس له أول يوجد في المقدمات، فلا يمكن إذن أن يبرهن عليه بطريق الإيجاب بالبرهان المستقيم، فأما برهان الخلف على طريق السلب فإنما يحتاج فيه إلى إزالة الأسباب والمعاني عنه، كما نقول: إنه ليس بجسم ولا بمتحرك وليس بمحدث ولا بمتكثر، كما قلنا: إنه ليس يمكن أن يكون للعالم أسباب لا ترتقي إلى واحد، فقد تبين أن برهان السلب أليق الأشياء بالأمور الإلهية وأشبهها بأن تستعمل فيها.»

ويرى الفلاسفة المسلمون أنه لا تعارض بين كمال الله وعلمه بالجزئيات؛ لأن علم الله لا يتوقف على الجزئيات، بل الجزئيات هي التي تتوقف على علمه، أو كما قال ابن سينا: «إن الأشياء حصلت لأن الله قد علم بها، وليس علم الله بها تابعا لحصولها في حينها، وكذلك لا تعارض بين القول بخلق العالم وقدمه؛ لأن العالم لم يسبقه زمان، وإنما سبقته ذات الله التي لا زمان لها ولا أول لوجودها، فقدم العالم معناه أن أوله كأول الزمان، وليس معناه أنه مستغن عن الإيجاد.»

وقال ابن سينا: «إنه ليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء؛ لأنه من ذاته يبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها وللكائنة الفاسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك بأشخاصها.»

وقال الغزالي في مناقشة ابن رشد: «إن تجريد الله من العلم بالجزئيات ومن التأثير في الموجودات ومن صفات العقل والإرادة - هو تنزيه يشبه العدم، وإنه لا برهان على أن «الواحد» لا يعقل غير الواحد ولا يصدر عنه غير الواحد، فإن دعوى الفلاسفة في ذلك دعوى لا يثبتها العقل ولا يعتمدون فيها على المشاهدة، ومتى سلموا أن عقل الله أشرف العقول فأشرف العقول لا محالة يتنزه عن الجهل بما تعلمه العقول المخلوقة، وإن اختلف علم الخالق عن علم المخلوق.»

أما أصحاب النقل والوقوف عند الحروف فقد سخفوا في فهم الصفات سخفا ينكره كل عقل سليم، فأثبتوا له أعضاء مجسمة، وقالوا بتحيزه في المكان، وأجازوا رؤيته بالعين كما نرى المحسوسات، وبلغ بعضهم من السخف أنه سئل: ألله يد؟ فقال: نعم، كيدي هذه! وليس لهم شأن عند جمهرة المسلمين.

وقد توسط أصحاب النقل مع اتخاذ الحجة والبرهان من المعقول فقالوا: إن الصفات متعددة ، وإن العلم غير القدرة، والرحمة غير الجبروت، وإن اليد هي القدرة، والوجه هو الوجود، وليست هي بأعضاء يجوز فيها التجسيم، ولكن الصفات موجودة والكيفيات مجهولة، فهم يمسكون عن البحث في ذات الله؛ لأنه جل وعلا بغير شبيه وليس كمثله شيء، واحتجوا لذلك بسببين؛ أحدهما: أن الدين ينهى عن الخوض في ذلك لما ورد في التنزيل من قوله تعالى:

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا

والسبب الثاني أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، والخوض في صفات الباري بالظن لا يجوز.

وقد أجاز هؤلاء رؤية الله بمعنى العلم الذي يحصل من النظر لا بمعنى الحس الذي يقع على المجسمات.

وإجماع المسلمين على أن هؤلاء هم أهل السنة، وأن معرفتهم بالله هي أسلم المعرفة التي يطالب بها المؤمنون.

والواقع أن التسليم في المسائل الإلهية أمر يقتضيه العقل ولا يأباه؛ لأن القياس إنما يكون فيما يقاس عليه، وما ليس له شبيه ولا مثيل لا يقاس عليه إلا كان القياس عرضة للخطأ والوهم والقصور، ونحن نعيش في الزمان الذي له ماض وحاضر وغيب مجهول، فكيف نقيس أعمالنا على الموجود الأبدي وليس في الأبد ماض ولا حاضر ولا نقطة يجوز منها الابتداء أو يصير إليها الانتهاء؟ فكيف نمنع أن يتكلم الله مثلا عن المستقبل كأنه واقع أو عن الماضي كأنه حاضر؟ أو يتكلم عن الأمور باعتبار جملتها في الأبد الأبيد ونحن لا نرى إلا الجزء بعد الجزء والحال بعد الحال؟ •••

ومن الأمثلة العالية للفكرة الإلهية في الإسلام خطبة وردت في نهج البلاغة ذكرت فيها الصفة بمعنى التمثيل لذات الله لا بمعنى الأسماء الحسنى، فإن الأسماء الحسنى ثابتة في القرآن الكريم لا ينكرها مسلم، وهذا بعض ما جاء في تلك الخطبة المنسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه:

الحمد لله الذي لا يبلغ من حقه القائلون، ولا يحصي نعماه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى عنه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده، أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، أجال الأشياء لوقتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها.

ولنا أن نقول على الجملة: إن هذه الفكرة الإلهية هي فكرة الإجماع في الإسلام، أما الفرق التي تنتمي إلى الإسلام وتقول بالحلول أو بتناسخ الأرواح أو بالوساطة بين الخلق والخالق - فالرأي المتفق عليه أن اعتقادها مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

الفلسفة بعد الأديان الكتابية

نشأت المذاهب الفلسفية بعد الأديان الكتابية متأثرة بها على نحو من الأنحاء: فإما للموافقة وإما للمخالفة وإما للمناقشة والتفسير.

فقد كان الفلاسفة يولدون هودا أو مسيحيين أو مسلمين، فيأخذون في التوفيق بين أديانهم وبين الفلسفة التي تعلموها أو علموها، ومن ألحد منهم فإلحاده في معظم الأحيان إنما هو إنكار لعقائد الأديان، وليس بالمذهب القائم على حدة بمعزل عنها، وعلى غير علم أو مبالاة بوجودها.

وكان أقدم النحل الفلسفية التي شاعت بعد اليهودية والمسيحية مذهب المعرفيين أو الجنوسيين

Gnostics

الذي تقدم السيد المسيح بزمن قصير.

وكان الغرض منه استخلاص المعرفة من جميع العقائد التي كانت يومئذ معتقدة مرعية بين أمم الحضارة، فأخذ من المجوسية والفرعونية واليهودية والوثنية الإغريقية، كما أخذ من فلاسفة اليونان، ولا سيما فيثاغوراس.

ولما شاعت المسيحية آمن بها أكثر المعرفيين وأدخلوا في مذهبهم عقيدة البنوة الإلهية وعقيدة الخلاص على نحو يوفق بين الفلسفة والدين، وكان إمامهم الأكبر بعد المسيحية فالنتينوس

valentinus

من الإغريق المتمصرين، فافتتح في رومة سنة 140 مدرسة لتعليم مذهبه وأضاف إليها كثيرا من الشعائر والرموز والتأويلات.

وخلاصة «الفلسفة المعرفية» أن عالم الغيب - أو العالم غير المرئي - وجد فيه منذ الأزل «الأب السرمدي» ومعه الصمت المطلق، والحقيقة الأبدية، وأن الأب السرمدي أودع العقل في الصمت، فالعقل ولده ونده لأنه عقله، ومن ثم كانت أصول القدم أربعة كما في مذهب فيثاغوراس، وهي: الأب والصمت والحقيقة والعقل أو «الكلمة» كما كانوا يسمونه في بعض الأحيان.

ويأخذ المعرفيون من المجوسية إيمانها بعنصري النور والظلام، ويزيدون عليها أن حجب الظلام تحول بين الإنسان وبين رؤية الله، ويقولون إنها سبعة آلاف حجاب تمر بها الروح الإنسانية في هبوطها من العالم الأعلى إلى عالم الفساد، وعملها - وهي في ثوب الجسد - أن تشق هذه الحجب وترتفع إلى نور الله من جديد.

وقد نشأ الشر بخروج روح من الأرواح العلوية من عالم النور إلى عالم الظلام، فكل ما في عالم الأجساد هو صنع ذلك الروح، وهذه هي الخطيئة الأصلية في رأي المعرفيين.

وهم يعتقدون أن «المعرفة» هي سبيل الخلاص والرجعة إلى الله؛ لأن المعرفة تبدد حجب الظلام حجابا بعد حجاب، فلا يبقى في النهاية غير النور المطلق، وهو الله.

والمعرفيون لا ينكرون تعدد الأرباب دون الإله الأكبر وهو الأب السرمدي، بل يؤمنون بوجود آلهة أخرى بمثابة أرواح نورانية أو أرواح ظلامية، ويحسبون إله العهد القديم في عداد هذه الأرواح.

ولولا أن المعرفية هي أول محاولة عقلية لاستخلاص العقائد من الأديان والفلسفات لما اتصلت لها بالفلسفة علاقة تذكر في معرض الكلام على المباحث العقلية ؛ لأنها أشبه بنحل العباد منها ببحوث المفكرين. •••

وأول مفكر تقدم المفكرين بعد الميلاد وتخلص من هذه التلفيقات الوثنية وواجه الحكمة والدين بعقل الفيلسوف وسليقة المؤمن - هو أفلوطين إمام الأفلاطونية الحديثة، الذي ولد بإقليم أسيوط في السنوات الأولى من القرن الثالث للميلاد.

وهو أجدر فيلسوف أن يحسب من صميم المتصوفة، أو يقال عنه بغير جدال إنه إمام التصوف الذي امتزجت آراؤه بالطرق الصوفية ولا تزال تمتزج بها إلى هذا الزمان.

وقد بلغ أفلوطين غاية المدى في تنزيه الله، فالله عنده فوق الأشباه وفوق الصفات ولا يمكن الإخبار عنه بمحمول يطابق ذلك الموضوع.

بل هو عنده فوق الوجود.

وليس معنى ذلك أنه غير موجود أو أنه عدم؛ لأن العدم دون الوجود وليس فوق الوجود، وإنما معناه أن حقيقة وجوده لا تقاس إلى الجواهر الموجودة ولا تدخل معها في جنس واحد ولا تعريف واحد، فهو «أحد» بغير نظير في وجوده ولا في صفاته ولا في كل منسوب إليه.

ويغلو أفلوطين أحيانا فيقول إن الله لا يشعر بذاته؛ لأنه لا يميز ذاته من ذاته فيعرفها، ولكنه لصفاء وجوده يتنزه عن ذلك التمييز ويتنزه عن ذلك الشعور.

وبديه أن هذا المذهب يقتضي وسائط متعددة لربط الصلة بين هذا الإله «الأحد» الملطق الصفاء، وبين المخلوقات العلوية وهذه المخلوقات السفلية - ولا سيما خلائق الحيوان المركب في الأجساد.

وهكذا لزم أفلوطين أن يقول: إن الواحد خلق العقل، وإن العقل خلق الروح، وإن الروح خلقت ما دونها من الموجودات على الترتيب الذي ينحدر طورا دون طور إلى عالم الهيولى أو عالم المادة والفساد.

وليست مسألة الخلق مسألة مشيئة في مذهب أفلوطين، بل هي مسألة ضرورة لازمة من طبيعة الخير الذي هو الله، فالخير يعطي ضرورة وينشأ من عطائه ضرورة شيء من الأشياء، ولن يكون هذا الشيء إلا أقرب الأشياء إليه، وإن لم يبلغ مبلغه من الكمال، وهذا ما يسميه بضرورة الفيض أو الصدور.

غير أن الإعطاء لا ينقص المعطي في عالم التجريد والصفاء؛ لأن الفكرة لا تنقص بالإعطاء، بل تزيد من أخذ ولا تنقص شيئا ممن أعطاه، وأقرب مثال للفيض والصدور في المحسوسات صدور النور من الشمس، أو صدور الطيف في المرآة من صاحب الطيف، فلا نقص على الإطلاق في مثل هذا الصدور.

ولا تزال الروح تخلق ما دونها ثم يصدر عنه ما دونه حتى تتلبس الروح الإنسانية بالجسد أو الهيولى، ويتناقض أفلوطين في وصف الشر فيحسبه تارة من الروح التي تخلق الهيولى ويحسبه تارة من الهيولى التي تهبط بالروح إلى دركها الأسفل؛ لأنها سلب محض يهبط بالروح فتجاهده وتبلغ الخلاص بهذا الجهاد.

ومن ها هنا لزم أفلوطين أيضا أن يقول بتناسخ الأرواح وبالثواب والعقاب في أدوار التجسيم، فزعم أن الولد إذا قتل أمه عاد امرأة ليقتلها ابنها فتكفر بذلك عن ذنبها، وأن الظالم يعود ليظلمه غيره، وأن الضارب في عمر من الأعمار يقتص منه ضارب في عمر جديد.

ولا تذكر الروح ما مر بها في أعمارها الأولى؛ لأن الذاكرة عرض من عوارض التلبس بالأجسام الفانية وما يجري منها أو عليها، أما الروح المجردة فهي أبدية لا تتغير باختلاف الأعمار عليها، فلا تستبقي بعد مفارقة الجسد أثرا مما طرأ عليها فيه.

ويرى أفلوطين أن الله لا يعرف بالعقل وهو في الجسد، بل تراه الروح وهي في حالة الغيبوبة؛ لأنها حالة تجاوزت فيها جسدها فتصعد إلى مقام الإلهام، وهي لا تبصر في تلك الحالة شيئا يدخل في نطاق المعقولات، ولكنها تترجم عنه إذا هبطت من مقام «الأحد» إلى مقام العقل والتفكير.

ويخالف أفلوطين سابقيه من جماعة المعرفيين في إنكارهم كل جمال وكل خير في هذه المخلوقات التي ابتدعها الروح الهابط بالخطيئة من سماء عليين، فإنهم يقولون: إن المحسوسات كلها - حتى الشموس والكواكب - شرور ونحوس، ويقول هو: إن جمالها هو الدليل على مصدرها الأول، وإنها تستمد الكمال طبقة بعد طبقة من كمال الله. •••

ولم يظهر بعد أفلوطين فلاسفة لهم خطر في التفكير الإلهي غير فلاسفة الإسلام في الشرق والأندلس وفلاسفة الكنيسة المسيحية، وقد تقدمت خلاصة أقوالهم في الفكرة الإلهية، عند الكلام على الأديان الكتابية بعد الفلسفة الإغريقية.

ثم انطوت القرون في ظلمات العصور الوسطى إلى القرن السابع عشر الذي اشتهر فيه ديكارت الفرنسي 1596-1650 ثم القرن الثامن عشر الذي اشتهر فيه بركلي الإيرلندي 1685-1753 وهما بحق مجددا حياة الفلسفة في العالم الحديث.

فأما ديكارت فهو يرى أن إثبات وجود العالم يتوقف على ثبوت وجود الله، فهو لا يتخذ من العالم دليلا على وجود صانعه - بل يتخذ من وجود الصانع الكامل الأبدي دليلا على أن العالم حقيقة وليس بالوهم الباطل.

ويرى ديكارت أن وجود النفس ووجود الله حقيقتان ثابتتان بغير برهان، فهو يقول «أنا افكر أنا موجود» فيعلم أن النفس موجودة لا شك فيها، ولا يسوق هذا العلم مساق القضية المنطقية التي لها مقدمة ونتيجة، بل يسوقه مساق المعرفة اللدنية التي يتلقاها مباشرة من الوجود الثابت، وإن كانت الكلمة التي قرر بها وجود النفس صالحة لأن تتخذ قضية ذات دليل.

وفكرة الكمال المطلق كفكرة «الأنية» حقيقة مباشرة يتلقاها العقل من مصدرها، ويستلزمها كذلك بالبرهان الصحيح.

فلو لم يكن الكائن الكامل موجودا لما خطرت فكرته على بال، ولو لم تخطر على بال لكان الكائن الذي لا حدود له ضرورة عقلية؛ لأن وضع هذه الحدود تعسف لا يقوم عليه دليل.

والله كامل مطلق الكمال، سرمدي مطلق الدوام، خلق الأرواح والأجساد، أو خلق الروح والمادة جوهرين مختلفين، وزود المادة بمقدار من الحركة لا يزيد ولا ينقص، وجعل لها قوانين أو نواميس لا تخرج منها إلا بإذنه وتقديره، وقد يشاء الله خرق العادات، بل يشاء تغيير الحقائق الرياضية والبراهين البديهية؛ لأنه هو خالق كل شيء، وقدرته تحيط بكل شيء، وكل ما أراده فهو ممكن وهو معقول لصدوره منه ورجوعه إليه، ولا يزال الخلق متجددا بلا انقطاع؛ لأن الخلق إنما يقوم بالخالق الدائم ولا يفرغ عمله في وقت محدود.

وقد حاول ديكارت أن يقيم بين العقل والمادة قنطرة تنتقل بها المؤثرات بين هذين الجوهرين المختلفين، فقال: إن الغدة الصنوبرية في الدماغ هي الحلقة المتوسطة بين روح الإنسان وجسده، وقد رأينا مما تقدم أن بعض العلماء المعاصرين يؤيدون هذا القول ويدعمونه بالمشاهدة والاستقراء، ولكن ديكارت لم يعن بإيجاد مثل هذه القنطرة بين الله والعالم؛ لأنه كما يفهم من مجمل آرائه يرى أن قدرة الله في غنى عن ذلك الوسيط، وقد قال تلميذه لويس دي لافورج: إن تأثير الأجسام في الأجسام واقع مفروغ منه، ولكننا إذا حاولنا فهم الحقيقة التي يقع بها التأثير لم تكن أيسر فهما من تأثير الأرواح في الأجسام، ولولا الواسطة الإلهية لما وصلت الأفكار نفسها إلى العقول والأرواح. •••

أما جورج بركلي فلا وجود في رأيه لغير العقل أو الروح، ولا وجود للمادة في الخارج إلا من عمل العقل الباطن؛ لأن الصفات التي تنسب إلى الأشياء ليست في الأشياء بل في العقل الذي يدركها، فالامتداد والشكل والحركة وهي الصفات الأولية المنسوبة إلى المادة هي عوارض فكرية لا توجد في خارج العقول: واللون والطعم والصوت هي كذلك إحساس عقلي وليس صفات عالقة بالأشياء، وإذا قيل له إن الصوت حركة نراها في الهواء قال: ولكن الحركة ترى ولا تسمع، فالصوت إذن من عمل السامع على كل حال.

وسخر بعضهم من هذا الإنكار فنظم أبياتا فكاهية يقول فيها ما فحواه: «إنك أيتها الشجرة لا توجدين إذا أغمضت عيني ولم أنظر إليك»، فأجابه بركلي قائلا: «كلا، بل توجد إذا أغمضت عينك؛ لأن الله لا يغمض عينه.»

وهذا هو البرهان الأكبر على وجود الله في مذهب بركلي، وهو توقف الموجودات كلها على عقل شامل الإدراك يحتويها، ومن هذا العقل يصل إلى عقولنا علمنا بالموجودات؛ لأن العقل لا يفهم إلا عن عقل يلقي إليه بالمعرفة إذ لا معرفة في غير العقول.

قال في أصول المعرفة الإنسانية: «إن التحقق من إدراك وجود الله لأكثر جدا من تحقق وجود الإنسان؛ لأن مؤثرات الطبيعة تزيد زيادة لا نهاية لها على جميع المؤثرات المعزوة إلى الناس.»

وقد نظر بركلي في هذا إلى رأي لوك

Locke

سلفه في الفلسفة الإنجليزية حيث يقول: «إن لنا من المعرفة اليقينية بوجود الله ما يزيد على كل معرفة لم تكشفها لنا الحواس، لا بل يسعني أن أقول: إن يقيننا بوجود إله أقوى من اليقين بوجود أي شيء خارج عنا.»

ولكن بركلي كما رأينا قد جاوز رأي لوك في إثبات الوجود للعقل وحده، وكان أثره في إنشاء الفلسفة المثالية

Idealism

أعظم من آثار جميع سابقيه. •••

وخلف ديكارت وبركلي في القارة الأوروبية والجزر البريطانية فلاسفة كثيرون من ذوي الآراء المعدودة في الحكمة الإلهية، أشهرهم سبنوزا وليبنتز في أوروبة، وهيوم ومل وهاملتون وريد في الجزر البريطانية، عدا فلاسفة ألمانيا الذين ظهروا في القرن التاسع عشر قبل الفلسفة المعاصرة، وأشهرهم كانت وهيجل وشوبنهور.

ومذهب سبنوزا 1634-1677 أن الله والكون والطبيعة جوهر واحد؛ لأن الجوهر ما قام بنفسه، أو هو واجب الوجود، وهو لا يتعدد.

ولهذا الجوهر فكر وامتداد، وكل ما في الوجود من المعقولات والمحسوسات فهو مظاهر للفكر أو للامتداد، فالفكر تبدو مظاهره في عقل الإنسان، والامتداد تبدو مظاهره في هذه الأجسام.

والله علة الأشياء كلها بالمعنى الذي نفهمه من أنه هو علة نفسه، فليس خارج اللانهاية شيء، والله هو اللانهاية، وإنما الفرق بين الله ومجموعة الظواهر المتفرقة أن مجموعة الظواهر المتفرقة تمثل الجانب المخلوق

Natura Naturata

وأن الله يمثل الجانب الخلاق

Natura Naturans .

فإذا قال قائل: إن هذا الإنسان يفكر، يفهم سبنوزا أن الله هو الذي يفكر بمقدار ما يتجلى في ذلك المظهر، وكذلك إذا قلنا إن تلك الشجرة تنمو أو ذلك الكوكب يتألق، فكل ذلك هو مظاهر إلهية تتراءى لنا في صورة الأعراض لأننا نحن أنفسنا من الأعراض.

وسبنوزا لا يصف الله بالإرادة والسمع والبصر والرضا والغضب والحكمة؛ لأن الله لا يمكن أن يتحول إلى حالة أكبر أو حالة أقل من وجوده فيرضى أو لا يرضى ويريد أو لا يريد، وهو - لأنه جوهر قائم بذاته - ليس وراءه شيء يحتاج إليه، فإذا أسندت هذه الصفات إلى الله وجب أن نقصي من أذهاننا كل مشابهة في الحقيقة أو المجاز بينها وبين الصفات التي نسندها إلى المخلوقات، وإنما هي أوهامنا نحن تمثل لنا هذه المشابهات ، ولو أن المثلث عقل نفسه لحظة لخيل إليه أن الله مثلث الأركان.

والله لا يعمل الشر ولا يعلمه؛ لأنه ليس هنا شر بالقياس إلى اللانهاية، ولكنه يأتي من اكتفاء كل جزء من هذه الأعراض المحسوسة بنفسه كأنه جزء منفصل عما حوله، أو هو نفي وليس بثبوت، وليس في حق الله نفي بل كله ثبوت، ولا يعرض النفي إلا للمحدود الذي ينقص ويزيد.

والخلق لا يفيد معنى الإنشاء من العدم في مذهب الفيلسوف، بل هو لازم لزوم الأعراض أو المظاهر للجوهر الإلهي القائم بغير ابتداء. «وكل ما جرى فهو يجري بقوانين سرمدية في الجوهر الإلهي مستمدة من ضرورة وجوده على الوجوب؛ إذ ليس في الكون ممكن على الإطلاق، ولكن الأشياء محتومة الوجود والعمل على نحو تستلزمه ضرورة الطبيعة الإلهية، ولا سبيل إلى نشوء هذه الأشياء على أي نحو أو أي نظام يخالف ما وقع، ولهذا لزم أنها وجدت على أكمل الأنحاء والنظم إذ هي نشأت ضرورة من طبيعة على أتم كمال.»

وواضح من هذا أنه لا محل للحرية الإنسانية ولا للثواب والعقاب في هذا المذهب، ولكن الإنسان يترقى فيتحد بالجوهر الإلهي بقدر مقدور أو بالمعرفة و«الحب العقلي» كما سماه، أي حب العارفين الذين استحقوا أن يتجاوزوا مرتبة الأعراض إلى الجوهر الأبدي المطلق الذي يتجردون فيه من التجزؤ والانفراد.

وقد نفى سبنوزا في بعض رسائله أنه يقول بوحدة الله والطبيعة، وفسر كلامه بأن الله «حاضر» في الطبيعة لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه؛ لأنه لا انفصال عن اللانهاية، وهي الله.

وعقدة الإشكال كلها - على ما رأينا - هي أن سبنوزا لم يرد أن يفرق بين وجود الأبد ووجود المكان والزمان، فالمكان يأخذ من المكان، والزمان يلحق بما له حركة تبتدئ وتنتهي في أمد محدود، وليس للانهاية حيز يجوز عليه مكان ولا زمان، فلا تناقض بين كمال الله ووجود الكائنات التي تتحيز في قضاء محدود أو تجري إلى أمد محدود. •••

ويعد جوتفريد ويلهم ليبنتز 1646-1726 أكبر الكارتيين بحق بين فلاسفة الألمان وفلاسفة القارة الأوروبية على التعميم.

وشعار ليبنتز في مسألة الخلق «أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان» وأن هذا العالم ليس بالعالم الوحيد الممكن في قدرة الله، فإن قدرة الله لا تنحصر في ممكن واحد بل تتناول جميع الممكنات، ولكن هذا العالم أحسن العوالم الممكنة التي تقبل الوجود، وكان في قدرة الله أن يخلقه بغير شر ولا قبح فيه، ولكنه يكون إذن بغير خير ولا جمال؛ إذ الخير مرتبط بالشر والجمال مرتبط بأضداده، ومن تمثيله لذلك أن الظمآن إذا نقع غليله بالماء البارد القراح شعر بلذة جديرة باحتمال الظمأ في سبيلها ويطيب له تكرارها وتكرار ألم الظمأ الذي يشوقه إليها.

وفي الوجود على مذهب ليبنتز جواهر لا عداد لها يسميها الوحدات أو الأحاديات وهي باليونانية موناد

Monads : كل منها بمثابة مرآة للوجود كله يختلف نصيبها من تمثيله باختلاف نصيبها من الصفاء والجلاء، وهي لا تتطلب أن يؤثر بعضها في بعض لأنها تعمل جميعا بقانون واحد مذ كانت كلها منطوية على مثال الوجود كله، وهي كالساعات التي تدق دقاتها معا بغير تأثير من إحداها على الأخرى؛ لأنها متفقة التركيب والحركات.

وإذا اجتمعت هذه الوحدات في بنية واحدة كانت لتلك البنية «أميرة» ممتازة من تلك الوحدات، وهذه الأميرة لا تحركها ولا تؤثر فيها، ولكنها إذا تحركت كانت أصدق الوحدات تمثيلا لنظام الوجود، كما تكون الساعة المجلوة المتقنة أوضح في رصد الوقت وضبط الحركات من سائر الساعات.

وكل هذه الوحدات جواهر بسيطة لا امتداد لها ولا مقياس لها إلا مقياس الحركة المجردة، والله أعلى هذه الوحدات جميعا، ومنه تصدر القدرة التي تنتقل إليها على سبيل المحاكاة، وهي قدرة لا تنقطع عن الخلق ولا يزال صدور الوحدات منها في اطراد.

ولو لم تكن وحدات الوجود «بسائط» لكانت المركبات كلها أعراضا وهو محال، فلا يكون جوهرا إلا ما هو بسيط، ولا يكون المركب موجودا وجودا صحيحا إلا باشتماله على هذه البسائط أو الوحدات.

وقد امتاز ليبنتز بحسن تلخيصه للبراهين المثبتة لوجود الله، فمن تلخيصاته أنه قسم المقررات إلى وقائع زائلة وحقائق أبدية كالحقائق الرياضية ، فاستدل من دوام الحقيقة على حق دائم هو الله، ومن التلخيصات أن وجود الممكنات لا يشتمل على سبب كاف لتعليل وجودها، فنحن نسأل لماذا وجد العالم؟ فلا نفهم لذلك علة كافية إلا إذا تعلق الأمر بخالق واجب الوجود، شاء له أن يوجده لحكمة تحسن بواجب الوجود. •••

وأكبر الفلاسفة الذين ظهروا في الجزر البريطانية بعد بركلي هو دافيد هيوم 1711-1776 ولعله أكبر الفلاسفة المحدثين في القارة الأوروبية.

والشك في الحواس وفي طاقة العقل الإنساني هو سمة هيوم في كل ما كتب من المباحث الفكرية، ورأيه في وجود الله يوافق هذه السمة الغالبة عليه، فهو يرى أن إثبات وجود الله لم يكن رغبة من رغبات العقل، ولكنه رغبة كبرى من رغبات الضمير والشعور، فالأسباب التي تشكك الفيلسوف في الإيمان هي بعينها أسباب المتدين التي تبعثه إلى الإيمان، وهي الشكايات والآلام والشرور، وقد تعلق البشر بالله لأنهم يعتصمون بالرجاء وينشدون السعادة، وكلاهما باعث أصيل في النفس الإنسانية، فليكن هذان الباعثان مناط الإيمان بوجود إله قادر على الإسعاد وتلبية الرجاء.

وقد عرضنا لرأي جون ستيوارت مل في موضع آخر من هذا الكتاب، فلم يبق في الفترة التي بين فلسفة هيوم وفلسفة المعاصرين من هو أولى بتلخيص رأيه من ريد الذي ولد في أوائل القرن الثامن عشر 1710، وهاملتون الذي ولد في أواخره 1788.

ويبني ريد فلسفته على الحقائق اللدنية التي يقرها الإدراك السليم

Common Sense

ولا تحتاج إلى برهان، ومنها وجود المدركات وهي العالم الخارجي، ووجود القوة المدركة وهي النفس الإنسانية، فلا يمكن عقلا أن يكون أساس الوجود أكذوبة أو أن يكون «الوجود» غير موجود إن أدركناه على غير حقيقته الخفية، ووجود العالم ووجود النفس هما الدليل على وجود الله، بل وجود الله حقيقة من حقائق الإدراك السليم، وليست بساطة الاستدلال على الصانع من صنعه مضعفة من قوة الدليل؛ لأن الحقائق لا تكتسب القوة بالتنويع والتركيب، بل أبسطها هو في الواقع أقدمها وأغناها عن الزخرفة والاختراع.

وهاملتون يبني فلسفته في الدين على فلسفته في أصول المعرفة، وخلاصتها أن الإدراك موقوف على الكيفية، فلا يقبل الإدراك ما ليست له كيفية

Unconditioned

وقولك إنك تفكر مرادف لقولك إنك تضع حدودا وشروطا لما تفكر فيه، فالوجود المطلق لا يدخل في حيز التفكير ولا تدركه العقول، وليست نتيجة ذلك أننا ننكر الوجود المطلق؛ لأن معرفتنا بقصور معرفتنا لا ينتج منه أن نجعلها حكما في الإثبات والإنكار، وإنما تستلزم هذه الحقيقة نتيجة أخرى وهي ضرورة الاعتقاد، وأنه لازم لإتمام عمل العقل في الإنسان، ولا يحب هاملتون أن يخلي ضرورة الاعتقاد من أسبابها الفكرية الراجحة، بل يجعلها قضية معقولة قائمة على أن الفرضين المتعارضين أحدهما صحيح لا محالة، فنحن إذا أردنا أن نعرف الوجود المطلق - أو نعرف الله - فإما أن يتمثل لنا كأنه «لا نهاية» مكيفة، أو يتمثل لنا بلا كيفية من الزمان والمكان والصفات، ونحن لا ندرك اللانهاية بحال لأنها غير قابلة للإدراك، فليس أمام العقل إلا أن يدركها كما تتصل بالكون، فتمثل بذلك نوعا من «الكيفية» لا سبيل إلى غيره، فهو دون غيره ما يسلمه العقل ويتممه الإيمان.

