184

وننتقل من الفلسفة الإنجليزية والفسلفة الفرنسية إلى فلسفة الجرمان، فلا نرى هنالك مذهبا أفضل من هذه المذاهب في إدراك الحقيقة الإلهية وتفسير الطبيعة وما بعد الطبيعة على وجه يرضي العقل ويريح الضمير.

والمعروف عن البلاد الجرمانية أنها بلاد مخصبة بالفلسفة الإلهية - ونريد بها الفلسفة التي تعنى بما وراء الطبيعة، ولكنها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر لم تخرج في هذا المجال مذهبا جديدا يضارع مذاهب الفلاسفة الجرمان المتقدمين على ذلك الجيل، وازداد فلاسفتها بعدا عن هذا المجال في الزمن الأخير، فكان أشهر المذاهب التي شرحوها كالظاهرية

أو الوجودية

Existentialism

منصرفة إلى وضع المقاييس لتمحيص الحقائق والتفرقة بين نطاق العلم ونطاق الفلسفة ونطاق التجارب النفسية، وربما أعرضوا كل الإعراض عن مسائل ما بعد الطبيعة كأنها موضوع ميئوس منه، ومن تناولها منهم لم يتوسع فيها توسع الفلاسفة الذين اعتبروها موضوع الفلسفة قبل كل موضوع.

وقد تلخص الفكرة الإلهية بينهم بتلخيص الآراء التي رددها أشهر مفكريهم إلى مطالع القرن العشرين، ويكفينا منهم ثلاثة هم نيتشه وهارتمان وشبنجلر، وهم الذين قرروا في مسائل ما بعد الطبيعة رأيا مستقلا لا يحسب شرحا من شروح الكثلكة أو البروتستانتية، ولا يحسب حاشية على مقاييس المنطق ومعايير العلوم.

فعند نيتشه 1844-1900 أن الله «قد مات»، وأن الشجاعة هي الدين الذين ينبغي أن يتدين به كل إنسان جدير بالحياة؛ لأن الشجاعة ألزم ما يلزم النفس من خليقة - أو عقيدة - في عالم خلا من الله، ويرى نيتشه أن العالم - كقوة - لا يتأتى أن يتخيل بلا حدود ؛ لأن فكرة القوة التي لا حدود لها تناقض فكرة القوة ذاتها في الصميم، ومن هنا تعدم الدنيا وسائل التجديد الأبدية، وتتكرر فيها الكائنات ولا يزالون متكررين بغير انتهاء، وهذا التكرار هو عوض نيتشه عن البعث في نعيم السماء؛ لأن الأمل في ذلك النعيم هو عزاء الضعفاء الذين تنكرت لهم حياتهم الدنيا، ففيه إلغاء للحياة وليس فيه كذلك التكرار إثبات للحياة.

وعند إدوارد فون هارتمان أن الله ليس بذات وأنه غير شاعر بنفسه أو صاحب «أنا» تتشخص في كيان؛ لأن الذاتية والأنانية أبعد شيء في رأي هارتمان عن القداسة الإلهية، ولكن الكون فكرة وإرادة، وهما يقابلان عنده إله النور وإله الظلام عند المجوس، فالشر كله من عالم الإرادة وهو عالمنا الذي نعاني فيه الآلام والآثام، وإنما تمتحن الفكرة بالإرادة لتعود إلى صفائها مجردة عن الوعي ومنزهة عن الذات، وليس بالمستغرب في مذهب هارتمان أن يكون للإرادة قصد دون أن يكون لها وعي وشعور بما تقصد إليه؛ لأن الغريزة الحيوانية - وهي وليدتها البارزة - تقصد إلى غاية ولا تعي ما تقصد إليه.

وليس الله في رأي شبنجلر 1880-1936 إلا «إرادة» على عادة الألمان المحدثين في ترجيح الإرادة على الفكرة، ففي كلامه عن كيان الروح من كتابه «انحدار الغرب» يقول: «إن الله بالنسبة إلينا - الله الذي هو سعة العالم والذي هو القوة الكونية، والذي هو الفعال الوهاب على الدوام، والذي ينعكس من فضاء العالم إلى فضاء الروح القائم بالخيال، فلا تحسه بالضرورة إلا حضورا واقعيا - هو ولا مشاحة إرادة، ويقترن بالثنائية المجوسية في العالم الأصغر وثنائية الروح والنفس وثنائية فوما وسيكي اليونانيتين - ثنائية لازمة من الله والشيطان، أو من أرمزد وأهريمان عند الفرس، ويهوا وبعلزبوب عند اليهود، والله وإبليس عند المسلمين، أو ثنائية الخير المطلق والشر المطلق بالإيجاز، ولتلاحظ فوق هذا كيف يبهت هذان الضدان معا في إحساس الغرب بالوجود، وعلى قدر ما تتراءى الإرادة في الصراع القوطي على السيادة بين الذهن والعزيمة لتقرير مركز للوحدانية الروحية - تضمحل صورة الشيطان من الدنيا الواقعة، أما في طراز القرن الثامن عشر فوحدة الوجود التي انعكست على العالم الخارجي من عالم النفس أسفرت عن التقابل بين كلمة «الله» وكلمة «الدنيا» ودلت تمام الدلالة على ما يراد بالتقابل بين الروح والإرادة، وهي القوة التي تحرك كل ما يقع تحت سلطانها، ولا استثناء للإلحاد من هذا الشعور؛ فإن الملحد أو الدارويني الذي يتكلم عن الطبيعة التي تنظم كل شيء وتنتخب ما تشاء وتوجد وتفني ما تشاء لا يخالف المؤمن بالله من أبناء القرن الثامن عشر إلا بمقدار لفظة واحدة؛ لأن الشعور بالدنيا لم يطرأ عليه تغيير، وما هو إلا أن يتحول العقل من الدين إلى العلم حتى تبدو لنا الأسطورة المزدوجة في إصلاح الطبيعيات والنفسيات، فالقوة حين تقابلها المادة والإرادة حين تقابلها الرغبة أو الشهوة لا تستند إلى تجربة خارجية وإنما تستند إلى شعور حيوي كمين، وما الداروينية إلى صيغة سطحية لهذا الشعور، ولن تتخيل إغريقيا يستخدم كلمة الطبيعة بالمعنى الذي يستخدمه البيولوجيون كأنها نشاط مطلق منظوم، وما قولنا إرادة الله إلا من قبيل الحشو والتكرار؛ لأن الله - أو الطبيعة كما يقول بعضهم - ليس إلا إرادة، وقد نفضت فكرة الله بعد عهد الإصلاح ملامح الشخصية والحسية وأوشكت أن تتمثل كأنها اتساع الفضاء الذي ليس له انتهاء، فأصبحت بمثابة الإرادة الكونية المتعالية على الكون، ولهذا وجب أن يتنحى فن التصوير منذ حوالي سنة 1300 لفن الموسيقى؛ إذ هو الفن الوحيد القادر في النهاية على التعبير الواضح عما نشعر به من فكرة الله ...» •••

وكذلك يتلاقى هؤلاء الفلاسفة المتفرقون عند توكيد الإرادة في الحقائق الكونية والصفات الإلهية، فالإرادة - أو «السلطة» بعبارة أخرى - هي الحقيقة الكبرى في أصول الوجود.

Shafi da ba'a sani ba