وكان قبل ذلك بمدّة اشتهر مبتدع آخر نصراني من عرب الشام اسمه منيم (Monoimos) كان هذا كطاطيانوس (Tatien) تلميذًا للقديس يستينوس النابلسي والفيلسوف الشهيد لكنّه خلط بين الآراء الفلسفية والإيمان كما ذكر تاودوريطوس في كتاب الهرطقات (Fab. Hear. I.١٨) واتضح مؤخرًا في كتاب القديس هيبوليتس الشهيد المدعو بفيلوسوفومينا (Philosophoumena) ومما يثبت ارتقاء النصرانية واتسلع دائرتها في بادية العرب أنّ منها خرج أول قياصرة الرومان النصارى. ونريد به فيلبّوس العبي الذي ملك على رومية من السنة ٢٤٤ إلى ٢٤٩. وكان أصله من بصرى ثم تجنّد في جيوش الرومان ولم يزل يتقلّب في كل مناصب الجنديّة حتى صار كبير رؤساء العسكر ووزير الحرب وصحب غرديان الثالث في محاربة الفرس. إلا أن الجند شغبوا على الملك في طريقه وأقاموا بدلًا منه فيلبوس العربي. وكان فيلبوس نصرانيًا كما تشهد على دينه الآثار التاريخية ورسائل أوريجانوس أليه. وقد زعم البعض أن غورديان قتل بإغرائه ألا أن غيرهم ينكرون ذلك بتاتًا ولعله لم يخل من الطمع فلم يدافع عن مولاه كما وجب عليه ولذلك اخبر أوسابيوس القيصري (ك٦ ف٣٤) وصاحب التاريخ الاسكندري (Chro-. Nicon Alexandrinum) أنّه لما عاد راجعًا بالمعسكر إلى رومية مرّ بانطاكية وأراد أن يشترك مع النصارى في موسم عيد الفصح إلا أن أسقف المدينة القديس بابيلاس تصدى له ولم يسمح له بمشاركة المرمنين إلا بعد اعترافه بخطاياه وتقدمته التوبة عنها وكانت أيام فيلبّوس العربي أيام راحة وعمران للدولة الرومانية وفي عهده أقيمت الأفراح العمومية في كل المملكة بنسبة مرور ألبف سنة على مدينة رومية ومن أعماله تشييد مدينة "عمّان" في حوران ودعاها باسمه "Philippopolis" ونالت بمهمته النصرانية سلامًا مؤقتًا فانتشرت أي انتشار إلى أن فتك به واحد القوّاد المدعو دقيوس وقتله مع ابنه وتلّى الأمر مكانه.
قال أوسابيوس (ك٦ ف٣٩) أنَّ دقيوس هذا أثار على النصارى اضطهادًا دمويًا بغضًا بفيلبوس سلفه. وفي تاريخ أوروزيوس (أوروشيوس) من كتبة القرن الخامس (ك٧ ف٢١) أنّ دقيوس قيل فيلبوس وابنه بسبب تنصّرهما وعليه يكون موتهما استشهادًا.
وقد جمع البولنديون في أعمال القديسين (Acta SS.Janv.، II، ٦١٧ - ٦٢١) عدّة شواهد تثبت ذلك. فكفى به فخرًا لبلاد العرب أن أول قياصرة رومية المتنصرين كان مولده في ربوعها وسبق قسطنطين في تنصره.
كل ما سبق قد تمّ قبل القرن الرابع فلما نالت النصرانية حريتها وخرجت ظافرة من الدياميس زاد الدين بذلك رونقًا وعزًّا في بادية العرب وكافة مدنها ولنا أدلة على ذلك في الكنائس العديدة التي تشيّدت مذ ذاك العهد بكل أنحاء حوران والصفا واللجا وجولان والبلقان التي وجد كثيرًا من بقايا الجليلة الأثريون الذين تجوّلوا في تلك الجهات كوادنغتون (Waddington) ودي فوكويه (de vogue) ووتشتين (Wetzstein) وراي (Rey) ودوسو (Dussaud) وآباء رهبانيّتنا. وكلهم وصفوا هذه الآثار ورسموا تصاويرها وذكروا تواريخها ومن هذه الآثار مئات من الكتابات اليونانية واللاتينية وجدت في نيف ومائة موضع فيها أسماء كنائس وأساقفة من النصارى وعليها رموز نصارنية لا شك فيها كالصليب في هيئات مختلفة وأول حروف اسم السيد المسيح والانجر وسعف النحل والسمكة. ومنها ما يحتوي شعارًا دينيًا صريحًا كآية التوحيد "الله واحد هو" وتسبحة السيد المسيح "قد انتصر المسيح" أو "المسيح إله هو". وبين تلك الكتابات كتابة عربية سبقت الإسلام خمسين سنة بأحرف عربية تاريخها سنة ٤٦٣ لبصرى أي ٥٦٨ للمسيح وجدت في حرّان وجاء فيها ذكر مشهد أقيم تذكارًا للقديس يوحنا المعمدان على يد أحد شيوخ القبائل العربية المدعو شراحيل وكذلك توفرت شواهد المؤرخين الذين أبقوا لنا ذكر للنصرانية ولامورها الدينية والمدينة في بادية الشام. فمنها جداول الأساقفة الذين حضروا المجامع المسكونية الكبيرة التي سبقت الاسلام وبالأخص الأربعة الأولى في نيقية والقسطنطينية وافس وخلقيدونية فهناك أسماء عدة أساقفة أتوا من مدن بادية الشام وصادقوا على أعمال المجامع بتوقيعهم وأسماء بعضهم عربية محض كالحارث أو منقولة عن العربية كتاودولس تعريب عبد الله وثاودورس تعريب وهب الله.
1 / 9