وتعد الفترة التي بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر عصر كانت 1724-1804 وهيجل 1770-1830 في الفلسفة الأوروبية؛ لأنهما قد هيمنا بمذهبهما على مسالك التفكير التي شاعت بعدهما في أوروبة، ولا يزالان يهيمنان عليها إلى العصر الحاضر.

كان «كانت» من المؤمنين بالله، إلا أنه يكل الإيمان إلى الضمير ولا يعتمد فيه على البراهين العقلية التي تستمد من ظواهر الطبيعة.

فالعقل في مذهب كانت لا يعرف إلا الظواهر الطبيعية

ولا ينفذ إلى حقائق الأشياء في ذواتها

Noumena .

والروح فاعلة أبدا وليست مفعولا أو موضوعا للمعرفة، فهي عارفة غير معروفة.

وليست مسألة الإيمان من ثمة مسألة علاقة بين الله والطبيعة، أو بين الله وهذه الأكوان المادية، ولكنها مسألة علاقة بين الله وضمير الإنسان، فمن ضمير الإنسان إذن نستمد الدليل على وجود الله.

وفي ضمير الإنسان شعور أصيل بالواجب الأدبي، وقسطاس مستقيم يوحي إليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه.

وهذا الوحي الذي أودعه الله النفس الإنسانية ضمين بإسعاد من يطيعونه وحسن الجزاء لهم من الله.

ولكنهم لا يسعدون في كثير من الأحيان، وقد يسعد الآثمون ويشقى العاملون بالواجب في هذه الحياة.

فلا بد من عالم آخر يتكافأ فيه واجب الإنسان وجزاؤه، وهذا هو البرهان الأدبي على خلود الروح وحرية الإنسان.

وهيجل يؤمن بالله كذلك ولكن على نحو يشبه الإيمان بوحدة الوجود، فليس في الكون غير العقل، والعقل هو الكون - وهو العقل المطلق - يتجلى في الموجودات على سنة مطردة: وهي السنة الثنائية

Dialectic .

وخلاصة هذه السنة أن كل موجود في هذا الكون ينشئ نقيضه، ثم يجتمعان في موجود أكمل من الموجود الأول، ويعود هذا الموجود الأكمل فينشئ نقيضه، ويكون هذا التطور سبيلا إلى استيفاء الحقيقة من وجوه عدة، بدلا من حصرها في وجه واحد.

فهناك التقرير

Thesis

ثم النقيض

Antithesis

ثم التركيب

Synthesis

وهو يجمع التقرير والنقيض.

وإذا طبقت هذه السنة على مسألة الوجود الكبرى بدأنا بالوجود المطلق، وهو التقرير، ونقيض الوجود المطلق هو العدم، والتركيب الجامع للوجود المطلق والعدم هو الصيرورة؛ لأن الشيء في حالة الصيرورة يكون موجودا وغير موجود، ولا يأخذ في الوجود من ناحية حتى يأخذ في الزوال من ناحية أخرى.

ومن الضروري لفهم هيجل في هذه المسألة أن نفهم ما يعنيه بالعدم الذي يقابل الوجود المطلق.

فالوجود المطلق هو الوجود الكامل الذي لا تقيده صفة من الصفات ولا حالة من الحالات، وخلو الوجود من كل صفة وكل حالة يقابله العدم الذي يعنيه الفيلسوف.

ومتى حدثت الصيرورة في الوجود المطلق كان منه الوجود الذي له صفات وأحوال، وهو يتطور على السنة المتقدمة من تقرير، إلى نقيض، إلى تركيب.

وقد تجلى الوجود المطلق في هذه التطورات حتى بلغ طور الإنسان، وهو طور الوعي أو إدراك الوجود لنفسه، ولا يزال الوجود المطلق متجليا حتى يشمل الوعي كل موجود.

فالصيرورة قنطرة بين الكمال المطلق، والعدم المطلق، لا بد منها لإخراج هذه الموجودات المحدودة التي ليست بكاملة ولا معدومة.

والله هو كل الوجود سواء في كماله المطلق أو في تجليه في كل محدود من هذه الكائنات. •••

ومن البديه أننا لا نستقصي بهذه العجالة كل رأي لكل فيلسوف ظهر في العصور الحديثة، فذلك شرح يطول ولا تدعو إليه الحاجة فيما نحن فيه، ولكننا توخينا أن نكتفي بالفلاسفة الذين فصلوا آراءهم ومذاهبهم في المسألة الإلهية، وأن نكتفي من هؤلاء بمن يعبرون عن جوانب النظر المتعددة، ولا نحصيهم جميعا على سبيل الاستقصاء.

وقد عرفت لغير هؤلاء الفلاسفة آراء تستحق الإلمام بها لأنها تعبر عن وجهات نظر لم تذكر كلها فيما أسلفناه.

وأحقها بالذكر هنا رأي نيوتن الإنجليزي وكونت الفرنسي، وأولهما مؤمن وثانيهما لا يثبت الله ولا ينفيه.

أما رأي نيوتن فهو أننا لا نصف العالم بالإحكام والإتقان لنستدل بإحكامه وإتقانه على وجود صانعه وهو الله، فإن هذا الدليل ينطوي على تناقض في رأي الفيلسوف؛ لأن العالم المحكم المتقن يستغني بقوانينه ونواميسه عن العناية الإلهية بعد خلقه، والإيمان بالله قائم على الإيمان بالعناية التي تحيط بالخلق في كل حين، فوجود النقص في العالم لا ينفي وجود الصانع الحكيم، بل وجود هذا الصانع الحكيم يقتضي أن يكون العالم مخلوقا لا يبلغ الكمال كله، ويفتقر إلى موجده على الدوام.

ويسخر ليبنتز بعالم نيوتن؛ لأن ليبنتز كما تقدم يرى «أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان»، ويقول: إن عالم نيوتن كالساعة التي تحتاج إلى إدارة اللوالب وإصلاحها من حين إلى حين، وجلت صنعة الله عن مثل هذا الصنيع.

وخير ما يستفاد من هذه المقابلة بين العقلين الكبيرين أن المسألة أكبر من أن يحاط بها في تفكير واحد، وأنها قابلة للرأيين معا بعد التدبر والإنعام.

فمذهب ليبنتز لا ينفي أن العالم ناقص كما تكون جميع «الممكنات»، فكون العالم «أحسن عالم ممكن» لا يخرجه من عداد الممكنات التي لا تبلغ في الكمال مبلغ واجب الوجود.

وكون العالم محكما متقنا على أي معنى من معاني الإحكام والإتقان لا يسوغ الاعتراض من جانب نيوتن، بل يحتاج إلى تكملة من رأي الفلاسفة الآخرين الذين يقولون إن الخلق عمل مستمر وليس بعمل منقطع في وقت ينتهي إليه ، فلا يزال الوجود قائما بقدرة الله لأنه لا يستقل بكيانه أبدا ولا ينحصر كيانه في وقت من الأوقات. •••

وأوجست كونت إمام الفلسفة الوضعية يقول: إن البشر يتقدمون من طور الدين إلى طور الفلسفة إلى طور العلم الوضعي، ثم يعتمدون على هذا العلم وحده في كل معرفة يدركونها، ولا وسيلة إلى الإدراك غير التجربة والمقابلة والاستقراء.

ومهما يجهد العقل فلن يصل إلى حقيقة بغير هذه الوسيلة، فإدراك المسائل الغيبية من وراء أمد العقول، وقد تستغني العقول عن إدراكها لأنها لا تغير حياتها على هذه الأرض، وهي حياة قائمة على التجارب في حدود المعلوم من القوانين والنواميس.

وليس أمامنا غاية مثالية نتجه إليها بالإيمان ونثبتها بوسائل المعرفة الميسورة غير «سعادة الإنسانية» وتقديس أمثلتها العليا في الخير والحق والجمال.

ومن الجديرين بالتقديس أنبياء الماضي وأئمة الإصلاح في كل جيل؛ لأنهم خدموا الإنسانية وزودوها بالأمل والعزاء وفتحوا لها طريق الاستقامة والعمل المشكور، وقد جعل لكل نبي من هؤلاء الأنبياء، موعدا يذكر فيه وشعائر مرعية لعبادة الإنسانية في ذكراه.

وخير ما يستفاد من مذهب كونت أن الدين حاجة إنسانية لا غنى عنها، وأن الله كما قال فولتير: لو لم يكن موجودا لوجب إيجاده في العقل والضمير، ويبقى أن كونت يتخطى الركن الأكبر من أركان الإيمان وهو الصلة بين النوع البشري وعالم اللانهاية، فإذا كانت الصلة بين الإنسان واللانهاية تنقطع لأن اللانهاية لا يحاط بها في العقول، فمعنى ذلك أن «اللانهاية» لن يؤمن بها لأنها لا نهاية، وأن الكمال المطلق لن يؤمن به لأنه كمال مطلق، وأن يكون السبب المستحق للإيمان هو السبب المبطل للإيمان في رأي فيلسوف العقل والتجربة، وما كان العقل والتجربة لينكرا قولا هو أحق بالإنكار من هذا الرأي العجيب، وأصح من هذا أن يقال: إن الكمال المطلق لا يحاط به، ولكن هناك وسيلة للإيمان به غير تجارب العلوم وحدود المنطق، وقد وجدت هذه الوسيلة فعلا ولم يقتصر القوم فيها على أنها فرض من الفروض.

التصوف

لا بد من فصل خاص عن التصوف بين فصول الكلام على الفكرة الإلهية؛ لأنه ينفرد بتفسيرات في هذا الموضوع لا تتواتر في العقائد العامة ولا تشبه المذاهب العقلية التي يذهب إليها الفلاسفة.

وهو ملكة فردية يستعد لها بعض الآحاد ولا تشيع في الجماعات، وقد توصف «بالعبقرية الدينية» إذا بلغت مرتبة التأصل والابتكار.

ومن لغو القول أن يقال إن هذه العبقرية هي نوع من التسامي بالغريزة النوعية أو الجنسية، لكثرة ما يرد في أقوال المتصوفة من عبارات الغزل وكنايات الوجد والشوق والهيام.

فهم في الواقع يكثرون من هذه العبارات والكنايات، ويتكلمون في الوصل والهجر والشوق والدلال كما يتكلم العشاق في قصائد الغزل والمناجاة.

فيقول الحلاج مثلا: «يا أهل الإسلام! أغيثوني، فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه.»

وتقول رابعة العدوية:

أحبك حبين حب الهوى

وحب لأنك أهل لذاكا

ويبرز هذا المعنى كل البروز حيث يقول ابن عربي في حلم رآه:

رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية، ثم لما أكملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها، وعرضت رؤياي هذه على من عرضها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، فقال: صاحب هذه الرؤيا يفتح له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون لأحد من أهل زمانه.

فهذا وأشباهه كثير من أقوال أهل التصوف الذين امتازوا بالعبقرية الدينية هذا الامتياز.

ولكنهم لا ينفردون بهذه الحالة بين أصحاب العبقريات؛ فإن ما يصدق عليهم يصدق على عباقرة الفن وعباقرة الحرب وعباقرة المعرفة على التعميم، فما من أحد من أصحاب هذه العبقريات إلا لوحظ في تكوين مزاجه اختلاف قوي يمس الغريزة النوعية أقوى مساس، فمنهم من يفرط فيها ومنهم من يهملها، ومنهم من يصاب بالعقم ومن يولد له أولاد يموتون في الطفولة أو يولد له الإناث دون الذكور، ومنهم من يرتبط وحيه الفني بعاطفة من عواطف الحب تشغله في الحقيقة والخيال، فإذا قلنا إن العبقرية كلها نوع من التسامي بالغريزة النوعية بقي أن نعرف دواعي التمييز بين عبقرية المتصوف وعبقرية الفنان وعبقرية العالم وعبقرية القائد الفاتح والسياسي القدير، وإنما نذكر الواقع فنفهم الحقيقة في هذا الأمر على وجهه المستقيم، والواقع من جهة هو أن العبقرية «يقظة وتنبه» وأن الغريزة النوعية عميقة القرار في تركيب كل بنية حية، فلا تتيقظ النفس في أعماقها إلا تنبهت معها تلك الغريزة فبرزت بتعبيراتها على نحو من الأنحاء، والواقع من جهة أخرى أن العبقرية خدمة للنوع كله من جانب الخلق العقلي أو الروحاني لا من جانب الخلق الحيواني أو جانب التوليد، فلا عجب أن تنازع الغريزة مكانها وأن تنمو واحدة منهما «على حساب» الأخرى، ولا عجب أن تتلاقيا على حال من الأحوال وكلتاهما مرهونة بطلب التجديد والدوام في نوع الإنسان.

فالتسامي بالغريزة النوعية لا يفسر لنا التصوف أو العبقرية الدينية، ولا يفسر لنا البراعة الحربية أو القدرة على نظم الشعر ونحت التماثيل وتنسيق الألحان وكشف القوانين العلمية أو الرياضية، وإلا لكانت كل هذه العبقريات سواء في المعدن والقدرة، ولم يكن هنالك فرق بين الشاعر والفاتح والرياضي والموسيقار، وليس ذلك بتفسير وتوضيح، بل هو الإبهام كل الإبهام.

إنما التصوف - أو العبقرية الدينية - قدرة على الشعور بحقائق الدين والعبادة، وهو كجميع العبقريات قلق يتطلب الراحة بالتعبير عن نفسه، والتوفيق بين النقائض التي تعتريه والشكوك التي تساور الضمير فيما يجب عليه.

وقد أصاب الغزالي حين سمى هذه العبقرية بالذوق والسلوك، ولا نحسب أننا نختار في وصف قلق النفس ونوازعها إلى التصوف كلاما هو أصدق من كلامه في التعبير عن هذه الحالة، حيث قال في كتابه المنقذ من الضلال:

ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار: أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما ، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل؛ فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاوعها؛ فإنها سريعة الزوال، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطبيبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة ولا أستطيعها البتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب بطل معه قوة الهضم وقرم الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي شربة ولا يهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم، فلا سبيل إلى العلاج إلا بأن يتروح السر من الهم الملم، ثم لما أحسست بعجزي وسقط اختياري التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أوري في نفسي سفر الشام، ففارقت بغداد وفرقت ما كان معي من مال ولم أدخر إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال.

ويختلف المخرج من هذه الحيرة باختلاف مزاج الصوفي وتكوينه، فإذا غلب عليه الشعور طلب سلام النفس بالزهد والتخلي عن العلاقات واستراح إلى سكينة التسليم، وإذا غلب عليه العقل والبحث طلب سلام النفس من طريق المعرفة التي ترفع النقائض، وتجمع الخواطر إلى وحدة يطيب للعقل أن يستقر عليها.

وهؤلاء هم الذين يقولون مع معروف الكرخي: إن التصوف هو معرفة الحقائق الإلهية، يكثر فيهم الاشتغال بالفلسفة وتأويل مذاهبها، ولكنهم ينقلونها من الفكر إلى الشعور ويحاولون أن «يحسوها» كإحساس المرء بالكائنات التي يتعلق بها الحب ويشهد عليها الجمال.

وكل فكرة يؤمن بها الصوفية تنطوي في فكرة واحدة أصيلة شاملة لكل ما عداها: وتلك هي بطلان الظواهر وقيام الحقيقة فيما وراءها.

فمن قديم الزمن قال الفلاسفة إن هذه المادة المتغيرة خداع من الحس وإن جوهر الوجود الصادق إنما هو العقل السرمدي الذي لا تغير فيه، أو هو الروح السرمدي كما يرى بعض الفلاسفة الذين يوحدون العقل والروح.

ولكن التصوف هو الشعور بهذه الحقيقة لا مجرد التفكير فيها، وسبيل المتصوف إلى ذلك هو الإعراض عن هذه الظواهر بالزهد فيها والتنصل منها، فهي الحجب التي تستر الحقيقة الإلهية عن النفس البشرية، وكلها باطل تتكشف عن وهم زائل؛ إذ لا موجود كما قال ابن عربي: «إلا الله، ولا يعرف الله إلا الله.»

ومنهم من يغلو فيقول بوحدة الوجود، ويقول: إن الله هو جميع هذه الموجودات، وإنها ليست فيه على سبيل التجزئة والتفرقة، ولكنها تكمن فيه كما يكمن الربع والنصف في الواحد، فليس هو كله، وليس هو منفصلا عنه، وليس هو موجودا على التحقيق، ولكنه موجود بالإضافة إلى وجود الله، أو أن وجوده كوجود الفرد بالنسبة إلى حقيقة النوع، فهو ليس بمعدوم، ولكنه لا يزيد تلك الحقيقة ولا ينفصل عنها.

وليس في الكون قبح أو شر عند هؤلاء المتصوفة إلا بالمقابلة بين بعض الموجودات وبعضها دون الوجود المطلق الذي لا يقبل التعيين والمقابلة، ولا توجد الأشياء بالنسبة إليه وجود الانفصال والتخصص والموافقة والنفور، كما قال بهاء الدين العاملي: «إن نجاسة الأشياء وتقذرها ليست وصفا ثابتا في أنفسها، فإن كل طبيعة متعينة لها ملاءمة بالنسبة إلى البعض ومنافرة بالنسبة إلى البعض الآخر، وذلك من آثار ما به الاشتراك وما به الاختلاف الواقع من التعيين، فأيهما غلب ظهر حكمه من الملاءمة والمنافرة، والنجاسة الواقعة في بعض الأشياء إنما هي بالنسبة إلى ما يقابلها من الطبائع التي وقعت بينها أسباب المخالفة، فهي لا تثبت لشيء إلا بالنسبة إلى ما يقابلها، لا بالنسبة إلى الإطلاق والمطلق، فهي وما يقابلها مما سمي نظافة على السوية بالنسبة للمطلق.»

والمتصوفة في النظر إلى هذه الأشياء فريقان: فريق يرى أن «الكشف» حاضر يتحقق باحتجاب هذه الموجودات الباطلة، ومنها معالم الشخصية الإنسانية، فإذا غاب الإنسان عن حسه وعن محسوساته فهو في حضرة الله، وإذا استولى الحق على قلب أخلاه من غيره كما قال الحلاج: «وإذا لازم أحدا أفناه عمن سواه»، وذاك هو الفناء في الله بلغة أبي يزيد البسطامي، أو حب الذات للذات كما يقول ابن الفارض:

وما زلت إياها وإياي لم تزل

ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت

ويستوي في هذا الشعور متصوفة الشرق والغرب من جميع الأديان، فانتفاء الشعور بالموجودات الباطلة هو الشعور بالله عندهم؛ لأن الشعور بالبطلان هو الذي يحجب الشعور بالحقيقة. قالت القديسة تريزا

St. Teresa : «في الفترة التي تتحد فيها الروح تتجرد الروح من كل شعور، وإذا استطاعت أن تشعر فهي لا تشعر بشيء معين، فلا حاجة بها إلى حيلة لحجز العقل عن التفكير؛ لأنها تظل مأخوذة في سكينتها حتى لتجهل ما تحب وما تريد، أو هي بالإيجاز في حكم الميتة، بالنظر إلى أشياء هذه الدنيا، ولا تعيش إلا في الله.»

وكان إكهارت

Eckhart

يسمي الله الذي يشعر به في هذه الحالة: «باللاشيء الذي لا يسمى»، ولا يقصد باللاشيء نفي الوجود، بل يقصد به نفي الأشياء المعينة التي تحمل الأعيان والأسماء.

قالت كرستيان شلدرب

Schilderups

في وصف هذه الحالة: «هي السعادة بغير شاغل ولا علاقة، في انسجام مطلق، لا تفكير فيه، ولست فيه نفسا فردية، بل أنا إذا مشيت مشيت ولا شيء غير مجرد المشي هناك، لا رغبة، لا حاجة في كل ما هناك، وإنما هو شعور واضح بأنك أنت شيء واحد مع كل شيء. «فأنا» في تلك الحالة ليست إلا كل شيء آخر، أنا النور، أنا الثلج، أنا ما أسمع وما أرى.»

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

وليس جميع المتصوفة من هذا الفريق، أي من الفريق الذي يغيب عن الموجودات لينفذ إلى حقيقة الوجود، فإن فريقا غيرهم من كبار المتصوفة يرى أن نفي الحس لا يكفي للوصول إلى الله، وأن الله ظاهر في موجوداته، فالوصول إليه عمل وعلم بتلك الموجودات.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

وهناك طريقة إلى الحقيقة الإلهية من داخل النفس وطريقة إليها من داخل العالم، ولا تغني واحدة منهما عن الأخرى كل الغناء.

ولكن الفريقين يتفقان في طريقة واحدة هي طريقة «الحب الإلهي» الذي يشمل العقل والشعور، فكلهم يلتمس في الحب شفاء من الحيرة وحلا للنقائض واقترابا من الحقيقة التي تحول دونها نوازع البغضاء ومطامع العيش وانحصار النفس في النفس انحصارا يسد عليها منافذ الوجود المطلق العظيم.

كانت لقلبي أهواء مفرقة

فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

والمعول في جميع العبقريات - لا في العبقرية الدينية وحدها - على المعنى المعبر عنه لا على التعبيرات اللفظية التي ترد على لسان هذا العبقري أو ذاك.

فالشاعر الذي يستهويه صفاء الماء فيقول لنا إن في جوف البحر عرائس تغويه باللمح وتغريه بالوثوب إليه - يعبر لنا عن حقيقة نحسها وإن كذبنا ألفاظه وحروفه.

والموسيقي الذي تستهويه بهجة الربيع ينقلها إلينا بألحانه وأصواته، وإن كانت الرياحين والنسمات والأمواه شيئا غير الأصداء والأصوات.

والعبقرية الدينية ظاهرة في الآحاد - مع ظهور الأديان في الجماعات - فلا شك في دلالتها الجوهرية وإن كانت عباراتها اللفظية محلا للخلاف بل للإنكار في كثير من الأغراض؛ لأننا لم نعرف في نفس الإنسان عبقرية قائمة على العدم، خلوا من المعاني والقيم، فلا يسعنا أن نصرف العبقرية الدينية من عالم الحقيقة أو نصرف دلالتها التي تلح بها على عقولنا وضمائرنا؛ لأن بعض أصحابها تعوزه سلامة البنية أو دقة التعبير أو يشذ بأعماله وأقواله عن عادات الجماعات والأمم، فكل العبقريات - وليست العبقرية الدينية وحدها - سواء في هذه الخصلة، وتبقى دلالة العبقرية في النهاية بعد كل تعقيب وتعليل، ودلالتها التي تلزم من وجودها: أنها تعبر عن حقيقة إلهية من وراء المجاز والرمز والكناية وتعدد الصور والأساليب في التصوير والتعبير.

براهين وجود الله

في رأينا أن مسألة وجود الله مسألة «وعي» قبل كل شيء .

فالإنسان له «وعي» يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية، ولا يخلو من «وعي» يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية؛ لأنه متصل بهذا الوجود، بل قائم عليه.

والوعي والعقل لا يتناقضان، وإن كان الوعي أعم من العقل في إدراكه؛ لأنه مستمد من كيان الإنسان كله، ومن ظاهره وباطنه، وما يعيه هو وما لا يعيه، ولكنه يقوم به قياما مجملا محتاجا إلى التفصيل والتفسير.

ونحن نخطئ فهم العقل نفسه حين نفهم أنه مقصور على ملكة التحليل والتجزئة والتفتيت، وأنه لا يعمل عمله الشامل إلا على طريقة التقسيم المنطقي وتركيب القضايا من المقدمات والنتائج وإثباتها بالبراهين على النحو المعروف.

فالعقل موجود بغير تجزئة وتقسيم.

وهو في وجوده ملكة حية تعمل عملا حيا ولا يتوقف عملها على صناعة المنطق وضوابطه في عرف المنطقيين.

وهو في وجوده هذا يقول: «نعم» ويقول: «لا» ويحق له أن يقولهما مجملتين في المسائل المجملة على الخصوص.

وقد يخطئ القول في بعض الأشياء ولا يضمن الإصابة في كل شيء، ولكن الخطأ ينفي العصمة الكاملة ولا ينفي الوجود، فقد يكون العقل المجمل موجودا عاملا وهو غير معصوم عن الخطأ الكثير أو القليل، ولن يقدح ذلك لا في وجوده ولا في صلاحه للتفكير؛ لأن «التقسيم المنطقي» يخطئ أيضا كما يخطئ العقل المجمل في أحكامه المجملة، ولا يقال من أجل ذلك إن التقسيم المنطقي غير موجود أو غير صالح للتفكير.

فإذا قالت البداهة العقلية: «نعم. هناك إله» فهذا القول له قيمة في النظر الإنساني لا تقل عن قيمة المنطق والقياس؛ لأنها قيمة العقل الحي الذي لا يرجع المنطق والقياس إلى مصدر غير مصدره أو سند أقوى من سنده، وقد كان العقل المجمل أبدا أقرب إلى الإيمان أو أقرب إلى قولة «نعم» في البحث عن الله، ولم يستطع التقسيم المنطقي أن يقول: «لا» قاطعة مانعة في هذا الموضوع.

ويبقى بعد ذلك أن «الوعي» أعم من العقل المجمل وأعمق منه وأعرق في أصالة وجوده مع الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى، ونعتقد أن الوعي الكوني المركب في طبيعة الإنسان هو مصدر الإيمان بوجود الحقيقة الكبرى التي تحيط بكل موجود.

وللإنسان وعي بما في الكون من جمال، وله وعي بما فيه من نظام، وله وعي بما فيه من أسرار وألغاز وغيوب، فإذا احتجب الجمال عن أناس وأسفر لأناس آخرين فليس ذلك بقادح في وجوده أو صدق الإحساس بمعانيه، وإذا تناسقت البدائه «الرياضية» والنظم الكونية في بعض العقول فليس يقدح في هذا النسق أنه مضطرب أو مفقود في غيرها من العقول، وإذا خيل إلى فريق من البشر أن هذا الكون السرمدي خلو من الأسرار والغيوب فليس لهذا الفريق حق الاستئثار بالتصديق دون الفريق الذي يستشعر تلك الأسرار والغيوب ويبادلها المكاشفة والمناجاة، وليست «لا» أحق بالتصديق من «نعم» لأنها إنكار؛ إذ إن الإنكار في المسائل السرمدية هو الادعاء الذي يطالب صاحبه بالدليل، وما زالت صورة الكمال المطلق مقترنة بصورة الحقائق السرمدية في بدائه العقول، فالذي يقول إن الحقيقة السرمدية الكبرى يمكن أن تكون قاصرة في هذه الصفة أو يمكن أن يتخيلها العقل بغير كمال وإطلاق فهو الذي يدعي ما يناقض البدائه ولا يقوم عليه دليل.

ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ الإيمان في بني الإنسان وجدنا أن اعتماده على «الوعي» الكوني أعظم جدا من اعتماده على القضايا المنطقية والبراهين العقلية، وأنه أقوى جدا من كل يقين يتأتى من جانب التحليل والتقسيم، ولم تكن الفلسفة نفسها في عصورها القديمة معنية بإقامة البراهين على وجود الله للإقناع بعقيدة والتوسل إلى إيمان، وإنما كان الكلام في وجود الله عند الفلاسفة الأقدمين من قبيل الكلام على مباحث العلوم وتفسير الظواهر الطبيعية، فأرسطو مثلا لم يثبت وجود الله ليقنع به منكرا يدين بالكفر والإلحاد، ولكنه أثبته لأن تفسيره لظواهر الكون لا يتم بغير هذا الإثبات، ولم يحاول أن يقنع به أحدا في زمانه على طريق التدين والإيمان.

فليس وجود الله عند أرسطو وأمثاله مسألة دينية أو مسألة غيبية يختلف الأمر فيها بين الإثبات والنفي كاختلاف الهدى والضلال، ولكنها حقيقة عقلية كالحقائق الهندسية التي يتم بها تصور الحركات والأشكال في الأفلاك والسماوات.

ولما ظهرت الأديان الموحدة كان الجدل في صفات الله أكثر وأعنف من الجدل في وجوده، فقضى اللاهوتيون زمنا وهم لا يشعرون بالحاجة إلى إقناع أحد بوجود خالق لهذه المخلوقات، ولم يشعروا بهذه الحاجة إلا بعد اختلاط العقائد الدينية بالآراء الفلسفية، ومناظرتهم للمناطقة والمتفلسفين في صناعة الجدل والبرهان.

وقد أسفرت مباحث الفلاسفة المؤمنين عن براهين مختلفة لإثبات وجود الله بالحجة والدليل، ونحسب أننا نضعها في موضعها حين نقرر في شأنها هذه الحقيقة التي يقل فيها التشكك والخلاف: وهي أن البراهين جميعا لا تغني عن الوعي الكوني في مقاربة الإيمان بالله والشعور بالعقيدة الدينية، وأن الإحاطة بالحقيقة الإلهية شيء لا ينحصر في عقل الإنسان ولا في دليل يتمخض عنه عقل الإنسان، وإنما الترجيح هنا بين نوعين من الأدلة والبراهين، وهما نوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المؤمنون، ونوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المنكرون، فإذا كانت أدلة المؤمنين أرجح من أدلة المنكرين فقد أغنى الدليل غناءه وأدى القياس رسالته التي يستطيعها في هذا المجال، وهي في الواقع أرجح وأصلح للإقناع بالفكر - فضلا عن الإقناع بالبداهة - كما يبدو من كل موازنة منصفة بين الكفتين.

ولا يخفى أن قاعدة الإثبات والنفي في مناقشات الخصوم لا تنطبق على هذا الموضوع الجليل، فليس للعقل البشري خصومة في الإثبات ولا في خصومة في الإنكار، وليس على أحد عبء الدليل كله ولا على أحد عبء الإنكار كله في البحث عن حقيقة الوجود، وليس للمنكر أن يستريح في مرقده ليقول للمؤمن: إنها قضيتك فابحث عنها وحدك واجهد لها جهدك ثم أيقظني لتسمع مني ما أراه فيما تراه، فربما كان المنكر هنا هو صاحب الادعاء وهو أحق الخصمين بالجهد في طلب الدليل؛ لأنه إذا قال إن المادة قادرة على كل تدبير نراه في هذا الكون فليس كلامه هنا مجرد إنكار لوجود الله أو التزام للخطة الوسطى بين الإثبات والإنكار. •••

ونحن لا نحصي هنا جميع البراهين التي استدل بها الفلاسفة على وجود الله فإنها كثيرة يشابه بعضها بعضا في القواعد وإن اختلفت قليلا في التفصيلات والفروع، ولكننا نكتفي منها بأشيعها وأجمعها وأقربها إلى التواتر والقبول، وهي: برهان الخلق، وبرهان الغاية، وبرهان الاستكمال أو الاستقصاء، وبرهان الأخلاق أو وازع الضمير.

