القسم الأول
في تاريخ النصرانيّة وقبائلها في عهد الجاهليّة
الفصل الأول
تاريخ النصرانية في جزيرة العرب
هيّا بنا الآن بعد هذه المقدمات الوجيزة نبحث عن النصرانية وآدابها بين العرب الجاهلية وهما البحثان اللذان جعلنا الفصول السابقة كتمهيد لهما.
الباب الأوَّل
مبادئ النصرانية بين العرب
قلنا في مطلع كلامنا أنَّ الأفادات التي خلّفها كتبة العرب عن الأديان الشائعة في جزيرتهم قبل الإسلام نزرة قليلة. وهذا القول يصحُّ أيضًا في النصرانيّة مع أنها كانت أقرب إليهم عهدًا فإذا ذكروا الدين المسيحي لا يكادون يذكرون من تاريخه غير شيوعه في بعض القبائل. هذا إذا اعتبرت فصولهم الوجيزة التي خصّوها بالأديان. بيد أنهم في عرض كلامهم عن بعض عادات العرب وقصصهم وأمثالهم لهجاتهم حدا بهم الامر إلى أن يأتوا بمعلومات أخرى عديدة تجدها متفرقة متشعّثة في تآلفهم لم يجمعها حتى الآن العلماء المستشرقون لإنشغالهم بالبحث عن آلهة العرب وعن فك رموز ديانتهم القديمة ونشر ما وجد السائحون في بلادهم من الكتابات الحجريّة في اللغات الحميريذة والنبطيّة والصفوية فضلًا عن اليونانيّة واللاتينية أو ما استخرجوه بالحفر من الآثار بعد مخاطرتهم بالحياة.
وكذلك ورد في كتب نصارى أهل الشرق ولا سيما قدماء الروم والسريان وبعض الكتبة اللاتينيين فوائد شتى عن النصرانية في أنحاء العرب دوّنوها في معرض رواياتهم التاريخية وأوصافهم الاجتماعية ورحلهم العلمية وفي أخبارهم عن أولياء الله القديسين الشهداء أو النّساك المتعبدين في بوادي العرب مما رأوه بالعيان أو استفادواه من شهود عيانيين أو كتبة موثوق بهم فهذه المعلومات أأيضًا عظيمة الشأن غالية الأثمان لم تجمع حتى اليوم تمامًا وإنما روى منها بعض الكتبة فصولًا تحتاج على توسيع وتكملة نخص منها بالذكر الكتب والمقالات الآتية ما عدا ما ذكر من ذلك في التآليف التي عدّدناها سابقًا: ١ أعمال البولنديين: مقالات الأب كربنتيه اليسوعي في النصرانية بين العرب ١- E.Carpentier S.j.: De SS. Aretha et Ruma Commentarius (Acta SS.، X، Octob.، ٦٦١ - ٦٩٧) .
٢ أصول النصرانية في بلاد العرب للعلامة رَيْت.
٢- Wright: Early Christianity in Arabia، London ١٨٥٥.
٣ الشرق المسيحي للأب لوكيان ٣- Lequien: Oriens Christianus.
٤ دي ساسي: مقالة عن تاريخ العرب قبل محمّد ٤- Le Bon de Sacy (S.): Memoire sur l'Hisloire des Arabes avant Mabomet.
٥ تاريخ الدولة العربية بين المسيح ومحمد.
٥- J.J Reiskii: Prima linea Historia Regnorum Arabicorum inter chris-tum et Modammedem.
اعلم أن أقدم الآثار النصرانية كما لا يخفى الأناجيل الأربعة وتاريخ أعمال الرسل للقديس لوقا ورسائل بعض التلاميذ الرب الأوّلين. وكلها من القرن الأول للمسيح كما يقرّ به معظم العلماء من الإباحيين فضلًا عن المؤمنين وإن كان أولئك يخالفون الكاثوليك في تعيين سنة كتابة هذه الأسفار وأصحابها. فهذه الآثار لا تخلو من الدلائل على أن العرب نالوا من أنوار النصرانيّة منذ بزوغ شمسها.
ولعا أول من استحقّ أن ينظم من العرب بين تبعة السيد المسيح أولئك الشيوخ الذين عرفوا بالمجوس الذين فأتوا إلى بيت لحم وأهدوا الرب ألطافهم وسجدوا له في مهده كما أخبر متى في إنجيله (ف٢) . إما كونهم من العرب أو على الأقل يعضهم فلنا على ذلك عدة بيّنات ترجح هذا الرأي إن لم تجزم به قطعيًا. فمن ذلك أقدم نصوص الآباء والكتبة الكنسيين من القرن الثاني للمسيح إلى القرن الخامس الذين يجعلونهم عربًا كالقديس يوستينوس في القرن الثاني في مباحثه مع تريفون. وترتوليان المعلم في كتابيه ضد اليهود (ف٩) وضد مرقيون (ك٣ف١٣) . وكالقديس قبريانوس في القرن الثالث في ميمره عن كوكب المجوس. وكالقديس أبينانوس في القرن الرابع في شرحه لدستور الإيمان (عدد٨) . والقديس يوحنا فم الذهب معاصره في الميمر الثاني على شرح الإنجيل متّى.
1 / 1
وهكذا فسر هؤلاء الكتبة آية أشعيا النبي عن المسيح (ف٦٠ ع٦): "كثرة الإبل تغشاك بكران مدين وعيفة كلذهم من شبأ يأتون حاملين ذهبًا ولبانًا يبشّرون بتسابيح الرب" وسبق داؤد فقال (مز ٧١): "ملوك سبأ يقربون له العطايا". فإن مدين وعيفة وشبأ كلها تدل على نواحي العرب.
وعليها تدل أيضًا الألطاف التي قدّمها هؤلاء المجوس للمسيح أي الذهب واللبان والمر وكلّها من مرافق بلاد العرب. فإن ذهب أنحاء العرب كان مشهورًا وتنبأ داؤد بتقدمته للمسيح (مز ٧١) فقال: "يؤدون إله من ذهب شبأ". أما اللبان والمرّ فلا يكادان يستخرجان من غير جزيرة العرب فيتّجر بها أهلها كلها شهد على ذلك قدماء الكتبة بعد سفر التكوين (٣٧:٢٥) .
ثم يؤيد هذا الرأي قول المجوس في الإنجيل لهيرودس بأنهم رأوا نجم المسيح في لاشرق فأتوا ليسجدوا له. فقولهم "في الشرق" يدلّ على بلاد العرب أكثر من سواهم لوقوعها شرقي فلسطين فضلًا عن ركوب العرب يعرفون بالأسفار المقدّسة ببني الشرق (وبالعبرانية..... بمعناها) بل شاع هذا الاسم عند الرومان واليونان فاشتقوا منه Sarraceni ووزد على ذلك أنّ النجم الذي رآه المجوس هو الكوكب الذي وسبق أنبأهم به بلعام في مشارف مؤاب (سفر العدد ٢٤:١٧) لما قال: "أنه سيطلع كوكب من يعقوب ويقوم صولجان من اسرائيل". فتحققت النبوءة حيث تنبأ بها بلعام مرغومًا فتناقل العرب نبؤته ابنًا عن أب وراقبوا كوكبه حتى رأوه. ولا بأس من كون هؤلاء القادمين إلى مهد المسيح يدعون مجوسًا. فإن هذا الاسم كان يطلق عند العبرانيين على حكماء الشرق عمومًا وكثيرًا ما أثنى الكتاب الكريم على حكمه العرب في سفر أيوب وسفر الملوك الثالث (٣٠:٤) وسفر باروك (٢٣:٣) . وقد شهد كتبة اليونان بأنّ فيثاغورث الفيلسوف رحل إلى جزيرة العرب ليأخذ الحكمة عن أهلها. بل صرّح بلينيوس الطبيعي بأن بلاد العرب كانت بلاد مجوس.
وفي الإنجيل الطاهر شاهدٌ آخر على سبق العرب في معرفة السيد المسيح وذلك ذكر المبشّرون متى (ف٤ عدد ٢٤ ٢٥) ومرقس (٧:٣) ولوقا (١٧:٦) في جملة الجموع المتقاطرة إلى استماع تعاليم الرب أهل آدوم والمدن العشر وما وراء الأردن. فلا شك أن صيته يكون بلغ العرب القاطنين في تلك الجهات. بل ذكر الإنجيل (متى ٣١:٨ ومرقس ٣١:٧) أن المسيح عبر الأردن وتجوّل في المدن الواقعة ما وراء ذلك النهر ومرّ بالمدن العشر (وضع الآيات في بقعة الجرجاسيين. وكان أهل الحضر والمدن من العرب يسكنون تلك الأنحاء فلا يقبل العقل أنهم لم يقتبسوا شيئًا من أنوار ابن الله الكلمة.
ثم ما لبث العرب أن نالوا نصيبًا من الدعوة المسيحية وذلك يوم حلول الروح القدس على التلاميذ في العليّة الصهيونيّة كما اختبر القديس لوقا في سفر الأعمال (ف٢) فإنه صرّح بأنّ العرب كانوا في جملة الذين عاينوا آيات ذلك اليوم الشريف وسمعوا الحواريين يتكلّمون بلغتهم العربية. فلا جرم أنّ بعضًا منهم كانوا في عداد الثلثة الآلاف المصطبغين ذلك اليوم (أعمال ٤١:٢) فلما عادوا إلى بلادهم نضروا بين مواطنيهم ما رأوا وسمعوا من أمر المسيح وتلاميذه.
وبعد مدة قليلة أثار اليهود على تلامذة الرب تلك الاضطهادات التي ذكرها صاحب الأعمال (ف٨) فكانت على شبه الرياح التي تقوي الشجرة النامية وتؤصل جذورها في الأرض وتنقل ب١ذورها إلى أمكنة أخرى فتزداد وتتوفّر. وأول من يذكر من الرسل أنه دخل بلاد العرب هو الإناء المصطفى القديس بولس فإنه أخبر عن نفسه في رسالته إلى أهل غلاطية (ف١ع١٧) أنه بعد اهتدائه إلى الإيمان بظهور السيد المسيح له على طريق دمشق واعتماده على يد حنانيّا التلميذ الذي هرب من دسائس اليهودإلى جزيرة العرب حيث أقام مدة. فمن البديهي أنّ ذلك الرسول الذي خصّه الله بدعوة الأمم باشر منذ ذاك الحين بالتبشير إلى النصرانيّة من رآهم من العرب مستعدين لقبول دير الخلاص لئلا يحل به ذاك الويل الذي كان يوجس منه فزعًا حيث قال (١ كور ١٦٩) الويل لي إن لم نبشر. عليه فنصادق على قول الذين يجعلون بولس الرسول كأحد رسل العرب. وقد عدّه بعض كتبة الروم كأول الدعاة على المسيح في بصرى حاضر حوران.
1 / 2
ولما جرى نحو السنة خمسين للمسيح افتراق الرسل إذ ساروا إلى قطار المعمور ليقوموا بمهمة التبشير التي أمرهم بها سدهم كان لبلاد العرب نصيب حسن في هذه القسمة المباركة فإن التقاليد القديمة تتواصل وتتفق على أن بعض الرسل تلمذوا أمم العرب وقبائلهم من جهات مختلفة وقد جمع العلّامة يوسف السمعاني في مكتبته الشرقية في المجلد الثالث القسم الثاني (Bibl. Or. III٢، I-٣٠) كثيرًا من شواهد كتبة اليونان الشام وجهات طور سيئا واليمن والحجاز والعراق يذكرون منهم متى وبرتلماوس وتدّاوس ومتّيّا وتوما. وقد نقل بعض هذه الشواهد المؤرخين المسلمون نفسهم كالطبري في تاريخه (ج١ص ٧٣٧ ٧٣٨) وأبي الفداء في تاريخه (٣٨:١ والمقريزي في الخطط (٤٨٣:٢) وابن خلدون في تاريخ العبر (٤٧:٢) والمسعودي في مروج الذهب (١٢٧:١) . هذا فضلًا عن بعض تلاميذ الرسل كفيليبس الشمّاس وتيمون وادي أو تدّاي ممن تناقل الرواة خبر بشارتهم بين العرب.
وكفى دليلًا بهذه الشواهد المتعددة على أن الدعوة النّصرانية التي امتدّت إلى أقاصي المعمر لم تهمل جزيرة العرب القريبة بسكانها امتزاج الماء بالروح فيعاملونهم ويتاجرونهم.
