بل لماذا يحسب التحول من دور الاشتعال السديمي إلى دور «التكوكب» ضربا من التطور والارتقاء؟
إنه في وضعه «العلمي» نوع من الدثور والهمود؛ لأنه علامة على تسرب الحرارة وتفرق الطاقة ونزوع المادة إلى الجمود، فإذا كانت هذه الخطوة مقدمة لظهور الحياة لانحلال القوى - فتلك علامة القصد والتدبير وليست علامة «القانون الآلي» المطرد في مجاهل الضرورة العمياء .
وغاية ما أثبته هؤلاء الفلاسفة «التطوريون» أن العقل أرقى من الحياة، وأن الحياة أرقى من المادة، وأن العالم يستقيم في طريق الارتقاء.
فلماذا يكون نصيب الكون من العقل هو النصيب المحدود، ويكون نصيبه من المادة منذ القدم الذي لا أول له نصيبا غير محدود؟
إن هؤلاء «الفلاسفة» كثيرا ما يعيبون على المعتقدين بالأديان أنهم يخلعون التصورات الإنسانية على حقيقة الله وعلى حقيقة الوجود، وأنهم يتصورون الله خالقا كما يتصورون الإنسان في خلقه لبعض المصنوعات.
وواقع الأمر أن هذه «العادة الذهنية» تلازم أولئك الفلاسفة وهم يهربون منها؛ لأنهم يتصورون الكون كما يتصورون الإنسان في مراحل حياته: يتصورونه طفلا فصبيا فيافعا فشابا فرجلا فكهلا يترقى في ملكات الجسم والعقل يوما بعد يوم وعاما بعد عام، يتصورونه كذلك وينسون أنهم فرضوه كونا غير محدود في قوة ولا أجل ولا اتساع، فكيف ينمو نمو الأحياء المنظورة إلى آجال؟ وإلى أي غاية يترقى وليست هناك غايات ولا بدايات؟ وإذا بلغ غاية «العقل» في الزمان الذي لا نهاية له فهل يصبح العقل بعد ذلك مقيدا بأحكام المادة كأنه لا يزال ذلك الوليد المتعثر في عجز الطفولة؟ أو يصبح قادرا على كل شيء بعد فوات الفرصة السانحة للقدرة على كل شيء؟ أي يصبح قادرا على كل شيء لكيلا يقدر على شيء من الأشياء، ولا يجد أمامه ما يعمله غير النظر إلى ما كان كما ينظر إليه العاجز عن جميع الأشياء! فينشأ العقل الإلهي عبثا بعد الاستغناء عنه وتمام كل شيء بغير حاجة إليه. •••
وحال الفلسفة الفرنسية الحديثة كحال زميلتها الفلسفة البريطانية والفلسفة الأمريكية، مع فارق في المعنى دون الاتجاه.
فأكبر الفلاسفة المحدثين في فرنسا هو هنري برجسون صاحب مذهب التطور الخالق، ولعله قد سبق الفلاسفة البريطان والأمريكان إلى التنويه بشأن التطور في الحكمة الإلهية، ولكنه يخالفهم في رأيين جوهريين: وهما التفرقة بين الزمان والمكان، والتفرقة بين المادة والروح.
فعندهم كما رأينا أن الزمان والمكان وحدة لا انفصال فيها، وأن الروح خاصة من خواص المادة أو طور من أطوارها المكنونة.
أما برجسون فيرى أن الزمان غير المكان، وأن الروح غير المادة، بل إنهما متعارضتان متناقضتان، والحياة في رأيه أقرب إلى عنصر الزمان منها إلى عنصر المكان؛ لأنها حركة لا استقرار فيها، وأمكن ملكاتها - وهي الذاكرة - إن هي إلا زمن مخزون، وكذلك الغرائز الحيوية في بعض الأحوال.
Shafi da ba'a sani ba