أما برهان الخلق - ويعرف في اللغات الأوروبية باسم البرهان الكوني أو

The Cosmological argument - فهو أقدم هذه البراهين وأبسطها وأقواها في اعتقادنا على الإقناع، وخلاصته أن الموجودات لا بد لها من موجد؛ لأننا نرى كل موجود منها يتوقف على غيره ونرى غيره هذا يتوقف على موجود آخر دون أن نعرف ضرورة توجب وجوده لذاته، ولا يمكن أن يقال إن الموجودات كلها ناقصة وإن الكمال يتحقق في الكون كله؛ لأن هذا كالقول بأن مجموع النقص كمال، ومجموع المتناهيات شيء ليس له انتهاء، ومجموع القصور قدرة لا يعتريها القصور، فإذا كانت الموجودات غير واجبة لذاتها فلا بد لها من سبب يوجبها ولا يتوقف وجوده على وجود سبب سواه.

ويسمى هذا البرهان في أسلوب من أساليبه المتعددة ببرهان المحرك الذي لا يتحرك، أو المحرك الذي أنشأ جميع المحركات الكونية على اختلاف معانيها، ومنها الحركة بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان، والحركة بمعنى الانتقال من حال إلى حال، والحركة بمعنى الانتقال من حيز الإمكان إلى حيز الوجود، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل، وفحوى البرهان أن المتحرك لا بد له من محرك، وأن هذا المحرك لا بد أن يستمد الحركة من غيره، وهكذا إلى أن يقف العقل عند محرك واحد لا تجوز عليه الحركة لأنه قائم بغير حدود من المكان أو الزمان، وهذا هو «الله.»

وجواب الماديين على هذا البرهان أنه لا مانع أن يكون المحرك الأول ماديا أو كونيا وأن يكون وجوده أبديا أزليا بغير ابتداء، ولا انتهاء؛ لأن قدم العالم أمر لا يأباه العقل ولا يستحيل في التصور، وحدوثه مشكلة تستدعي أن نسأل: ولم كان بعد أن لم يكن؟ وكيف طرأت المشيئة الإلهية بإحداثه وليست مشيئة الله قابلة للطروء ولا لتغير الأسباب والموجبات؟

ومن هؤلاء الماديين من يجزم بأن هذا الكون كله لا يحتوي شيئا واحدا يلجئنا إلى تفسيره بموجود غيره، ولا استثناء عندهم في ذلك للنظام ولا للعقل ولا للحياة.

فمن أقوالهم: إن المصادفة وحدها كافية لتفسير كل نظام ملحوظ في الكائنات الأرضية، وضربوا لذلك مثلا صندوقا من الحروف الأبجدية يعاد تنضيده مئات المرات وألوف المرات وملايين المرات على امتداد الزمان الذي لا تحصره السنون ولا القرون، فلا مانع أن هذه التنضيدات تسفر في مرة من المرات عن إلياذة هوميروس أو قصيدة من الشعر المنظوم والكلم المفهوم، ولا عمل في اتفاق حروفها على هذه الصورة لغير المصادفة الواحدة التي تعرض بين ملايين الملايين من المصادفات.

وهكذا الكون المادي في اضطرابه المشتت الذي تعرض له جميع المصادفات الممكنة في العقول، فلا مانع في العقل أن تسفر مصادفة منها عن نظام كهذا النظام وتكوين كهذا التكوين في عالم الجماد أو في عالم الحياة.

وهذا المثل نفسه ينقض دعوى قائليه ويستلزم فرضا غير فروض المصادفات التي تتكرر على جميع الأشكال والأحوال.

فقد فاتهم أنهم قدموا الفرض بوجود الحروف المتناسبة التي ترتبط بعلاقة اللفظ وينشأ منها الكلام المفهوم، فإن وجود الفاء والياء واللام والسين والواو مثلا لا يكون قبل وجود كلمة أو كلمات تشتمل على هذه الحروف، فمن أين لهم أن أجزاء المادة المتماثلة ترتبط بينها علاقة التشاكل أو التشكيل على منوال العلاقة التي بين الحروف الأبجدية؟ ومن أين للمادة هذا التنويع في الأجزاء؟ ومن أين لهذا التنويع أن تكون فيه قابلية الاتحاد على وجه مفهوم؟

وفاتهم كذلك أنهم قدموا الفرض بوجود القوة التي تتولى التنسيق والتنضيد، وليس من اللازم عقلا أن توجد هذه القوة بين الحروف، وأن يكون وجودها موافقا للجمع والتنضيد وليس موافقا للبعثرة والتفريق.

وفاتهم مع هذا وذاك أنهم فرضوا في هذه القوة الجامعة أنها تعيد تنسيق الحروف على كل احتمال كأنها تعرف بداءة كيف تكون جميع الاحتمالات، فلم تستنفد هذه القوة جميع الاحتمالات إلى آخرها ولا تتخبط في بعضها قبل انتهائها ثم تعيدها وتعيدها أو تكررها بشيء من الاستئناف وشيء من التجديد في جميع المرات إلى غير انتهاء؟

وفاتهم عدا ما تقدم أن الوصول إلى «تنضيدة» مفهومة منظومة لا يستلزم الوقوف عندها وتماسك الأجزاء عليها، فلماذا تماسك النظام في الكون بعد أن وجد مصادفة واتفاقا ولم يسرع إليه الخلل وتنجم فيه الفوضى قبل أن ينتظم على نحو من الأنحاء؟ وما الذي قرره وأمضاه وجعله مفضلا على الخلل والفوضى وهما مثله ونظيره في كل احتمال؟

والعجب في تفكير الماديين أنهم يستجيزون الكمال المطلق في كل عنصر من عناصر الوجود إلا عنصر «العقل» وحده فإنهم يحدونه بالعقل الذي يتراءى في تكوين الإنسان دون سواه، فلا حدود عندهم لمادة الأكوان ولا لاستمرارها في الزمان والمكان، ولا لما اشتملت عليه من القوة والحركة والتكرار، ولكنهم إذا تكلموا عن أشرف هذه العناصر - وهو العقل - أجازوا حصره في البنية الإنسانية ولم يطلقوه من الحدود التي أطلقوا منها جميع عناصر الوجود.

فكيف جاز عندهم أن تكون المادة قادرة على خلق العقل ثم جردوها منه ملايين الملايين من السنين قبل ظهور الإنسان بين هذه الكائنات؟

وهل هي ملايين الملايين من السنين وكفى؟

كلا، فإن الكون الذي لا أول له قد انقضت عليه آماد وآماد لا تحسب بالملايين ولا بأضعاف أضعاف الملايين، فلماذا طبعت المادة على تكوين العقل ثم تجردت منه إلى ما قبل ظهور العقل الإنساني، وهو تاريخ قريب - بل جد قريب - بالقياس إلى تلك الأوائل التي لا يحيط بها الحساب؟

إن بعضهم يفسرون ذلك بتسلسل الدورات في المادة منذ الأزل الذي لا أول له إلى الأبد الذي لا تعرف له نهاية في الزمان، ويعنون بتسلسل الدورات أن الكون ينتظم ثم ينحل في كل دورة من دوراته التي تمتد ربوات بعد ربوات من الدهور فتنشأ المنظومات السماوية ويتهيأ كوكب من كواكبها لظهور الحياة عليه، وترتقي أطوار هذه الحياة حتى تبلغ مرتبة الحياة الإنسانية بما يقارنها من العقل والتمييز، ثم تنتهي بعد ذلك إلى تمامها فتؤذن بالدثور والانحلال، ثم تعود كرة أخرى دواليك من بداية السديم المنتشر في الفضاء إلى نهاية تلك الدرجة المقدورة من عنصر العقل: وهي درجة العقل الإنساني أو ما يشبه عقل الإنسان.

ويحسب هؤلاء الماديون أنهم أبطلوا بتفسيرهم هذا غرابة الظاهرة العقلية التي تختفي من الأزل ولا تبرز في الكون إلا قبل آلاف محدودة من السنين، أو قبل الملايين وهي في حكم الآلاف، فلا غرابة إذن في دعواهم لأن العقل قديم يتجدد من أزل الآزال إلى أبد الآباد.

فهل زالت الغرابة بهذا الفرض العجيب؟ وهل يجيز العقل أن يكون العقل وحده هو العنصر المحدود بأرقى ما يرتقي إليه الإنسان؟ وأنه هو العنصر الطارئ العرضي في كائن واحد من الكائنات وهو الإنسان؟ لماذا لا يكون العقل أزليا في الوجود فيكون عقل إله لأن الأزل أليق الصفات بصفات الله؟ لماذا نقبل «الدورات الأزلية» ولا نقبل العقل الأزلي وهو أولى بالقبول؟ لماذا نتحكم في تقرير حدود العقل ونتحكم في اختلاق تلك الدورات الأبدية وليس شيء من ذلك بعيان شهود، ولا بمنطق صحيح ولا بعلم من علوم التجربة والاستقراء؟

إن قبول فكرة الله أيسر من قبول هذه الأوهام ومن التعسف في إقامة هذه الحدود، وآخر من يجوز لهم هذا التطوح في تلك الأوهام والفروض هم أولئك الماديون الذين يبطلون كل شيء غير الحس والتجربة والاستقراء، فإنهم إذا دخلوا في عالم الغيب والإيمان سقط مذهبهم كله من تحتهم وهم لا يشعرون. •••

ومن المذاهب الفلسفية الحديثة التي نشأت في القرن العشرين لتعليل ظهور الحياة في المادة مذهبان متقاربان في الأسس مع تباعد النتائج بينهما في الشرح والتفصيل، وهما مذهب الحيوية المنبثقة الذي يقول به الفيلسوف الإنجليزي صمويل إسكندر ويعرف في الإنجليزية باسم

Emergent Vitalism ، ومذهب التركيبة الكاملة الذي يقول به المارشال سمطس زعيم إفريقية الجنوبية المشهور، ويعرف في الإنجليزية بالهولزم

Holism

من كلمة إغريقية بمعنى «الكل الكامل.»

وخلاصة الفكرة الأساسية في هذين المذهبين أن المادة تتجه إلى التركيب أو تكوين المركبات الكاملة، وأن الحياة تظهر فيها عند التركيب كما تظهر الخصائص الكيمية من بعض العناصر عند امتزاجها، ولم تكن قبل ذلك ظاهرة في هذه العناصر على انفراد، ومذهب صمويل إسكندر أعم من مذهب المارشال سمطس في هذه الفكرة؛ لأنه يقول بأن العقل الإلهي نفسه قد نشأ في الكون على هذا المنوال، فكانت المادة من أزل الآزال ثم بزغ منها العقل الإلهي في طور من أطوار التفاعل والتآلف بين الذرات والأجزاء.

والمسألة هنا كما نرى مسألة اعتقاد وتقدير، ومتى كانت كذلك فلا ندري لماذا يسهل على العقل البشري أن يتصور الله مخلوقا من المادة ولا يتصور المادة مخلوقة بقدرة الله؟ ولماذا يرجح ذلك الاعتقاد على هذا الاعتقاد؟

أما القول بأن المادة تتجه إلى التركيب فتنبثق الحياة منها ضرورة في بعض الأطوار فليس فيه تفسير لظهور الحياة، بل كل ما فيه أنه وصف للظواهر الحية التي يقع عليها الحس ونعرفها بالاختبار، فقد شوهدت الأجسام الحية فقيل إن المادة تميل إلى تكوين الأجسام الحية ووقف التفسير عند تسجيل الظواهر المحسوسة واعتبار وجودها تفسيرا لأسباب هذا الوجود.

لكن هذا القول لا يفسر لنا اختصاص بعض الأجزاء بظهور الحياة فيها دون جميع الأجزاء التي تشتمل عليها الأكوان في الأرض والسماء، فإن أجزاء المادة قد بدأت معا ولم تبدأ بفروق بينها تستلزم أن يتركب بعضها ويبقى سائرها بغير تركيب، فلماذا وقع فيها هذا الاختلاف؟ بل لماذا كان هذا الاختلاف مقصودا لتدبير البيئة التي تعيش فيها الحياة، وموافقة هذه البيئة لمطالب الأحياء من غذاء وحركة وامتياز عما حولهم من الجماد.

وإذا فرضنا أننا استطعنا في يوم من الأيام أن نركب عناصر المادة كما تتركب في جسم الكائن الحي المريد فهل تبرز فيها الحياة على المنوال الذي وصفوه؟ وإذا أتينا إلى رجل بعينه فاتخذناه مثالا للتركيب، ووضعنا في المخلوق المركب نموذجا لكل خلية من خلايا جسمه بمادتها الطبيعية، فهل تظهر في هذا المخلوق المركب أعراض الأخلاق الموروثة والملكات العقلية والخصائص التناسلية التي ينقلها الآباء إلى الأبناء؟ ترى لو أننا ركبنا أسدا بخلايا جسمه كلها، هل ينجم هذا الأسد مفترسا محبا لأكل اللحوم صالحا لتوليد الأشبال من اللبؤات؟ ترى لو أننا ركبنا بلبلا بخلايا جسمه كلها، هل ينجم هذا البلبل مغردا يتعشق الورود ويألف الغناء بالليل ويخشى الصقور والنسور كما تخشاها هذه البلابل المتوالدة من الذكور والإناث؟ ترى لو ركبنا رجلا على مثال أهل الصين ورجلا على مثال الزنوج ورجلا على مثال الهنود الحمر ورجلا على مثال الأمريكيين البيض هل تكفي محاكاة الخلايا المادية لإبراز ما بين هذه الأجناس من الفروق والمزايا، ومن العداوة والصداقة، ومن الأذواق والشهوات؟ وهل يسعى هذا الرجل إلى الزوجة أو المعشوقة كأنه الرجل الأصيل؟ وهل يحنو على الوليد كأنه أبوه؟ وهل يتكلم اللغة التي يتكلمها صاحب النموذج المحكي في تركيب الخلايا والأعضاء؟

الواقع أن خلايا الحياة تحمل في تركيبها من الخصائص ما لا تحمله خلية أخرى في عالم المادة جمعاء، وأول هذه الخصائص قابلية التكرار والتنويع وتعويض النقص وحفظ النوع وتجديده على النحو الذي ينفرد به كل نوع من الأنواع، فكل خلية في الجسم تعمل ما ينبغي على النحو الذي ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي أن تعمل فيه، وأعجب العجب في توزيع أعمالها إنما هو ذلك التنويع المعجز الذي يظهر من خلية واحدة يضعها الذكر وخلية واحدة تضعها الأنثى، فتنقسم بالمقدار اللازم لتكوين الجسم كله، وتذهب كل خلية إلى موضعها في القلب أو الرئة أو الكبد أو الدماغ، فيتسق منها الجسم وتجري فيها وظائف الحياة، وليس يقتصر عملها بعد ذلك على الانتظام في بنية واحدة، بل تنحل وتندفع الأجزاء المنحلة إلى حيث ينبغي أن تندفع، وتتلقى البنية العوض الذي يعيدها إلى الانتظام من جديد، حتى الخلايا التي تتجه إلى تكوين الأسنان مثلا تتجه بالمقدار الذي يحفظ لكل سن مادتها وحجمها وعملها في مضغ الطعام، وتتجه في وقتها وأوانها وعلى حسب الحاجة إليها، وتتجه في كل نوع على حسب المعهود في ذلك النوع مع وحدة المادة التي تتألف منها في جميع الأنواع، ومن اللغو الهازل أن يقاس هذا التقسيم العجيب إلى تقسيم البلورات التي تتكرر على نحو واحد في بعض المواد، فإن العوامل الآلية تحدث هذا التكرار ولا يمكن أن تحدث سواه، ولكن الأمر يحتاج إلى عوامل غير العوامل الآلية العمياء لتفسير هذا القصد المحكم في وضع كل خلية تتركب منها أجسام الأحياء.

والحكم العقلي المستقيم إذا رأينا عملا يحقق قصدا أن نفهم أن القصد له قاصد مريد، إلا إذا كان واجب العقل أن ينكر كل قصد ولا يقبل تفسيرا غير تفسير المصادفة والاتفاق، وهل للعقل أن يفترض المصادفة إلا إذا استحال عليه أن يفترض القصد والإرادة؟ أو كان التفسير بالمصادفة والاتفاق أيسر وأوضح من التفسير بعمل القاصد المريد؟

إن بعض العلماء البيولوجيين يزعمون أن قوانين المادة وحدها كافية لتفسير ظواهر الحياة في الأجساد، ويخيل إلى بعض الناس أن «البيولوجيين» أحق العلماء بالحكم الفصل في هذا الموضوع، لأن علمهم يسمى على الألسنة بعلم الحياة.

أما الحقيقة فهي أن البيولوجيين يعرفون أعضاء الأجسام الحية ولكنهم في أمر الحياة نفسها لا يمتازون على أحد من العلماء، وليس من اللازم أن يكون النبوغ في التشريح ودراسة الوظائف العضوية مقارنا للنبوغ في الفلسفة والبحث عن الأصول الكونية الكبرى وأولها أصل الحياة، وعلى هذا المثال لا يجوز للكيماوي أن يستأثر بالقول في أصل المادة وقدم الزمان والمكان لأنه يعرف تراكيب الأجسام ويعرف النسب التي تختلف بها هذه التراكيب، ولا يجوز لمهندس الطباعة أن يستأثر بالحكم في معاني الحروف وأسرار الكلمات لأنه يصب الحروف ويدير الآلات ويخرج من بين يديه كل نسخة من الكتاب، ولا يجوز للنجار الذي يصنع الشطرنج أن يزعم أنه أقدر اللاعبين على تحريك هذه القطع في الرقعة وفقا للحساب وطبقا للقصد الذي يتوخاه اللاعب الماهر، وإن كان هذا اللاعب الماهر أعجز الناس عن صنع قطعة أو إصلاح رقعة أو التفرقة بين خشب وخشب في صنع القطع والرقاع.

على أن الماديين لا يعرفون من قوانين المادة وخصائص الأجسام ما يسوغ لهم الجزم بامتناع المؤثرات الأخرى في حركاتها؛ لأن المطابقة التامة في التجارب المادية لم تتقرر بعد بتجربة واحدة، فكل تجربة تعاد لا تأتي بالنتيجة نفسها على وجه الدقة الكاملة بالغا ما بلغ الإحكام في تركيب الآلات ويقظة المجربين ، وتعرف هذه الملاحظة بملاحظة هيزنبرج

Heisenberg

الذي ضبط مقدار الخلل في هذه الاختلافات على وجه التقريب، وهو مقدار - مهما يبلغ من صغره - كاف لفتح الباب وبقائه مفتوحا لاحتمال المداخلة الروحية في بعض الحالات.

وخلاصة الرأي في برهان الخلق أن القول بأن الحياة والعقل من عمل حي عاقل قضية عقلية لا غبار عليها، وأن القول بأن المادة هي مصدر كل شيء في الكون يلجئنا إلى فروض لا يقرها الحس ولا المنطق، ولا توافق القسطاس الذي جعله الماديون مرجعا لجميع الآراء والأحكام، وهو قسطاس المشاهدة والدليل المحسوس. •••

أما برهان الغاية

Teleological Argument

فهو في لبابه نمط موسع من برهان الخلق مع تصرف فيه زيادة عليه.

لأنه يتخذ من المخلوقات دليلا على وجود الخالق ويزيد على ذلك أن هذه المخلوقات تدل على قصد في تكوينها وحكمة في تسييرها وتدبيرها، فالكواكب في السماء تجري على نظام وتدور بحساب وتسكن بحساب، وعناصر المادة تتألف وتفترق، وتصلح في ائتلافها وافتراقها لنشوء الحياة ودوام الأحياء، وأعضاء الأجسام الحية تتكفل بأداء وظائفها المختلفة التي تتحقق الحياة بمجموعها وتكملة عضو منها لعضو ووظيفة لوظيفة، ومن عرف التركيب المحكم الذي يلزم لأداء وظيفة البصر في العين تعذر عليه أن يعزو ذلك كله إلى مجرد المصادفة والاتفاق، ويقال في كل حاسة من الحواس ما يقال في العين أو العيون التي تتعدد بتعدد الأحياء.

وقد توجهت لهذا البرهان ضروب شتى من النقد لم تصدر كلها من جانب الماديين أو القاطعين بالإلحاد.

فقد أنكر بعض الإلهيين أن يحيط العقل البشري بحكمة الله وأن تكون لله جل وعلا غايات تناط بالأحياء والمخلوقات، وفهموا الغاية على أنها نوع من الحاجة التي يتنزه عنها الواحد الأحد المستغني عن كل ما عداه.

وليس أضعف من هذا الاعتراض سواء عممناه على الخلق كله أو فصلناه بالنظر إلى جميع الخلائق من الأحياء وغير الأحياء.

فإذا كان الله غنيا عن الحاجة فالمخلوقات لا تستغني عنها، وإذا كانت حكمة الله أجل وأسمى من طاقة العقل البشري فالعقل البشري يستطيع أن يميز بين الأعمال المقصودة والأعمال المرسلة سدى بغير قصد وعلى غير هدى، وإذا كانت القدرة السرمدية لا تحدها الغايات فالكائن المحدود لا بد له من غاية ولا بد لتلك الغاية من تقدير وتدبير، ومن أين يكون التقدير والتدبير في نظر الإلهيين إن لم يكن من الله؟

وليس اعتراض الماديين على هذا البرهان بأقوى من اعتراض هؤلاء الإلهيين؛ لأنهم يقولون: إن نظام الكواكب لا يحتاج إلى تنظيم، وإن كيان العناصر لا يحتاج إلى تكوين، وإن طبائع المادة وحدها كافية لفهم هذا النظام وتفسير ذلك الكيان.

فالمادة الحامية تتحرك، والحركة تشع الحرارة، ومتى حدث الإشعاع قلت الحرارة في بعض الأجزاء واختلفت بينها درجة البرودة، فانشق بعضها عن بعض، ووجب بقانون الحركة المركزية أن يدور الصغير حول الكبير ويصمد على الدوران، وهكذا تحدث المنظومات الشمسية وتثبت الثوابت وتدور السيارات حولها بحساب يوافق اختلافها في الحجم والسرعة والمسافة ودرجة الإشعاع.

ويقولون: إن العناصر تتركب من نواة وكهارب، ولا يعقل العقل إلا أن تكون نواة وكهربا واحدا أو نواة وكهربين أو نواة وثلاثة كهارب أو أربعة أو خمسة إلى آخر ما تحتمله قوة النواة على التماسك والاجتذاب، وكلما اختلف العدد ظهر في المادة عنصر جديد بالضرورة التي لا محيص عنها، وليس هنالك سبب غير هذا السبب لتعدد العناصر والأجسام.

وكل هذا صحيح من وجهة الواقع الذي نراه.

ولكن من أين لنا أن الواقع الذي نراه هو كل ما يحتمله العقل من فروض ووجوه؟

ألازم هذا بحكم البداهة؟ أم هو لازم لغير شيء إلا أنه كان على هذا النحو وشهدناه؟

فالبداهة لا تستلزم أن تكون الحركة ملازمة للحرارة وأن تكون الحرارة ملازمة للإشعاع.

والبداهة لا تستلزم أن يكون الصغير منجذبا إلى الكبير، وأن تقضي الحركة المركزية بالدوران في فلك لا تتعداه.

وجائز في رأي العقل كل الجواز أن تكون حرارة ولا إشعاع، وأن يكون انشقاق ولا انجذاب.

وجائز في حكم العقل ألا تكون نواة ولا تكون كهارب، أو أن تكون حرارة ولا برودة، وأن يكون تركيب من أجزاء متشابهة لا يتولد منها اختلاف.

فلماذا حدث هذا ولم يحدث غير هذا؟

ولماذا كان حدواث هذا موافقا لاختلاف الكواكب، وكان اختلاف الكواكب موافقا لاختلاف العناصر، وكان اختلاف العناصر موافقا لاختلاف الفصول والمواسم، وكان اختلاف الفصول والمواسم موافقا لقبول الحياة وتدبير ما يلزمها من نسب الحرارة وما يلزمها من قوام وغذاء؟

إن العقل البشري هنا بين فرضين يختار منهما ما يشاء، ولا محيص له من الاعتماد على سبب مفهوم لهذا الاختيار.

فإما أن يفرض أن القصد مستحيل وأن الجائز دون غيره هو أن يحدث النظام لامتناع الفوضى، وتحدث الحياة لامتناع الموت، ويحدث الإبصار لامتناع العمى، ويحدث كل شيء سلبا بغير إيجاب.

وإما أن يفرض أن القصد يدل على القاصد المريد، وأن الحقيقة الإيجابية شيء له وجود، وليس الوجود كله للحقيقة السلبية في هذا الكون «الموجود.»

ولكنه لا يستطيع أن يفرض الفرض الأول لغير سبب، فما هو هذا السبب؟ وما هو الموجب لهذا الادعاء؟

بل نحن لو فرضنا أن العلل السلبية هي التي تؤدي إلى هذه النتائج الإيجابية لما أعفانا ذلك من الحكم بأن العلل السلبية هي التدبير الذي يؤدي إلى تحقيق الغاية المقصودة.

فلك أن تقول: إن الأحياء قد عاشت لأنها لم تنقرض كما انقرضت الأحياء الأخرى التي أعوزتها وسائل المعيشة وأسباب البقاء، ولكن ليس لك أن تقول: إن هذا التفاضل بين الأحياء لم يكن هو الطريق الذي اختاره الخالق المريد لاستبقاء الحياة المثلى والترقي بها في معارج الكمال، ولا أن تقول إن المصادفة أقرب إلى التصور من هذا التفسير، ولا سيما إذا رأيت أمامك أمثلة الترقي بالحياة من الخلية المفردة إلى عقل الإنسان.

ويبدو لنا أن الاعتراض الذي يقام له وزن بين جميع الاعتراضات المتجهة إلى هذا البرهان هو الاعتراض بوجود الشر والألم في الحياة، فكيف يقال: إن القصد ظاهر في هذا العالم ثم يجتمع القصد مع وجود الشر والنقص والظلم فيه؟ هل يقال إذن: إن الشر مقصود؟ وهل يقال: إن الظلم مما يليق بحكمة الحكيم؟

وليس جوابنا على هذا الاعتراض أن نعزو إلى الله دواعي مقدرة لخلق هذه الأمور، فإن الدواعي التي نقدرها لن تبلغ بنا إلى نهايات الأشياء، ولن تزال واقفة بنا عند بدايات مفروضة لا تغني عن تلك النهايات.

ولكننا نرجع إلى المقابلة بين هذا العالم وبين العالم الذي يتخيله أولئك المعترضون وافيا بالقصد أو جديرا بحكمة الله، فإن كان هو أقرب إلى التصور فقد صدقوا وأصابوا، وإن كان العالم الذي نحن فيه هو الأقرب إلى التصور فقد سقط الاعتراض.

فما العالم الذي يتخيل المعترضون أنه أجدر من عالمنا هذا بحكمة الله وقصد المدبر المريد؟

هو عالم لا نقص فيه فلا نمو فيه، ولا آباء ولا أبناء، ولا تفاوت في السن والتهيؤ والاستعداد، ولا تقابل في الجنس بين الذكور والإناث، بل جيل واحد خالد على المدى لا يموت ولا يتطلب الغذاء ولا الدواء.

عالم لا نقص فيه فلا حدود فيه، وكيف يوجد الناس بلا حدود بين واحد منهم وأخيه؟ بل لماذا يوجد الألوف ومئات الألوف نسخة واحدة لا فرق فيها بين أحد وأحد، ولا محل فيها للاختلاف، إذ كان الاختلاف يستدعي نقص صفة هنا ووجودها هناك؟

إذن يخلق إنسان واحد يحقق معنى الإنسانية كلها ولا يكون فيه نقص ولا تعدد ولا تكون له بداية ولا نهاية، فلذلك إذن إله آخر مستمتع بكل صفات الكمال والدوام!

عالمهم المتخيل هو عالم لا حرمان فيه، فلا ينتظر فيه الحي شيئا يجيء به الغد ولا يشتاق اليوم إلى مجهول.

بل ماذا نقول؟ أنقول الغد واليوم؟ ومن أين يأتي الغد واليوم في عالم لا تغاير فيه ولا تنوع في التراكيب والحركات؟ إنما يأتي اليوم والغد من تغاير الكواكب بالحركة والضخامة والدوران، فإذا بطل التغاير والتركيب فلا شمس ولا أرض ولا قمر ولا أيام ولا أعوام.

هو عالم لا ألم فيه ولا اجتهاد فيه، ولا اتقاء لمحذور ولا اغتباط بمنشود.

هو عالم لا أمل فيه ولا محبة ولا حنان ولا صبر ولا جزع ولا رهبة ولا اتصال بين مخلوق ومخلوق ؛ لأن الاتصال تكملة ولا حاجة إلى التكملة بأرباب الكمال.

هو عالم لا ظلم فيه، فلا فضيلة ولا رذيلة؛ لأن الفاضل هو الإنسان الذي يعمل الخير ولو شقي به، ويجتنب الشر ولو طاب له مثواه، فإذا ضمن الجزاء العاجل على أعماله أولا فأول فلا فضل له على الشرير، وإذا وجد العالم وفيه أشرار يجزون أبدا بالعقاب وأخيار يجزون أبدا بالثواب فذلك ظلم أكبر من هذا الظلم الذي يأباه المنكرون للقصد والتدبير.

هو عالم لا فرق فيه بين الأبد الأبيد واللحظة العابرة؛ لأنك تريد في كل لحظة عابرة من لحظاته أن تجمع حكمة الآباد، وأن تكون مقاصدها هي مقاصد الكون الذي لا تعرف نهاية طرفيه، فلا انتظار لبقية الزمن ولا موجب للانتظار، ولن يحيا المخلوق المحدود بغير انتظار إلا كان في حسه لون آخر من ألوان الفناء.

وقد يتم هذا المعنى حوار كتبته في موضوعه: وهو موضوع وجود الله من كتابي «في بيتي» حيث أقول على لسان سائل ومسئول:

قال صاحبي: وهل وصلت قط من فلسفة حياتك إلى شيء؟

قلت: نعم، إن الله موجود.

قال: باسم الفلسفة تتكلم أو باسم الدين؟

قلت: باسم الفلسفة أتكلم الآن، والفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم فالوجود موجود، موجود بلا أول ولا آخر؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده، وموجود بلا نقص لأن النقص يعتري الوجود من جانب عدم ولا عدم هناك، موجود بلا بداية ولا نهاية ولا نقص ولا قصور، والوجود الكامل الأمثل هو الله.