وقد ذكر القديس ايرونيموس في شروحه على نبوة ارميا (ف٣١) ونبوة ذكريا (ف١١) أنّ أسواقًا سنويًا كانت تقام قريبًا من سيحم (نابلس) يأتي إليها عدد عديد من نصارى ويهود ووثنيين يقصدونها للمتاجرة من بلاد الشام وفينيقية والعرب. فلا تتعدى إذن طورنا إن أكدنا انتشار النصرانيّة في بلاد العرب منذ عهد الرسل. وبذلك تحققت نبؤات الأنبياء الذين سبقوا وتنبّأوا باهتداء العرب وإيمانهم بالمسيح. قال النبي أشعيا بعد وصفه العجيب للسيد المسيح (ف١١ ع١ ١٠) ذاكرًا للشعوب التي تقبل شريعته فجعل منها آدوم ومؤاب. وكرر ذلك في الفصل ٤٢ وعدّد قبائل قيدار وبلاد سلع (Petra) وفي الفصل ٦٠ ذكر بين المستنيرين بأنوار أورشليم وملكها الموعود مدين وعيفة وسبأ وقيدار والنبط وفيه يذكر قدومهم على المسيح ليهدوه الطافهم من ذهب ولبان.
وكان النبي داؤد (في مزموريه٦٧ ع٣٢ و٨٠:٧١ ١٠) سبق أشعيا في ذكر سجود العرب للمسيح وطاعتهم له. ومثلما ارميا في فصله التاسع حيث ذكر "افتقاد الرب للأمم المختونين مع الغلف ... أدوم وبني عمّون وموآب وكلّ مقصوصي الزوايا الساكنين في البريّة".
وفي السنة ٧٠ للميلاد تمت نبوة المسيح عن خراب أورشليم فلم يبق فيها حجر على حجر وتفرّق بقايا اليهود شذرمذر بعد أن قتل منهم وسبي الألوف ومئات الألوف الّا أن من كانوا تنصّروا منهم كانوا بأمر الرب سبقوا أو خربوا من المدينة وعبروا الأردن وسكنوا في مدن العرب التي هناك كما أخبروا أسابيوس المؤرخ (١. فاستوطنوا تلك الأسقاع وكان يرعاهم أساقفة من جنسهم. وقد وجد أصحاب الآثار في أيامنا عددًا دثرًا من كتبهم الدينيّة كالأناجيل الأربعة وبعض أسفار التوراة وقطعًا طقسية وأناشيد وصلوات وغير ذلك مما يشهد على نصرانيتهم وسكناهم زمنًا طويلًا في تلك النواحي. وهذه البقايا كانت مكتوبة باللغة الفلسطينية أي الآرامية الشائعة في فلسطين. ولا ريب أن العرب الذين حلّ بينهم هؤلاء النصارى أخذوا شيئًا من تعاليمهم واستضاؤوا بأنوار دينهم وإذا استفتينا أقدم آثار النصرانية وما كتبه آباء الكنيسة الأولون في القرون الأولى للميلاد وجدناهم يذكرون الدعوة المسيحية في جزيرة العرب إما تعرضًا وإما تصريحًا فمن تنويههم بذلك قولهم بأن الإيمان المسيحي "منتشر في العالم كله" فإن صح هذا القول في البلاد القاصية حتى الهند والعجم وجزائر البحر أفلا يكون أيضًا صح بالحري في بلاد العرب المجاورة لمنبع الدعوة المسيحية. فترى القديس مرقس في آخر إنجيله (٢٠:١٦) مؤكدًا بأن تلاميذ الرب "خرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات" وبعده بقليل كان يشكر بولس الرسول أهل الرومية في رسالته غليهم (٨:١) "على أن إيمانهم يبشروا به في العالم كله". وفي رسالة القديس اغناطيوس النوراني تلميذ الرسل إلى أهل أفسس (PP. GG.، V، col. ٦٤٧) يذكر "الأساقفة الذين يرعون المؤمنين في العالم كله ويتفقون جميعًا بالإيمان". ومثله معاصره القديس بوليكربوس الذي كان يدعو المسيح "راعيا
1 / 3
ص للكنيسة الكاثوليكية المنتشرة في العالم كله" (ibid.، col. ١٠٣٥) فهذه النصوص وغيرها كثيرًا تثبت صريحًا انتشار الدين المسيحي في الألم كله فتشمل أيضًا بلاد العرب ولولا ذلك لما أمكن القديس أوغسطينوس أن يقول في شرحه على المزمور ٦٦ (PP.LL.T.٣٦،COL.، ٦٦٩) "ونحن الكاثوليك منبثون في الأرض كلها لأننا نعلن بكل مكان ما للسيد لمسيح من المجد ونشترك به" ولما استطاع قبله كيرس الأورشليمي أن يقول في تعليمه الثامن عشر (PP.GG.،T. ٣٣،COL.١٠٤٣): "تدعى كنيستنا كاثولوكية لأنها منتشرة في كل المسكونة من أقاصي تخوم الأرض إلى أقصى حدودها". وسبقها القديس قبريانوس فقال في كتاب وحدة الكنيسة (PP. LL.، IV.COL.٥٠٢): "أن الكنيسة تلقي أشعتها في كل المعمورة". وقال معاصر القديس إيريناوس في كتابه ضد المراهقات (PP. GG. VII>COL. ٥٥٠): "أن الكنيسة المنتشرة في سائر العلم قد ورثت الإيمان من الرسل وحفظته بكل حرص".
وزاد هؤلاء إيضاحًا في أواسط القرن الثاني للمسيح القديس يوستينوس الشهيد من أهل نابلس في مباحثته مع تريفون اليهودي (PP. GG.، VI. COL.٧٥٠) فعدّ بين دانوا بدين المسيح "الساكنين في الخيم وأهل البادية" قال: "ليس مطلقًا جنس من البشر سواء كانوا من اليونان أو البرابرة وبايّ اسم تسمّوا حتى العائشين في العربات (الاسقيثيين) والساكنين في الخيم الذين يرعون المواشي وأهل البادية الذين لا يحلون في بيت الّا وبينهم جموع يقدمون الصلوات والقربات للرب باسم يسوع المصلوب" وقال إيريناوس معددًا الشعوب التي دخلت بينهم النصرانية (PP. GG. VII. COL. ٥٥٤) وقد دعا العرب بأهل الشرق كما روى مفسّروه: "هذا الإيمان المسيحي هو اليوم منبث في العالم كله ... فترى الألسنة مختلفة والنفس واحدة والقلب واحد سواء اعتبرت آل جرمانية أو الايبريين أو القلتيين أو سكّان الشرق أو مصر أو ليبية والأمم التي في أواسط الدنيا فكلهم يعتقدون اعتقادًا واحدًا يشبه إيمانهم التي تضيء العالم كله وهي واحدة".
وللمعلم ترتيليان في أوائل القرن الثالث نصوص متعددة يؤكد انتشار النصرانية بين كل شعوب زمانه مهما كانت بعيدة أو مجهولة فما قولك بالعرب؟ قال في كتابه إلى الأمم (Ad Nationes، c.٨) "تأملوا أنه لا يوجد اليوم أمة إلا ودخلت النصرانية (non ulla gens non christiana) . وفي الفصل السابع من رده على اليهود يعدد في جملة المتنصرين ليس فقط الأمم الخاضعة للرومان ولكن غيرها كثيرة كالسرماتيين والداقيين والجرمانيين والاسقيثيين وقبائل مجهولة وأقطار متفرقة وجزائر البحر ففيها كلها يعرف اسم المسيح وفيها يملك" وكثيرًا ما دعا الكتبة جزيرة العرب باسم الهند لاسيما الجهات اليمن وقد شاع هذا الاسم بهذا المعنى (اطلب البولنديين في المجلّد العاشر من أعمال القديسين من شهر ت١ص ٦٧٠) . وإليها أشار القديس يوحنا فم الذهب في رده على اليهود (PP.GG.، XXX. ٥٠٠) قال: "انظر بأي سرعة انتشرت الكنيسة في كل أطراف المسكونة وبين كل شعوب وذلك بمجرد فضل الاقناع حتى أن أممًا كثيرة تركت أديانها وتعاليم أجدادها وشيدت هياكل لتعبد فيها الرب فمنها ما هو واقع في ممالك الرومان كالاسقيثيين والمغاربة وأهل الهند ومنها ما هو خارج عن تخوم الرومان إلى جزائر بريطانية وأقاصي العالم".
وبعضهم قد دعوهم صريحًا باسم العرب أو الاسماعليين.
1 / 4
قال ارنوبيوس في القرن الثالث للمسيح يذكر الشعوب الوثنية التي بشّر بينها الرسل فأنشئت الكنائس لمن تنصّر منهم (ك٢ ف٥ و١٢): "انظر العجائب التي جرت في أنحاء المعمورة منذ ظهور المسيح حتى أنه لا يكاد يوجد الآن أمّة عريقة بالهمجية إلّا لطّفت خشونتها محبّة به واخضعت عقلها للإيمان بتعاليمه فاتفقت على ذلك أجيال الناس المتباينة المختلفة طباعًا وآدابًا. ومما نقدر أن نحصيه من هذه الشعوب أهل الهند والصين والفرس والماديين والذين يسكنون في بلاد العرب ومصر وجهات آسية وسوريا. وفي كل الجزائر والأقاليم".فترى أنه أحصى بلاد العرب في جملة دان للمسيح في ذلك العهد. وقد ذكرهم المؤرخ سوزمان (PP.GG.T، ٦٧، ١٤٧٦) في القرن الرابع وأفاد "أن بعض قرى العرب ودسا كرههم يوجد فيها أساقفة". وكذلك صرّح بذكرهم تاودوريطس في القرن الخامس في كتابه المعروف بدواء اضاليل اليونان (PP. GG. T، ٨٨، P. ١٠٣٧) قال: "ليس فقط قد خضعت للمسيح الأمم الخاضعة لشرائع الرومان كالحبش المتخمين لتيبة وقبائل الاسماعليين ... بل غيرهم من الأمم احنوا رؤوسهم لتعاليم الصيادين وشرائع الإنجيل كالسرماتيين والهنود والعجم والصينيين (Serae) والبريطانيين والجرمانيين". وقال مثل ذلك في محل آخر في كتابة المسمى التاريخ الرهباني (PP. GG. T،. ٨٢، P. ١٤٧١) .
الباب الثاني النصرانية بين عرب الشام إذا نظرت في خارطة إلى بحر الشام وحدّدت مدينتيه الساحليتين طرابلس شمالًا وعكّا جنوبًا ثم سرت منها على خطّين متوازيين على الشرق بلغ بك المسير بعد مرحلتين من طرابلس وثلاث إلى أربع مراحل من عكّا إلى مفارز متّسعة تمتد على مدى البصر إلى جهة تدمر فالفرات شمالًا وإلى مشارف الشام فاللجا وتلال الصفا حتى جبال حوران وسهول البلقان جنوبًا فكل تلك النواحي الرحبة الأرجاء التي تقيس نحو أربعمائة كيلو متر طولًا مثلها عرضًا تعرف اليوم ببادية الشام.
ولم تكن هذه البادية في سالف الأجيال قفرة قليلة السكان لا تكاد تجد فيها كاليوم غير قرى معدودة أو بعض أحياء البدو الذين يتنقلون فيها مع مراشيهم انتجاعًا للمراعي. وإنما كانت بعد تملك الرومان عليها أوائل التاريخ المسيحي أصبحت كروضة غنّاء شيد فيها أصحابها المدن العامرة لسكنى الأهلين وابتنوا الحصون الحريزة تأمينًا للطرق وعزّزوا الزراعة والفلاحة وانبطوا الآبار وحفروا الصهاريج لجميع مياه الأمطار وخدّدوا القني لسقي المزروعات. والآثار الباقية من هذه الأعمال إلى يومان تنطق بعمر أن تلك الأصقاع وحضارتها الراقية.
أما سكّانها فكانوا من عناصر شتى بينهم الرومان المستعمرون لا سيما من الجنود الذين اتمّوا مدّة خدمتهم ثم جالية اليونان من بقايا الدول السابقة منذ عهد الاسكندر والسلوقيين ثم الوطنيّون والفنيقيّون الذين احتلوا تلك البلاد لاستثمارها والمتاجرة فيها وكانت تلك الانحاء أوفق ما يتمناه العرب لسكناهم فترى أهل الحضر منهم يسكنون القرى ويتعاطون اشغال الفلاحة. أما أهل الوبر فكانوا يرعون مواشيهم في الأرياف ويرتزقون بلحومها وألبانها وأصوافها. فيها عددهم حتى رسخت قدمهم وصارت إليهم الأمر.