قال: وكيف توفق بين الوجود الأمثل وبين الشرور والآلام في هذه الحياة؟

قلت: هذا سؤال غير يسير؛ لأننا نحن الفانين لن نرى إلا جانبا واحدا من الصورة الخالدة في فترة واحدة من الزمان، ومن يدرينا أن هذا السواد الذي يصادفنا هنا وهناك هو جزء لازم للصورة كلزوم النقوش الزاهية والخطوط البيضاء؟ وماذا تستطيع أن تصنع لو ملكت الأمر وتأتى لك أن تقذف بالشرور من الحياة؟ بغير الألم والخسارة ما الفرق بين الشجاع والجبان وبين الصبور والجزوع؟ وبغير الشر والسوء ما الفرق بين الهدى والضلالة وبين النبل والنذالة؟ وبغير الموت كيف تتفاضل النفوس وكيف تتعاقب الأجيال؟ وبغير المخالفة بينك وبين عناصر الطبيعة من حولك كيف يكون لك وجود مستقل عنها منفصل عن موافقاتها ومخالفاتها؟ وبغير الثمن كيف تغلو النفائس والأعلاق؟

قال صاحبي: أليس عجزا أن نشقى وفي الوسع ألا نشقى؟ أليس عيبا أن نقصر عن الكمال وفي الوسع أن نبلغ الكمال؟

قلت: وكيف يكون في الوسع أن يكمل المتعددون؟ إنما يكون الكمال للواحد الدائم الذي لا يزول.

قال صاحبي: قل ما شئت فليس الألم مما يطاق، وليس الألم من دلائل الخلود الرحيم.

قلت: على معنى واحد إن هذا لصحيح!

إنه لصحيح إذا كانت حياة الفرد هي نهاية النهايات وهي المقياس كل المقياس لما كان وما يكون، ولكن إذا كانت حياة الفرد عرضا من الأعراض في طويل الأزمان والآباد - فما قولك في بكاء الأطفال؟ إن الأطفال أول من يضحك لبكائهم حين يعبرون الطفولة، وإنهم أول من يمزح في أمر ذلك الشقاء، وليس أسعد الرجال أقلهم بكاء في بواكير الأيام.

يا صاحبي! هذا كون عظيم، هذا كل ما نعرف من العظم، وبالبصر أو بالبصيرة نظرنا حولنا لا نعرف العظم إلا من هذا الكون، ماذا وراء الكون العظيم مما نقيسه به أو نقيسه عليه؟ فإن لم نسعد به فالعيب في السعادة التي ننشدها، ولك أن تجزم بهذا قبل أن تجزم بأن العيب عيب الكون وعيب تدبيره وتصريفه وما يبديه وما يخفيه، ولك أن تنكر منه ما لا تعرف، ولكن ليس لك أن تزعم أنه منكر لأنه مجهول لديك.

ونحسب أننا نقابل الاعتراض على دلائل الحكمة المقصودة بما يرجح عليه إذا قابلناه بمثل هذا التذكير والتعقيب، ويكفي عندنا أن يكون برهان الإثبات أقوى من برهان الإنكار، فلسنا نغتر ببرهان من براهين العقل الإنساني حتى نزعم له أنه يستوعب الوجود الإلهي كل الاستيعاب، أو أننا نبلغ به مبلغ البراهين التي نقيمها على كل محدود في عالم المحسوس والمعقول؛ لأن وجود الله أكبر من ذرع العقول، وإنما نعطي العقل حقه حين نضع له البرهانين وندع له أن يوازن بينهما، وأن يطالب نفسه بدليل على الترجيح. •••

ويعتبر البرهان الثالث من براهين أهل الصناعة؛ لأنه مما يتداول بين الباحثين في المنطق والفلسفة الدينية ولا نسمع به كثيرا بين جمهرة المؤمنين الذين لا يطرقون أبواب هذه البحوث، وذلك هو برهان الاستعلاء والاستكمال أو برهان المثل الأعلى، ويسمى عندهم

The Ontological Argument .

وقد صاغه القديس أنسلم

Anselm

في صورته الأولى، وزاده اللاحقون به ونقحوه حتى بلغ كماله في فلسفة ديكارت، وأوشك أن ينسب إليه.

وفحواه في صيغته الجامعة أن العقل الإنساني كلما تصور شيئا عظيما تصور ما هو أعظم منه؛ لأن الوقوف بالعظمة عند مرتبة قاصرة يحتاج إلى سبب، وهو - أي العقل الإنساني - لا يعرف سبب القصور.

فما من شيء كامل إلا والعقل الإنساني متطلع إلى أكمل منه، ثم أكمل منه، إلى نهاية النهايات، وهي غاية الكمال المطلق التي لا مزيد عليها ولا نقص فيها.

وهذا الموجود الكامل الذي لا مزيد على كماله موجود لا محالة؛ لأن وجوده في التصور أقل من وجوده في الحقيقة، فهو في الحقيقة موجود؛ لأن الكمال المطلق ينتفي عنه بسبب عدم وجوده، ولا يبقى له شيء من الكمال، بل نقص مطلق هو عدم الوجود.

فمجرد تصور هذا الكمال مثبت لوجوده.

والله ثابت الوجود لأنه هو غاية الكمال، وكل نقص عن هذه المرتبة القصوى لا يتصوره العقل ولا يقبله ولا يستريح إليه؛ لأن تصور الكمال الأسمى مرادف لتصور الكمال الموجود.

فالعقل الإنساني لا يتصور إلا أن الله موجود.

وقد سخر من هذا البرهان رجال الدين أنفسهم من معاصري القديس أنسلم في القرن الحادي عشر، وعلى رأسهم الراهب جونلو

Gaunilo ، وجاراه في معنى هذه السخرية عمانويل كانت من كبار الفلاسفة المحدثين، وخلاصة انتقادهم أنك إذا تصورت جزيرة بالغة الكمال في مجاهل البحار لم يلزم من ذلك أن الجزيرة قائمة هناك، وإذا تصورت عشرة دنانير لم يلزم من ذلك أن تنطبق كفك على تلك الدنانير، وأن وجود الشيء المتصور غير محتوم.

والبرهان في الواقع أقوى وأمتن من أن ينال بمثل هذا الانتقاد؛ لأننا نستطيع أن نتصور عشرة دنانير دون أن نستلزم وجودها في الحقيقة، ولكننا لا نستطيع أن نتصور كمالا لا مزيد عليه، ثم نتصوره في الوقت نفسه نقصا لا مزيد عليه؛ لأنه معدوم، وإذا قلنا إن الديشليون لا يمكن أن يكون أكبر عدد فالديشليون كالواحد موجود بغير كلام، وإن لم نستخدمه في عد شيء من الأشياء.

وليس ديكارت بالمغالي حين يتوسع في هذا البرهان فيرى أن وجود الله هو الثابت المحقق ومنه يستدل على وجود العالم وما فيه من المحسوسات؛ لأن المحسوسات متغيرة متقلبة والحس قاصر مضلل، والوهم غالب عليه ما لم يثبت وجوده من طريق الحقيقة المطلقة، وهي الله.

فالعقل يستلزم وجود كائن كامل حق منزه عن العيوب، ولا حقيقة ما لم تكن هذه الحقيقة المطلقة ثابتة في العقول، ومن إيمان العقول بها يعلم أن هذا العالم موجود وليس بوهم ولا خداع؛ إذ كان الله خالقه منزها عن الوهم والخداع.

ونحن على دأبنا في تلخيص هذه البراهين نكتفي بالموازنة بينها وبين براهين الإنكار أو بينها وبين الردود عليها، ونعلم أنها براهين تستحق الاعتبار إذا رجحت في كفة الميزان على ما يقابلها ويناقضها.

وهذا هو قول المثبتين في تصور الكمال.

فأما المنكرون فيقولون إنهم يستطيعون أن يتصوروا الكون ناقصا في عنصر العقل مع أنه سرمد لا أول له ولا آخر ولا حدود لمقداره في المادة والقوة، أو يقولون إنهم يستطيعون أن يتصوروا الكون كاملا في كل شيء إلا في عنصر العقل، فإن محتواه منه لم يتجاوز حدود عقل الإنسان.

ولمن شاء أن يختار من القولين ما يشاء. •••

ويعتمد عمانويل كانت - الذي يستضعف هذا البرهان - على برهان أقوى منه وأصح في الدلالة على «الله» كما ينبغي له من الصفات.

فعنده أن برهان الخلق وبرهان القصد يثبتان وجود الصانع القادر ولكنه لا يلزم من قدرته وصنعته أنه «الإله» الذي يصدر منه الخير والرحمة ويعبده الناس عبادة الحب والإيمان.

وإنما يثبت وجود هذا الإله بعلامة في النفس الإنسانية لا يتأتى وجودها فيها بغير وجود إله، وتلك هي علامة الوازع الأخلاقي أو علامة الواجب أو علامة الضمير.

فمن أين استوجب الإنسان أن يدين نفسه بالحق كما نعرفه إن لم يكن في الكون قسطاس للحق يغرس في نفسه هذا الوجوب؟ ومن أين تقرر في طبع الإنسان أن الواجب الكريه لديه أولى به من إطاعة الهوى المحبب إليه، وإن لم يطلع أحد على دخيلة سره؟

المستضعفون لهذا البرهان يقولون: إنها العادة الاجتماعية رسخت في النفس حتى استحالت إلى رغبة مقبولة أو مطلب محبوب.

ولكنهم ينسون أن معرفة السبب لا تقضي بإبطال الغاية أو بفقدان الحكمة.

فنحن نعلم أن القطار يتحرك بغليان المرجل فيه، ونعلم أن المهندس قد مد قضبانه لأنه يكافأ على مدها بأجر يحتاج إليه، وأن نظار المحطات ييسرون حركة القطار لأنهم مجزيون على ذلك أو معاقبون على إهماله، ولكن ذلك كله لا يبطل الغاية ولا يقضي بمسير القطار لغير حكمة وقيام العمل كله بغير تدبير.

ثم ينسى المستضعفون لبرهان الضمير أن «العادة الاجتماعية» ليست بالتفسير الذي يعلل نشأتها وإنما هي تكرير للمشاهدة كما رأيناها، فإذا سألهم سائل: لماذا نشأت العادة الاجتماعية؟ قالوا للمصلحة الاجتماعية! ولكنهم لا يسألون أنفسهم: لماذا كانت المصلحة الاجتماعية أمرا مفروغا منه مقضيا بوقوعه، ولماذا تعلل المصلحة الاجتماعية نشوء العادة ولا تحتاج هي إلى تعليل؟

ولم يكن «عمانويل كانت» أول من قال بهذا البرهان بين الغربيين؛ لأن برهانه صورة مختصرة من برهان القديس توما الأكويني الذي يستدل به على وجود الله من آيات الخير ومحاسن الجمال في نفس الإنسان وفي مشاهد الطبيعة.

فنحن نفضل جميلا على جميل ومأثرة على مأثرة، ولا تتأتى لنا المفاضلة بينها بغير قسطاس شامل نرجع إليه في فهم الخير والجمال، وهذا القسطاس الشامل لا يكون فيما دون تلك الخيرات والمحاسن، بل فيما فوقها إلى مصدرها الأصيل، وهو الله.

ولا يتعين أن يكون كل شيء جميلا وكل شيء خيرا لنبحث عن ذلك القسطاس في العالم كله ، بل يكفي أن يكون في العالم خير وجمال ليبحث الذهن عن ذلك القسطاس ويقتضيه. •••

هذه هي زبدة البراهين الفلسفية العامة على وجود الله، ومن الحق أن نعيد هنا أن الإيمان الإلهي لا يقوم عليها وحدها في البصيرة الإنسانية، وأن قصاراها من الإقناع أنها أرجح وزنا من ردود المنكرين، ولا سيما المنكرين الذين في إنكارهم ادعاء وهجوم على الفروض بغير دليل، وبغير إيمان.

ولقائل أن يقول في هذا الصدد: ولماذا يحوجنا الله إلى البراهين لإثبات وجوده؟ لماذا لا يتجلى للعيان فيعرفه كل إنسان؟!

ونقول نحن: إننا لا ندري، ولكننا إذا طلبنا أن تتجلى الحقيقة الإلهية لكل مخلوق، وأن تتساوى العقول جميعا في استكناه جميع الحقائق بغير خفاء، عدنا إلى المخلوقات المتشابهة في الكمال بغير اختلاف قط وبغير حدود في المعرفة والخليقة، وليس تخيلنا لذلك العالم المطلوب بأيسر من تخيلنا للعالم المشهود كما عهدناه، فإن العالم الذي يوجد فيه الإيمان وجودا آليا أقل حكمة من العالم الذي يجاهد فيه الضمير جهاده للوصول إلى الإيمان.

البراهين القرآنية

لم تتكرر البراهين على إثبات وجود الله في كتاب من كتب الأديان المنزلة كما تكررت في القرآن الكريم.

فليس في التوراة ولا في الإنجيل أكثر من إشارات عارضة إلى الملحدين الذين ينكرون وجود الله.

لأن أنبياء التوراة كانوا يخاطبون أناسا يؤمنون بإله إسرائيل ولا يشكون في وجوده، فلم يكن همهم أن يقنعوا أحدا من المرتابين أو المنكرين، وإنما كان همهم تحذير القوم من غضبه وتخويفهم من عاقبة الإيمان بغيره، وتذكيرهم بوعده ووعيده كلما نسوا هذا أو ذاك، في هجرتهم بين الغرباء الذين يعبدون إلها غير «ياهواه» إله إسرائيل دون غيرهم من الشعوب!

نعم دون غيرهم من الشعوب؛ لأن أبناء إسرائيل كانوا يحسبونه لهم ولا يحبون أن يشركهم فيه غيرهم، فلا هم يشركون معه غيره من الآلهة ولا هو يشرك معهم غيرهم من الشعوب، وهكذا كانوا يفهمون التأليه في تاريخهم القديم، قبل خلوص الإيمان بالتوحيد من شوائب الشرك والتعديد.

فعباد «ياهواه» لم يكونوا ينكرون وجوده ولا ينكرون وجود غيره، وإنما كان هو إلههم المفضل على غيره من الآلهة، كما كانوا هم الشعب المفضل على الشعوب.

فالأرباب الأخرى عندهم موجودة كما يوجد إلههم «ياهواه»، ولكنها لا تستحق منهم العبادة لأنها أرباب الغرباء والأعداء، وكل عبادة لها فهي من قبيل الخيانة العظمى وليست من قبيل الكفر كما فهمه الناس بعد ذلك، وغاية ما في الأمر أن طاعة الآلهة الغريبة هي كخدمة الملك الغريب، نوع من العصيان والخيانة.

لهذا لم يشغل أنبياء التوراة السابقون بإثبات وجود «ياهواه» أو بإثبات وجود الأرباب على الإجمال، وإنما كان شغلهم الأكبر أن يتجنبوا غيرة «ياهواه» وغضبه، وأن يدفعوا عن الشعب نقمته وعقابه، ولم يكن له عقاب أشد وأقسى من عقابه لأبناء إسرائيل كلما انحرفوا إلى عبادة إله آخر، من آلهة مصر أو بابل أو كنعان.

ولما ظهرت المسيحية لم يكن بينها وبين المذاهب الإسرائيلية خلاف على وجود الله ولا على أنبياء التوراة، وإنما كان الخلاف الأكبر على نفاق الرؤساء والكهان في مظاهر العبادة واستغلالهم الشعائر المقدسة في كسب المال وجلب السلطان، وتغليبهم مطامع الدنيا على فرائض الإيمان.

ولم يشعر الدعاة المسيحيون بالحاجة إلى تمحيص القول في الربوبية إلا بعد عموم الدعوة في بلاد اليونان والرومان وغيرهم من أمم الحضارة في ذلك الحين، أي بعد كتابة الأناجيل بعهد غير قصير.

فلم تتكرر البراهين على إثبات وجود الله في أسفار التوراة والإنجيل لذلك السبب الذي أجملناه، أما القرآن فقد كان يخاطب أقواما ينكرون وأقواما يشركون وأقواما يدينون بالتوراة والإنجيل ويختلفون في مذاهب الربوبية والعبادة، وكانت دعوته للناس كافة من أبناء العصر الذي نزل فيه وأبناء سائر العصور، ومن أمة العرب وسائر الأمم، فلزم فيه تمحيص القول في الربوبية عند كل خطاب، وقامت دعوته كلها على تحكيم العقل في التفرقة بين عبادة وعبادة وبين الإله «الأحد» وتلك الآلهة التي كانت تعبد يومئذ بغير برهان.

كان فيمن خاطبهم القرآن أناس ينكرون وجود الله

وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون .

وكان فيهم من يدينون للأوثان ولا يقبلون عبادة غير العبادة الوثنية كما توارثوها عن الأجداد والآباء.

وكان فيهم من يشوبون الوحدانية بالوثنية ومن يختصمون على تأويل الكتب المنزلة كما اختصمت طوائف اليهود وطوائف المسيحيين.

وكان يخاطب العقل ليقنع المخالفين بالحجة التي تقبلها العقول الإنسانية، فجاء بكل برهان من البراهين التي لخصناها في الفصل السابق، وجعل الهدى من الله ولكنه من طريق العقل والإلهام بالصواب.

قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء ،

قل إن الهدى هدى الله ،

وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ،

فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام .

وآيات الله مكشوفة لمن يريدها ويستقيم إلى مغزاها، ولكنها هي وحدها لا تقنع من لا يريد ولا يستقيم:

ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون .

فحتى العيان لا يكفي لإقناع من صرف عقله عن سبيل الإقناع؛ لأنه يتهم بصره وسمعه فيما رأى بعينيه وسمع بأذنيه، وكل شيء في الأرض والسماء كاف لمن جرد عقله من أسباب الإنكار والإصرار.

ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين .

ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا .

وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .

وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج .

وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى .

وما خلق الذكر والأنثى .

فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون .

ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .

قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله .

والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون .

قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم .

ليس كمثله شيء .

ولله المثل الأعلى .

وفوق كل ذي علم عليم .

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما .

وليست هذه جميع الآيات التي وردت في القرآن الكريم بإقامة البرهان على وجود الله، ولكنها أمثلة منها تجمع أنواعها، ونرى منها أنها قد أحاطت بأهم البراهين التي استدل بها الحكماء على وجوده: وهي براهين الخلق والإبداع وبراهين القصد والنظام، وبراهين الكمال والاستعلاء والمثل الأعلى.

ومما يستوقف النظر أن البراهين التي جاء بها القرآن الكريم وخصها بالتوكيد والتقرير هي أقوى البراهين إقناعا وأحراها أن تبطل القول بقيام الكون على المادة العمياء دون غيرها، ونعني بها؛ «أولا»: برهان ظهور الحياة في المادة

يخرج الحي من الميت ،

وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة «وثانيا»: برهان التناسل بين الأحياء لدوام بقاء الحياة

جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا ،

وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج .

فلم يحاول الماديون قط أن يفسروا ظهور الحياة في المادة الصماء إلا وقفوا عند تفسير الحاصل بالحاصل، أو تخبطوا في ضروب من الرجم بالغيب لا يقوم عليها دليل، وهم إنما يهربون من الإيمان بوجود الله لأنهم لا يصدقون بالغيب ولا يعتمدون غير المشاهدة وما هو في حكمها من دليل ملموس.

فمنهم من يفسر ظهور الحياة في المادة بأن المادة فيها طبيعة الحياة بعد التركيب والتناسق، وليس في هذا القول تفسير، بل هو بمثابة تفسير الواقع المحسوس بالواقع المحسوس.

وبعض العلماء كاللورد كلفن يرجح أن جراثيم الحياة قد انتقلت إلى الكرة الأرضية على نيزك من تلك النيازك الهائمة في الفضاء، ولكنه لا يستغني بهذا التفسير عن تعليل ظهور الحياة حيث انتقلت من موضعها إلى الكرة الأرضية، ولا يرى أن الحياة من نتاج المادة الصماء.

ولا يسع العقل في أمر ظهور الحياة إلا أن يأخذ بأحد قولين! فإما أنها خاصة من خواص المادة ملازمة لها فلا حاجة بها إلى خالق مريد، وإما أنها من صنع خالق مريد يعلم ما أراد.

فإذا كان هذا العالم كله مادة ولا شيء غير المادة، لزم من ذلك أن المادة أزلية أبدية لا أول لها ولا آخر، وأنها موجودة منذ الأزل بكامل قواها وجملة خصائصها، وأن خصائصها ملازمة لها حيث كانت بغير تفرقة بين المادة في هذا المكان من الفضاء، والمادة في غير ذلك المكان.

ولا معنى إذن لظهور الحياة في كوكب دون كوكب، وفي زمان دون زمان، ولا معنى لأن تظل خصائص الحياة بلا عمل ملايين الملايين من السنين، بل فوق ملايين الملايين من حساب السنين، ثم تظهر بعد ذلك في زمان يحسب تاريخه بالآلاف، ولا يقاس إلى الأزل الذي لا يدخل في حساب.

والمسألة هنا مسألة اضطرار لا اختيار فيه، فلو كانت إرادة مريد لجاز تقدير زمن دون زمن وكوكب دون كوكب؛ لأن التقدير طبيعة الاختيار والإرادة، ولكنها خصائص ضرورية لا تملك الاحتجاب من أزل الآزال قبل أن تظهر على الكرة الأرضية أو غيرها من الكواكب في هذا الأمد المحصور من الدهور، فأين كانت خصائص التركيب منذ أزل الآزال؟ ولماذا يكون التركيب محتاجا إلى زمان إذا كان من طبيعة المادة وكانت طبيعة المادة ملازمة لها منذ وجد لها وجود؟ ولماذا يحتاج التركيب إلى هذا المقدار من الزمان بعينه ولا يتم في غير جزء من المادة وفي غير مكان محدود من الفضاء؟ إن المسألة ليست مسألة ألف سنة ولا عشرة آلاف سنة ولا مليون سنة ولا عشرة ملايين ولا ألف مليون ولا ملايين الملايين من السنين، ولكنها مسألة «أبد» لا يحصى من بداية العالم وليست له بداية تقف عندها العقول، فلماذا تأجلت خصائص التوزيع والتركيب في أجزاء الفضاء وآماد الزمان؟ ولماذا جاءت الحياة مصادفة ثم دامت هذه المصادفة بكل ما يلزم لدوامها من تدبير، وليس للمادة الصماء تدبير؟

على العقل أن يبدي أسبابه لترجيح القول بهذه الفروض على القول بظهور الحياة من صنع خالق مريد، ولا نعرف أسبابا لترجيح الفرض العسير على الفرض اليسير.

والفرض اليسير هو الفرض الآخر: وهو أن الحياة قد ظهرت من صنع خالق مريد، وإننا إذا فاتنا أن نعلم مقاصده كلها أو بعضها - فليس في ذلك ما يأباه العقل أو ينفيه؛ لأن الخالق المريد هو الذي يعلم مراده كله، ولا يلزم من ذلك أن يعلمه كل عقل ويحيط به كل عاقل، فنحن لا نستطيع أن نقول: إن قوانين المادة العمياء قد اختارت لظهور الحياة هذا الزمان وهذا المكان، ولا نستطيع أن نقول: إن قوانين المادة في شأن الحياة لا تسري إلا بعد ملايين الملايين من الدهور منذ أزل الآزلين، ولكننا نستطيع أن نقول: إن اختيار الزمان والمكان من فعل مختار مريد، وإنه هو الذي يعلم ما قد اختار وما قد أراد، ولسنا بعد هذا محتاجين إلى التساؤل عن اختيار الزمان والمكان لظهور الحياة؛ لأنه - مع وجود الخالق المريد - لا تكون الحياة الحيوانية أو الحياة الإنسانية هي أول نشأة للحياة الكونية في الزمان كله والمكان كله، وإنما هي ظاهرة من ظواهر الحياة الكونية لا عجب أن يكون لها وقت محدود وحيز محدود.

فإخراج الحياة من المادة الصماء - أو إخراج الحي من الميت - معجزة حقيقة بتوكيد القرآن الكريم وتقريره وتعجيب العقول من خفاء دلالتها على من تخفى عليه؛ فإن المادة قد تنتظم في أفلاك ومدارات وبروج؛ لأن الانتظام حالة من الحالات التي تقع للمادة ولا تضطر العقل إلى افتراض قوة من خارجها، أما أن تنشئ المادة لنفسها أسماعا وأبصارا وأفئدة فليست هذه من حالاتها التي يقبلها العقل بغير تفسير، وكل ما قيل في نفي العجب عن تركيب الجسم الحي - أنه لا عجب فيه؛ لأننا نرى الآلات المادية تعمل بنظام وتوزع العمل فيها لمقصد معلوم، ولكن العجب كل العجب في هذا التشابه بين الآلات والأجسام الحية؛ لأن الآلات لا تنشأ بغير صانع مريد، ولا يغنينا تعليل أعمالها بقوانين الحرارة والحركة عن تجاوز القوانين إلى إرادة المهندس المسخر لهذه القوانين.

وقد كان الناس ينظرون بالعين المجردة إلى أعضاء الجسم الحي فيعجبون وسعهم من العجب لدقتها وتساند أجزائها وتعاون وظائفها وسريان عوامل النمو فيها بمقاديره الضرورية على حسب السن والنوع والفصيلة، سواء في جسم الإنسان أو جسم الحيوان أو جسم الحشرة أو جسم النبات، فأحرى بهم أن يعجبوا أضعاف ذلك العجب بعد أن عرفوا بالمجاهر والتحليلات مم تتألف تلك الأعضاء، وعلى أي نحو تتساند تلك الوظائف، وتبين لهم أن هذه الأعضاء البارزة للعيان مجموعة من ذرات لا ترى الألوف منها بالعين المجردة، وأن كل ذرة منها تقع في موقعها من الجسم وتعاون بقية الذرات فيه كأنها على علم بها وبما تطلبه منها، ولا تضل واحدة منها عن طريق لمرض أو عجز طرأ عليها إلا تكفل سائرها بإصلاح خطئها وتقويم ضلالها.

قال الأستاذ ليثز

Leathes

في خطاب الرئاسة السنوي بقسم الفزيولوجي من جامعة أكسفورد عام 1936 ما فحواه أن كل خلية من البروتين تتألف من سلسلة فيها بضع مئات من الحلقات، وأن كل حلقة منها هي تركيبة من ذرات قوامها حمض من الأحماض النوشادرية، وهي أحماض يبلغ المعروف منها نحو العشرين، ويجوز أن يقع كل منها موقعه على اختلاف في النسبة والترتيب، ولكننا لا نراها في بعض الأنسجة إلا على ترتيب واحد ونسبة واحدة بغير شذوذ ولا اختلاف.

فهل نستطيع أن نتخيل مبلغ الدقة في هذه الإصابة بين احتمالات الخطأ التي لا تحصيها أرقامنا المألوفة؟

يكفي لتقريب هذه الدقة من الخيال أن نذكر أن الحروف الأبجدية في لغات البشر كافة لا تتجاوز الثلاثين، ويتألف من تراكيبها المتغيرة كل ما تلفظ به الأمم من الكلمات والعبارات، فإذا كانت خلية البروتين في حجمها الخفي قابلة لأضعاف ذلك التكرار ثم لا نشاهد فيها إلا كلمة واحدة في ترتيب واحد لا يتغير فقد عرفنا على التقريب معنى تلك الإصابة في التوفيق والتركيب.

يقول الأستاذ ليثز لتقريب هذا الخيال: إن الضوء يصل من طرف المجرة إلى الطرف الآخر في ثلاثمائة ألف سنة، فإذا أردنا أن نشبه إصابة الخلية في تركيبها بمثل مفهوم - فهذه الإصابة تضارع إصابة الرصاصة التي تنطلق من الأرض فتصيب هدفا في نهر المجرة بحجم عين الثور ولا تخطئه مرة من المرات، وهذا على فرض أن حلقات الخلية خمسون فقط وليست بضع مئات!

لقد بطل معنى القصد في لغة العقل إن كان هذا كله مصادفة لا تستلزم الخلق والتدبير.

ونحن مع هذا لا نبلغ غاية التعجب من هذا التركيب المحكم المصيب؛ لأن الجسم الحي الذي تتكرر فيه هذه المعجزات كل لحظة من لحظاته لا تزال فيه بقية للعجب لعلها أعجب من كل ما تخيلناه، وهي أن هذه الذرات الخفية تتجمع وتتفرق وتلتئم وتنفصل على نحو يضمن لها التجدد أو يضمن الدوام للحياة، فيتألف كل حي من جنسين، وتخرج من كل منهما خلية واحدة يتكون منهما حي جديد، وتنقسم هاتان الخليتان تارة أزواجا وتارة فرادى على الوضع المطلوب في المرحلة المطلوبة، ويتفق عددها في كل نوع من الأنواع الحية بغير زيادة ولا نقصان، وينطبع كل حيوان على عادات وغرائز تسوقه إلى التناسل في موعده المقدور، فيبني العش قبل أن ينسل إن كان من الطيور، ويفارق الماء الملح إلى مداخل الأنهار أو الخلجان قبل أن ينسل إن كان من سمك البحار، ويمتلئ بالشوق إلى شريكه في التوليد قبل موعد التوليد على اختلاف الأنواع والأجناس.

ونعود فنقول مرة أخرى: إن معنى القصد قد بطل في عقل الإنسان إن كان القول بالمصادفة هنا أيسر من القول بالخلق والتدبير.

فالقرآن الكريم قد خاطب الأحياء بلغة الحياة، وخاطب العقلاء بلغة العقل، حين كرر برهان الحياة وبرهان النسل في إثبات وجود الخالق الحكيم.

وبرهانه على وحدة هذا الخالق يضارع برهان الحياة وبرهان النسل على وجوده وحكمته وتدبيره.

لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .

ولن يقوم على ثبوت الوحدانية برهان أقوى من هذا البرهان، وهو برهان التمانع كما يسميه المتكلمون والباحثون في التوحيد.

وقد اختلفوا فيه ولكنه اختلاف لا موجب له مع فهم البرهان على معناه الصحيح الذي لا ينبغي أن يطول الجدل عليه.

فالإمام التفتازاني يقول إنه برهان إقناعي أو برهان خطابي، لجواز الاتفاق بين الإلهين أو بين الآلهة، وأن العقل لا يستلزم الخلاف.

والإمامان أبو المعين النسفي وعبد اللطيف الكرماني ينحيان عليه أشد الإنحاء ويقذفانه بالكفر؛ لأن الاستدلال ببرهان إقناعي «يستلزم أن يعلم الله سبحانه ورسوله

صلى الله عليه وسلم

ما لا يتم الاستدلال به على المشركين، فيلزم أحد الأمرين إما الجهل وإما السفه، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.»

والإمام محمد البخاري تلميذ التفتازاني يدفع التهمة عن أستاذه بأن الأدلة على وجود الصانع تختلف بحسب إدراك العقول، والتكليف بالتوحيد يشمل العامة وهم قاصرون على إدراك الأدلة القطعية البرهانية، ولا يجدي معهم إلا الأدلة الخطابية العادية.

وقال الرازي: إن الفساد ممكن إذا تعددت الآلهة، وقد أجرى الله الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر.

وقال الإمام نور الدين الصابوني فيما رواه عنه صاحب سفينة الراغب: «لو ثبتت الموافقة بينهما - بين الإلهين - فهي إما ضرورية فيلزم عجزهما واضطرارهما، أو اختيارية ويمكن تقدير الخلاف بينهما فيتحقق الإلزام.»

وأحسن الإمام إسماعيل الكلنبوي حيث قال في حاشيته على شرح الجلال: «لا يخلو إما أن يكون قدرة كل واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم، أو لا شيء منهما كاف، أو أحدهما كاف فقط، وعلى الأول يلزم اجتماع المؤثرين التامين على معلول واحد وهو محال، وعلى الثاني يلزم عجزهما لأنهما لا يمكن لهما التأثير إلا باشتراك الآخر، وعلى الثالث لا يكون الآخر خالقا فلا يكون إلها.»

وصواب الأمر أن وجود إلهين سرمديين مستحيل، وأن بلوغ الكمال المطلق في صفة من الصفات يمنع بلوغ كمال مطلق آخر في تلك الصفة، وأن الاثنينية تتحقق في موجودين كلاهما يطابق الآخر ولا يتمايز منه في شيء من الأشياء، وكلاهما بلا بداية ولا نهاية ولا حدود ولا فروق، وكلاهما يريد ما يريده، ويقدر ما يقدره ويعمل ما يعمله في كل حال وفي كل صغير وكبير، فهذان وجود واحد وليسا بوجودين، فإذا كانا اثنين لم يكونا إلا متمايزين متغايرين، فلا ينتظم على هذا التمايز والتغاير نظام واحد، وإذا كانا هما كاملين فالمخلوقات ناقصة ولا يكون تدبير المخلوق الناقص على وجه واحد بل على وجوه.

وعلى هذا فبرهان القرآن الكريم على الوحدانية برهان قاطع وليس ببرهان خطاب أو إقناع.

وشأن القرآن في عالم الدين والعقيدة معروف، وهذا شأنه في عالم الحكمة الإلهية إذ يتناول وجود الله ووحدانية الله.

آراء الفلاسفة المعاصرين في الحقيقة الإلهية

كان الأقدمون يقولون بالإله «المقيد» لأنهم يؤمنون بتعدد الآلهة أو بوجود إلهين اثنين يتناظران ويتغالبان، وهما إله الخير وإله الشر، أو إله النور وإله الظلام.

ولما شاع الإيمان بالتوحيد بطل القول بالإله المقيد؛ لأن الإله الواحد لا يحده شيء ولا تحيط به القيود والنهايات، وكل ما قبلته العقول الفلسفية في حقه أن قدرته جل وعلا لا تتعلق بالمستحيل، ولم يقبل بعض المتكلمين حتى هذا القول؛ لأنهم رأوا أن الاستحالة نوع من التقييد الذي تتنزه عنه قدرة الله.

ثم عرف الناس أن الأرض كرة سيارة تدور في الفضاء كما يدور غيرها من السيارات.

وعرفوا مذهب النشوء والتطور، فقال لهم دعاته إن الإنسان حي كسائر الأحياء التي نشأت على الأرض وتحولت بها أحوال البيئة من طور إلى طور ومن طبقة إلى طبقة في مراتب المخلوقات.

فتواتر القول بما كان لهذين الكشفين من الأثر الخطير في نظرة الإنسان إلى الكون، ونظرته إلى نفسه، ونظرته إلى حقيقة الحياة.

كان يحسب أن الأرض مركز الوجود، وأنه هو مركز الأرض أو غاية الخلق كله في الأرضين والسماوات.

وكان يحسب أنه شيء علوي تسخر له الأحياء الأرضية، ولا يحسب أنه فرع من فروع الشجرة التي نبتت منها سائر الفروع.

فتغير نظره إلى الكون ونظره إلى نفسه.

ولكن هل تغير نظره إلى الله؟

لم يكن ذلك حتما لزاما من نتائج العلم بدوران الأرض أو العلم بمذهب النشوء والارتقاء، لأنهما خليقان أن يحدا من قدر الإنسان ولكنهما لا يحدان من قدرة الله.

وغاية ما هنالك أن هذين الكشفين قد زعزعا عقائد أناس من المتدينين الذين أخطأوا فهم الدين، فحسبوا أن الدين يفرض عليهم الإيمان بدوران الشمس حول الأرض وانقطاع العلاقة الجسدية بين الإنسان وسائر المخلوقات. أما الذين تعقلوا هذين الكشفين فلم يغيروا إيمانهم بالله، بل وجدوا فيهما دليلا جديدا على اتساع الكون وانتظام قدرة الله في خلقه من أهون الأشياء إلى أرفع الأحياء.

فمن أين إذن جاءت هذه النزعة الحديثة في بعض الفلسفات العصرية التي تؤمن بوجود الله ولكنها تقيده بقوانينه أو تقيده بنواميس المادة والقوة؟ أو تفرط في هذه الوجهة فتزعم أنه من ثمرات التطور في الكون الشامل، أو أنه عنصر من عناصره التي تضبطه أحيانا وتنضبط به في كل حين؟

ليس ذلك من إيحاء مذهب النشوء والارتقاء ولا هو من إيحاء القول بدوران الأرض في الفضاء كما جاء في بعض الآراء، ولكنه من نتائج الأطوار الاجتماعية وليس من نتائج الكشوف الفلكية أو العلمية، وأشبه الأطوار الاجتماعية بإيحاء هذا المعنى هو طور «الحكومة المقيدة» في السياسة الأرضية، فإن الملك المقيد بقوانينه ومشيئة شعبه ومقتضيات ملكه هو أحدث الأفكار العصرية في أطوار الاجتماع، وليست النقلة بعيدة بين تقييد الحاكم في الأرض وتقييد الحاكم في جميع الأكوان.

وربما كانت هذه النقلة غريبة في بعض الأمم الشرقية التي تعودت أن تدين ملوكها بكتابها السماوي في شئون المعاش وشئون المعاد على السواء، ولكن الكتب الدينية التي آمن بها الملوك الغربيون لم تتعرض للشئون المعاشية وتركتهم مطلقين في وضع الشرائع لهذه الشئون، فلما سهل على الأذهان عندهم أن تتصور الحاكم المطلق مقيدا بعد انطلاقه الطويل في سياسة الشعوب لم يصعب عليها أن تقبل القيود لكل حكم مطلق لم تكن له قيود.

لقد كان الإنسان يؤمن بأنه مركز الوجود، ولكنه كان يخضع للملوك المطلقين، فلم يكن في وسعه أن يتخيل كيف يجوز الحساب أو التقييد على ملك الملوك في جميع الأرضين والسماوات.

ثم عرف أن الأرض ليست بمركز الوجود، وأنه هو فرع من فروع شجرة الحياة، فكان خليقا بهذه المعرفة أن تزيده خضوعا على خضوع وأن ترضيه من الأقدار الإلهية بكل ما تفرضه عليه، ولكنه صغر من جانب وكبر من جانب: صغر في الكون وكبر في حياته السياسية، وراح يحاسب الحاكمين الذين كانوا مطلقين، وتعود أن يشاركهم في القوانين وقد كانوا وحدهم مصدر القوانين، فليس بالمستغرب في هذه البيئة الاجتماعية أن تنشأ بينها عقول تسيغ السلطان المقيد في الكون كله، وحيثما قام قائم بالتصريف والتدبير، وقد ساغ لها فهم «التقييد» حيث لم يكن قبل ذلك سائغا في الواقع ولا في التفكير.

وليس من محض المصادفات فيما نعتقد أن تبدأ هذه النزعة الفلسفية في البلاد الإنجليزية التي يقال عنها إن وظيفة الملك فيها وظيفة اسمية، وإن حامل التاج هناك لا يتعرض لسياسة حكومته إلا بمقدار ما يدعوه رعاياه.

وليس من محض المصادفات كذلك أن يكون البادئ بها هو جون ستيوارت مل صاحب المراجع المعتمدة في مباحث الحكومة النيابية ومباحث الحرية والدستور، وصاحب الوظيفة التي تخلى عنها في شركة الهند الشرقية، حين آلت إدارتها إلى سيطرة الحكومة البريطانية.

وقد ولد جون ستيوارت مل في أوائل القرن التاسع عشر 1806-1873 واقترنت حياته كلها بأنشط الأطوار في الرقابة البرلمانية وحركات التوسع في حقوق الانتخاب، فنظر في حكومة الكون وعينه لا تتحول عن حكومة الأرض وعلاقة المحكومين فيها بالحاكمين.

ولم يكن جون ستيوارت مل من الفلاسفة الإلهيين ولا من المعنيين كثيرا بما وراء الطبيعة أو حقائق الأديان، وقد أنكر أبوه جميع عقائده الدينية في أخريات حياته ولم يكن في مبدأ حياته من ذوي التدين والاعتقاد، فلا جرم ينظر ابنه إلى إله الكون ومدبر العالم فلا يستكبر عليه قيود المادة والنواميس.

وإنما عرفت فلسفة مل في الدين من رسائله الثلاث التي كتبها عن «الديانة» ولم ينشرها في حياته، ولكنه أودعها صفوة آرائه في هذا الموضوع، ولعله قد أودعها كلمته الأخيرة فيه.

فالرسالة الأولى عنوانها الطبيعة، وخلاصتها أن «سلوك الطبيعة» ليس بالسلوك الذي يجتذبه الإنسان في طلب الكمال، وأن الإنسان خليق أن يروضها ويقودها لا أن يتخذها قدوة له في آدابه ومعاملاته، ومن ثم لا يرى أنها من خلق إله رحيم قادر على كل شيء؛ لأنها قد أفعمت بالقسوة والألم والعذاب، وقلما يظفر الإنسان منها بخير أو بركة غير ما يحصله هو بالسعي الحثيث والجهد الشديد.

والرسالة الثانية عنوانها فائدة الديانة، وخلاصتها أن الديانات قد أفادت قديما في تعليم الإنسان مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وكانت هي المرجع الوحيد الذي كان يرجع إليه في التفرقة بين الحسن والقبيح والمباح والمحظور، ولكنها قيدت عقله بأحكامها وفروضها فأعجزته عن التفكير في مضامينها والتخلص من عيوبها، وعنده أن العقائد الإنسانية كافية في تهذيب الناس وقيادتهم بعد زوال العقائد التي تقوم على ما وراء الطبيعة، لولا مزية لهذه العقائد لا توجد في العقائد الإنسانية، وهي تعزية النفس برحمة الله ودوام الحياة في العالم الآخر، ولا مانع عقلا ولا علما في رأي مل أن يصح وعد الديانات بالحياة بعد الموت.

والرسالة الثالثة عن «الربوبية» وفيها يعترف الفيلسوف بنظام الكون ولا يستريح إلى تفسير ظواهر الحياة بمذهب النشوء والارتقاء، إلا أنه يعود فيقول: إن هذا النظام لا يثبت وجود الإله القادر على كل شيء، ولا يلزم منه أن مدبر الكون إله مطلق القوة والكمال؛ لأن الدنيا على ما فيها من النظام لا تخلو من الآفات والشرور التي لا يرتضيها إله وهو قادر على تبديلها، فالله موجود مريد لخير المخلوقات وسعادتها ولكنه محدود القدرة والإرادة، منصرف العناية إلى أمور كثيرة غير أمور الناس ودائب على تذليل المادة والقوة وتطويعها لما يرتضيه. •••

كانت هذه الآراء مقدمة لظهور القول بالإلهية المقيدة في العصر الحديث، وكانت في آراء جون ستيوارت مل نواة أخرى لظهور هذا المذهب على اختلاف شروحه؛ لأنه كان يقول بالكيمياء العقلية ويعني بها أن امتزاج الأفكار تنشأ عنه أطوار فكرية جديدة لم تكن بينة في الأفكار المتعددة قبل امتزاجها، كأنها العناصر المادية التي يمتزج بعضها ببعض فتنبثق منها مادة جديدة لم تكن بينة في عناصرها الأولى - وأشهر الأمثلة على ذلك تولد الماء من الهيدروجين والأكسجين، وكلاهما مخالف للماء في خصائصه ومزاياه.

وشاعت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين صيغ القول بالنشوء والارتقاء، ثم شاعت على أثره فلسفة النسبية التي قررها أينشتين وقرر فيها أن الفضاء رباعي الأبعاد وأن البعد الرابع هو الزمان، فلا يتأتى قياس حركة من الحركات بالطول والعرض والعمق وحدها دون أن نضيف إليها الزمان وهو البعد الرابع المتمم لهذه الأبعاد.

فآراء جون ستيوارت مل كانت نواة للفلسفة الإلهية الحديثة في البلاد الإنجليزية، وساعدتها الآراء التي تتابعت على أثرها واحدة بعد الأخرى، فلم يكد يظهر من الفلاسفة الإنجليز في القرن العشرين فيلسوف واحد يخلو مذهبه من آثار هذه الآراء متجمعات أو متفرقات.

وفي وسعنا أن نطلق عنوانا واحدا على هذه المذاهب في جملتها؛ لأنها تقوم على أساس واحد وإن تنوعت في التخريج والاتجاه، فهي كلها صالحة لأن تسمى باسم «التطور الانبثاقي» أو «التركيب المنتخب» على حد سواء، ويتضح معنى هذه التسمية من تلخيص المذهب كله فيما يتصل بموضوع هذا الكتاب.

ومن المتعذر مع هذا أن نلخص المذهب كله كما شرحه جميع الكاتبين فيه، فقد خاض في شرحه وتخريجه طائفة من الفلاسفة يتجاوزون العشرين، ونحا كل منهم منحى يعارض به زميله في لباب المذهب أو قشوره، فليس من المفيد في مقصدنا هذا أن نحيط بجميع هذه الفوارق والمعارضات، ولكننا نجتزئ بأكبر هذه الشروح وأبرزها وأدلها على الغاية من جملة تلك الأقوال، ولعلنا نخرج منها بالخلاصة الكافية إذا اقتصرنا على شروح ثلاثة من أساطينه وهم مورجان والإسكندر وسمطس، وهم نخبة القائلين بالتركيب والانبثاق. •••

ولد لويد مورجان

Lioyd Morgan

في سنة 1852 وتعلم هندسة المناجم وعلم طبقات الأرض، ثم حضر دروس البيولوجية على العلامة توماس هكسلي، ووعى في صباه مختارات جيدة من الشعراء المحدثين والأقدمين، وحثه أستاذه وهو في أثناء فترة التمرين على مطالعة الفيلسوفين بركلي وهيوم، فقرأهما كما قرأ فلسفة ديكارت وسبنوزا وليبنتز، وزاول التدريس في شعاب شتى من الثقافة العصرية بينها من التفاوت ما يدل على سعة الأفق وغزارة الاطلاع، ومنها العلوم الطبيعية والتاريخ الدستوري وآداب اللغة الإنجليزية وعلم طبقات الأرض وعلم الحيوان، وكان أول تدريسه في أفريقية الجنوبية، ثم عاد إلى إنجلترا فأسندت إليه مهمة التدريس في كلية بريستول فترقى فيها إلى منصب العمادة خلال سنوات معدودات.

وكان مذهبه في مبدأ الأمر تعديلا لمذهب هربرت سبنسر الذي يقول بأن الارتقاء في عالم المادة العضوية وغير العضوية على السواء - هو انتقال من البساطة إلى التركيب ومن التشاكل إلى التنويع، فكان من رأي مورجان أن الانتقال من البساطة إلى التركيب لا يكفي لتفسير ظهور الحياة ما لم يكن في التركيب شيء جديد، وقال بأن التركيب يخلق الشيء الجديد على النحو الذي قدمناه في تولد الماء من الهيدروجين والأكسجين، وقال كذلك باستقرار الخصائص النفسية أو الحيوية في المادة من أقدم الأزمان، وإنما يتوالى التركيب فتبرز الخصائص النفسية بعد أن كانت مكنونة في حالة التفرد والبساطة، ومثل الأشياء في ذلك كمثل الهرم الذي يتسع من أسفله ويتحدد في أعلاه، فالمادة هي قاعدته السفلى والعقل هو قمته العليا، وكل طبقة فيه تعلو على طبقة تحتها فإنما تعلو ببروز الخصائص النفسية بعد الخفاء.

ودرجات الارتقاء عنده هي المادة في صورتها البسيطة المفردة، ثم المادة في أخلاطها الطبيعية الكمية، ثم الحياة، ثم العقل، وهو أرقى ما وصلت إليه الموجودات، ولكنه طبقة جديدة من خاصة قديمة مستكنة في أبسط الموجودات، ففي وسعك أن تقول عقل الذرة وعقل الجماد وعقل الشجرة؛ لأنها جميعا لا تخلو من عنصر العقل إما على حالة من النزارة التي تكفيها في كيانها، وإما على حالة الاستقرار والاستكنان إلى أن تبرز البروز المعهود في عقل الإنسان.

ومجمل القول في الاتصال بين العقل والمادة أنهما يتطوران معا ولا يتطور أحدهما من الآخر، ولكنهما متلازمان لا ينفصلان فلا عقل بلا مادة ولا مادة بلا عقل في شيء من الأشياء.

وكان مورجان يسمي مذهبه هذا «بمذهب التركيب المنتخب» أي التركيب الذي ينتقي من المركبات صفوة بعد صفوة من خصائص الوجود

Selective Synthesis

ثم قبل اسم «التطور الانبثاقي»

Emergent Evolution

لأنه أيسر على الأفواه وأقرب إلى الأذهان.

ولا فرق بين مورجان وزملائه «الانبثاقيين» في اعتبار العقل والحياة من خصائص المادة المستكنة فيها من أزل الآزال، ولكنه يخالف أكثرهم في إثبات الإرادة الإلهية مع إثبات الخصائص المادية، فيسأل غير مرة: وما الذي يخرج هذه الأطوار بعضها من بعض على هذا الترتيب العجيب؟ ويجيب غير مرة: إنه تدبير الإله أو توجيه الإله، فليست قوانين التركيب والانتقاء عنده بمغنية عن العناية الإلهية في نهاية المطاف. •••

أما ثاني الفلاسفة الثلاثة الذين يجمعون شتات المذهب فهو الأستاذ صمويل الإسكندر وقد أصبح اسم الإسكندر وحده علما عليه.

وهو من أبناء أستراليا، ولد في مدينة سدني 1855، وتخرج من جامعة ملبورن ثم من جامعة أكسفورد، حيث اشتهر بالألمعية والذكاء وأحرز كثيرا من الجوائز والمكافآت، وكانت الدعوة الفلسفية الغالبة في عهد دراسته هي دعوة هيجل يتممها مذهب دارون وتفسيرات هكسلي وسبنسر، فهي بهذه المثابة أقرب إلى الواقعية منها إلى المثالية التي اشتهر بها هيجل في عصره، ولهذا يعتبر الإسكندر من أساطين الواقعيين.

وهذا الفيلسوف هو أوسع أنصار الفلسفة «الانبثاقية» نطاقا في شروحه وتعليقاته وأبعدهم أمدا في نتائجه وأشدهم تطوحا في مزاعمه؛ لأنه يشمل الإله بأحكام مذهب التطور المنبثق، ويقول: إنه ثمرة من ثمراته هي الثمرة التالية لظهور «العقل» في الوجود، أو هي الثمرة التالية أبدا لأرفع الثمرات التي يترقى إليها التطور والإنبثاق، فكل ما وصلت المادة إلى طبقة من طبقات الارتفاع كانت الفكرة الإلهية هي الفكرة التالية لها أبدا بغير انتهاء.

فالإسكندر يجمع بين مذهب التطور ومذهب «هيجل» إذ يقول هيجل بأن الله هو «الوجود المطلق» الذي يتمثل في حدود الوجود المشهود، وأن العقل الإنساني هو آخر مثال وصل إليه الوجود في هذا التجلي الإلهي، فهو أرفع مثال.

وعند الإسكندر أن المادة ومظاهرها جميعا قد صدرت من مصدر واحد وهو الكون المؤلف من المكان والزمان، فليس المكان فراغا إلا إذا انعزل من الزمان، وليس الزمان عدما إلا إذا انعزل من المكان، ولكنهما إذا اجتمعا - وهما مجتمعان أبدا - نجمت الحركة، وهي أصل المادة وأصل جميع الموجودات.

ولا شك أن مذهب أينشتين عن الزمان والمكان كان له أثر كبير في وقوع هذا الخاطر في روع الفيلسوف، ولكن الأثر الأكبر ولا شك يرجع إلى مباحث العلوم الطبيعية في الحرارة والكهرباء، ولا سيما المباحث التي قررت أن ذرات المادة تتحول إلى إشعاع، فإذا كان الإشعاع هو أصل المادة وكان الإشعاع مجرد حركة فلا جرم يخطر للفيلسوف أن حدوث الحركة في الفضاء هو أصل المادة في صورتها الأولى، وأن حدوث الحركة في الفضاء هو بعبارة أخرى اتصال الزمان والمكان، لأن الزمان هو الحركة ووقع الحركة هو اتصالها بالمكان.

فإذا حدثت الحركة فذلك هو اتصال الزمان والمكان، وإذا وجدت الحركة وجد الإشعاع وتسلسلت الأشياء المادية من هذا الإشعاع.

وهي تبدو على درجات، فأدنى طبقات المادة - بعد صدورها من الفضاء والزمان - هي المادة ذات الخصائص الأولية وهي الحجم والشكل والعدد والحركة، ثم تعلوها طبقة الخصائص التي تترقى إلى اللون والصوت والرائحة ودرجة الحرارة، أو بعبارة أخرى إن الخصائص الأولية تدرك بجميع الحواس، وإن الخصائص التالية لها تحتاج إلى التخصيص فتدرك منها بإحدى الحواس، ولا تتم الخاصة للشيء إلا مع اتصاله بشيء آخر، كما يتم اللون مع اتصال الشيء بالنور، ويتم الصوت مع اتصال الشيء بالهواء، فلا بد له في هذه الحالة من بعض التركيب.

قال في كتابه المفصل «المكان والزمان والإله»:

ومن الناحية الأخرى إذا نحن استبدلنا كلمة النظام بكلمة المنظم لم نعد بذلك أن نسمي هذه الحقيقة الواقعة: وهي أن العالم يجري على نسق يخرج منه النظام، وفي وسعنا أن نسمي العالم الذي ندركه على هذا النحو «إلها»، وننسى - أو لعلنا بذلك نفسر - ذلك السرف أو ذلك التلف المنطويين في ذلك الإجراء، ولكن بأي معنى من المعاني يصلح إله كذلك الإله للعبادة؟ إنما يصلح للعبادة على معنى واحد، وهو أن نعود فندخل على فكرة النظام التي هي وصف لبعض الوقائع المقررة فكرة المنظم المدبر، وهو الرأي الذي سبقنا فأدحضناه .

والذي نرجو أن نصنعه هنا هو شيء أقرب إلى التواضع والاعتدال من ذاك وأدنى إلى السياق العلمي المطرد في بعض المسائل الأخرى، فلا نحاول تعريف الله مباشرة، بل نسأل أنفسنا: هل هناك محل في العالم للصفة الإلهية؟ ثم نمحص حقيقة ذلك الكائن الذي يتصف بتلك الصفة، ونرجع إلى الحاسة الدينية لكي يطابق ذلك الكائن صفات الإله الذي هو أهل للعبادة، فأين إذن محل الإله في مجرى الأشياء إن كان له محل على الإطلاق؟

في هذه المادة الشاملة التي تتولد من الفضاء والزمان لا يزال الكون يعرض انبثاقا بعد انبثاق لسلسلة من الكائنات المحدودة يتسم كل منها بخصائصه وصفاته، وأرفع هذه الكائنات المعروفة لدينا هو العقل أو الواعية، فالإله هو الكائن الذي يعلو على أعلى ما عرفناه.

ولما كان الزمان أبديا بغير انتهاء، وكان هو مصدر النماء والارتقاء، فليس في استطاعتنا أن نتخيله واقفا عند إخراج تلك الكائنات المحدودة التي تتسم بسمة العقل أو الواعية، ولا بد لنا من أن نرسل الفكر على الاتجاه الذي ترسمناه من تجارب الانبثاق السابقة التي تمخضت عن الصفة الرفيعة، فإن في الزمان والفضاء باعثا يدفع مخلوقاتهما إلى طبقة أرفع فأرفع كما دفع بها إلى الطبقة العاقلة أو الواعية، وليس في العقل ما يدعونا إلى الوقوف عند حد من الحدود لنقول إنه هو الحد الأقصى لما يبثه الزمان من الآن إلى أبد الآباد، بل يكرهنا الزمان نفسه على انتظار مولود آخر من مواليده، ومن ثم يسوغ لنا أن نتتبع سلسلة الصفات ونتخيل تلك الكائنات المحدودة التي سميناها بالملائكة وهي كائنات تستمتع بوجودها الملائكي ولكنها تتأمل العقل على نحو يعجز العقل عنه كما نرى العقل يتأمل ما دونه من مراتب الحياة والموجودات السفلى، وعلينا أن نسأل: كيف تكون العلاقة بين هذه الآلهة المحدودة المسماة بالملائكة وبين الإله الذي ليست له حدود.

فالإله إذن هو الطبقة المثالية التي تعلو على طبقة العقل الواعية والتي يتمخض الكون الآن ليخرجها من أطوائه، ونحن من وجهة الاستطراد الفكري على يقين من استجنان هذه الصفة في الكون وتهيئه لولادتها، ولكن ما هي يا ترى تلك الصفة الموعودة؟ إننا لا ندري؛ لأننا لا نقدر على التحلي بها ولا على تأملها، ولا تزال محاريبنا الإنسانية معدة لاستقبال ذلك الإله المجهول، ولا سبيل لنا أن نعرف ما هو ولا كيف تكون الإلهية وكيف يشعر الإله بوجوده إلا إذا أنعمنا بصفة الآلهة قبل ذاك.

إلى أن قال: فالإلهية صفة تتولى الصفات التي دونها من طبقة العقل الذي يقوم هو أيضا على ما دونه من صفات وينبثق عن ما تبلغ الكائنات مبلغا مقدورا من التركيب والتنسيق.

ويمضي الفيلسوف في التقدير والتخمين فيقدر أن الإله الأعلى الذي ينبثق عنه العالم هو من معدن الروح والعقل لأنهما الطريق التي تأدينا منها إليه، ولكنه يشارك الموجودات في خصائصها الكونية كما يشترك الإنسان العاقل في خصائص المادة وخصائص سائر الأحياء على نحو من الأنحاء. •••

فالوجود على رأي هذا الفيلسوف درجات هي؛ «أولا»: وجود الزمان والمكان، و«ثانيا»: وجود المادة التي لا كيفية لها غير الشكل والحكم والعدد وما لا يحتاج إلى علاقة بغيره ولا حاسة مميزة لإدراكه، و«ثالثا»: وجود المادة التي تتكيف باللون والرائحة والصوت ويبلغ بها التركيب مبلغ التميز بالحاسة التي تناسبها، و«رابعا»: وجود الحياة وتبدأ بالاستجابة الحسية التي تشبه في ظاهرها استجابة بعض المواد - غير العضوية - لبعض المؤثرات، و«خامسا»: وجود الحياة العاقلة الواعية، و«سادسا»: وجود الإله الذي يعلو ويعلو مع الزمان الأبدي السرمدي بغير انتهاء. •••

والرأي الذي يقول به المارشال كرستيان سمطس لا يطابق رأي الإسكندر في نتائجه القصوى ولا في مبادئه الأولى، ولكنه يلتقي في عقيدة الانبثاق والتركيب، بل يجعل الكون كله «تركيبات كاملة» تترقى في مراتب التركيب وتستجد لها صفة لم تكن معهودة فيها قبل ارتقائها من مرتبتها إلى المرتبة التي تعلوها.

فليست مادة الكون شيئا واحدا متشابها متكررا على النحو الذي تخيله معظم الفلاسفة والعلماء، وليست عناصرها فتاتا متماثلا يتأتى عزل كل فتاتة منه كأنها جزء لا فرق بينه وبين سائر الأجزاء ، ولكنه مجموعة من التراكيب التي تتماسك كل تركيبة منها كما تتماسك بنية الأحياء، ولا انعزال بينها وبين ما حولها بل هي متأثرة به مؤثرة فيه، وكل جزء في التركيب يأخذ من الكل ويأخذ الكل منه، ويجري في ذلك على سنة الأعضاء في الأجسام، ومن هنا جاء اسم «الهولزم»

Holism

الذي يطلق على هذا المذهب لأنه تشتق منه كلمة

Holo

اليونانية بمعنى «الكل» أو المجموع.

فالذرة تركيبة، والعناصر الأولية تركيبة، والأخلاط الكيمية تركيبة، وكل جماد أو نبات أو ذي حياة تركيبة كاملة تلازمها صفات تناسب ذلك التركيب.

والحياة هي الصفة التي تناسب التركيبة العضوية، والعقل هو الصفة التي تناسب التركيبة الإنسانية، وكلما ارتقت التركيبة نجمت فيها خاصة جديدة لم تكن في أجزائها المتفرقة، أو في التركيبات التي هي أقل منها في طبقات الوجود.

يقول سمطس: «إن من طبيعة الكون أن يسعى إلى تحصيل «الكلية» والكمال والبركة، والهزيمة الحقة للإنسان - وللطبقات الأخرى من الموجودات - هي في تلطيف الألم بالكف عن الجهاد، أو الكف عن السعي في سبيل الخير والصلاح، وإن النزعة التركيبية التي تنبثق من أعمق أعماق الكون كالفوارة الحية هي الضمان لنا بأننا لا نواجه الإخفاق والحبوط، وإن آمال الاستقامة والحق والجمال والخير مستكنة في طبائع الأشياء ولن تنتزع أو تضيع، وقد اتفقت كلمات الكلية والشفاء والقداسة

holiness, Wholeness, healing

في مصدرها من اللغة وفي مصدرها من الواقع والتجربة، وهي قائمة في المرتقى الوعر من الكون تنال حينا بعد حين وستنال مع الزمن منالا أصدق وأوفى، وهذا الارتقاء والاكتمال في الكليات داخل الكل الأكبر هو السعي المطرد - وإن كان بطيئا - إلى هدف الكون الكلي في النهاية.»

أي أن الموجودات تستمد طبيعة التركيبة الكاملة من وجودها في الكون ثم يصبح الكون نفسه مفتقرا إلى التركيب الكامل فلا يبلغه إلا من طريق التكامل والتراكب في تلك الموجودات.

وقد شهد سمطس الحرب العالمية الأولى وهو يشتغل بإنضاج هذا المذهب في نفسه وفي ذهنه، فلم تيئسه الحرب من طموحه إلى «الكون الكلي» بل رأى في محاولات عصبة الأمم عند إنشائها بشيرا بتحقيق الطموح إلى التركيبة الإنسانية الكلية، وما هي إلا خطوة في مرتقى «الكون الكلي» الذي تتآخى فيه التراكيب كما تتآخى الأعضاء في الجسم الواحد، فترتفع أجزاؤه عن مرتبة التنافر والعداء، إلى مرتبة التآلف والصفاء.

وهذه الشعبة من مذهب الانبثاق لا تستلزم الإلحاد ولا القول بانبثاق الإله من مادة الزمان والفضاء، بل يسأل أناس من أساطينها: من أين تأتي الخاصة الجديدة كلما ارتقت التركيبات أو المجاميع الكاملة؟ فبعضهم يقول: لعلها من منقولات كون آخر غير هذا الكون، وبعضهم يقول: لعلها من الله.