1 / 5
وكان الرومان في بدء احتلالهم يعدّون العرب كخطر على البلاد لما اعتاده أهل البدو من الغزوات وشن الغارات والسلب والنهب فحاولوا غير مرة كسر شوكتهم غير أنهم عرفوا باختيارهم أنهم لا يظفرون بهم ظفرًا تامًا ما لم يستنجدوهم ويستعينوا ببعض عشائرهم لقطع دابر الشّاذ الباقين منهم. فخالف الرومان شيوخ قبائلهم ودفعوا لبعضهم قسمًا من السلطة على بادية الشام بصفة شيوخ أو ملوك فكانوا يتصرفون مع أهل جنسهم تصرّف السيد مع المسود وربما زاحموا الدولة الرومانية كلما كانوا يشعرون بانتقاض حبلها أو ضعف ولاتها. فترى النبطيين منهم أواسط القرن الأوّل للمسيح متقلدين الحكم على دمشق نفسها كما ورد عن الحارث ملكهم في رسالة بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل كورنتيه (٣٢:١١) وتبعه في الحكم غيره من النبط. وقد أفادنا تاقيتس المؤرخ في تاريخ طيطس بأن الرومان كانوا اتخذوا في مقدمة جندهم كتيبة من العرب كانوا يتقدمون الجيش في محاربة أورشليم على عهد وسبسيانوس وابنه طيطس. بل كان الرومان يدفعون لبعض الفرق العربية وظائف معلومة ليقوموا بحراسة التخوم الرومانية من جهة البادية. وقد اخبر اميان مرقلينوس (Ammien Marcellin، XXV،٦) في ترجمة يليانوس الجاحد بأن بعض شيوخ هؤلاء المتحالفين قدموا على القيصر وشكوا إليه تأجيل عمّاله في دفع رواتبهم فغضب يليانوس وزجرهم بقوله أنه: أعدّ لهم حديدًا (لقتالهم) لا هبًا (لأجرتهم) . فخرجوا ناقمين على الرومان ولحقوا بجيش العجم وحاربوا يليانوس مع جيش سابور فكانت عليه الدولة.
أما الديانة التي كانت عليها أمم بادية الشام وقبائلها فكانت خلطًا من أديان الوثنية فكان اليونان والرومان أتوا بمعبوداتهم المنوطة بالسيارت كالمشتري وزحل وعطارد والزهرة والمريخ فأكرموها اكرام أجدادهم ومواطنيهم لها في أثينة ورومية.
ونشر الفينقيّون عبادة تمّوز وعشترون والبعل. أما النبط فكانوا يفضلون ذا الشرى (Dusares) واللات وشمس ويتع. ثم اختلطت هذه العناصر المتباينة وتداخلت أديانهم ببعضها وأكرم كل قوم معبودات القوم الآخرين.
وفي غضون ذلك ظهرت النصرانية وقامت لمناهضة تلك الأديان كلها دون أن ترضى أن تختلط بها أو تبادلها بشيء والمرجح أن الدين المسيحي دخل بلاد العرب من غربي الجزيرة من جهة الشام حيث انتشرت بعد صعود المسيح بزمن قليل كما ورد ي سفر الأعمال. ولا يقبل العقل أن بولس الرسول رحل إلى الربية كما جاء في رسالته إلى أهل غلاطية. (١٧:١) دون ان يكون سبقه إليها أحد من المتنصرين أو خلّف فيها أثرًا من دينه.
والظاهر أن النصرانية دخلت أولًا في خاصرة حوران أعني بصرى كما تشير إليه التقاليد القديمة الي تناقلها الكتبة اليونان والسريان ثم العرب المسلمون ومن بعدهم. فقد ورد في جدول دورتاوس الشسوري لتلاميذه السيد المسيح السبعين أن تيمون أحد الشمامسة السبعة المذكورين في سفر الأعمال (٨:٣) نشر الدعوة النصرانية في مدينة بصرى فعدّ كرأس أساقفتها. وفي الروايات التي تداولها الكتبة النصارى عن الرسل وأثبتها السمعاني في مكتبته الشرقية (ج٤ ص١٢٠) أن البعض منهم تلمذوا العرب وخصّوا بهم عرب بادية الشام وحوران كما يظهر من القرائن. وصرّح بالأمر المقريزي في كتاب الخطط والآثار (ج٢ ص٤٨٣) فروى عن متى العشّار "أنه سار إلى فلسطين وصور وصيدا وبصرى". وقال ابن خلدون في تاريخه (١٥٠:٢): "أن برتلماوس بعث إلى أرض العرب والحجاز". أما تدمر وباديتها فذكر سليمان أسقف البصرة في كتابه السرياني المعنون بالنحلة (Budge: Book of the Bee، p.١٠٦) أن يعقوب بن حلفا بشّر فيها.
1 / 6
على أنّ هذه الشواهد في الدعوة النصرانية الأولى في بادية الشام تعم كل عناصر الآهلين ولا تفرز العرب من سواهم فتبقي شكًا في تنصرّهم إلا أن ما يتبع ذلك العهد من الشواهد التاريخية أصرح وأجلى. فقد أفادنا مؤرخو العرب أن القبيلة الأولى التي توات على بادية الشام باسم الرومان إنما كانت قضاعة من قبائل اليمن. ثم غلبتها على الأمر سليح ثم جاءت بعدهما قبيلة غسّان فملكت على تلك الجهات وبقي. ملكها إلى ظهور الإسلام. والحال أن هذه القبائل الثلث قد دانت بالنصرانية على رأي أولئك المؤرخين. قال اليعقوبي في تاريخه (طبعة ليدن ٢٣٤:١) عن قضاعة "أنّ قضاعة أول من قم الشام من العرب فصارت إلى ملوك الروم فملكوهم فكان أول الملك لتنوخ بن مالك بن فهم ... فدخلوا في دين النصرانية فملكهم ملك الروم على من ببلاد الشام من العرب". وكذلك بنوا سليح فقد صرّح بنصرانيتهم المسعودي في مروج الذهب (طبعة باريس ٢١٦:٣) قائلًا: "وردت سليح الشام فتغلّبت على تنوح وتنصّرت فملكها الروم على العرب الذين بالشام" أما نصرانية غسان فهي من الأمور التاريخية الراهنة التي لا يختلف فيها اثنان على أن كاتبًا من البغاددة أغفل اسمه كان تصدّى لنا في هذه المسألة ونشر في المقتبس (٣٨٢:٢) رأيًا خالف فيه جمع المؤرخين وزعم أننا بنسبتنا النصرانية إلى غسان ركبنا شططًا فرددنا عليه بمقالتين ضافيتين نشرناهما في المشرق (٥٥٤:٥١٩:١٠) جمعنا فيها البيّنات اللامعة والشواهد الساطعة التي تثبت تديّن غسّان وأحيائها وملوكها بالنصرانية ولابأس أن يقال غسّان كلها مع امكان وجود بعض أفراد أو عشائر لم يكونوا نصارى فإن الكلام على الأغلبية.
ولإثبات زعمنا أتينا بالأدلة التابعة التي نركن فيها إلى أقوال مؤرخي العرب فقط وكل ذي انتقاد يعلم أنّ كتبة العرب لم يدوّنوا تاريخًا صحيحًا قبل القرن الثامن وإنما نقلنا نصوص كتبة يوثق بهم من يونان ورومان وسريان ممن كانوا معاصر للحوادث التي فصلوا أخبارها وأمكنهم الوقوف على صحّتها أما بالمعاينة أما بصوت العموم.
نصرانية غسّان غسّان قبيلة يمنية قدمت جهات الشام بعد افجار سد وسيل العرم فاستوطنوها ثم تغلبت على أهلها بعد سليح كما سبق فصار إليها الأمر وتبعت قضاعة وسليحًا في نصرانيتهما. والكتبة العرب لسان واحد في إثبات ذلك فإن تتبّعنا آثار النصرانية في كتبهم وجدناهم يذكرون لملوك غسّان الأولين أبنية تدلّ على نصرانيتهم فإن حمزة الأصبهاني في تاريخ الملوك والأنبياء (ص١١٧) يؤكد أن ثاني ملوك غسّان عمرو بن جفنة بني بالشام عدّة ديورة "منها دير هند ودير حالي ودير أيوب" ثم ذكر (ص١١٨) للأيهم بن الحارث بن جبلة أخي المنذر الغسّاني الأكبر أنه "بنى دير ضخم ودير النبوة". ومن المعلوم أن تنصّر الملوك يدلّ عادة على تنصّر رعاياهم. وفي الواقع لا تكاد تجد مؤرخًا عربيًا إلا يشير إلى النصرانية غسّان فالمسعود في مروج الذهب طبعة مصر (٢٠٦:١) وفي كتاب التنبيه والإشراف طبعة ليدن (ص٢٦٥) وابن رسته في كتاب الأعلاف النفسية (طبعة ليدن ٢١٧) وأبو الفداء في تاريخه (٧٦:١) والنويري (Rasmussen،٧٢) وغيرهم لا يدعون في الأمر ريبًا. وقال اليعقوبي من كتبة القرن العاشر للمسيح (في تاريخه ٢٩٨:١): "وأما من تنصرّوا من أحياء العرب فقوم قريش ومن المن طي وبهراء وسليح وتنوخ وغسّان ولخم".
وقال السيوطي في المزهر نقلًا عن كتاب الألفاظ والحروف بأن اللغة العربية لم تؤخذ من قبائل شتى إلى أن قال أنها لم تؤخذ "ولا قضاعة وغسّان وةإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية" يريد بالعبرانية السريانية الفلسطينية.
وممن أشار إلى نصرانية غسّان النابغة في بائيّته التي مدح فيها ملوك غسّان وأثنى على دينهم وذكر عيد الشعانين فقال: محلَّتهم ذات الإِلهِ ودينُهم قديمٌ فما يرجون غير العواقبِ رقاق النعال طِيّبٌ حجزاتهم يحيَّون بالرَّيحان يوم السباسبِ
1 / 7
هذا ما علق في ذهن العرب عن نصرانيّة غسّان ولعلّه كافٍ ليقنع بشيوع دين المسيح في بادية الشام كلّها لأن كلامهم يدلّ على أنَّ النصرانية بتلك الأصقاع ما كانت محصورة ما كانت محصورة في غسّان بل امتدت أيضًا إلى القبائل العربيّة من أهل الحضر والمدر الذين سكنوا في تلك الأنحاء واختلطوا بمستعمريها. فمن أراد أن يتتبّع تاريخ النّصرانية بينها ينبغي عليه أن يجمع ما دوّنه المؤرخون اليونان والرومان والسريان منذ انتشار الدين المسيحي في تلك الجهات إذ لا يجوز القول بأنّ النصرانية لم تؤثر في غير الأجانب المستوطنين فيها وأقوالهم جديرة بالاعتبار وهم معاصرون للأمور التي كتبوا عنها.
فما رواه أوسابيوس القيصري في تاريخه الكنسي (ك٦ ف١٩) أنّ النصرانيّة كانت في مبادئ القرن الثالث للمسيح راسخة القدم وافرة العدد في بصرى خاصرة حوران. ظ وقد أخبر أوريجانوس المعلّم الاسكندري الشهير أنّه رحل ثلاث مرّات إلى بصرى فالمرّة الأولى استدعاه حاكمها الروماني المدعو جاليوس سنة ٢١٧ ليفقهه تعاليم الدين المسيحي وينصره فجاء أوريجانوس إلى بلاد العرب ملبيًا دعوته وبعد أن أتم مرغوب الحاكم وعمّده رجع إلى الاسكندرية. أما الرحلة الثانية فباشرها أوريجانوس كما أفاد أوسابيوس في تاريخه (ك٩ ف٣٣) بسبب بيرلوس مطران بصرى. فإنّ هذا الرجل كان من مشاهير أساقفة زمانه في بلاد العرب ألف رسائل ومقالات دينيّة أو أدبية فصيحة الألفاظ بليغة المعاني لولا أنّه شطّ في كلامه عن لاهوت السيد المسيح فجرى بينه وبين الأساقفة معاصريه جدال وخصام ولما لم يقتنعوا إلى أوريجانوس ليأتي إلى حوران فيباحث بيرلّوس المذكور ويردّه عن ضلاله فعاد المعلّم الاسكندري إلى حاضرة العرب وبعد أن اجتمع باسقفها وتحقّق شططه عرض عليه الرأي الصحيح وأزال ريبه فجاهر بيرلّوس بخصضوعه للإيمان المستقيم أما مجمع من الأساقفة عقد لذلك وانصرف أوريجانوسش راجعًا إلى السكندرية. ففي التئام هذا المجمع دليل واضح على نفوذ النصرانية في بادية الشام ووجود أساقفة في مدنها كجرش (Gerasa) وربّة عمّان (Philadelphie) .