وقد نشأت في البلاد الإنجليزية مذاهب فلسفية أخرى غير مذاهب الانبثاق، واشتهر فلاسفتها في أوربة وأمريكا شهرة تضارع شهرة الانبثاقيين، وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة، هويتهيد 1861 الفيلسوف الرياضي الواقعي الذي يعرف مذهبه بمذهب الكيان العضوي

organism

لأنه يقول بأن الكون كله «كيان عضوي» كالبنية الحية في تركيب أجزائه، وإن كل ما فيه من كيانات عضوية لها طبيعة الأجسام الحية في تجمع الأعضاء، وتساند الوظائف العضوية، فمذهبه من ثم أولى المذاهب أن يذكر مع مذاهب «البنية الحية» وإن لم يؤسس مذهبه على فكرة الانبثاق.

وعند هويتهيد أن الكون يشتمل على حوادث لا على الأشياء، وكل حادث من هذه الحوادث يتجدد على الدوام ولكنه يحتفظ بالقدم كله من أقدم الأزمان، ولا يتأتى فصل حادث منه عن الكون بحذافيره لأنه مشتبك بكل ما في الكون من زمان ومكان.

وما الزمان؟

إن الزمان هو هذا التجدد نفسه وليس بوجود مستقل عنه أو بظرف له يحتويه ويسبقه أو يليه.

وما المكان؟

ليس هنا مكان معزول عن الحوادث التي تقع فيه، ولكنه هو الصورة التي ندرك بها الامتداد.

وفيما عدا هذه السلسلة الواقعية من الحوادث المتجددة لا يشتمل الكون على وجود آخر غير وجود «الكليات الممكنة»، فإن الحادثة يمكن أن تقع على صور متعددة، ولكنها متى وقعت فهي صورة واحدة، فتلك الصور المتعددة هي الكليات الممكنة، وهذه الصورة الواحدة هي الحادثة الواقعية، غير أن الكليات الممكنة ليست لها صفة في الوجود إلا بما يتحقق من الواقع في عالم الحدوث.

وعند هويتهيد أن الحادثة التي تبدو لنا شيئا من الأشياء هي بنية عضوية كاملة التركيب، فالذرة نفسها بنية عضوية لأنها تختل وتفقد مشخصاتها أو «شخصيتها» إذا اختلف تركيبها، كما تختل بنية الحيوان إذا اختلف فيها تماسك الأعضاء.

وليس في الموجودات عقل وجسم منفصلان، وإنما العقل والجسم قطبان ملازمان لكل موجود، والترقي في التركيب هو الذي يرجح موجودا على موجود بصفات الحياة والإدراك.

وهذا الترقي هو تكوين بنية حية جديدة، فمليون ذرة من الهيدروجين هي مليون بنية حية متشابهة ولا زيادة، ولكن إذا اجتمعت مليون ذرة مختلفة وكملت باجتماعها بنية جديدة فهنا يظهر الرجحان في بنية على بنية، وهنا تنشأ في العالم حياة تساوي جملة أجزائها وزيادة، على خلاف المفهوم في الحساب، وهذه الزيادة هي تطور الفكر والحياة.

فليس الكل مجموع أجزائه في كيمياء الحياة، ذلك في الحساب صحيح، أما في كيمياء الحياة فكلما اختلفت الأجزاء وتكاملت بها تركيبة جديدة ظهرت فيها زيادة على تلك الأجزاء لم تكن ملحوظة فيها وهي متفرقة، ولكنه ظهور بعد كمون، وليس بوجود بعد عدم، ولا بارتفاع على غير أساس.

ويكمن في الحوادث مستقبلها كما يكمن فيها ماضيها؛ لأن المستقبل لن يخرج عن تجدد الحادثة بعد التوفيق بينها وبين الكليات الممكنة، فإذا اتفق الحادث الواقع و«الكلي» الممكن فتلك طريق المستقبل التي لا يعدوها.

ولولا «الكليات» الممكنة لكانت الحادثة الجديدة تكرارا للحادثة السابقة بغير اختلاف، ولجاء التكرار آليا لا يوافق طبائع الأحياء.

تلك هي حقيقة الكون في مذهب هويتهيد وأساطين مدرسته التي تسمى تارة بمدرسة الكيان العضوي وتارة بمدرسة الواقعية الحديثة، فأين مكان الله من هذا الكون الذي يتخيله الفيلسوف؟ هل له مكان لازم فيه؟

نعم. له مكان لا تتم للكون حقيقة بغيره.

فتلك الكليات الممكنة ما الذي يقرر الخيرة بينها حين تصبح حادثة واقعة؟ تلك الكثرة المتعددة ما الذي يستخرج منها واقعة واحدة؟

هو الله.

وتلك الكيانات العضوية ما الذي يعادل بينها ويصاحب مرتقاها من تركيبة كاملة إلى تركيبة أكمل منها؟

هو الله.

ولكن الله في هذا الكيان العضوي الأعظم إنما يتولى التعديل والموازنة فيه على النحو الذي يتولاه دماغ البنية الحية، فهو يريد ويفعل، ولكنه لا يريد كل ما يشاء ولا يفعل كل ما يشاء، بل تأتيه دواعي الإرادة أحيانا من تلك البنية، كما تأتيه منها دواعي العمل وميسرات التدبير والتصريف.

وإذا التفتنا من البلاد الإنجليزية إلى البلاد الأمريكية قابلتنا هناك مذاهب فلسفية تلاقي المذاهب البريطانية في جانب وتفارقها في جانب آخر.

تلاقيها في فكرة الإلهية المقيدة وفي العجز عن التوفيق بين وجود الإله القادر على كل شيء ووجود الشر والألم في العالم، وتفارقها في تعليل المشكلة والتماس المخرج منها.

وأشهر المذاهب الأمريكية وأجمعها لوجهات النظر المختلفة عندهم ثلاثة، وهي:

مذهب وليام جيمس 1842-1910.

ومذهب جوسيا رويس 1855-1916.

ومذهب جورج سانتيانا 1863-1948.

فوليام جيمس

William James

هو صاحب مذهب البراجمية أو مذهب الذرائع كما عرف في اللغة العربية، والواقع في رأي وليام جيمس هو مقياس الصحة في كل شيء، فمقياس الصحة في المسائل العلمية هو تكرار التطبيق وتكرار النتيجة، ومقياس الصحة في مسائل الأخلاق والآداب هو تكرار التطبيق وتكرار المنفعة الكبرى منه لأكبر عدد من الناس، وقياسا على ذلك يحق لنا أن نؤمن بالله في المسائل التي لا تثبت بالتجربة العلمية ولا بالبراهين المنطقية؛ إذ كان الإيمان يريح ضمائرنا ويطابق أشواقنا النفسية وعواطفنا الحيوية، وما دامت طبائعنا قد أشرجت على وفاق تركيب الكون فإن العقيدة التي تستمد من تلك الطبائع لن تخلو من حقيقة كونية، فما من حقيقة حسية لها عندنا دليل غير الانفعال بها على نحو من أنحاء الحس والتعقل، وما من حقيقة روحية تحتاج إلى أكثر من هذا الانفعال الذي يتم به التجاوب بيننا وبين حقائق الكون، وقد خطب وليام جيمس جماعة من العلماء المثقفين فقال لهم: إن الإيمان من أمثالهم يحتاج إلى شجاعة خلقية يحسن بهم أن يروضوا عليها العقول والضمائر، وقال لهم في مقدمة خطابه: إنه لو كان يتحدث في العقائد إلى جماعة من عامة الجند لنصح لهم بالتشجع على قبول النقد والأدلة العقلية في دراسة الأديان ؛ لأنهم أحوج ما يكونون إلى الحرية الفكرية في شئون العقيدة، ولكنه إذا خطب العلماء والفلاسفة فأحوج ما يراهم محتاجين إليه هو الشجاعة على احتمال تبعة الاعتقاد، وإن لم تؤيده التجربة العلمية والبراهين المنطقية، فإنهم يخسرون إذا كانت العقيدة صحيحة وجبنوا عنها في انتظار تجربة أو برهان.

إلا أن المقدمات التي يستند إليها وليام جيمس لم تمنع عنده أن يكون في الوجود أكثر من إله واحد، أو أن يكون قصارى الإله الواحد أنه أكبر من الإنسان وأقدر على معونته من سائر الموجودات، فهو يقول في كلامه على صحائح الدين: «ويبدو لي أن معالجة الديانة ومطالبها العملية تجد كفايتها في الاعتقاد بوجود قوة أكبر من الإنسان تصادقه وتعطف على آماله، وكل ما تستلزمه الوقائع التي بين أيدينا أن تكون تلك القوة غير أنفسنا الواعية وأكبر منها وأوسع وأقوى، فكل قوة بهذه الصفة تغني إذا كانت فيها الكفاية للاعتماد عليها في الخطوة التالية، ولا يلزم من ذاك أن تكون قوة غير متناهية أو قوة منفردة، فقد يكون قصاراها أنها نفس أكبر وأقدس من نفس الإنسان تمثلها نفس الإنسان هذه تمثيلا ناقصا، ولا يكون الكون كله إلا مجموعة من تلك الأنفس الكبرى القدسية على درجات وأقدار مختلفة لم يجمع بينها كيان لا نهائي على الإطلاق، ويعرض لنا هنا تعدد الآلهة على نوع من التعدد لا أدافع عنه في هذه الآونة لأنني أحصر مقصدي الآن في إقرار التجربة الدينية في حدودها الصحيحة ...» •••

فمسألة الاعتقاد في رأي جيمس مسألة «بخت» قد يعبر عنها البيتان المشهوران للمعري أحسن تعبير حيث يقول:

قال المنجم والطبيب كلاهما

لا بعث بعد الموت. قلت: إليكما

إن صح قولكما فلست بنادم

أو صح قولي فالخسار عليكما

أما جوسيا رويس فمذهبه أقرب المذاهب الحديثة إلى «وحدة الوجود» لأنه يقول بأن الله ذات تتصل بكل ذات من هذه الموجودات.

فالعلوم لا تعرفنا بحقائق الكون الكبرى ولا تكشف لنا عن كنه المادة والحركة ولا عن كنه الزمان والمكان، وغاية ما نعلمه أن نرجع إلى معرفتنا بذاتنا فنستمد منها معرفتنا بالذات العظمى، وهي الله.

فما هي الذات الإنسانية؟ ما هي هذه «الشخصية المستقلة» التي نسميها «نفسنا» ونتميز بها مما حولنا؟

هبنا منفردين وحدنا في عالم لا نشعر فيه بحي ولا جماد ولا بأرض ولا سماء ولا يكون فيه ما يدخل في الوعي ويتعلق بالشعور، فهل يكون لنا يومئذ وعي أو شعور، وهل تكون لنا يومئذ نفس أو ذات؟ هل يكون لك وعي وليس هناك ما تعيه؟ وهل تكون لك ذات وليس هناك خلاف الذات؟

يقول رويس: كلا، إن الذات موقوفة على ما عداها، وإن وجودها هو وجود غيرها، وعلى هذا يصح أن يقال إن الذات لا تستقل بالوجود عن الأشياء وإن الأشياء لا تستقل بالوجود عن الذات.

فما نراه وما نذكر أننا رأيناه وما نتخيله أنه كائن أو يكون هو قوام «ذاتنا» وهو مساك وعينا وشعورنا، وعلى قدر اتصال الإنسان بالموجودات تكون غزارة وعيه وسعة شعوره وعظمة ذاته، فالاتصال بالكون - أو الإتصال بالله - هو أكبر تحقيق للذات وأثبت إقرار للوجود.

والذات العظمى - وهي الله - هي التي تتصل بكل شيء وتحيط بكل شيء وتطلع على كل شيء، وهي كلية الوجود لأنها واعية لكل موجود، وقوام وعيها هو هذا الاتصال الذي يشبه اتصال الواعية الإنسانية بما حولها، ولكنه أوسع نطاقا وأبعد أمدا وأحرى بالخلود والدوام.

وهذه العقيدة الدينية هي عقيدة خلقية في صميمها؛ لأنها تجعل الإيثار وملابسة الأغيار معيار الحياة الواسعة و«الذات» المستفيضة والوجود الكامل والمناقب المأثورة، فمن فني في الذوات الأخرى فذلك هو الموجود حق الوجود، ومن فني في الله فذلك أعظم الأحياء. •••

وتكملة الثلاثة بجميع معاني التكملة - هو جورج سانتيانا الذي لا يحسب فيلسوفا في غير القارة الأمريكية، وفي غير الفترة الأخيرة من القرن الأخير.

فوليام جيمس يمثل الواقعية الفكرية في القارة الأمريكية، وجوسيا رويس يمثل المثالية الفكرية في تلك القارة، ويبقى بعدهما مكان فارغ لمن يمثل الواقعية الشعبية كما يفهمها جمهور كل يوم وكل مكان، بغير تفكير وبغير بحث طويل أو قصير.

ويعتبر سانتيانا تكملة للفيلسوفين بمعنى آخر يتعلق بالجنس الذي ينتمي إليه، فوليام جيمس أعرق في الأمريكية ورويس بريطاني حديث العهد بالقارة، أما سانتيانا فهو أسباني ولد في مدريد وعاش في جزر الفلبين وحضر العلم في لندن وحمل الجنسية الأمريكية مع غيره من المهاجرين، فهم في جملتهم يمثلون الخليط الأمريكي من عدة أطراف.

ونقول إن سانتيانا لا يحسب فيلسوفا في غير القارة الأمريكية؛ لأن الأمريكيين الشماليين على التخصيص قد جعلوا لهم طابعا معروفا في كل مطلب من مطالب الحياة يتميز بالسرعة والاقتضاب والمساهمة في جميع تلك المطالب بمقدار، ومنها الفلسفة والفن والعلم والتاريخ، فللشعب هنا فيلسوف وفلسفة كما للشعب لاعب وملعب وصحفي وصحيفة ونصيب مقسوم من كل موضوع.

وسانتيانا هو فيلسوف «الشعب» غير مراء؛ لأن فلسفته لا تتطلب ملكة واحدة غير موفورة لجمهرة الشعب وأوساط القراء.

فالحس هو الحكم الأعلى في مسائل الفلسفة ومسائل العقيدة، وكل ما هو محسوس فهو حق أو فيه من الحق الكفاية لحياتنا في هذه الدنيا، وحسبنا «العقيدة الحيوانية» التي تفعم شعورنا بالثقة من حصول الحاصل كما نتناوله بحواسنا، وليس بالضروري لنا أن نمحص العقائد الدينية تمحيصنا للتجارب العلمية، ولا بالضروري أن نجحد الغريزة في سبيل العقل والمعرفة؛ لأن العقل ينسق الغريزة ولا يناقضها، فهذه العقائد الغريزية - ويسميها أحيانا بالأساطير - هي أخيلة شعرية جميلة نتقبلها كما نتقبل الشعر المعجب والصورة المنمقة، ومن ضيق الصدر أن نتعصب عليها أو نلح في تفنيدها، فهي إن لم تكن قيمة علمية أو قيمة فلسفية فلا شك أنها قيمة فنية وقيمة شعورية، ولها الحق في الوجود بشفاعة الحس الذي تثيره والذوق الذي توافقه والأمل الذي ترضيه.

وهذه المادة التي يختلف الفلاسفة في صحتها لا ندري ما هي ولا يضيرنا أن ندعها للعلماء يكشفون لنا عن كنهها ويردونها إلى أجزائها أو إلى أصولها، ولكننا خلقاء أن ندعوها بالمادة ونكتفي بما نعرفه من اسمها ومسماها، كما تسمي صديقك «سميث» و«جورج» وغير ذلك من الأسماء وأنت لا تكشف عن شيء من أسراره وخباياه، ولا تحلل أجزاءه تحليل المعامل ولا تحليل القضايا المنطقية.

ولا ينكر سانتيانا نظام الكون ولا تناسق قوانينه، ولكنه يقول: إننا نحسب الكون منتظما لأنه الكون الذي وجدنا فيه وأخذنا منه العقول التي نفهم بها النظام، وهكذا كنا نحسب كل كون نوجد فيه ونقتبس منه عقولنا ومادة حياتنا؛ لأننا لا نستطيع الخروج منه لنقيسه على غيره، ومع هذا نرقب كل حركة منتظمة في دنيانا فهل نرى أنها تستوحي نظامها من حكم عقلية أو حكم أدبية؟ يسأل سانتيانا هذا السؤال ويقول في جوابه: كلا، بل هي الحكمة المادية التي نقابلها بالعقيدة الحيوانية ونستوفي حقها بالأخيلة والخوالج المشربة بروح التدين والإيمان، وأول ما يفهم من ذلك أن الإرادة الإلهية - إن وجدت - لا تريد أن تتراءى لنا على غير هذا المثال. •••

وبعد فهذه خلاصات موجزة لمدارس الفلسفة البريطانية والأمريكية في العصر الحاضر، لم نؤثرها بالتلخيص لأنها أهم المدارس ولا أرجحها في ميزان الفلسفة، ولكننا آثرناها بالتلخيص لأنها تجمع الفكرة الغالبة من شتى أطرافها، وهي كما رأى القراء فكرة تقوم على قطبين أو تتسم بسمتين؛ «الأولى»: عجز الفلاسفة المحدثين عن التوفيق بين قدرة الله على كل شيء ووجود الشر والألم في خليقته كما يوجدان في هذا العالم.

و«الثانية»: محاولة الخروج من هذه المشكلة بتعميم قوانين التطور وإدخال الحقيقة الإلهية في نطاقها.

وليس في وسع أحد أن ينكر وجود الشر والألم في هذا العالم بأسره؛ لأن الأديان والفلسفات وشرائع الإنسان جميعا تتلاقى في تحريم الشرور والمعاقبة عليها ومعالجة الخلاص منها، ولكن المطلوب من الفيلسوف - إذا تعذر عليه فهم العالم مع اعتقادنا القدرة الإلهية - أن يمثله لنا في صورة أقرب إلى العقل وأصح في النظر وأثبت في البرهان، وأن يكون إلهه معقولا إذا زعم أن الإله القادر على كل شيء غير معقول.

وذلك ما لم يصنعه واحد من أولئك الفلاسفة ولا اقترب من صنيعه، بل لعلهم قد عرضوا على العقل الإنساني حلولا لا يقبلها ببرهان ولا يقبلها باعتقاد، ولا يقبلها بتخمين.

ونحن لا نزعم أننا نحيط بحكمة الله فيما يلقاه الأحياء من العذاب والبلاء، وفيما يقع منهم أو يقع عليهم من الإيلام والإيذاء، ولكننا نبحث عن صورة للعالم أقرب إلى العقل من صورته هذه فلا تكمل له هذه الصورة عندنا، ولا نرى فيما افترضه الفلاسفة إلا إشكالا يضاف إلى إشكال.

فعلى أي حال كانوا يفهمون وجود الله القادر على كل شيء إن لم يكن في مقدورهم أن يفهموه على هذه الحال؟

إما أن يكون ولا خلق معه على الإطلاق.

وإما أن يكون ومعه خلق كامل لا ينقص ولا يولد ولا يموت، ولا يشتهي ولا يحرم من باب أولى ما يشتهيه.

فأما أن يكون الله القادر على كل شيء ولا خلق معه على الإطلاق - فليس ذلك بأدل على القدرة ولا بأدل على الرحمة، ولا بالأمنية التي يرتضيها سائر الناس إذا ارتضاها الفلاسفة المتعللون على قدرة الله.

وأما أن يكون ومعه خلق كامل فليس له معنى إلا أنهم يطلبون من الله أن يخلق إلها آخر يماثله في الكمال والسرمدية والاستغناء، وكل فرض من فروض العقل البشري أقرب من هذا الفرض المستحيل.

وليس بالمعقول أن يكون خلق كامل لا يشكو ولا يتألم ولا يتحول ولا يتبدل إلا أن يكون إلها آخر يخلقه الله القادر على كل شيء قادرا مثله على كل شيء، فإننا إذا تخيلنا ألف إنسان أو مليون إنسان أو ما شئنا من ملايين الإنسان مخلوقين جميعا على قدرة الإله وكماله لم يكن هذا التخيل أسلم ولا أقرب إلى الصدق مما نراه في العالم على نظامه المعهود، ولماذا يستأثر هؤلاء بالحياة والدوام ونسمي ذلك عدلا من الله بينهم وبين من هو قادر على خلقهم بغير انتهاء؟ وكيف يخلقون بهذه العدة وهم كاملون سرمديون وكل منهم في استغناء الله ودوامه بغير اختلاف؟

فإذا كان العقل لا يستريح إلى صورة الإله القادر على كل شيء، وليس معه خلق كثير ولا قليل، ولا سعيد ولا شقي على الإطلاق، وكان العقل لا يستريح إلى صورة الإله القادر على كل شيء يخلق إلها آخر قادرا على كل شيء مثله، بغير فارق بين الخالق والمخلوق - فماذا بقي للعقل من صورة يستريح إليها بين هذه الصور غير صورة العالم كما عهدناه؟ وكيف يكون خلق محدود ولا يكون لتلك الحدود مظهر من النقص والألم والحرمان؟

إن هذه الصورة لهي أقرب صورة يقبلها العقل مع وجود الله القادر على كل شيء، وليست هي بالصورة التي تناقض وجوده وتعضل على العقل في التخيل أو في التأمل أو في الاعتقاد.

إما إله ولا شيء.

وإما إله خالق وإله مخلوق بغير فارق بين الإلهين.

وإما هذا العالم كما عهدناه، ونحن نجهل عقباه أو لا نملك أن نقيس العقبى السرمدية على ما شهدناه.

ومع اقتراب هذه الصورة من المعقول لم تترك للعقل البشري يبتلعها بغير مسوغ من تجاربه المحدودة في حياته الفكرية أو حياته العاطفية أو حياته الاجتماعية على تعاقب الأجيال.

فقد يفصل بين الطفل وأبيه فارق عشرين سنة أو دون العشرين، وهذا الفارق الصغير هو الذي يسمح للأب في دخيلة قلبه أن يبتسم وهو ينظر إلى دموع ولده الذي يتولاه بالتربية والتأديب، ولا يعلم الأب من نفسه أنه قاس غليظ، ولا الناس يعلمون فيه القسوة والغلظة من أجل هذا التباين في الشعور، ويكبر الابن نفسه فلا يتهم أباه؛ لأنه يبتسم لتلك القسوة المزعومة كما ابتسم أبوه وهو دامع العينين.

فإذا كان هذا ما نسمح به لفارق عشرين سنة، فبماذا نسمح لفارق الآباد والآزال؟ وما أجد بكاء الطفل إلى جانب ذلك البكاء الهازل قياسا على فارق العلم وفارق الزمان؟

وقد يحب الإنسان إنسانا فيلتذ الألم والعذاب في حبه، ويتخذ من ألمه وعذابه غذاء لتلك المتعة النفسية وعلامة على الوفاء والإيثار، ويجوز أضعاف ذلك في شريعة الحب الإلهي إذا جاز ذلك وأمثاله في حب الإنسان للإنسان، فمن حق الوجود الإلهي أن يكون له في قلوب عارفيه حب لا يضارعه حب فان محدود، نهواه لما نتخيله من صفات قلما تصدق في غير الخيال.

ونحن ننظر إلى حيز واحد من التحفة الفنية الخالدة فلا نرى فيها إلا بقعة تقبح في النظر أو قطعة من الحجر والطين، ولا نقيس التحفة الفنية مع ذلك على البقعة الشائهة في الحيز المحدود، ولو طال أجل هذا النوع الإنساني أضعاف مطاله لما كان في تلك البقعة الشائهة غير ذرة هباء، لأنه بقعة ضئيلة في صورة تتناول الدهور التي لا نحصيها والمكان الذي لا نستقصيه، فمن أين لنا أن نقيس جمال الصورة الأبدية على بقعة الحاضر كما تمثلناه؟ وكيف نحصر الآزال والآباد في لمحة من حاضر عابر؟ وكيف نستوعب بالحواس ما تضيق به الحواس بل تضيق به العقول؟

ولقد كانت هذه «الفترة» الخاطفة في سعة الأبد الأبيد دليلا حسنا على ما سيكون أو يرجى أن يكون؛ لأننا أيقنا بما أحصيناه فيها أن آلام الأحياء ليست بالآلام الجزاف على غير طائل، فهي وسيلة الارتقاء والانتقاء، وهي التفرقة التي لا تفرقة غيرها بين الفاضل والمفضول وبين المحمود والمذموم، وهي مزيج يذاق به طعم الحياة وبغيره لا يعرف لها طعم ولا مذاق.

فهذه المؤلمات في دنيانا لا تعوق العقل عن إدراك الإله القادر على كل شيء؛ لأننا لن ندرك صورة أخرى هي أقرب إلى عقولنا من هذه الصورة التي لا تناقض فيها، وهي تنفي التناقض الذي يواجه عقولنا من غيرها: تنفي تناقض القول بأن الله قادر على كل شيء ولا يخلق شيئا، وتنفي تناقض القول بأن الله لا مثيل له ويخلق إلها آخر يماثله بغير خلاف. •••

ومهما يبق من مشكلة السر - مع هذا التفسير أو بغير هذا التفسير - فالكون الذي يخلقه إله قادر على كل شيء وتديره حكمة تتعالى على العقول - أقرب إلى القبول من الإله المتطور عن المادة العمياء؛ لأنها موجودة منذ القدم على النحو الذي يخرج منها الآلهة، فلماذا تخرج منها الآلهة بعد دهور متتابعة؟ وكيف نقدر لزومها لإخراج الآلهة ومن هم دون الآلهة من الأحياء؟!

فهذه الآلهة المتطورة لن تثبت لنا بالبرهان المنطقي القاطع، ولن تثبت لنا بالتجربة العملية، ولن تثبت لنا بالإيمان؛ لأنها لا توافق طبيعة الإيمان .

وكل ما فيها أنها تخمين يلفقه الخيال ويلتمس له القرائن والشبهات من بعض الظواهر العلمية التي لا تستقر في تفسيراتها وتأويلاتها على حال.

ونحن نحاول أن نفهم «التطور» في كون غير محدود فلا نستطيع أن نفهمه ولا أن نقربه إلى المفهوم؛ لأن الكون «غير المحدود» لم يبدأ في زمن معلوم فيقال إنه يحتاج في تطوره إلى زمن معلوم، ولم يبدأ منقوصا من بعض صفاته وقواه فيقال إنه قد استتم هذه الصفات والقوى في طريق التطور والارتقاء، ولم يبدأ حركته في خط مستقيم فيتحرك من نقطة إلى ما بعدها في الزمان أو المكان، فكل تطور فيه فهو قول يحتاج إلى تصديق لا يحتاج إليه دين من الأديان.

وإذا تجاوزنا عن هذا فنحن لا نفهم التطور في الكون المادي إلا بالقياس إلى مخلوق ذي حياة، ثم بالقياس إلى حادث مقصود قبل وقوعه بأزمان.

فلماذا يكون الماء أرقى من الهيدروجين والأوكسيجين؟ لا يكون كذلك إلا إذا قدرنا أنه أنسب لتقويم بعض الأحياء؛ لأن السيولة ليست أرقى من «الغازية» وليست ممتنعة على الغازات، وإذا قيل إنها أجمل في منظرها فهو قول مشكوك فيه، ولن يكون الحكم فيه إلا لحي من الأحياء.

ولماذا تكون المشمومات والمنظورات والمسموعات أرقى من ذوات الحجوم والأشكال بلا رائحة ولا لون ولا صوت؟ لا تكون كذلك إلا إذا كانت الحياة هي معيار التطور والارتقاء بين جميع الموجودات، وكانت مقدورة على نوع من التقدير قبل ظهورها بأزمان.

ولماذا تكون الكواكب الدوارة أجمل من السديم المتوهج الهائم في أجواز الفضاء؟ إنها لا تكون كذلك إلا لأنها أصلح لمعيشة الحي في بعض أدوارها، وأجمل في النفوس والعيون.

بل لماذا يحسب التحول من دور الاشتعال السديمي إلى دور «التكوكب» ضربا من التطور والارتقاء؟

إنه في وضعه «العلمي» نوع من الدثور والهمود؛ لأنه علامة على تسرب الحرارة وتفرق الطاقة ونزوع المادة إلى الجمود، فإذا كانت هذه الخطوة مقدمة لظهور الحياة لانحلال القوى - فتلك علامة القصد والتدبير وليست علامة «القانون الآلي» المطرد في مجاهل الضرورة العمياء .

وغاية ما أثبته هؤلاء الفلاسفة «التطوريون» أن العقل أرقى من الحياة، وأن الحياة أرقى من المادة، وأن العالم يستقيم في طريق الارتقاء.

فلماذا يكون نصيب الكون من العقل هو النصيب المحدود، ويكون نصيبه من المادة منذ القدم الذي لا أول له نصيبا غير محدود؟

إن هؤلاء «الفلاسفة» كثيرا ما يعيبون على المعتقدين بالأديان أنهم يخلعون التصورات الإنسانية على حقيقة الله وعلى حقيقة الوجود، وأنهم يتصورون الله خالقا كما يتصورون الإنسان في خلقه لبعض المصنوعات.

وواقع الأمر أن هذه «العادة الذهنية» تلازم أولئك الفلاسفة وهم يهربون منها؛ لأنهم يتصورون الكون كما يتصورون الإنسان في مراحل حياته: يتصورونه طفلا فصبيا فيافعا فشابا فرجلا فكهلا يترقى في ملكات الجسم والعقل يوما بعد يوم وعاما بعد عام، يتصورونه كذلك وينسون أنهم فرضوه كونا غير محدود في قوة ولا أجل ولا اتساع، فكيف ينمو نمو الأحياء المنظورة إلى آجال؟ وإلى أي غاية يترقى وليست هناك غايات ولا بدايات؟ وإذا بلغ غاية «العقل» في الزمان الذي لا نهاية له فهل يصبح العقل بعد ذلك مقيدا بأحكام المادة كأنه لا يزال ذلك الوليد المتعثر في عجز الطفولة؟ أو يصبح قادرا على كل شيء بعد فوات الفرصة السانحة للقدرة على كل شيء؟ أي يصبح قادرا على كل شيء لكيلا يقدر على شيء من الأشياء، ولا يجد أمامه ما يعمله غير النظر إلى ما كان كما ينظر إليه العاجز عن جميع الأشياء! فينشأ العقل الإلهي عبثا بعد الاستغناء عنه وتمام كل شيء بغير حاجة إليه. •••

وحال الفلسفة الفرنسية الحديثة كحال زميلتها الفلسفة البريطانية والفلسفة الأمريكية، مع فارق في المعنى دون الاتجاه.

فأكبر الفلاسفة المحدثين في فرنسا هو هنري برجسون صاحب مذهب التطور الخالق، ولعله قد سبق الفلاسفة البريطان والأمريكان إلى التنويه بشأن التطور في الحكمة الإلهية، ولكنه يخالفهم في رأيين جوهريين: وهما التفرقة بين الزمان والمكان، والتفرقة بين المادة والروح.

فعندهم كما رأينا أن الزمان والمكان وحدة لا انفصال فيها، وأن الروح خاصة من خواص المادة أو طور من أطوارها المكنونة.

أما برجسون فيرى أن الزمان غير المكان، وأن الروح غير المادة، بل إنهما متعارضتان متناقضتان، والحياة في رأيه أقرب إلى عنصر الزمان منها إلى عنصر المكان؛ لأنها حركة لا استقرار فيها، وأمكن ملكاتها - وهي الذاكرة - إن هي إلا زمن مخزون، وكذلك الغرائز الحيوية في بعض الأحوال.