أما المرة الثالثة التي قدم فيها أوريجانوس الإمام إلى بادية الشام فكانت بسبب بدعةٍ ابتدعاه بعض أهلها فزعموا أنّ النفوس تفنى بالموت كالأجساد ثم تبعث يوم الدينونة معها لتنال الثواب عن أعمالها. فلمّا عرف أوريجانوس بهذا القول أسرع إلى تنفيده في مجمع ضم أربعة عشر أسقفًا وبين أمام الجموع الملتئمة لاستماعه حقيقة تعليم الكنيسة فردّ الضالّين وثبّت الإيمان في قلوبهم وانكفأ منصرفًا إلى مركزه (راجع تاريخ أوسابيوس ك٦ ف٣٧) .
1 / 8
وكان قبل ذلك بمدّة اشتهر مبتدع آخر نصراني من عرب الشام اسمه منيم (Monoimos) كان هذا كطاطيانوس (Tatien) تلميذًا للقديس يستينوس النابلسي والفيلسوف الشهيد لكنّه خلط بين الآراء الفلسفية والإيمان كما ذكر تاودوريطوس في كتاب الهرطقات (Fab. Hear. I.١٨) واتضح مؤخرًا في كتاب القديس هيبوليتس الشهيد المدعو بفيلوسوفومينا (Philosophoumena) ومما يثبت ارتقاء النصرانية واتسلع دائرتها في بادية العرب أنّ منها خرج أول قياصرة الرومان النصارى. ونريد به فيلبّوس العبي الذي ملك على رومية من السنة ٢٤٤ إلى ٢٤٩. وكان أصله من بصرى ثم تجنّد في جيوش الرومان ولم يزل يتقلّب في كل مناصب الجنديّة حتى صار كبير رؤساء العسكر ووزير الحرب وصحب غرديان الثالث في محاربة الفرس. إلا أن الجند شغبوا على الملك في طريقه وأقاموا بدلًا منه فيلبوس العربي. وكان فيلبوس نصرانيًا كما تشهد على دينه الآثار التاريخية ورسائل أوريجانوس أليه. وقد زعم البعض أن غورديان قتل بإغرائه ألا أن غيرهم ينكرون ذلك بتاتًا ولعله لم يخل من الطمع فلم يدافع عن مولاه كما وجب عليه ولذلك اخبر أوسابيوس القيصري (ك٦ ف٣٤) وصاحب التاريخ الاسكندري (Chro-. Nicon Alexandrinum) أنّه لما عاد راجعًا بالمعسكر إلى رومية مرّ بانطاكية وأراد أن يشترك مع النصارى في موسم عيد الفصح إلا أن أسقف المدينة القديس بابيلاس تصدى له ولم يسمح له بمشاركة المرمنين إلا بعد اعترافه بخطاياه وتقدمته التوبة عنها وكانت أيام فيلبّوس العربي أيام راحة وعمران للدولة الرومانية وفي عهده أقيمت الأفراح العمومية في كل المملكة بنسبة مرور ألبف سنة على مدينة رومية ومن أعماله تشييد مدينة "عمّان" في حوران ودعاها باسمه "Philippopolis" ونالت بمهمته النصرانية سلامًا مؤقتًا فانتشرت أي انتشار إلى أن فتك به واحد القوّاد المدعو دقيوس وقتله مع ابنه وتلّى الأمر مكانه.
قال أوسابيوس (ك٦ ف٣٩) أنَّ دقيوس هذا أثار على النصارى اضطهادًا دمويًا بغضًا بفيلبوس سلفه. وفي تاريخ أوروزيوس (أوروشيوس) من كتبة القرن الخامس (ك٧ ف٢١) أنّ دقيوس قيل فيلبوس وابنه بسبب تنصّرهما وعليه يكون موتهما استشهادًا.
وقد جمع البولنديون في أعمال القديسين (Acta SS.Janv.، II، ٦١٧ - ٦٢١) عدّة شواهد تثبت ذلك. فكفى به فخرًا لبلاد العرب أن أول قياصرة رومية المتنصرين كان مولده في ربوعها وسبق قسطنطين في تنصره.
كل ما سبق قد تمّ قبل القرن الرابع فلما نالت النصرانية حريتها وخرجت ظافرة من الدياميس زاد الدين بذلك رونقًا وعزًّا في بادية العرب وكافة مدنها ولنا أدلة على ذلك في الكنائس العديدة التي تشيّدت مذ ذاك العهد بكل أنحاء حوران والصفا واللجا وجولان والبلقان التي وجد كثيرًا من بقايا الجليلة الأثريون الذين تجوّلوا في تلك الجهات كوادنغتون (Waddington) ودي فوكويه (de vogue) ووتشتين (Wetzstein) وراي (Rey) ودوسو (Dussaud) وآباء رهبانيّتنا. وكلهم وصفوا هذه الآثار ورسموا تصاويرها وذكروا تواريخها ومن هذه الآثار مئات من الكتابات اليونانية واللاتينية وجدت في نيف ومائة موضع فيها أسماء كنائس وأساقفة من النصارى وعليها رموز نصارنية لا شك فيها كالصليب في هيئات مختلفة وأول حروف اسم السيد المسيح والانجر وسعف النحل والسمكة. ومنها ما يحتوي شعارًا دينيًا صريحًا كآية التوحيد "الله واحد هو" وتسبحة السيد المسيح "قد انتصر المسيح" أو "المسيح إله هو". وبين تلك الكتابات كتابة عربية سبقت الإسلام خمسين سنة بأحرف عربية تاريخها سنة ٤٦٣ لبصرى أي ٥٦٨ للمسيح وجدت في حرّان وجاء فيها ذكر مشهد أقيم تذكارًا للقديس يوحنا المعمدان على يد أحد شيوخ القبائل العربية المدعو شراحيل وكذلك توفرت شواهد المؤرخين الذين أبقوا لنا ذكر للنصرانية ولامورها الدينية والمدينة في بادية الشام. فمنها جداول الأساقفة الذين حضروا المجامع المسكونية الكبيرة التي سبقت الاسلام وبالأخص الأربعة الأولى في نيقية والقسطنطينية وافس وخلقيدونية فهناك أسماء عدة أساقفة أتوا من مدن بادية الشام وصادقوا على أعمال المجامع بتوقيعهم وأسماء بعضهم عربية محض كالحارث أو منقولة عن العربية كتاودولس تعريب عبد الله وثاودورس تعريب وهب الله.
1 / 9
وكان هؤلاء الأساقفة من أهل الحضر يسكنون مدن بادية الشام. إلا أن غيرهم كانوا يسكنون المضارب ويتنقلون مع القبائل الراحلة الناجعة المتقلبة في المجالات ارتيادًا لمراعي ومصالح أبلها. وقد بلغتنا أسماء بعضهم ممن عرفوا بأساقفة الخيام وحضر بعضهم المجامع الكنسية وامضوا عليها.
واشتهر بعض أساقفة البلاد العربية بما خلفوها من الآثار. منهم القديس طيطس رئيس أساقفة بصرى وضع عدّة تآليف أعظمها شأنًا ما كتبه في تزييف بدعة ماني والمانويين وكانت هذه التآليف مفقودة حتى توفّق إلى اكتشافها في عهدنا بعض المستشرقين فوجدوها في السريانية ونشروها مع ترجمتها. وكان طيطس في عهد يليانوس الجاحد ولم يخف من تحذير شعبه عن كفر ذلك القيصر المارق.
واشتهر في القرن الخامس للميلاد خلفه على كرسيه القديس انطيفاتر صاحب مصنفات عديدة في مواضيع دينية شتى كمقالات في أيضاح الإيمان وميامر في الأعياد وردود على الهراطقة.
وفي تاريخ كتبة اليونان كسوزومان (ك٦ ف٣٨) وروفينوس (ك٢ ف٦) وثاودوريطس (ك٤ ف٢٠) وثاوفان في تاريخ سنة ٣٦٩ وغيرهم من مؤرخي القرن الرابع إلى أواخر السادس للمسيح فصول شتى وأخبار منثورة عن أحوال الدين بين عرب الشام تفيدنا علمًا عن سطوة النصرانية واجتذابها لقلوب أهل البادية لاسيما بواسطة السياح والنسّاك الذين كانوا يعيشون في قفارهم ويخدمون الله كملائكة متقمصين أجسادًا هيولية فكانت فضائلهم العجيبة والكرامات التي تجري على أيديهم من شفاء الأسقام وطرد الأرواح النجسة واستمداد النعم الروحيّة والبركات الزمنية تجذب إليهم أهل المدن والقرى فلا يلبثون أن يسمعوا تعاليمهم ويستنيروا بارشاداتهم ويهتدوا على أيديهم إلى جادة الحق فيطلبوا الاصطباغ بمياه المعمودية.
قال سوزمان في تاريخه (Sozomene، HE، VI، C ٣٨) عن عرب الشام: "قد تنصروا كثير من العرب (هو من يدعوهم بالشرقيين) قبل زمان والنس (من ٣٦٤ إلى ٣٧٨) ممن اجتذبتهم إلى الإيمان المسيحي ارشادات الكهنة والرهبان الذين كانوا يعيشون في النسك والزهد في الأنحاء المجاورة لهم عائشين بالقسدلة ومجترحين المعجزات الباهرة". ثم ذكروا سوزمان ما اشرنا إليه سابقًا في دفاعنا عن النصرانية غسّان اعني رجوع قبيلة كبيرة كان زعيمها يدعى زوكوموس (هو ضجعم) فنال له أحد الرهبان بصلواته إلى الله ولدًا ذكرًا فاعتمد هو وكل قبيلته.
وأردف المؤلف ذلك بخبر ماوية ملكة العرب التي حاربت الرومان وغلبتهم واستولت على بلادهم إلى تخوم مصر ولم ترض بصلحهم إلا على شرط بأن يرسل الرومان إلى مملكتها ناسكًا شهيرًا يدعى موسى خصّه الله بصنع العجائب وبقداسة الحياة فسقف على العرب الذين تحت حكمها وكان عدد النصارى الذين وجدهم في دولتها قليلًا أما فأنار معظم رعاياها وعمّدهم. وقد أخبر ثاودوريطس في تاريخه (ك٤ ف٢٠) أن ماوية هذه توطيدًا للصلح مع الرومان قرنت ابنتها بالزاج مع القائد الروماني فكثور وكانت الفتاة شديدة التحمس في الإيمان.
ومنذ ذاك الحين إذا ورد اسم أحد ملوك غسّان إما في تواريخ السريان وإما في تواريخ اليوانان واللاتين تجد الكتبة لسانًا واحدًا في وصفهم كنصارى يخصّهم الكتبة بالألقاب الشرفية الممنوحة لهم من القياصرة فيدعون بطارقة وأمراء وذوي العز والدولى: وربما زادوا على هذه الألقاب ما دلّ على دينهم فيدعون مؤمنين () ومحبين للمسيح () وكذلك ورد في أحد المخطوطات لندن اسم الكاهن يدعى "كاهن ذي العزّة والمحب للمسيح البطريق المنذر بن الحارث".
وفي القرن الخامس أخذ الرهبان يعيشون عيشة اجتماعية بعد أن كانوا يعيشون منفردين في الأقفار والمرجّع أن الأديرة التي ذكرها حمزة الأصبهاني وأبو الفداء وغيرهما بنيت في ذها الزمان. وكذلك الأديرة التي وصفها ياقوت الرومي غفي معجم البلدان كدير أيوب في حوران (على ما يظنّ وهي بلد أيوب) ودير بونّا ودير سعد ودير البصرى وقد بقي بعض هذه الأديرة مدّة حتى بعد عهد الاسلام ومما زاد النصرانية ترقيًّا في بلاد العرب عدد كبير من الأساقفة والكهنة والرهبان كانوا في أيام الاضطهادات على عهدة القياصرة الوثنيين أو ملوك الروم المتشيعين لا يجدون على حياتهم أمانًا إلا بأن يهجروا بلادهم ويفرّوا إلى أنحاء العرب حيث كان يصعب على المغتصبين أن يدركوهم ويلحقوا بهم الأذى.