ومعدن المادة في رأيه غير معدن الروح لأن الروح صاعدة حرة، والمادة هابطة مقيدة، وليس أدل على تناقض الطبيعتين من تعليل الضحك في رأيه، فنحن نضحك إذا رأينا إنسانا يتصرف تصرف الآلة المادية؛ لأنه تصرف لا يحسن بالحياة، ونحن لا نضحك من مادة ولا من حشرة مسلوبة الحرية، ولكننا نضحك من «ذي روح» يتصرف تصرف الجماد.

والعقل الإنساني أعرف بالحقائق المكانية، ولكنه لا ينفذ إلى بواطن الحركة «الزمانية» في صميمها، وإنما تنفذ إليها «البداهة» وهي أرقى ما ترتقي إليه الغرائز الحيوية، إلا أن برجسون لا يقيد العقل بالدماغ كما يفعل بعض الفلاسفة الماديين أو الفلاسفة الآليين: بل يقول إن العقل قد يفكر بغير دماغ، كما يهضم بعض الأحياء بغير معدة، فليست مادة الدماغ هي مصدر العقل الأصيل، وما هي إلا أدة تتهيأ لتوجيهات العقل بعد استعداد طويل.

واعتمادا على تعليق الحياة بعنصر الزمان يبسط الفيلسوف أوسع الآمال على مستقبل الحياة في الزمان الباقي إلى أبد الأبيد، فقد تعلو الحياة حتى تتغلب على الموت، وقد يسمو العقل حتى يحطم قيود المكان أو قيود المادة التي هي عنده ألصق بعنصر المكان.

أما «الخالق» في مذهب برجسون فليس كما صوره أصحاب العقيدة الدينية ولا كما صوره أصحاب الفلسفة الآلية.

أولئك قد شبه لهم عمل الخالق بعمل الإنسان فحسبوا الكون مصنوعا من مصنوعات إنسان كبير ليس له انتهاء.

وهؤلاء رانت على أفكارهم غاشية الصناعة فحسبوا الكون على مثال الآلات الضخام التي تدار بالبخار أو الكهرباء في دقة وإحكام.

ومفصل القول بين الفريقين على مذهب برجسون أن القوة الخالقة - أو التطور الخالق - موجود «في الكون» وليست موجودة خارج الكون، وأنها حركة دائمة تلقى العنت من مقاومة الجمود الدائم، وهو جمود المادة الصماء .

على أن المشكلة الكبرى كما قدمنا هي اعتقادهم أن القوة الخالقة هي «في الكون» وأنها مقيدة به ثم يأتي منها الخلق على أطوار.

فلماذا يأتي خلقها على أطوار مع الزمان؟ لماذا لا يحدث دفعة واحدة من أزل الآزال؟

أهي تزداد وتنتصر؟ أم أن المادة تنقص وتنهزم؟ إن المعسكرين والسلاحين والجيشين والقيادتين كلها قائمة من عهد ليس له ابتداء، فلم التطور؟ ولم التغير في الزمن؟ وما هي العقبى بعد النصر المبين من هنا والخذلان المبين هناك؟ •••

وننتقل من الفلسفة الإنجليزية والفسلفة الفرنسية إلى فلسفة الجرمان، فلا نرى هنالك مذهبا أفضل من هذه المذاهب في إدراك الحقيقة الإلهية وتفسير الطبيعة وما بعد الطبيعة على وجه يرضي العقل ويريح الضمير.

والمعروف عن البلاد الجرمانية أنها بلاد مخصبة بالفلسفة الإلهية - ونريد بها الفلسفة التي تعنى بما وراء الطبيعة، ولكنها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر لم تخرج في هذا المجال مذهبا جديدا يضارع مذاهب الفلاسفة الجرمان المتقدمين على ذلك الجيل، وازداد فلاسفتها بعدا عن هذا المجال في الزمن الأخير، فكان أشهر المذاهب التي شرحوها كالظاهرية

أو الوجودية

Existentialism

منصرفة إلى وضع المقاييس لتمحيص الحقائق والتفرقة بين نطاق العلم ونطاق الفلسفة ونطاق التجارب النفسية، وربما أعرضوا كل الإعراض عن مسائل ما بعد الطبيعة كأنها موضوع ميئوس منه، ومن تناولها منهم لم يتوسع فيها توسع الفلاسفة الذين اعتبروها موضوع الفلسفة قبل كل موضوع.

وقد تلخص الفكرة الإلهية بينهم بتلخيص الآراء التي رددها أشهر مفكريهم إلى مطالع القرن العشرين، ويكفينا منهم ثلاثة هم نيتشه وهارتمان وشبنجلر، وهم الذين قرروا في مسائل ما بعد الطبيعة رأيا مستقلا لا يحسب شرحا من شروح الكثلكة أو البروتستانتية، ولا يحسب حاشية على مقاييس المنطق ومعايير العلوم.

فعند نيتشه 1844-1900 أن الله «قد مات»، وأن الشجاعة هي الدين الذين ينبغي أن يتدين به كل إنسان جدير بالحياة؛ لأن الشجاعة ألزم ما يلزم النفس من خليقة - أو عقيدة - في عالم خلا من الله، ويرى نيتشه أن العالم - كقوة - لا يتأتى أن يتخيل بلا حدود ؛ لأن فكرة القوة التي لا حدود لها تناقض فكرة القوة ذاتها في الصميم، ومن هنا تعدم الدنيا وسائل التجديد الأبدية، وتتكرر فيها الكائنات ولا يزالون متكررين بغير انتهاء، وهذا التكرار هو عوض نيتشه عن البعث في نعيم السماء؛ لأن الأمل في ذلك النعيم هو عزاء الضعفاء الذين تنكرت لهم حياتهم الدنيا، ففيه إلغاء للحياة وليس فيه كذلك التكرار إثبات للحياة.

وعند إدوارد فون هارتمان أن الله ليس بذات وأنه غير شاعر بنفسه أو صاحب «أنا» تتشخص في كيان؛ لأن الذاتية والأنانية أبعد شيء في رأي هارتمان عن القداسة الإلهية، ولكن الكون فكرة وإرادة، وهما يقابلان عنده إله النور وإله الظلام عند المجوس، فالشر كله من عالم الإرادة وهو عالمنا الذي نعاني فيه الآلام والآثام، وإنما تمتحن الفكرة بالإرادة لتعود إلى صفائها مجردة عن الوعي ومنزهة عن الذات، وليس بالمستغرب في مذهب هارتمان أن يكون للإرادة قصد دون أن يكون لها وعي وشعور بما تقصد إليه؛ لأن الغريزة الحيوانية - وهي وليدتها البارزة - تقصد إلى غاية ولا تعي ما تقصد إليه.

وليس الله في رأي شبنجلر 1880-1936 إلا «إرادة» على عادة الألمان المحدثين في ترجيح الإرادة على الفكرة، ففي كلامه عن كيان الروح من كتابه «انحدار الغرب» يقول: «إن الله بالنسبة إلينا - الله الذي هو سعة العالم والذي هو القوة الكونية، والذي هو الفعال الوهاب على الدوام، والذي ينعكس من فضاء العالم إلى فضاء الروح القائم بالخيال، فلا تحسه بالضرورة إلا حضورا واقعيا - هو ولا مشاحة إرادة، ويقترن بالثنائية المجوسية في العالم الأصغر وثنائية الروح والنفس وثنائية فوما وسيكي اليونانيتين - ثنائية لازمة من الله والشيطان، أو من أرمزد وأهريمان عند الفرس، ويهوا وبعلزبوب عند اليهود، والله وإبليس عند المسلمين، أو ثنائية الخير المطلق والشر المطلق بالإيجاز، ولتلاحظ فوق هذا كيف يبهت هذان الضدان معا في إحساس الغرب بالوجود، وعلى قدر ما تتراءى الإرادة في الصراع القوطي على السيادة بين الذهن والعزيمة لتقرير مركز للوحدانية الروحية - تضمحل صورة الشيطان من الدنيا الواقعة، أما في طراز القرن الثامن عشر فوحدة الوجود التي انعكست على العالم الخارجي من عالم النفس أسفرت عن التقابل بين كلمة «الله» وكلمة «الدنيا» ودلت تمام الدلالة على ما يراد بالتقابل بين الروح والإرادة، وهي القوة التي تحرك كل ما يقع تحت سلطانها، ولا استثناء للإلحاد من هذا الشعور؛ فإن الملحد أو الدارويني الذي يتكلم عن الطبيعة التي تنظم كل شيء وتنتخب ما تشاء وتوجد وتفني ما تشاء لا يخالف المؤمن بالله من أبناء القرن الثامن عشر إلا بمقدار لفظة واحدة؛ لأن الشعور بالدنيا لم يطرأ عليه تغيير، وما هو إلا أن يتحول العقل من الدين إلى العلم حتى تبدو لنا الأسطورة المزدوجة في إصلاح الطبيعيات والنفسيات، فالقوة حين تقابلها المادة والإرادة حين تقابلها الرغبة أو الشهوة لا تستند إلى تجربة خارجية وإنما تستند إلى شعور حيوي كمين، وما الداروينية إلى صيغة سطحية لهذا الشعور، ولن تتخيل إغريقيا يستخدم كلمة الطبيعة بالمعنى الذي يستخدمه البيولوجيون كأنها نشاط مطلق منظوم، وما قولنا إرادة الله إلا من قبيل الحشو والتكرار؛ لأن الله - أو الطبيعة كما يقول بعضهم - ليس إلا إرادة، وقد نفضت فكرة الله بعد عهد الإصلاح ملامح الشخصية والحسية وأوشكت أن تتمثل كأنها اتساع الفضاء الذي ليس له انتهاء، فأصبحت بمثابة الإرادة الكونية المتعالية على الكون، ولهذا وجب أن يتنحى فن التصوير منذ حوالي سنة 1300 لفن الموسيقى؛ إذ هو الفن الوحيد القادر في النهاية على التعبير الواضح عما نشعر به من فكرة الله ...» •••

وكذلك يتلاقى هؤلاء الفلاسفة المتفرقون عند توكيد الإرادة في الحقائق الكونية والصفات الإلهية، فالإرادة - أو «السلطة» بعبارة أخرى - هي الحقيقة الكبرى في أصول الوجود.

وذلك هو موضوع العبرة التي تنطوي على عظات كثيرة للعقول، فإن توكيد السلطة في المذاهب الجرمانية، وتوكيد الإلهية «الدستورية» في البلاد الإنجليزية لم يأت من مجرد اتفاق.

وموضع العبرة هنا أن الفلاسفة المحدثين يأخذون على المتدينين أنهم يدخلون المشابه الآدمية في فهم الحقائق المجردة، فينسبون إلى الله صفات وأعمالا لا تصدر إلا من الإنسان، ويتخذون ملك الأرض نموذجا يقيسون عليه ملك الوجود، ويفخر أولئك الفلاسفة بالترفع عن هذه «العادة الذهنية» والتخلص من هذا الخلط بين المحسوس والمفهوم، أو بين المجسمات والمجردات، ولكنهم كما رأينا لا يخلصون من أسر المشابه، ولا يسلمون من الخلط بين «الحكم الأرضي» كما يحسونه «والتدبير الكوني» كما يتخيلونه وهم يحاولون التجرد عن ضلالات الحس والخيال، فالإرادة في المذاهب الألمانية هي كل شيء بين الأرض والسماء! وهي الله أو هي القوة المسيطرة على الوجود، وهي أحيانا قوة عمياء غير واعية ولا شاعرة بما تعمل وما تريد؛ لأن السلطة الغاشمة قوة عمياء.

أما هذه «الإرادة» فلا إطلاق لها في المذاهب الإنجليزية الحديثة؛ لأن إرادة الحاكم لا تنطلق من جميع القيود في الحكومة الدستورية، فهي عند فلاسفتهم مشمولة بنظام واحد يسري على سائر الموجودات.

فالمشابه الآدمية لا تفارق هؤلاء الفلاسفة الذين يفخرون بالتجريد والتنزيه، ولا نظن أن الإرادة العمياء تظفر بكل هذا التوكيد في المذاهب الجرمانية وتلقى كل ذلك التقييد في المذاهب الإنجليزية والفرنسية لو كان فلاسفة الفريقين قد تجردوا حقا من وحي المشابهات والملابسات. •••

وبين العدوتين مع ذلك برزخ التقاء تتماثل فيه مذاهب الفريقين؛ فإن النزعة الغالبة في الدراسة النفسية بين الألمان والإنجليز هي نزعة القول «بالتركيب» أو بالتركيبة الكاملة التي تتقدم في الاعتبار على الأجزاء والمفردات.

ومدرسة الجستالت

Gestalt

الألمانية، أو مدرسة الشكل المركب، أروج المدارس العصرية بين النفسانيين في القارة الأوربية، وهي معنية بعلم النفس في المنزلة الأولى، ثم يشتق منها المشتقون ما يخطر لهم من التطبيقات في باب الحكمة الإلهية وفي مباحث الطبيعة وما بعد الطبيعة.

وخلاصة هذا المذهب أن «الكل» سابق على الأجزاء في تلقي المحسوسات، وأن علم الإنسان بالكون لا يأتي من جمع المفردات بل من وعي المركبات، وما من مركب في قولهم إلا وهو مجموعة من مركبات أخرى يقسمونها إلى خمسة أقسام تختلف في الدقة والإحكام.

فمنها المركبات المادية «غير العضوية» كالحجارة وفقاقيع الصابون، ومنها المركبات الصناعية كالآلات وقطع الأثاث وأعشاش الطيور، ومنها المركبات العضوية وتشمل كل بنية ذات حياة، ومنها المركبات المتداخلة كاللحن الموسيقي الذي يتألف من نغمات أو كالعبارة المفهومة التي تتألف من كلمات، ومنها المركبات الجماعية كالأمم والقطعان والأسراب.

والعقل قد خلق ليدرك الأشياء مركبة ثم يحللها متى سنحت له حاجة إلى تحليلها، فهو يعول في إدراكه على ما يسمونه البصيرة أو الفطنة النافذة، وليس تعويله الأكبر - كما وقر في الأذهان قبل ذلك - على أشتات الإحساس وأجزاء المفردات.

فإن لم تكن ثمة فطنة نافذة تبادر بإدراك «الكل» فلا إدراك ولا تذكر ولا خيال، والحيوان الأعجم - كالقطة مثلا - نعلمها أن تحل الشبكة بيديها فتحلها بأسنانها إذا عاق يديها عائق، ولولا أنها نفذت إلى «الشيء» جملة واحدة لما اهتدت إلى هذا الابتكار، فليست العقدة في كمين إدراكها حركة يد تلامس خيطا ولا تعدو هذه الحركة، ولكنها شيء تنفذ إليه جملة بإدراكها جملة فلا يتوقف على الإحساس بالمفردات.

ومن العبث أن تقصر الالتفات إلى جزء واحد وتضم إليه جزءا من هنا وجزءا من هناك وتزعم أنك قد أحطت «بالكل» من طريق الأجزاء، وإنما الطريق المستقيم أن تنفذ إلى الكل وتعرف موضع الأجزاء منه ومرجعها إليه؛ إذ لا يقف جزء قط على انفراد، ولا يخلو جزء قط من علاقة يؤثر بها في غيره ويتأثر بها من غيره وتتجاوب فيها جميع الأجزاء كما تؤلف بينها التركيبة الكاملة أو البنية المتماسكة.

وارتباط هذا المذهب بالحكمة الإلهية أنه مرتبط بكنه العقل وكنه الجسد، وأنه يضع العقل في الموضع الوسط بين جماعة الآليين وجماعة القصديين أو القائلين بإمكان عزل العقل عن العوارض الجسدية.

فالآليون - وعلى رأسهم العالمان الروسيان بافلوف وبخترو

Bechterow

يردون كل فكرة إلى الفواعل الجسدية حاضرة وماضية، ومعلومة لنا أو مجهولة لدينا يدل عليها المعلوم، ويكررون تجاربهم في الحيوان لإثبات العلاقة بين التصورات والحركات العضوية والإفرازات الجسدية، وتعرف المدرسة المعتدلة من دعاة هذا المذهب بالمدرسة السلوكية

Behaviourism

لأنها تفسر السلوك بضرورات التجاوب بين المؤثرات والأعضاء، وليس للعقل المجرد مكان عند هذه المدرسة سواء في الإنسان أو في الطبيعة أو فيما وراءها.

والقصديون وعلى رأسهم وليم مكدوجال الأمريكي

McDougall

يثبتون العقل المجرد وينكرون على بعض البيولوجيين والفزيولوجيين دعواهم أن العقل من عمل الدماغ والأعصاب؛ لأن ظواهر الحياة غير ظواهر المادة، وظواهر العقل غير ظواهر الغريزة في الأحياء السفلى، ولم يقرر العلم قط ما ينفي أن الدماغ آلة العقل التي يعمل بها في الجسد، ولم يثبت العلم قط أنه مصدر العقل دون سواه.

فجماعة الشكل المركب أو جماعة «الجستالت» وسط بين فريق الآليين وفريق القصديين؛ لأنهم يثبتون للعقل وجودا لا يتوقف على الإحساس، ويتشعبون بعد ذلك شعبتين متقابلتين، فمن فهم أن العقل كنه مجرد قد يستقل عن الحواس كما يستقل عن الإحساس قال بالقصد وتأثيره في أعمال الإنسان، وقال فوق ذلك بالعقل المطلق وتأثيره في حركات الكون وعوارض الأجسام والنفوس، ومن فهم أن الفرق كله فرق بين تلقي المركبات وتلقي الأجزاء، وأن الفواعل الجسدية كافية لتفسير الإدراك العقلي على اختلاف مصادره، فهو ينكر محل العقل المجرد ويحسب في مسألة الخلق والخالق من زمرة الآليين والماديين. •••

ولم تخل القارة الأوروبية من مذاهب أخرى غير هذه المذاهب ظهرت في البلاد السلافية كالروسيا وبولونيا، أو في البلاد التيوتونية كالدنمرك والسويد والنرويج، أو في البلاد اللاتينية كإيطاليا وأسبانيا وبعض بلاد البلجيك، ولكنها على الأكثر بين مذاهب مادية بحتة تقف عند حد الإنكار ولا تتعداه، وبين نظرات خاصة في الديانة المسيحية تنضوي تارة إلى كنيسة من الكنائس المعروفة، أو تنفصل عن الكنائس جميعا وتكتفي من الديانة بالعقيدة الفردية دون شعائرها الاجتماعية.

فلا نحسبنا بحاجة في هذا السياق إلى تخصيص مذهب منها بالذكر غير مذهب واحد لا يدخل في الإنكار البحت ولا في التفسيرات الدينية البحتة، وهو مذهب «بنديتو كروشي» الإيطالي الذي يلقب بهيجل الحديث؛ لأنه يدين بالفكرة مثله ويخالفه في شرح أطوارها التي تتجلى بها في العالم.

وخلاصة مذهب كروشي - فيما نحن بصدده - أن الفكر هو الوجود المحقق الذي لا شك فيه، وأن الفكر الأبدي يتجلى في حلقات متوالية ينسخ بعضها بعضا وتتجه جميعا إلى مجاهدة الشر والغلبة عليه، وأن هذه الأضداد المتناسخة بعضها ضد لبعض، ولكنها ليست بضد «للوحدة» الكاملة التي تنطوي فيها جميع الأضداد، وأن الأديان طور من أطوار الفكر، ولكنها خطوة مترقية من خطوات الأساطير الأولى في تقدم الإنسانية إلى الفكر الصحيح، ولا محل للأديان في رأيه بعد ارتقاء الفلسفة وتجردها من بقايا الأساطير. قال في الفصل الأخير من كتابه أدب الحياة أو مسالك الحياة: «إن العصر الذي نعيش فيه يتهم بهدم الديانات التي أصابت فيها الحياة الإنسانية منطقها وآداب سلوكها ومواطن استقرارها وأمانها، إلا أنها تهمة لا ثبات لها؛ لأن عصرنا بهذا الذي صنعه قد صنع شيئا لا قبل له باجتنابه؛ إذ لم يكن هنالك بد من تساقط بعض الجوانب القيمة من البنية القديمة في خلال تعرية الديانات من جلابيب الأساطير، وفي هذه الجوانب أفكار نفيسة وفضائل لا يسهل تقويمها مما كان متصلا بالقضايا الأسطورية، ولكن عصرنا قد بادر إلى استخلاص هذه الأفكار والفضائل ووضعها في المكان اللائق بها بعد صقلها وتنظيفها وإثباتها في أركان صرح جديد هو أرسخ وأنبل وأوسع وأقوى من صرحها المهدوم، وإنه لفخر عظيم لجيلنا هذا أن يفلح في تأسيس ديانة إنسانية، وعقيدة مصفاة تبزغ من محض الفكر الصراح، ولكنه فكر تتجسم فيه الحياة أو يسخو بالجديد من الحياة.» •••

ومواضع الملاحظة على هذا المذهب هي:

أولا:

أن الإيمان بأن «الفكر» هو الحقيقة المطلقة عجيب جد العجب مع القول بأن المادة تقف في طريق الفكر وهي وجود «غير صحيح» وهو هو وحده الوجود الصحيح، فالذين يقولون: إن المادة متلبسة بالفكر مشتملة عليه يقولون شيئا مفهوما حين يتخيلون أن الفكر متوقف على أطوار المادة وإن كانت هذه الأطوار زعما غير مفهوم، أما الذين يعرفون للفكر حقيقة مطلقة فلا يقولون شيئا مفهوما حين يتخيلون أن الفكر يزداد أو يترقى من مغالبة «وجود» غير صحيح.

وثانيا:

أن الأبدية أو «اللانهائية» ليست مجموعة الحلقات المحدودة؛ لأن مجموع المحدود محدود، وليس امتداد فترة من الفترات بجاعلها في النهاية أو البداية شيئا بلا انتهاء ولا ابتداء ، وإنما الأبد فوق «المحدودات» وليس بمجموعة المحدودة بالغة ما بلغت من التعدد والاستطالة والاتساع، وما كان الأبد شيئا يسبق هذه المسافة من الزمان أو يلحق بتلك المسافة من الزمان، ولكنه شيء يحتوي الزمان والزمان لا يحتويه، أو شيء لا يعد الزمان قطعة منه؛ لأننا إذا أخرجنا هذه القطعة من حسابه لم يخرج منه شيء ولم يكن في موضعها فراغ.

وثالثا:

أن عنصر الأسطورة غير عنصر العقيدة، وعنصر العقيدة غير عنصر الفلسفة أو المعرفة العقلية على العموم، فإن الأسطورة - إذا انعزلت عن العقيدة - لم تكن إلا تشبيها فنيا يعوزه الرخام أو ريشة التصوير، أما الفلسفة فهي معرفة بالكون، وليست كالعقيدة إحساسا بالكون، فقصارى الفلسفة أن يعلم الإنسان أن الله موجود، وليس هذا قصارى التدين أو الاعتقاد، ولو كان هذا قصارى الإنسان من الاعتقاد لأغناه وجود الكون الأعظم وهو موجود لا شك فيه، ولكنه يعتقد بالله ليشعر بالصلة بين نفسه وبين الله وبين الله وبين نفسه، أو ليشعر بأن الله يعطيه الحياة لا بأن الله يأخذ حياته الأبدية منه ومن سائر الكائنات.

فالأسطورة والديانة والفلسفة ليست حلقات متوالية في سلسلة واحدة؛ لأن الأسطورة لا تزال باقية في تعبيرات الشعر والفنون وفي كل تشبيه يراه الخيال في اليقظة أو في المنام، ولأن الفلسفة قد تقول كل ما عندها ولا تستأصل بذلك عنصر العقيدة من الوجدان، وقد تمحو العقيدة أو تفسدها ولا يلزم من ذلك أن تكون بديلا منها أو خطوة تالية لخطوتها، فليست قدرة الفلسفة على تفنيد بعض العقائد دليلا على أنها عقيدة من عنصرها، بل هي دليل على أنها تفسح المكان لعقيدة أخرى لا تبطلها الفلسفة ولا يكون بينها وبين الفلسفة علاقة النقيض بالنقيض.

وفحوى ذلك كله بكلمة موجزة أن الفلسفة والديانة ليستا بالنقيضين، ولكنهما ليستا بشيء واحد، فقد يوجد الشيئان المنفصلان ولا يتناقضان.

على أننا نحاول أن نستخلص من هذه المذاهب جميعا زبدتها التي تستمد من كل واحد منها، فيبدو لنا أنها تفضي بنا إلى نتيجتين واضحتين: فالنتيجة الأولى أنها «تدين » كلها بالتطور أو بالتغير من بساطة إلى تركيب ومن وضيع إلى رفيع.

ولكن لا سبيل إلى التطور ولا التغير إذا كان الكون كله مادة سرمدية لا مصدر لها ولا غاية؛ إذ كل ما فيه اليوم قد كان فيه كل يوم، فإذا لم يكن وراءه عقل يصرفه ويملك مقاديره فلا معنى للتطور فيه، أما تصريف العقل له فلا ينقضه أن تغيب عنا علل التصريف والتقدير؛ إذ اللازم منطقيا أن المادة الأبدية لا تزيد ولا يجد عليها جديد، ولكن ليس من اللازم منطقيا أن نحيط بكل ما يحيط به العقل المدبر لجميع الوجود.

والنتيجة الثانية أن العلوم التجريبية كانت ثورة على العرفان من طريق الفلسفة القديمة وعلى العرفان من طريق المنطق والقياس بغير تجريب، وإن هذه الفلسفات الحديثة جاءت ثورة على العلوم التجريبية وعلى دعوى هذه العلوم أنها دون غيرها مصدر المعرفة الصحيحة بالكون والحياة.

والثورة على الثورة أقرب إلى الإقرار منها إلى الإنكار.

فإذا لاح للوهلة الأولى أن هذه المذاهب الفلسفية إمعان في إنكار العقيدة والإيمان فالنظرة التالية قد ترينا فيها مغزى غير ذلك المغزى واتجاها غير ذلك الاتجاه.

إذ هي إقرار لوسائل المعرفة التي تأتي من غير طريق التحليل والمشاهدة الحسية، واعتراف للنفس بحق في الحكم على الوجود والموجودات لا يتوقف على المعمل والمشرط والمنظار.

وذلك عود إلى حق النفس في الإيمان، وفتح لباب الإلهام والبديهة، بعد أن أوشك الحس أن يغلقه ويقيم عليه الأرصاد.

ولن تفتح باب الإلهام طويلا دون أن يطرقه الطارق المأمول.

العلوم الطبيعية والمباحث الإلهية

بقي رأي العلم الحديث في المسألة الإلهية.

ويحق للعالم الطبيعي أن يبدي رأيا يحتج به في المباحث الإلهية بمقدار نصيبه من صحة العلم وسعة الأفق وقوة العارضة وصدق العبارة، وهو يستفيد هذه الخصال من طول البحث وتعود التمحيص والتجربة ووفرة المعلومات في موضوع واحد أو موضوعات متعددة، ويستطيع - إذا كان ممن يستدلون بنظام الكون على قدرة صانعه - أن يتوسع في تفصيل الشواهد على دقة النظام واطراده في ظواهر المادة وخفاياها التي تحتجب عن غير العلماء المتفرغين لهذه العلوم.

أما العلوم الطبيعية نفسها فليس من شأنها أن تخول أصحابها حق القول الفصل في المباحث الإلهية والمسائل الأبدية؛ لأنها من جهة مقصورة على ما يقبل المشاهدة والتجربة والتسجيل، ومن جهة أخرى مقصورة على نوع واحد من الموجودات، وهي بعد هذا وذاك تتناول عوارض الموجودات ولا تتناول جوهر الوجود، وهو لا يدخل في تجارب علم من تلك العلوم.

فالبيولوجي يدرس أعضاء الجسم الحي، ولكنه لا يستطيع بعلمه أن يبين أسباب الاختلاف بين الخلية الحية والخلية الميتة أو الخلية الجامدة، ولا يستطيع أن يقرر ماهية الحياة؛ لأن أعمال الأعضاء شيء والقوة التي تعمل بها تلك الأعضاء شيء آخر لا يدخل في نطاق البيولوجية التي يتعلمها أقدر المشرحين أو العارفين بتركيب الأجسام الحية.

وإذا قرر العالم البيولوجي أن المادة قابلة لتوليد الحياة فهو لا يقرر ذلك في حدود علمه، بل يقرره في حدود ظنه وتقديره، ويجوز لعالم المعادن - بمثل هذا الحق - أن يقرر أن المادة لا تملك خاصة الحياة؛ لأنه درس ذرة المادة في صورها المعدنية دراسة العلماء.

فالعلم الطبيعي لا يحق له الفصل في المسألة الإلهية.

ولكن العالم الطبيعي يحق له إبداء الرأي في هذه المسألة بحق العقل والدليل والبديهة الواعية؛ لأنه إنسان يمتاز حقه في الإيمان بمقدار امتيازه في صفات الإنسان، أما العلم نفسه فلا غنى له عن البديهة الإنسانية في تلمس الحق بين مجاهل الكون وخوافيه.

وبعض العلماء ينكرون ثقة البديهة ويزعمون أنها تناقض أصول البحث والدراسة، فيغفلون عن عمل هذه الثقة في سريان العلوم وتعميم نفعها بين من يعرفونها ومن لا يعرفونها على السواء.

فكيف تسري المقررات العلمية بين العلماء - فضلا عن الجهلاء - لولا ثقة البديهة؟

كيف يعرف المهندس صدق الطبيب في مباحثه العلمية؟ ولا نقول كيف يعرفها الجاهل بالطب والهندسة؟

كيف تصبح المقررة العلمية حقيقة يعتمد عليها العارف والجاهل في إنفاق المال على بناء العمائر وتصحيح الأجسام ومد السكك وصناعات الحديد والخشب والحجارة وما إليها؟

ما من حقيقة من هذه الحقائق تسري بين الناس بغير ثقة البديهة وثقة الإيمان.

ما من حقيقة من هذه الحقائق يعرفها جميع المنتفعين بها معرفة العلماء، أو يمكن أن يعرفها جميع الناس كما يعرفها بعض الناس.

وهي مع ذلك مسائل محدودة يتاح العلم بها لمن يشاء.

فلماذا يخطر على البال أن حقيقة الحقائق الكبرى تستغني عن ثقة البديهة الإنسانية ولا يتأتى أن تقوم في روع إنسان إلا بتجارب المعامل التي يباشرها كل إنسان؟

نعم إن الحقيقة العلمية يعرفها كل من اختبرها ويتبين صدقها بالامتحان إذا تيسرت موازينه ومعاييره، وهي عند الطلب ميسورة لأكثر الناس.

ولكنك تستطيع أن تجزم كل الجزم أن الأمر كذلك في العقيدة والإيمان، فإن الذين يختبرون شعور الرسل والقديسين بإيمانهم لا بد أن يشعروا بذلك الإيمان كما شعر به الرسل والقديسون، وقد يعبرون عنه بأسلوب غير أسلوب العلماء في صوغ النظريات وتركيب المعادلات، فلا يدل ذلك على عجب، بل يدل على أمر مألوف معهود: وهو أن التعبير عن الوجدانيات غير التعبير عن المعقولات، وآية ذلك في مبتكرات الفنون، وفيما نراه كل يوم من أساليب الناس في التعبير عما يحسون.