1 / 10
وربما نفى المغتصبون هؤلاء المعترفين بالإيمان من بلادهم إلى بلاد العرب ليذوقوا هناك مشقّات العيش من الجوع والعطش والعري. وكثر عددهم في أيام بدعة آريوس. وكان بعض هؤلاء رجالًا ذوي علم واسع وفضل كبير كإيليا بطريرك القدس وأوجان أسقف الرها وبروتوجان أسقف حرّان. فكان المنفيّون إذ اختلوا بين العرب سعوا في إنارة عقولهم وبيّنوا لهم بطلان أوثانهم وأقنعوهم بجحد أضاليلهم.
بل يذكر التاريخ جملة من الشهداء قُتلوا في سبيل الإيمان في بادية الشام ومدنها كالقديس كيرلّس وأكويلا ودومطيان المستشهدين في مدينة عمّان على عهد ديوقلطيانوس وتذكرهم الكنيسة في ١٠ آب وكزينون وزيناس الشهيدين على عهده أيضًا سنة ٣٠٥. وذكر أوسابيوس القيصري (ك٨ ف٢١) أنّ في زمن هذا الملك "قتل عددًا لا يحصى من الشهداء في بلاد العرب". وفي السنكسار الروماني عدّة شهداء صورة المصرانية بين عرب الشام قتلوا في بادية الشام في ذلك الاضطهاد عينه فيكرمون لشهامتهم في غرة آب. واستشهد فيها على عهد يليانوس الجاحد القديسان أوجان ومكاريوس المكرَّمان في ك١. فلا غرو أن دم هؤلاء الشهداء أخصب زريعة الإيمان وأنماها في جهات العرب.
ومن هذه الآثار القديمة أعلام الأمكنة التي بقيت حتى اليوم كدليل ناطق على اتساع النصرانية في منازل غسان لاسيما الصفا وحوران. فإن عددًا دثرًا من أسماء الأمكنة يدعى في زماننا بالدير كدير الكهف ودير قن عددها الأثريون دي فوكوي ووادنغتون ودسو وغيرهم.
ويضاف إلى هذه الشواهد جداول المراكز الدينية التي تدل على تعدد الإسقفيات في تلك الأنحاء فإن مطران البصرى وحده كان يحكم على ٢٠ إسقفًا (١ وكان بعض هؤلاء الأساقفة ينتقلون مع القبائل الراعية فيسكنون الخيم ولذلك يدعونهم أساقفة الخيم وقد أمضوا غير مرة أعمال المجامع بهذا التوقيع "فلان أسقف أهل الوبر" أو "فلان أسقف القبائل الشرقية المتحالفة" أو "فلان أسقف العرب البادية". (٢. أفترى بينة أعظم من ذلك على انتشار النصرانية بين عرب الشام.
فهذه الحجج كافية ليقر كل مناظر بصحة قولنا عن غسان أنها كانت تدين بالنصرانية ولو شئنا لعززنا هذه الأدلة بشواهد أخرى من كتبة السريان كميخائيل الكبير ويوحنا اسقف أفسس ويوشع العمودي وابن العبري ونصوصهم توافق ما ذكرناه آنفًا.
ومما يقتضي التنبيه إليه أن النصرانية في بادية الشام ثبتت في عزها إلى ظهور الإسلام ونمت واتسعت حتى يجوز الفول بأن الوثنية تقلص ظلها حتى كاد يضمحل ومما يدل على ذلك أن نصارى العرب الذين اجتمعوا مع الرومان لرد غارات المسلمين في غرة الإسلام كانوا الوفا مؤلفة يبلغ الكتبة عددهم إلى مئة ألف بنيف (٣. فهذا العدد الوافر من المقاتلين يدل على أن النصارى في بادية الشام كانوا ألوف الألوف فلا يكاد يبقى بينهم مكان لأهل الشرك وعبدة الأصنام.
هذا ولا ندعي أن النصرانية الغالبة على بادية الشام كانت صافية خالية من كل شائبة وضلال. كلا بل نعلم حتى العلم أن البدعة اليعقوبية تسربت إلى تلك الجهات وكدرت صفاء الإيمان بما أدخلته من المعتقدات الباطلة في طبيعتي السيد المسيح وبزعمها ن المسيح طبيعة واحدة كما هو أقنوم واحد فمزجت اللاهوت بالناسوت وبلبلت كل تعاليم الخلاص.
ولم تكن اليعقوبية البدعة الوحيدة التي فوضت أركان التعاليم الرسولية بل دخل إلى بلاد العرب كثيرون من المبتدعين الذين كانوا يؤملون رواج أضاليلهم في أنحائها دون أن يلاقوا فيها زاجرًا يزجرهم ولا وازعًا يزعهم. وكان بعضهم يفرزن إلى جهات العرب لينجوا من مصادرة ملوك الروم الذين كانوا يريدون قهرهم على جحود أضاليلهم فيفضل أولئك المتشيعون الهرب إلى بادية العرب. فكثروا هناك ونشروا بدعهم حتى قال القديس أبيفانيوس أن بلاد العرب ممتازة ببدعها (Arabia baeresium ferax) .
1 / 11
وقد رددنا في المشرق (٥٥٦:١٠) على بعض اعتراضات بها على نصرانية غسان مراسل المقتبس فبينا بطلانها. كزعمه بأن الحارث الأكبر ابن أبي شمر الغساني الملقب بالأعرج كان وثنيًا لأنه أهدى سيفيه رسوبًا ومخذمًا لبيت ضم كما روى الطبري (١٧٠٦:١) فأثبتنا نصرانية الحارث بشواهد مؤرخين معاصرين للحارث من يونان ولاتين وسريان وقد ورد اسمه في الكتابات القديمة ملقبًا بالمحب للمسيح كما رأيت وإن كان يعقوبي النحلة كما ذكر هؤلاء الكتبة. أما تقدمته سيفين لبيت صنم فهي رواية ضعيفة لا يتفق فيها الرواة (اطلب ياقوت ٤٥٣:٤) ما لم يقل أن الطبري جعل بيت صنم أحد معابد النصارى أو يقال أن الحارث النصراني أتي بفعله عملًا ذميمًا فنسي شرائع النصرانية أو تجاهل بها.
واعترض الكاتب البغدادي على نصرانية عرب غسان بشهادة ياقوت الحموي (٦٥٢:٤) بأن غسان كانت تعبد مناة وذكر دعاءها عند وقوفها عند صنمها.
فكان جوابنا أننا لم ننكر كون غسان دانت مدة بالوثنية لكنها لما تنصرت نبذت عبادة مناة وبقية الأصنام منذ القرن الرابع للمسيح كما ثبت من الشواهد التي ذكرناها. هذا فضلًا عن أن الدعاء الذي ذكره عن تاريخ اليعقوبي (٢٩٧:١): "لبيك رب غسان راجلها وفارسها" لا يختص بصنم ويجوز التوسل به.
وكان آخر ما اعترض علينا الكاتب البغدادي قول اليعقوبي إلى إله الحق (٢٩٨:١) بعد ذكر نصرانية غسان أن "قومًا منهم تهودوا" فكان جوابنا عليه أن الكتبة العرب إجمالًا (ألا اليعقوبي) ليس فقط لم يذكروا تهود غسان بل نفوا اليهودية عنهم. وعنهم نقل صاحب الفضل شكري أفندي الألوسي البغدادي في كتاب بلوغ الأدب في أحوال العرب (٢٦:٢) حيث روى عن تبع الأصغر الحميري أنه لما تهود دعا إلى اليهودية غسان فابوا معتذرين بدخولهم إلى النصرانية.
قال: "وسار تبع إلى الشام وملوكها غسان فأعطته المقادة واعتذروا من دخولهم إلى النصرانية".
وأضفنا إلى قولنا هذا جوابًا آخر فقلنا أنه لمحتمل أيضًا أن اليعقوبي نسب اليهودية إلى قوم من غسان لانتشار بعض الشيع بينهم كشيعة الأبيونيين (Ebionites) والنزاريين (Nazareens) وغيرهما كانت من بقايا اليهود الأولين الذين تنصروا وحفظوا شيئًا من نواميس موسى وهم الذين خرجوا بأمر الرب من أورشليم قبل حصارها في عهد طيطس فعبروا بلاد العرب وعرفوا باليهود المتنصرين (Judes - chretienes) .
الباب الثالث
النصرانية بين عرب الغور والسلط والبقاء
إن نهر الأردن المعروف بالشريعة بعد خروجه من أغوار حرمون في جهات بانياس وجريه جنوبًا فتتكون منه بحيرة الحولة يصب في بحر الجليل ثم يخترقه فيسيل متحدرًا إلى الأعماق بين ضفتين ترتفعان شرقًا وغربًا حتى يبلغ تحدره نحو ٣٠٠ متر تحت سطح بحر الشام وينتهي إلى بحر لوط فتلك الناحية التي يقطعها الأردن تدعى بالغور. وليست تلك الجهة مسيلًا للنهر فقط بل تتسع ضفافها وترتفع بالتدريج في سعة يقدر معدلها نحو ١٠ كيلومترات فيها البقع المخصبة والنواحي العامرة والعيون المتدفقة وإن لحظت عبر الأردن وجحدت وراء ضفافه شرقًا بلادًا واسعة تعلوها الجبال الشاهقة كجبل عجلون وجبل جلعاد وجبل نبو إلى جبال مؤاب بينها المشارف الفسيحة والأودية الكثيرة الخبرات والمناع الطيبة كالسلط والبقا. وصحاري مؤاب تتصل شمالًا ببادية الشام وجنوبًا بنواحي كرك وجهات النبط وشبه جزيرة سينا فهناك سكنت شعوب كبيرة كالعمونيين والمؤابيين والمدينيين. وكانت قبائل العرب البادية والحاضرة ممتزجة معها تتنقل في جهاتها من أريافها إلى صرودها طلبًا للمراعي أو تسكن في المدر فتعنى بالفلاحة.
فالنصرانية وجدت لها في تلك الأقطار كلها بين أهلها المطبوعين على شظف العيش وسذاجة الأخلاق ومجانبة الترفه والبذخ تربة صالحة ما كاد يقع في ظهرانيها الزرع الجيد حتى نما أي نمو. وكان حلول المسيحيين الأولين في تلك الجهات قليلًا بعد صعود الرب ولاسيما لما ثار الاضطهاد الأول على تلاميذ الرسل (أعمال: ١:٨) ولما جاء الرومان لمحاصرة أورشليم إذ خرجوا إلى عبر الأردن بوحي من الرب فاستطنوا أنحاءه كما أخبر أوسابيوس. ولاشك أنه نال العرب قسم من تلك النعم الروحية التي أفاضها الله على سكان تلك الأصقاع فدانوا بدين المهاجرين.
1 / 12
ومن الأدلة التي تناقلها بالتقليد فدوَّنها المؤرخون تنصر الضجاعمة الذين سبقوا الغسانيين في ملك البقاء. وقد حفظوا لنا اسم أحد أمرائهم فدعوه دؤاد بن الهبولة المعروف باللثق وجعلوا مقامه في مادبا (اطلب تاريخ ابن خلدون ١٥٣:٢) وذلك في أواخر القرن الثاني للمسيح.
ولما انتهى طور الاضطهادات عل المسيحيين في القرن الرابع قسمت تلك النواحي أيالتين مدنيتين فدعيت الواحدة بفلسطين الثانية كانت حاضرتها مدينة باسان والأخرى فلسطين الثالثة كانت حاضرتها مدينة بترا أو سلع. وقد بلغ عدد الكراسي فيها قبل الإسلام نيفًا وربعين كرسيًا يُعرف أسماء كثيرين من أساقفتها الذين دبروها ورعوا مؤمنيها فناهيك بذلك شاهدًا صادقًا على امتداد الدين المسيحي في العرب وكان أكثر الدعاة عملًا في نشر النصرانية نساكها وسياحها الذين كانوا اتخذوا لهم مآوي ومحابس يسكنونها معتزلين عن الناس ليعيشوا فيها عيشة الملائكة بالزهد وضروب المناسك الرهبانية فكان مثلهم يعمل في قلوب العرب خصوصًا ويجتذبهم إلى دين أولئك الأبرار فيطلبون منهم نعمة المعمودية.
ومما أخبر به القديس هيرونيموس في ترجمة القديس هيلاريون (١ إن هذا السائح الجليل اذلي تنسك في جهات غزة سار إلى مدينة الخلصة (Elusa) في البرية جنوبي بحر لوط ليعود أحد تلامذته وكان أهلها يدينون بالوثنية ويكرمون الزهرة على شكل حجرة فوافق وصوله إليها يوم عيد الزهرة فلما بلغهم قدوم القديس خرجوا لاستقباله وأكرموه إكرامًا جزيلًا مع نسائهم وأولادهم وكانو يطلبون بركته وكان قوم منهم نالوا بدعائه الشفاء من أمراضهم فجعلوا يتوسلون إليه بأن يقيم بينهم فوعدهم بأن يفعل بعائه الشفاء من أمراضهم فجعلوا يتوسلون إليه بأن يقيم بينهم فوعدهم بأن يعل إذا نبذوا عبادة الحجارة وآمنوا بالسيد المسيح. فأجابوا إلى طلبته ولم يدعوه يخرج من بلدتهم حتى اختط لهم حدود كنيسة يقيمونها وكان ممن تنصروا على يد القديس كاهنهم وسادن أصنامهم. ومذ ذاك الوقت وردت عدة آثار عن النصرانية في الخلصاء وأسماء أساقفتها منهم واحد يسمى عبد الله وسنذكر أعمالًا أخرى لهيلاريون.
وممن دخلت لنصرانية بينهم في تلك الأنحاء أمة النبيط أو النبط فهؤلاء كانوا أيضًا من العرب فأنشأوا دولة عظيمة ومصَّروا لهم الأمصار واتخذوا لهم مدينة عظيمة يدعونها بترا وسلع لا تزال آثارها الفخيمة تدهش كل من يقصدها. وقد مر لحضرة الأب جلابرت (المشرق ٩٦٥:٨ ٩٧٣) وصف بعض أبنيتها العادية. وكان ظهور النبط نحو القرن الخامس قبل المسيح وما لبثوا أن اشتد ساعدهم واستفحل أمرهم وصار لملوكهم شهرة واسعة واستقلوا بالملك في القرن الثاني قبل المسيح وكان أولهم "الحارث الأول" ودام ملكهم إلى العشر الأول من القرن الثاني بعد المسيح حيث تغلَّب الرومان على بلادهم وكان آخر ملوكهم مالك أو مليكوس الثاني (١٠٣ ١٠٧) وأصبحت بلاد النبط إقليمًا رومانيًا يتولاه أحد حكام رومية.
وكانت بترا معبرًا لكل القوافل القادمة من مصر إلى دمشق ومن جزيرة العرب إلى فلسطين ومن العراق إلى مصر ولذلك ازدادت ثروتها واشتهر أهلها بالمتاجرة.
وبلغتها النصرانية قبل غيرها من مدن النبط وترى أستيريوس أسقفها يلعب دورًا مهمًا في عهد قسطنطين لمعاكسة البدعة الأريانية. ثم انتشرت النصرانية في بقية النبط وتأصلت فيهم وثبتوا عليها حتى بعد ظهور الإسلام بمدة حتى أن بعض الكتبة يدعون نصارى العرب نبطًا. ولك مثال على ذلك في بعض مقامات بديع الزمان في المقامة الزوينية حيث جعل نصابه أبا الفتح الإسكندري نبطيًا فيقول متظاهرًا بالإسلام:
إن أكُ أمنتُ فكم ليلةٍ ... جحدتُ فيها وعبدتُ الصليبُ
وكذلك ضرب شعراء العرب المثل برهبان مدين وزهدهم. قال كثير عزة:
رهبانُ مدينَ والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العقاب قعودًا
1 / 13
وكانت نواحي الغور على ضفتي نهر الأردن أديرة عديدة يُعرف منها نحو العشرين قد اكتشف بعضها حضرة رئيس مدرسة الصلاحية المفضال الأب ي. ل. فدرلين (R.P.J.L. Federlin) ووصف أخربتها وصفًا مدققًا في مقالاته الفريدة التي نشرها أن رهبان تلك الأديرة اجتذبوا إلى الدين المسيحي من كان يجاورهم من عرب الحضر بل لدينا دلائل على ترهب بعض أولئك العرب المنتصرين في هذه الأديرة أشهرهم القديس إيليا البطريرك الأورشليمي فهذا كان عربي الأصل رحل من بلده إلى دير نطرون في مصر وبعد أن أرتاض في الآداب الرهبانية سكن مدة في دير سابساس على ضفة الأردن اليمنى ثم رُقي إلى رتبة البطريركية فدافع عن الإيمان بغيرة شديدة حتى فضَّل النفي على موافقة المبتدعين ومات في أيلة سنة ٥١٣.
وممن يستحق ذكرًا خصوصيًا في تبشير العرب ودعوتهم إلى النصرانية القديس العظيم أفتيميوس كوكب برية الأردن وجهات الغور فإن الله اصطفاه في أواسط القرن الخامس لينير عددًا عديدًا من العرب ويهديهم إلى سبيل الإيمان فإن المؤرخ الشهير والراهب معاصره كيرلس من سيتوبوليس (Scythopolis) أو بيسان روى في ترجمته تفاصيل ذلك الخبر الي رواه حضرة الأب بيترس من جماعة البولنديين (في المشرق ٣٤٤:١٢ ٣٥٣) نقلًا عن نسخة عربية قديمة في مكتبتنا الشرقية وخلاصته أن أحد الوثنيين يوناني الأصل المدعو إسباباط ولعله أصبهبذ ولاه أزدشير الملك تخوم الغجم فلما أثار الاضطهاد على نصارى مملكته وأخذ يصادرهم ويذيقهم ضروب العذابات جعلوا يولون هاربين من العجم إلى ممالك الرومان وإسباباط لا يتعرض لهم رغمًا عن أوامر الملك فسعى المجوس به لدى ازدشير ليعاقبه ففرَّ هو أيضًا هاربًا إلى أراضي الرومان حيث أكرم وفادته أناطوليوس الحاكم وولاه على القبائل العربية المنتمية لرومية.
وكان لإسباباط ولدٌ يدعى طرابون مصاب بالفالج أفرغ أبوه في شفائه كل الوسائل دون فائدة فالتجأ أخيرًا بالهام من الله إلى القديس أفتيميوس فشفى الغلام ونصر أباه ودعاه بطرس وعمد كل آل بيته وتبعهم في دينهم قوم كثيرون من العرب سعى القديس أفتيميوس في تلقينهم كل عقائد النصرانية. ثم اجتذب مثلهم غيرهم من قبائل العرب فخطط لهم القديس افتيميوس حدود مدينة صغيرة ليست بعيدة من ديره وأمرهم ببنائها على رسم معلوم وحفر لهم بئرًا وابتنى لهم كنيسة ودارًا لزعيمهم. ثم اتفق مع البطريرك يوريناليوس فجعل بطرس أسقفًا عليهم.
وأخذ كثيرون من العرب يتواردون إلى منزلهم حتى بلغ عددهم عشرين ألفًا ودعيت مدينة هؤلاء المنتصرين بالمحلة وتوالى الأساقفة عليهم حتى أواخر القرن السادس مع ما ألمَّ بهم من الضيقات والبلايا لاسيما بمعاداة قبائل العرب الوثنيين الذين غزوهم غير مرة.
والحق يقال أن هؤلاء الغزاة كانوا على مألوف عادة شذاذ العرب يتلصصون الأقفار فينهبون محابس الرهبان وأديرتهم ويسلبون ما يجدونه فيها. وقد أخبر كلسينانوس في خطابه السادس (Migne، P.L.، XLIX، col. ٦٤٣=٦٤٨) أن هؤلاء الأشقياء هجموا على تقوع على مسافة ستة أميال من مدينة بيت لحم جنوبًا فقتلوا رهبانًا كانوا يعيشون في البراري بالنسك والتقى ثم أخبر أن أهل تلك الناحية ابدوا لذخائرهم إكرامًا عظيمًا "ولاسيما جموع العرب الذين هناك وبلغت رغبتهم في اقتنائها إلى أن وقع بينهم قتال للفوز بتلك الأجسام المقدسة" وكان ذلك سنة ٣٩٥ للمسيح. وفي هذا دليل على أن عرب فلسطين كانوا يدينون بالنصرانية.
وجاء أيضًا في مجموع المجامع (Labbe: Collect. Concil.، III، ٧٢٨) أن البطريرك يوليناليوس سقَّف عددًا من الأساقفة لجهات العرب قبل السنة ٤٣٠ وهذا دليل آخر على انتشار النصرانية بين عرب فلسطين. وورد قبل ذلك في تاريخ سنة ٣٦٣ في مجمع أنطاكية اسم أسقف يدعى تاوتيموس قد وقَّع على أعماله بهذا الإمضاء "تاتيموس أسقف العرب" ولعله أراد قبائل العرب الساكنة في نواحي تذمر حيث كانت النصرانية أصابت مقامًا رفيعًا ليس فقط في حواضرها كتدمر والقريتين وحوارين ولكن في بادية تدمر نفسها حيث تنصرت القبائل المتنقلة فيها.
الباب الرابع
النصرانية في النجب وطورسينا
1 / 14
إن انحدرت من فلسطين جنوبًا فسرت من غزة على سيف البحر مارًا بالعريش حتى ترعة سويس ثم مددت من هاتين النقطتين خطين متوازيين إلى الجنوب انبسطت أمامك البراري الواسعة كبرية سين وبرية سور وبلاد الشراة والنجب ثم يتشكل لك شبه مثلث مخروط رأساه الأعليان عند خليج سويس غربًا وخليج عقبة شرقًا والرأس الثالث يدخل في البحر ويعرف برأس محمد. فهذا المثلث الكبير هو شبه جزيرة سينا فيه بادية التيه التي تنقل فيها بنو إسرائيل سنين عديدة وبرية فاران. وهناك سلسلة جبال شاهقة كجبل غرندل وجبل سرابيط الخادم وجبل التيه وخصوصًا طور سينا أو حوريب وجبل موسى وجبل سربال وجبل كاترين مع ما فيها من الأودية (انظر في المشرق ١٠٦٨:٩ خارطة طور سينا) فتلك البلاد كانت شمالًا في أيام بني إسرائيل مواطن للأدوميين وللعمالقة وللمدنيين وقد كثرت فيها بعد ذلك قبائل العرب من بني اسماعيل والنبطيين فاستولت عليها واقتسمتها وكانت تتجول فيها على حسب حاجاتها كما يتجوَّل الملك في مملكته والسيد في أملاكه دون أن تركز في محل مخصوص ألا أهل المدر منها فإنها وجدت في بعض بقعها وواحاتها ما يقوم بلوزامها ومناجع مواشيها فاستوطنتها.
فهذه البلاد الواسعة قدم إليها تلامذة المسيح ليدعوا الناس إلى دين سيدهم.
وممن ذكرهم القدماء الرسول برتلماوس فقالوا عنه أنه "تلمذ بلاد العرب والنبط" يريدون جنوبي الجزيرة وهذه الجهات خصوصًا. وجاء في تاريخ القبط للمقريزي (Wetzer: Macrizii Historia Coptorum، p. ١٤) أن متياس (وهو الرسول الذي أقيم بدلًا من يهوذا الاسخريوطي) سار إلى بلاد الشراة (١ فبشَّر فيها بالمسيح وكأن النصرانية وجدت في تلك الأنحاء ملجأ في قرون الميلاد الأولى نزعت إليه ولاذت به رغبةً في التنسك والزهد أو فرارًا من اضطهادات الوثنيين فكان نصارى مصر والشام يرون في شبه جزيرة سينا مقامًا آمنًا لا يستطيع العالم أن يكدر فيه صفاء حياتهم الملائكية ولا يقدر عداؤهم القبض عليهم فكانوا يسكنون في أوديتها ووهادها أو يرقون جبالها ليعيشوا فيها عيشة سماوية في مناجاة الله.
ولنا على ذلك عدة شواهد ترتقي إلى أواسط القرن الثالث للميلاد منها رسالة للقديس ديونيسيوس أسقف الإسكندرية كتبها إلى فابيوس أسقف أنطاكية وصف فيها المحن والبلايا المتعددة التي نالت نصارى مصر بسبب اضطهادات الحنفاء وعبدة الأوثان لاسيما في عهد القيصر دقيوس فمما قاله (٢: أن أسقف نيلوس هرب إلى جبال العرب مع عدد كبير من النصارى فبعضهم ماتوا وبعضهم استعبدهم العربان إلى أن افتداهم النصارى بالمال الكثير وبقي غيرهم منقطعين إلى العيشة النسكية. وقد أثبت البولنديون في أعمال القديسين وبعض مؤرخي الكنيسة أن العيشة الرهبانية في شبه جزيرة سينا وما وراء بحر القلزم سبقت عهد القيصر ديوقطيانوس.
وجاء في أعمال القديسين الشهيدين غلاقتيوس وامرأته إبيتسام المولودين في حمص (٣ أنهما نذرا الله عفتهما في الزواج ورحلا إلى طور سينا حيث وجدا عشرة من النساك كانوا يعيشون هناك عيشة الأبرار فأخذ العرسان عنهم آداب السيرة النسكية وعاشا متفردين لأعمال البر غلاقتيون بين الرجال وايبستام مع النساء حتى بلغ خبر أولئك السياح والي الرومان سنة ٢٥٠ فطلبهما وقتلهما شهيدين.