فبهجة الربيعة ينعم بها الطائر والجواد والإنسان، فيرسلها الطائر تغريدا، ويطلقها الجواد صهيلا، وينظمها الإنسان قصيدا إن كان من الشعراء، وينحتها تمثالا إن كان من المثالين، ويرددها ألحانا إن كان من الموسيقيين، وينقلها إلى شخوص قصة إن كان من كتاب القصص والروايات، ويؤلف منها أسطورة إن كان ممن يتخيلون الأساطير، ولا نشك في وجود الشعر لاختلاف العبارات؛ لأن الشعور موجود لا شك فيه.

ويبلغ إنسانا ما يسره فيترجم عن سروره بتوزيع الصدقات وإطعام المساكين، ويبلغ غيره ذلك النبأ بعينه فيترجم عنه بوليمة يدعو إليها الأحباب والأصدقاء، ويبلغ آخرين فيعبرون عنه بالقصف واللهو أو بالراحة وإعفاء النفس من الأعمال أو بالصلاة والدعاء، وقد يتهلل الوجه وقد تسيل الدموع من العيون، ولا شك فيما يترجمون عنه، وإن كان لكل سرور ترجمان يوافق الإنسان.

فثقة البديهة لازمة في مقررات العلم فضلا عن مقررات الإيمان بالغيوب، ولزومها يقتضيه العقل ولا يعتمد على وحي البديهة وحده، أو على مجرد التسليم.

إن الكائن الذي يستحق الإيمان به هو الكائن المطلق الكمال، كما أسلفنا في ختام الكلام على خلاصة الفلسفة الوضعية، أي فلسفة أوجست كونت.

والكائن المطلق الكمال هو الكائن الذي لا يدخل في حدود العقول ولا يخضع لتجارب العلماء.

فما الذي يقضي به العقل في هذه المناقضة؟

إنه لا يقضي بأن يكون سبب الإيمان هو مبطل الإيمان؛ لأنه كلام لا يسيغه عقل ولا علم، ولكنه يقضي بما قضى به الواقع أيضا واتفق عليه المفهوم والمحسوس، وهو ألا نكتفي بالعقل وحده ولا بالعلم وحده في الإيمان بالكائن الذي يستحق الإيمان، وأن نعلم أن ثقة البديهة متمم لا غنى عنه لوظيفة العقل والعلم في معرفة الله، ولا عجب في ذلك، وهي مسألة أكبر من المسائل العقلية والمسائل العلمية؛ لأنها مسألة الوجود كله في جوهره وعرضه وفي ظاهره وخافيه، ومسألة العالم والمعلوم والعقل والمعقول.

وقد اختارت طائفة من العلماء المعاصرين موقفا غير هذا الموقف في مواجهة الغيب وتفسير العقيدة الإلهية، وكان أكثرهم من البيولوجيين الذين يقررون أن المادة تشتمل على خواص الحياة، وأنه لا حاجة إلى فرض قوة غير القوى المادية لتفسير نشأة الأحياء على الكرة الأرضية.

وكلامهم هذا لا قيمة له من العلم نفسه إلا في اليوم الذي يروننا فيه مكانا تنشأ فيه الحياة من الجماد كما نشأت في زعمهم قبل التطور الأخير، أو في اليوم الذي يروننا فيه مادة مخلوقة بأعين العلم تتحول إلى حياة، أو في اليوم الذي يحللون فيه خلية تلد إنسانا سويا فيصنعون خلية مثلها في مقاديرها تلد إنسانا يرث ما ينمو في الخلية الحية من خلائق الآباء والأجداد منذ آلاف السنين.

والكيميون الذين يقولون كما يقول هؤلاء إن الإشعاع كاف لتفسير المادة وتراكيبها العضوية وغير العضوية مطالبون بمثل ما يطالب به أولئك البيولوجيون، فالإشعاع يملأ الفضاء.

فليركبوه كما حللوه، أو يرونا مكانا يتحول فيه الشعاع إلى ذرة وتتحول فيه الذرة إلى خلية، ولا يكونون بعد ذلك قد أبطلوا قولا من أقوال المؤمنين بالله؛ لأن عمل الصانع لا يثبت عمل المصادفة، بل يرده إلى صانع ألهمه وجعله في حكم الطبيعة التي تتخلق كما أراد. •••

ويعزز القول بأن إنكار الحقيقة الإلهية هو مسألة العالم لا مسألة العلم - أن كثيرا من العلماء الممتازين ينكرون هذا الإنكار ويؤمنون «بالعقل» في هذا الوجود، ويعتبرون تفسير الكون بالإرادة الإلهية أقرب تفسير إلى العقل وإلى الضمير، وبين هؤلاء أفذاذ من علماء الطبيعة وعلماء الرياضة أو من العلماء الذين جمعوا بين الطبيعة والرياضة واستقرت لهم في هذه العلوم مكانة أعلى وأثبت من مكانة المنكرين، وإذا جازت المفاضلة بين حقوق العلماء في بحث المسألة الإلهية فأرجح العلماء حقا في هذه المباحث هم علماء الطبيعة الفلكيون؛ لأن الفلكي يعتمد على بديهة العقل الرياضية، والطبيعي يعتمد على تجارب الحس الخارجية، والذي يجمع بينهما يجمع بين دلائل العقل والمشاهدة، ويبني حكمه على نظام السماوات ونظام هذه الأشياء التي نلابسها في حياتنا الأرضية، فهو يتلقى الفكرة الإلهية في أوسع نطاق.

وقد يرجح حق العالم الرياضي في هذه المباحث اعتبار آخر تبرزه لنا الكشوف الحديثة في مختلف العلوم الطبيعية، ونعني به أن الكون كله يوشك أن يتراءى لنا في نسيج من النسب الرياضية التي تسوغ قول الفلكيين الأقدمين: «إن الله يهندس» وإن الهندسة تترجم لنا حكمة الله في مخلوقاته العلوية والسفلية على السواء.

ومن أكبر هؤلاء العلماء سير أرثر إدنجتون

Eddington

الذي يقول: «إن تفسير الكون بالحركة الآلية أمر لا يسيغه العلم الحديث، وإن الكون أحرى أن يفسر بالنسب الرياضية في عقل عاقل، ولكن الإنسان هو سر الكون الأكبر، وهو الذي يدرك هذه النسب ويدرك ما بين عقله وعقل الكون من علاقة وثيقة، وإنه إذا جاز للحركة الآلية أن تخلق في المستقبل «إنسانا آليا» فليس مما يجوز في العقول أن تتخيل ذلك الإنسان سائلا عن الحقيقة أو مباليا بأسباب الحق والباطل، ولكن هذا الشوق إلى الحقيقة هو هو لب لباب الحياة وهو هو محور الوجود الإنساني منذ نجم من صلب هذه الطبيعة : هذا هو الذي يجعل الإنسان شيئا مغايرا كل المغايرة لما حوله من الظواهر الطبيعية ويجعله قوة روحانية، ومتى ارتفعت الصيحة من قلب الإنسان: فيم كل هذا؟ لم يكن جوابا صالحا لتلك الصيحة أن ننظر إلى هذه التجارب التي نتلقاها من حسنا ونقول: كل هذا هو ذرات وفوضى، وهو كرات نارية تحوم وتحوم حول القضاء المحتوم، كلا، بل الأحرى أن نفهم أن كل هذا وراءه روح يستوي الحق في محرابها، وتكمن فيها قوابل لتنمية الذات بمقدار ما فيها من النزوع إلى تلبية عناصر الخير والجمال.» •••

ومن كبار العلماء الفلكيين الطبيعيين الذين ينظرون إلى الحقيقة الإلهية هذه النظرة جينز

Jeans

صاحب المباحث المعدودة في الإشعاع والذرات الغازية، وهو ينبذ التفسير الآلي كما ينبذه إدنجتون، ويستدل بالنسب الرياضية على وجود الله؛ لأننا لم نستخرج هذه النسب من الكون بل استخرجناها من عقولنا، فلما عرفناها وطبقناها على ما حولنا عرفنا أنها كانت موجودة عاملة قبل أن نهتدي إليها ونترقى إلى مراقبة عملها في نواميس الكون ونواميس الحياة، فحق لنا أن نفهم أن هذه الحقائق الرياضية هي حقائق عقل إلهي أودعها أفكارنا كما أودعها هذه العوالم من حولنا. قال: «إن العقل لا يعد بعد طفيليا على عالم المادة كما بدا لبعضهم من قبل، بل نحن آخذون أن نراه ونرفع إليه التمجيد لأنه هو خالق عالم المادة والمهيمن عليه، وليس المقصود بالبداهة عقولنا الإنسانية، ولكنما المقصود هو العقل الذي نحسب من أفكاره تلك الذرات التي تنمي لنا العقول»، فالكون أحرى أن يسمى «فكرة عظيمة» لا آلة عظيمة، وإنه لأهول خطرا من الأفكار في رأس إنسان. •••

والعلامة ألبرت أينشتين صاحب النسبية حجة في الرياضيات وفي الطبيعيات وله مشاركة في فن الموسيقى ومقاصد الفلسفة، وهو قوي الإيمان بوجود الله، ويقول: «إن أصحاب العبقريات الدينية من جميع العصور قد عرفوا بهذا النوع من الشعور الديني الذي لا ينتمي إلى نحلة ولا يتمثل الله في أمثلة بشرية، فكيف يتأتى أن ينتقل هذا الشعور الديني الكوني من إنسان إلى إنسان إذا لم يبرز في صورة معينة أو مراسم معلومة؟ إنني لأرى أن أهم وظيفة من وظائف الفن والعلم هي أن يوقظا هذا الشعور وأن يستبقياه حيا في الذين تهيئوا له ...»

ومن طبقة هؤلاء العلماء الكبار من يتدين ويقرر فائدة الصلاة ولا يكتفي بإيمان العقل أو الضمير بوجود الله، فالسير أوليفر لودج الرياضي الطبيعي المشهور يؤمن بالله وبالروح وبفائدة الصلاة، ويرد على الذين يزعمون التناقض بينها وبين القوانين الأبدية بأنهم يخطئون التصور إذ «يتصورون أنفسهم كأنهم شيء منعزل عن الكون وخارج منه يعمل فيه من ظاهره ويحاول أن يبدل مظاهره بالابتهال إلى نظام في القوى المسيرة» ... و«لكننا إذا استطعنا أن نتفطن إلى أنفسنا وأننا نحن جزء صميم من النظام بأسره، وأن رغباتنا ومطالبنا هي نفحة من الإرادة المسيطرة الهادية لم يمتنع على حركات عقولنا أن يكون لها أثر فاعل إذا سرنا بها وفاقا لأصدق ما في الكون من القوانين وأعلاها.»

ويضرب السير أوليفر مثلا لذلك بالدولة العادلة التي تكون خلجات الآحاد فيها جزءا من التشريع والإدارة إذا هي سلكت سبيلها الحق إلى التعبير السليم والتوفيق بينها وبين أصول النظام.

ولا تزال كتب العلماء المؤمنين تطالع القراء في الغرب بآرائهم في وجود الله وأسبابهم التي تبعث فيهم الإيمان به والثقة بتدبيره، ومن أحدثها كتيب الأستاذ كريسي موريسون

Cressy Morrisson

الذي كان رئيسا لمجمع العلوم في نيويورك، وقد سماه: «ليس الإنسان بوحيد»، ولخص فيه سبعة أسباب للإيمان بالحقيقة الإلهية يعرفها الطبيعيون والرياضيون وتأبى عليهم أن يردوها إلى المصادفة؛ لأنها لا تختل أبدا مع أن التوافق بينها بالمصادفة لا يتجاوز نسبة الواحد إلى ألوف الملايين، ومن أقوى هذه الأسباب السبعة قوله عن الناسلات

Genes

وفحواه «أنها تبلغ من الدقة أن جميع الناسلات التي يتولد منها سكان الكرة الأرضية جميعا لو وضعت في حيز واحد لما زادت على قمع الخياطة، ولكنها كانت في كل خلية حية وفي طواياها أسرار الخصائص التي يتصف بها جميع الآدميين.» قال: «وإن قمع خياطة لحيز صغير إذ يحتوي فيه جميع خصائص الأفراد الموزعة بين ألفي مليون من البشر، ولكنه واقع لا ترقى إليه الشكوك، فكيف إذن تنطوي في هذه الناسلات جميع عوامل الوراثة المتخلقة من حشود الأسلاف وتستبقي لكل فرد مقوماته النفسية في مثل هذا الحيز الذي بلغ الغاية من الدقة والصغر.»

ونحن نرى من هذا المثال ما يستطيعه العالم من تفصيل الأدلة التي يتناقلها من لا يدرسون العلوم الطبيعية، فإن خلق الذكر والأنثى معجزة كافية لإثبات القصد والتدبير في خلق الحياة واستدامة أسباب البقاء للأحياء، وإن الغرائز النوعية التي تؤدي هذه المعجزة لأبرز من أن تخفى على عالم أو غير عالم، ولكن العالم الطبيعي وحده هو الذي يستطيع أن يضاعف هذه الدلالة أضعافا فوق أضعاف؛ لأنه يرينا بمثل الدليل المتقدم أعجب أعاجيب هذه الغريزة التي تخفى على سواه، ويبين لنا أن الحياة قوة من عالم المكان والزمان؛ لأن الحيز الذي يحتوي الناسلة هو الحيز الذي يحتوي كل ذرة في حجمها من الذرات المادية، ولكنه يتسع لآفاق من القوى لا أثر لها في ذرات الأجساد، وقد قيل على سبيل التعجيب والإغراب أن «لو» تضع باريس في علبة صغيرة، وظن القائل أنه بالغ أقصى المبالغة في تصوير الاستحالة والإعجاز الذي تستطيعه الفروض أو الأماني المشتهاة. ولسنا هنا بصدد فرض باطل أو أمنية خيالية، ولكننا في صدد حقيقة أعجب من جميع الفروض والأخيلة؛ لأنها لا تضع باريس وحدها في علبة صغيرة، بل تضع النوع الإنساني كله في أقل من العلبة الصغيرة: في قمع لا يتسع لأكثر من أنملة، وهو يتسع مع ذلك لكل ما في النفوس من الأحاسيس والحوافز والأسرار، ولكل ما في العقول من الأفكار والفلسفات والمبتكرات، ولكل ما في الضمائر من العقائد والأخلاق والأشواق، ولكل ما في الأجسام من الوظائف والمحاسن والأشباه، ولكل ما بين هؤلاء من الأواصر والوشائج والعلاقات.

فإن كان العلم هو الذي يعوق هذه الآية عن الوصول إلى العقول فما هو بواصل إلى شيء وما من شيء هو واصل إليه.

لكن العلم براء من هذا التعطيل الذي يشل العقول ويفقدها شجاعة الاعتقاد، فإذا جاز له أن ينكر فإنما يجوز له ذلك بحجة واحدة: وهي أنه يجهل وليس أنه يعلم، ومن الجهل لا من العلم أن نجعل الجهل مرجعا للوجود من أعلاه إلى أدناه، فليقل «العالم» إنه يجهل لأن الأمر أكبر من أن يعرفه ويحيط بحدوده، ولكن الأمر الذي لا يعرفه ولا يحيط بحدوده موجود لا شك فيه.

خاتمة المطاف

مهما يكن من تشعب الرحلة التي قضيناها على صفحات هذا الكتاب، فهي نقلة يسيرة بالقياس إلى الرحلة الإنسانية الكبرى في هذا السبيل، ولعل ما بقي منها أضعاف ما سلف؛ لأن السعي إلى الحقيقة الأبدية لن يزال سعيا موصولا في كل جيل.

وقد أوجزنا وكان لا بد لنا من أن نوجز، ولكننا توخينا في الإيجاز ألا يتخطى حد الضرورة، وحد الضرورة هو أن يكون البيان كافيا للإشارة إلى الوجهة العامة وأن يكون كافيا لتقرير النتائج التي يرتضيها العقل ويتطلبها الضمير، سواء من جانب العقائد الدينية أو من جانب المباحث الفكرية.

وخاتمة المطاف قد تنتهي بنا إلى النتائج الآتية، وهي «أولا»: أن التوحيد هو أشرف العقائد الإلهية وأجدرها بالإنسان في أرفع حالاته العقلية والخلقية، ولكن الإنسان لم يصل إلى التوحيد دفعة واحدة، ولم يفهمه على وجهه الأقوم عندما وصل إليه، بل تعثر في سعيه، وأخطأ في وعيه، ولم يزل مقيدا بأطوار الاجتماع وحدود المعرفة عصرا بعد عصر وحالا بعد حال، فلم يلهم من هذه العقيدة إلا بمقدار ما يفهم، ولم يهتد إلى خطوة جديدة فيها إلا بعد تمهيد أسبابها وتثبيت مقدماتها، فكان الإيمان مساوقا للخلق والعرفان.

وليس في ذلك كله ما يقدح في الغاية البعيدة التي يؤمها من وراء هذه الخطوات، وليس في جميع هذه الأخطاء ما يقدح في الحقيقة الكبرى؛ لأن معرفة الإنسان بالحقيقة الكبرى دفعة واحدة هي المحال الذي لا يجوز، وترقيه إليها خطوة بعد خطوة هو السنة التي اتبعها في كل مطلب بعينه.

فلم يكن من الجائز أن يتعرف الصناعات والعلوم جزءا جزءا في هذه الآماد الطوال، وأن يتلقى حقيقة الوجود الكبرى كاملة مستوفاة منذ نشأته على هذه الأرض أول نشأة، ولقد مضى عليه عشرات الألوف من السنين وهو يخلط في طهو غذائه، وحاجته إلى الطعام لا شك فيها، ومادة الطعام بين يديه، وعلم الطعام ليس بالعلم المغيب وراء الحجب والأستار، فإذا فاته أن يدرك الوجود المطلق قبل أن يتقن غذاءه فليس من الجائز أن نعجب لذلك، أو أن نستفتح به أبواب التشكك في كنه العقيدة أو في لباب الحقيقة، وإنما العجب ألا يكون الأمر كما كان.

والنتيجة الثانية التي يرتضيها العقل ويتطلبها الضمير في خاتمة المطاف أن الإله الأحد «ذات» ولا يسوغ في العقل أن يراه غير ذلك.

فقد مرت بنا أقوال تضاربت فيها الآراء، وأحكام تنوعت فيها المقاييس، ولكننا وجدنا بينها إجماعا على شيء واحد مع صعوبة الإجماع في هذه الأمور، وهو أن «الذاتية» أعلى ما نتصوره من مراتب الكائنات على الإطلاق.

فالأقدمون الذين قالوا بالعقل والهيولى، والمحدثون الذين قالوا بالنشوء والارتقاء، والنشوئيون الذين قالوا ببقاء الأنسب أو قالوا بالانبثاق، وغير هؤلاء وهؤلاء مجمعون على قول واحد، وهو أن الترقي إنما هو الانتقال من وجود بغير ذات إلى وجود له ذات: إلى وجود يعلم ذاته ويشعر بوجوده.

فالجماد المبهم الذي لا تعيين فيه أقل من الجماد الذي تعين بعضه من بعض وتميزت له أشكال وصفات.

وهذا الجماد أقل من النبات.

وكلما ارتقى النبات ظهر فيه التعيين بين شجرة وشجرة، وبين ثمرة وثمرة، واتجه إلى التخصيص بعد التعميم.

وهكذا آحاد الحيوان.

وهكذا آحاد الإنسان.

حتى إذا بلغ غاية مرتقاه أصبح «ذاتا» لا تلتبس بذات أخرى من نوعه، وكان هذا هو المقياس الصادق لترتيب درجات الكمال في جميع الكائنات.

فالكائن الأكمل لن يكون مجردا من الذات، ولن يتخيله العقل عقلا مجردا من الذاتية كما وهم بعض أصحاب الديانات، وناقضوا أنفسهم فيما وهموه.

فالعقل يعقل وجوده لا محالة.

ومتى عقل وجوده فهو «ذات.»

أما العقل الذي لا يعقل وجوده فتسميته بالعقل ضرب من العي والإحالة، وتسميته بغير هذا الاسم تلفيق يحار فيه التعبير، فإذا كان قوة مادية فلا معنى لفرضها بمعزل عن قوى الكون، وإذا كان قوة عقلية فلن تكون القوة العاقلة في غير ذات. •••

ونأتي بعد ذلك إلى النتيجة الثالثة وهي إدراك هذه الذات.

فكل شرط يذهب إليه الذاهبون لتقييد «الذات» الإلهية بصفة من الصفات المعهودة لدينا فهو شرط قائم على غير أساس.

فلا أساس للقول بأن «الله» لا تكون له صفات متعددة؛ لأنه جوهر بسيط.

ولا أساس للقول بأن الله لا يريد لأن الإرادة اختيار بين أحوال، والله منزه عن الأحوال.

ولا أساس للقول بأن الله لا يعلم الجزئيات لأنه يعلم أشرف المعقولات، وهو ذات الله.

فنحن قد جهلنا البساطة في المادة وأحكامها ونحن نلمس الأجسام ونعيش في الأجسام.

جهلنا البساطة المادية فقال الأقدمون: إن المادة كلها من النار والتراب والهواء والماء، ثم عللنا التركيب بتعدد العناصر واختلاف توليف الذرات، ثم علمنا أن الذرات كلها تنتهي إلى إشعاع وهو أبسط ما تراه العين ويلم به الخيال، وقد كانوا قديما يقولون إن الأجرام العلوية خالدة أبدية لا يعرض لها الفساد والتغير لأنها نور بسيط، فكل الأجسام إذن نور بسيط لا نعلم منه إلا أنه حركة في فضاء! ونحن قد جهلنا أحكام البساطة وصفاتها في المادة المحسوسة قرونا بعد قرون، ولا نزال نعلم أننا واهمون فيما تتصف به من الحركة والسكون، فمن أين لنا أن ندرك أحكام البساطة الإلهية قياسا على وصف لا تحيط به العقول؟

من أين لنا أن إرادة الله من قبيل إرادتنا؟ وأن علم الله من قبيل علمنا؟ وكيف يكون الوجود إن لم يكن وجودا يفعل ويخالف العدم؟ وكيف يخالف العدم إذا كان سلبا لا أثر له على سبيل الثبوت؟

هنا نعلم أن الدين لم يكن أصدق عقيدة وكفى، بل كان كذلك أصدق فلسفة حين علمنا أن الله جل وعلا

ليس كمثله شيء .

فكل ما نعلمه أنه جل وعلا كمال مطلق وأن العقل المحدود لا يحيط بالكمال الملطق الذي ليست له حدود، وليس لهذا العقل أن يقول للكمال المطلق كيف يكون وكيف يفعل وكيف يريد. •••

ويفضي بنا الكلام في طاقة العقل إلى نتيجة رابعة، وهي الصلة بين العقل والإيمان.

فكيف نؤمن إذا كان العقل الإنساني قاصرا عن إدراك الذات الإلهية؟ وكيف تأتي الصلة بين الكمال المطلق وبين الإنسان؟

وقد نمهد للجواب على هذا السؤال بسؤال آخر يرد البحث إلى نصابه، فنسأل: أيراد بالعقل إذن أن يكف عن الإيمان حتى يكون عقلا كاملا مطلق الكمال؟ أم يراد بالعقل أن يؤمن بإله دون مرتبة الكمال؟

لا هذا ولا ذاك مما يراد أو يقع في حسبان، فالكائن الذي يستحق الإيمان به هو الكائن الذي يتصف بالكمال المطلق في جميع الصفات، وغير معقول أن يكون سبب الإيمان هو السبب المبطل للإيمان، وغير معقول أن يستحيل الإيمان مع وجود الإله الذي يتصف بأكمل الصفات، فالمخرج الوحيد من هذا التناقض أن الصلة بين الخالق وخلقه لا تتوقف على العقل وحده، وأي عجب في ذاك؟ إن الإنسان كله لفي الوجود؟ وليس العقل وحده هو قوام وجود الإنسان، فلماذا تنقطع الصلة بين الخلق والخالق إذا حسرت العقول دون ذلك المقام.

أفمعنى هذا أن العقل الإنساني لا عمل له في مسألة الإيمان؟

كلا، بل له عمل كبير، ولكنه ليس بالعمل الوحيد.

وفرق بين أن يعرف العقل حدوده وبين أن يبطل عمله، فإن العقل ليستطيع التفرقة بين عقيدة الشرك وعقيدة التوحيد ويستطيع التفرقة بين أدلة الإيمان وأدلة التعطيل، ويستطيع التفرقة بين ضمير مؤمن وضمير عطل من الإيمان، ويستطيع أن يبلغ غاية حدوده ثم لا ينكر ما وراءها لأنه وراء تلك الحدود، ويستطيع أن يسأل نفسه: أممكن أن يمتنع علي الإيمان بالله لا لشيء إلا لأنه متصف بأكمل الصفات التي يتعلق بها إيمان المؤمنين؟ فإن لم يكن ذلك ممكنا فليعترف «بالوعي الديني» لأنه ضرورة لا محيص عنها، ولأنه واقع ملازم للإنسان في محاولاته الأولى، ولن يزال ملازما له في مقبل عصوره أبد الأبيد. •••

وهنا يعرض السؤال عن مشكلة الخير والشر التي برزت بعد الأديان الكتابية إلى الصف الأول بين مشكلات علم الكلام وعلم اللاهوت، وكانت قبل الأديان الكتابية سببا للقول بالتثنية وتعدد الوساطات بين الله وعالم المادة أو عالم الهيولى.

ففي سياق الكلام على كمال الذات الإلهية يسألون: كيف يتفق هذا الكمال وما نحسه في هذا العالم من النقص والشر والعذاب؟

والسؤال متواتر ولكنه عجيب؛ لأن الكمال المطلق صفة الخالق وليس صفة المخلوقات، وكل مخلوق محدود، وكل محدود فلا بد فيه من نقص يحس على صورة من الصور: صورة قبح أو صورة شر أو صورة عذاب.

ولو جاز أن يخلق الله إلها آخر لوجب أن يكون هذا الإله محدودا وأن يكون حده نقصا على صورة من تلك الصور أو على صورة غيرها لا نعرفها.

ونحن لا نعالج أن نحل المشكلة كما يحلها القائلون بأن الألم والشر والرذيلة أوهام زائلة ليست لها حقيقة باقية، فإن كانت أوهاما فهذا لا يحل المشكلة ولا يصرفها؛ إذ لا شك أن وهم السرور أطيب من وهم الألم، وأن وهم الخير أفضل من وهم الشر، وأن وهم الفضيلة أكرم من وهم الرذيلة.

ولكننا نرى أن المشكلة كلها مشكلة اقتراح بعد التسليم بوجوب النقص في المخلوقات، وأن المراد بالاقتراح أن يكون النقص مرضيا للناقصين، أو أن يكون خلوا من الألم والعذاب.

إلا أن اقتراح الإنسان على الكون كاقتراح كل جزء صغير على مجموعه الكبير، ولا فرق بينه وبين اقتراح الحجر الذي يريد أن يدخل الجدار في الوسط أو في الزاوية، وكاملا أو مكسورا من بعض الأطراف دون الأطراف الأخرى، وعاليا على المشارف أو مدفونا في جوف الأساس.

ومن لنا أن النقص الذي لا يرضينا هو أقرب إلى الكمال من النقص الذي نرضاه؟ أليس حافز الألم هو وسيلة الشوق إلى الكمال والتفرقة بينه وبين النقص في شعور الضمير؟

بل الواقع أننا نرى هذه الآلام وسيلة الارتقاء بتنازع الأحياء، وأنها وسيلة التهذيب والازدياد في نمو فضائل الإنسان، ولو أننا سألنا رجلا ناضجا أن يسقط من حياته آثار آلامه أو آثار مسراته لتردد كثيرا بين الآلام والمسرات، ولعله في النهاية يسقط آثار المسرات ولا يسقط آثار الآلام.

ونحن نحكم على غايات الأبد بتجارب العمر القصير، فلا فرق في ذلك بيننا وبين من يحكم على الرواية المعروضة أمامه بكلمة في خطاب أو كلمة في جواب، ثم يحكم على التأليف والمؤلف كأنه شهد جميع الفصول وقابل بينها وبين شتى الفصول والروايات.

والأمر كما أسلفنا في هذا الكتاب فرض من ثلاثة فروض: فإما إله قادر على كل شيء ولا يخلق شيئا، وإما إله يخلق إلها مثله في جميع صفات الكمال، وإما إله يخلق كونا محدودا يلم به النقص الذي يلم بكل محدود.

وهذا هو الفرض الوحيد المعقول، وإذا اقترح مقترح أن يكون النقص على صورة لا نحسها فليس اقتراحه هذا بمقبول عند جميع العقول الآدمية فضلا عن العقل الإلهي المحيط بما كان وما يكون؛ لأن الإحساس بالنقص أقرب إلى الكمال عند الكثيرين من نقص لا نحسه ولا يفرق في شعورنا بين الحسن الشهي وما هو أحسن منه وأشهى.

والإنسان بعد قرين الزمن وليس بقرين الآزال والآباد، ولا بد لقرين الزمن من عوارض ومن غير، ولا بد في هذه العوارض والغير من فوارق بين الأحوال وفوارق بين الآحاد وفوارق بين الجماعات، وإلا كانت أبدية إلهية لا يطرأ عليها اختلاف.

وهذه الفوارق هي ما نشكوه ونقترح غيره، فغاية ما يقال في هذا الاقتراح أنه يقبل المراجعة والمناقضة وليس بالحكم الأخير في أسرار هذه الأكوان.

ونحسب أننا نظلم نصيب الحس إذا قلنا إن مسألة الإيمان مسألة عقل ومسألة «وعي» ليس للحس فيها من نصيب.

فنحن نستطيع أن نرى بأعيننا أن الإيمان ظاهرة طبيعية في هذه الحياة؛ لأن الإنسان غير المؤمن إنسان «غير طبيعي» فيما نحسه من حيرته واضطرابه ويأسه وانعزاله عن الكون الذي يعيش فيه، فهو الشذوذ وليس هو القاعدة في الحياة الإنسانية في الظواهر الطبيعية، ومن أعجب العجب أن يقال إن الإنسان خلق في هذا الكون ليستقر على إيمان من الوهم المحض، أو يسلب القرار.

وليست حجة للمنكر أن يقول إن الإنكار ممكن في العقول ، بل حجة للمؤمن أن يقول إن حال المنكر ليست بأحسن الأحوال، وإنه إذا أنكر عن اضطرار تبين لنا على الفور أنه في حال «غير الحال الطبيعي» الذي يستقيم عليه وجود الأحياء.

وخاتمة المطاف أن الحس والعقل والوعي والبديهة جميعا تستقيم على سواء الخلق حين تستقيم على الإيمان بالذات الإلهية، وأن هذا الإيمان الرشيد هو خير تفسير لسر الخليقة يعقله المؤمن ويدين به المفكر ويتطلبه الطبع السليم.

Shafi da ba'a sani ba