ومع ما كان يلقى أولئك السياح من أنواع المشقات من القبائل الوثنية التي تسكن جهات الطور والبراري المجاورة لأرض مصر لم يلبث أن يؤثر في بعضها مثل أولئك الأبرار حتى ارتدَّ منهم قوم إلى الإيمان ونظن أن القديس ديونيسيوس الإسكندري يشير إلى هؤلاء المتنرين في كتابه إلى البابا القديس أسطفانوس الأول نحو سنة ٢٥٥ حيث يبشره بموافقة الكنائس الشرقية على تعليمه بخصوص معمودية الهراطقة قال (١: "وقد ترى رأيكم كل الأقاليم السورية مع بلاد العرب التي تقومون من حين إلى آخر بضرورياتها والتي وجهتم إليها رسائلكم الآن". فقوله "بلاد العرب" يدل خصوصًا على ما جاور منها مصر كما يظهر من القرائن. وقوله "تقومون بضرورياتها" دليل حي على عناية الكرسي الرسولي في القرون الأولى بكل كنائس العالم حتى أقصاها لمساعدتها في حاجاتها الروحية والمادية.
1 / 15
وفي هذه البلاد العربية المجاورة لمصر بشر بالإيمان أحد الشهداء في عهد ديوقلطيانوس وهو القديس كيروس كما ورد في أعماله التي نشرها الكردينال ماي (٢ ونصَّر جمًَّا غفيرًا من أهلها بكلامه ومعجزاته ثم قُتل شهيدًا.
واشهر منه أربعون شهيدًا قتلهم العرب الثونيون في سنة ٣٠٩. وكان هؤلاء تنسكوا في لحف جبل موسى فيعيشون هناك في الصوم والشغل اليدوي فوثب عليهم أهل البوادي وقتلوا منهم أربعين وقد أقيم لذكرهم دير ترى حتى يومنا آثاره ويدعى بدير الأربعين (٣ ويعيد الشهداء في تاريخ ٢٨ ك١.
ولما فازت النصرانية بتنصر قسطنطين رسخ الدين النصراني في أنحاء طور سينا والبلاد العربية الواقعة بجواره. وقد أخبر المؤرخون أن القديس هيلانة شيدت كنيسة على طور سينا تذكارًا لما جرى فيه من الأعاجيب في عهد موسى وشعب إسرائيل. وزاد النساك عددًا وانتشارًا في سائر أصقاع تلك الجهات. ففي غزة ونواحيها الشرقية والجنوبية اشتهر القديس هيلاريون المار ذكره. ولا تزال آثار هذا الرجل العظيم باقيةٌ هناك وقد وصفها في المشرق (٢١٣:١ ٢١٥) السائح الهمام الكاهن لويس موسيل نزيل كليتنا سابقًا مع بيان موقعها وذكر تلامذة القديس الذين أخذوا عنه الطريقة النسكية. وفي ترجمة حياته التي كتبها القديس هيرونيموس معاصره ما ينبئ بأعماله الرسولية ين عرب تلك النواحي وقد أقام عدة أديرة في ظهرانيهم في برية غزة وجهات عين قادس وكان يتردد إليها ويرافقه الرهبان في سياحته زرافات بلغ أحيانًا عددهم ألفي راهب (١. ولما شاع خبر قداسته كان الأهلون يخرجون إليه أفواجًا أفواجًا وجماهير مجمهرة تقدمهم الأساقفة والكهنة.
وذكرنا سابقًا إكرام العرب له في خَلَصة. وأخبر الثقة أنهم كانوا يقصدونه في كل حاجاتهم فتارةً كان يلتمس لهم المطر في سنتهم وتارةً كان يشفي نوقهم من عاهاتها وكان يخرج منهم الشياطين أو يتال لهم من الله البرء من أمراضهم فرد النظر في مدينة العريش (Rhincolure) لامرأة عمياء وابرأ من مرض عضال شيخ مدينة أيْلة النصراني المدعو أوريون (٢. وذكر سوزومان في تاريخه الكنسي (ك٥ ف ١٥) أن القديس شفى أيضًا في غزة جدَّه ألافيان الذي اشتهربعدئذٍ بتقاة وشيد أديرة وكنائس.
وفي هذا القرن الرابع نُفي إلى براري سينا والنبط رجال أفاضل من الأساقفة والكهنة نفاهم الملك قنسطنسيوس الأريوسيكالقديسين أوجان وبروتوجان المنفيين من الرها إلى براري العرب (عيدهما في ٥ أيار) وفي ترجمة القديس هيلاريون ورد ذكر الأسقفين القديسين دراكنتيس وفيلون المنفيين إلى نواحي غزة. وإلى أيلة نفى الإمبراطور أنستاس القديس إيليا بطريرك أورشليم وكان عربي الأصل كما مر (٣. وكذلك أسقف أيلة الذي أمضى أعمال الجمع الخلقيدوني سنة ٤٥١ كان عربيًا ويدعى غوثًا.
وأخذت الأديرة تمتد في أواسط بلاد سينا وتكثر حولها القبائل المتنصر وأخص هذه الأديرة دير فاران الذي ورد ذكره في كتاب المرج الروحي تأليف حنا موسكوس في القرن السادس للمسيح (١. وقد أثنى هناك على رئيسه غريغوريوس الذي صار بعد ذلك بطريركًا على أنطاكية. وكان دير فاران حافلًا بالرهبان الوطنيين وغيرهم ذكر الآباء منهم القديس سلوانس رئيسة ثم موسى الفاراني الشهير بقداسته وكراماته.
وفاران هذه كانت شهيرة في عهد الدولة الرومانية فأصبحت مدينة كبيرة وافرة السكان وهي اليوم قرية حقيرة فيها نحو الخمسين بيتًا وهي تدعى فيران موقعها في وادٍ كثير الخصب تنمو فيه الأشجار لاسيما النخيل وتجري فيه المياه الطيبة فالنصارى دخلوا فاران ونشروا يها دينهم حتى كاد يعم كل أهلها منذ القرن الرابع. وكان فيها اسقفي يذكر الروم في الميناون في ١٨ شباط اسقفها المدعو أغابيطوس أو محبوب. في عهد قسطنطين الكبير. وممن لايشك في تاريخه الاسقف نثراس او نثير في النصف الثاني من القرن الرابع وتلميذ القديس سلوانس. وكان أمير فاران نصرانيًا يدعى عوبديان أو عبدان. وقد بقيت يها النصرانية معززة رفيعة الشان إلى القرن السابع وحجت إليها القديسة سيلفيا (أو كارية) في أواخر القرن الرابع في رحلتها إلى الأراضي المقدسة والقديس أنطونيوس الشهيد نحو سنة ٥٨٠. وترى بين أخربتها حتى اليوم بقايا من كنيستها ومدافنها النصرانية عليها النقوش المسيحية كالصلبان والرموز الدينية واسم السيد المسيح مختصرًا.
1 / 16
ومن الأديرة الشهيرة في التاريخ الكنسي دير ريث الذي موقعه بجوار مدينة الطور فهذا الدير توارد إليه الرهبان ونمت شهرته حتى طمعت فيه قبيلة همجية كانت تسكن في سواحل مصر يدعونها بلاميس (Belmmeys) فاجتازت بحر القلزم واغتالت رهبانه سنة ٣٧١ وفرَّت هاربة فلما بلغ الخبر أهل فاران ساروا مع أسقف البلد وعوبديان الأمير إلى دير ريث وجمعوا جثث الشهداء ودفنوهم بكل إكرام. وقد روى إخبارهم أمونيوس الراهب الشاهد العياني لاستشهادهم.
وقبل أن يقدس هؤلاء وادي فيران وسواحل جبل الطور كان رقي قوم آخرون أعالي جبل موسى حيث كان التقليد عيَّن موقع مناجاة الكليم لربه وحيث صعد آليًا إلى جبل الله فانقطعوا على مثالهما للآلهيات. وقد مر بك ذكر بعض هؤلاء النساك في أواسط القرن الثالث. وأخبر سولبسيوس ساويرس (١ في سياحته إلى جبل سينا نحو السنة ٣٨٠ أنه رأى راهبًا كان يقطن أعالي سينا منذ خمسين سنة. ثم كثر عددهم فابتنوا لهم مآوي ليسكنوا فيها. على أن لصوص العرب الوثنيين والمعادين لأهل الحضر المتنصرين قدموا من شمالي الجزيرة وجهات الشراة وهجموا بغتةً على محابس الرهبان المتفرقة في أنحاء جبل موسى ووقع ذلك نحو سنة ٣٩٠ كما رواه أحد الشهود العيان والكاتب اليوناني القديس نيلوس الذي مر ذكره وكان هذا من أسرة شريفة تولى نظارة الأمور على مدينة القسطنطينية ثم استعفى ليتجرد لخدمة الله فرحل إلى طور سينا مع ابنه تاودولوس وتنَّسكا في ذلك المقام. فقتل العرب في هذه الزحفة سبعة من السياح وأسروا غيرهم وكان من جملتهم ابن القديس نيلوس الذي روينا شيئًا من إخباره في باب تاريخ أديان العرب وقد نجا من أيدي الغزاة في مدينة الخلصة بهمَّة أهلها النصارة وأسقفها (٢.
ومذ ذاك الحين أخذ رهبان جبل سينا يتحصنون في وجه الغزاة ولما صار الأمر إلى يوستنيان الملك ابتنى لهم الكنائس الفخيمة والأبنية الحصينة وجعل في خدمة الرهبان بعض قبائل العرب المتنصرين أخصهم بنو صالح وقد عرفوا بالجبلية. وكان الزوار إذا ما قصدوا الأراضي المقدسة يزورون أيضًا هذه الأديرة لينالوا بركتها وبرة أهلها. وقد ازداد عدد رهبانها حتى جُعل لطور سينا أساقفة عددنا أسماءهم في مقالة نشرناها في أعمال المكتب الشرقي (٣.
وكذلك اشتهر بين الرهبان بعض القديسين والكتبة كالقديس أنستاس السينوي في القرن السادس. وليس أقل منه شهرة القديس يوحنا رئيس طور سينا المعروف بالسلمي أو كليماكوس باسم كتاب ألفه دعاه سلَّم الكمال وكان معاصرًا للقديس البابا غريغوريوس الكبير وكان بين القديسين مكاتبات رواها جامعو آثار الحبر الأعظم. وقد ذكرنا في المشرق (٩٩٣:٧) ما تبرَّع به ذلك البابا من الحسنات لير طور سينا حيث أنشأ يوحنا مأوى للعجزة والزوار.
وفي أعمال القديس صفرونيوس بطريرك القدس تكرر ذكر طور سينا ورهبانه والزوار المترددين إليه (١.
وبعد ذلك بقليل استولى العرب المسلمون على شبه جزيرة سينا وقد قيل أن بين آثار دير الطور سجلا أعطاه محمد كامانٍ لأهله وبقي عندهم إلى أيام السلطان الغازي سليم الأول فأخذه إلى القسطنطينية. (رجع في المشرق ٦٠٩:١٢ و٦٧٩) . مقالتنا في عهود نبي الإسلام والخلفاء الراشدين للنصارى.
ومن الآثار النصرانية كتابات عديدة وجدت منقورة في الصخر أو مكتوبة بالمغرة على جوانب وادي المكتب. فإن السياح كانوا إذا مروا هناك كتبوا أسماءهم وطلبوا من الله الرحمة وأعلنوا إيمانهم بالله الواحد ورسموا بعض العلامات المسيحية كالصليب والأنجر وسعف النخل والحرف الأول من اسم السيد المسيح. وهذه الكتابات منها يونانية ومنها قبطية لاشك في نسبتها إلى النصارى. وبينها كتابات أخرى عديدة مكتوبة بالنبطية ومن جملتها ما نصفه يوناني ونصفه الآخر نبطي وبعض العلماء يرتأون إنها للوطنيين لمشركين أما غيرهم فيرجحون أيضًا أنها للنصارى منهم من قبائل تيم الله وكلب واوس ممن اعتقدوا النصرانية بل ترى العلامات النصرانية عليها كما ترى على اليونانية والقبطية وإن لم يكن في منطوقها ما يدل على الدين المسيحي صريحًا ما لم يقل أن تلك العلامات أضيفت بعد ذلك العهد والله أعلم (٢.
1 / 17
ومن البلاد اللاحقة بشبه جزيرة سينا بقعة واسعة في تخوم فلسطين عن جنوبها الشرقي كثيرة النخيل عرفها الكتبة اليونان ودعوها فينيقون أي مغارس النخل وقد ظن البعض أن موقعها في وادي فيران إلا أن كلام الكتبة الأقدمين لا ينطبق عليها. والصواب أنها شمالي غربي وادي فيران وقيل أن هناك مكانًا يدعى بالنخل لكثرة نخله فلعله هو مدلول كتبة اليونان. ففي القرن السادس كان يحتل ذا البقيع قوم من العرب من جذام ولخم وكان أحد أمرائهم يدعى أبا كرب. فروى عنه المؤرخ بروكوبيوس الغزي (١. أنه كتب إلى يوستنيان ملك الروم يقدم له ولايته فشكره الملك وجعله أميرًا على كل قبائل العرب (phylarque) التي في جوارهٍ فتولاها باسم ملك الروم واخضع العرب لأمره. ولاشك أن هذا الأمير كان نصرانيًا ولولا ذلك لما رضي يوستنيان أن يرئسه على بلاد كان الدين المسيحي قد مد عليهم سيطرته كالنبط وبني كلب وغيرهم. وفيه أيضًا دليل على نصرانية العرب المستوطنين لبقعة النخيل التي كان أبو كرب مالكًا عليها.
وقد جاءت الاكتسافات الجديدة للسياح الأوروبيين في بلاد مواب وآدوم والنبط مثبتة لهذه الآثار التاريخية القديمة فإن الكاهن العالم نزيل كليتنا سابقًا الدكتور لويس موسيل الذي تجوَّل مرارًا في تلك الأنحاء وصف ما رأى بالعيان في مجلدات ضخمة فرسم في تآليفه ما وجده من الآثار كالرسوم والقبور والصلبان وغير ذلك منها في صر الموقر (٢ وفي العويرة (٣ وفي أم الرصاص (٤ ومما ترى بقاياه إلى يومنا آثار كنائس عديدة في أمكنة شتى كعبد والعوجاء وفار وفينان وحسبان والكسيفة والمكاور والمحي وقد يسمى بعضها اليوم بإعلام تدل على دين أهلها كالكنيسة والنصرانية والدير (٥ بل وجد بين الأحياء التي تسكن حتى الآن في تلك البوادي عادات نصرانية تدل على اصلها القديم كرسم الصليب والدعاء إلى السيد المسيح (٦.
ومثله سائح آخر جال في تلك الأنحاء سنة ١٩٠٨ يدعى دلمان (٧ فإنه وصف نحو عشرين أثرًا نصرانيًا وجدها في رحلته إلى جهات النبط.
وليس أقل منها شأنًا ما رواه العالمان برونو ودومازفسكي في المجلدات الثلاثة الضخمة التي دونا فيها أعمال بعثتها العلمية إلى إقليم عربية (١ وقد مر وصفها للأب جلابرت في المشرق (٤٥٧:٨ ٤٦١) في المقالة المعنونة السكة الرومانية من مادبا إلى عقبة وفي هذا التأليف الجليل وصف آثار خطيرة للنصرانية لايسعنا هنا بيانها فيؤخذ من كل هذه الأدلة التي استدللنا بها أن طور سينا والبلاد اللاحقة أو المحدقة به كاد يعمها الدين النصراني في القرن السادس وقد أقر بذلك المستشرق دوزي (Dozy) في مقدمة كتابه عن الإسلام (٢ قال: "أن شبه جزيرة سينا كلها تقريبًا كانت ارتدت إلى النصرانية وكانت حاوية لجملة من الأديرة والكنائس وكان عرب الشام يدينون بالنصرانية (٣".
الباب الخامس النصرانية في اليمن
1 / 18
فلندعنَّ طور سينا لننحدر إلى أطراف جزيرة العرب في جنوبها الشرقي حيث نلقى بلادًا واسعة كثيرة الخيرات وافرة الأسباب تمتد بين بحر القلزم وبحر الهند فيها السهول الرحبة المخصبة والجبال الطيبة الهواء الغنية بالمعادن وبالأشجار النافعة كالكروم والبن والورس واللبان أو الكندر. فتلك البلاد سكنتها أمم عديدة تزاحمت فيها وتنازعت على ملكها وتركت فيها آثارًا عظيمة من أبنيتها كهياكل وقصور اشهرها قصرًا غمدان وريدان وكانت تلك الشعوب من عناصر شتى وقبائل مختلفة منها كوشية ومنها سامية. وبلاد اليمن تشمل عدة أعمال ومخاليف كعسير ومهرة وحضرموت والشحر ومن مدنها الشهيرة مأرب ذات السد قاعدة بتابعة اليمن ومن حواضرهم أيضًا ظفار وصنعاء ونجران وزبيد وذمار وعدن كلها قصبات شهيرة حافلة بالسكان دارة المرافق. وكانت لغتها من اللغات السامية تدعى بالحميرية لها فلم خاص يعرف بالمسند وجد منها الأثريون المحدثون كتابات عديدة يرتقي بعضها إلى الأزمنة السابقة لتاريخ الميلاد بمئين من السنين تدل على أن أهلها كانوا يدينون بالصابئية ويكرمون القوات العلوية والنيرات السماوية والسيارات السبع وكان المتملك على اليمن في أوائل تاريخ الميلاد ملوك من حميرة يتلقبون في الكتابات المكتشفة حديثًا في جنوبي جزيرة العرب "بملوك سبأ وذي ريدان" ولما استولى ملوك حمير على بلاد حضرموت نحو السنة ٣٠٠ للمسيح أضافوا إلى ألقابهم "ملوك حضرموت ويمانات" (١ لا مراء أن النصرانية منذ بزوغها وجهت أنظارها إلى اليمن كما يشهد عليه أقدم الكتبة الغربيين والشرقيين حتى أن بعض الآباء زعموا أن المجوس الثلاثة الذين سبق ترجيحنا لجنسهم العربي كانوا من اليمن وماتوا شهداء في صنعاء بعد أن عمدهم القديس توما قبل سفره من عدن إلى الهند (٢.
ومن الرسل الذين يُنسب إليهم التبشير بالمسيح في اليمن متى الرسول فإن أوريجانس في كتابه الذي رد فيه على الأمم ومثله المؤرخ سقراط (ك١ف١٥) وروفينوس ونيقيفوروس في تاريخه (ك٢ف٤) كلهم يؤكدون بأن متى الرسول بشَّر في جهات الحبش وادعى المحدثون بأن اسم الحبش يطلق أيضًا على اليمن وهو اسم شاع عند القدماء فسموا به تلك الناحية لأن الحبشة كانوا استولوا مدة طويلة على اليمن ولأن قبائل من الحبشة كانت اجتازت من سواحل الحبش إلى اليمن وهذا القول لا يخلو من الصحة لأن القدماء ربما دعوا أهل اليمن بالحبش منذ عهد هيرودوتس واسطرابون (ك١ص٥١ من طبعة أوكسفورد) إلا أن معظم الكتبة لا يسلمون ببشارة متى في اليمن ويزعمون أن القديس بشَّر حبشة أفريقية ليس عرب اليمن.
وسبق لنا ذكر القديس برتلماوس ودعوته للعرب فإن الكتبة القدماء كاوريجانوس وأوسابيوس القيصري (في التاريخ الكنسي ك١ ف ١٠) وسقراط المؤرخ زادوا على تعرفهم للعرب بقولهم أن الرسول برتلماوس بشَّر بالمسيح في الهند القريبة يريدون بها اليمن لأن اسم اليمن كان مجهولًا لديهم فسمَّوها بالهند القريبة معارصة بالهند الشرقية ما وراء البحر الهندي. ثم أن المؤرخ فيلوسترجيوس (ك٢ف٦) وتاوفانوس في تاريخ سنة العالم (٦٠٦٤) وتاوفيلاكتوس (ك٣) يدعون الحميديين بالهنود.
وزاد بعضهم إيضاحًا قالوا أن برتلماوس بشر بني سبا. وفي الميناون المنسوب إلى الملك باسيل يقال أنه بشر هنود العربية السعيدة وهي اليمن كما لا يخفى.
وقد رأيت آنفًا أنهم ينسبون أيضًا دعوة النصرانية في بلاد العرب إلى القديس توما قبل سفره إلى الأقطار الهندية. وقد ارتأى هذا الرأي القديس غريغوريوس النزينزي في ميمرة عن الرسل. ومثله تاودوريطس في كتابه عن الأناجيل (ك٩) وبعض كتبة السريان.
1 / 19
ومن الشواهد الجليلة التي توقفنا على دخول النصرانية في اليمن منذ القرون الأولى لتاريخ الميلاد ما رواه أوسابيوس القيصري (ك٥ ف١٠) ومثله هيرونيوس (Hieron. De vir. Illustr.c. ٣٦) عن أحد العلماء الإسكندريين في النصف الثاني من القرن الثاني للمسيح: ألا وهو بنتاوس الفيلسوف فإن هذا كان من الفلاسفة الرواقيين جحد الوثنية وتنصر وعهد إليه دمتريوس أسقف الإسكندرية التدريس في مدرسة الإسكندرية ففعل وأحرز له شهرة واسعة بالتعليم الديني وعنه أخذ أوريجانوس المعلم الكبير فينتانوس المذكور نحو السنة ١٨٣ للمسيح تنزل عن التدريس وسافر إلى الهند ليبشر فيها بالدين النصراني. وقد اتفق المؤرخون على أن الهند المقصودة هنا هي المجاورة لمصر أعني بلاد اليمن كما سبق.
قال أوسابيوس: "فبلغ بنتانوس تلك الجهات ودعا إلى النصرانية أهلها فأوقفوه على إنجيل مخطوط بالعبرانية (١ للقديس متى كان أتى به إليهم القديس برتلماوس الرسول وأودعه عندهم" وفي هذا القول شهادة على ما سبق بالدعوة النصرانية في جهات اليمن منذ عهد الرسل.
هل كان لدعوة بنتانوس في اليمن تأثير في أهل تلك البلاد ذلك أمر لا يمكن القطع به وإنما هو محتمل بل مرجح ففي وجوده بين القوم أنجيلا قديمًا دليل على أن النصرانية التي بشَّر بها برتلماوس الرسول لم تمت بينهم. ويؤخذ من رواية أوسابيوس أن الأستاذ الإسكندري عاد إلى وطنه راضيًا شاكرًا لم يذهب تعبه سدىً. ولعله ل ينسَ أولئك الموعوظين فأمدهم بمرسلين يجاورنه في عمله. وكما هاجر بعض النصارى المصريين في زمن الاضطهادات إلى جهات سينا وبادية الشام على ما روى المؤرخون يجوز القول أيضًا بأن قومًا منهم هاجروا إلى اليمن لاسيما في عهد دقيوس وديوقلطيانوس فنشروا دينهم فيما بينهم.
ومما يستدل إليه من تواريخ العرب كالطؤري وسيرة الرسول لابن هشام والمسعودي وغيرهم أن النصرانية واليهودية أخذتا في النزاع والمخاصمة منذ أواسط القرن الثالث للمسيح. وبلغ الخصام إلى أعيان الدولة وملوكها. فيخبرون أن التبغ أسعد أبا كرب تهود على يد ربانيين من يثرب وحمل أهل رعيته على التهود وتبعه في أمره بعض أولاده بعده لكن النصرانية فازت في عهد عبد كلال بن مثوب.
وقيل أن عبد كلال المذكور ملك في القسم الثاني من القرن الثالث منذ نحو السنة ٢٧٣ للمسيح إلى ٢٩٧ وقد جعل حمزة الأصفهاني ملكه (ف ١٣١ طبعة بطرسبرج) أربعًا وسبعين سنة. وقد اتفق المؤرخون على تدينه بالنصرانية. جاء في القصيدة الحميرية.
أم أين عبد كلالٍ الماضي على ... دين المسيح الطاهر المسَّاحِ
وقال الطبري في تاريخه (طبعة ليدن ج١ ص ٨٨١): وملك بعد عمرو بت تبع عبد كلال بن مثوب.. فأخذ الملك عبد كلال.. ووليه بسن وتجربة وسياسة حسنة وكان فيما ذكروا على دين النصرانية الأولى وكان يسر ذلك من قومه وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان قدم عليه من الشام فوثبت حمير بالغساني فقتلته ثم عاد من بعده عبد كلال إلى اليهودية أخلافه. هذا ما يستخلص من تواريخ العرب إلا أن هذه التواريخ سقيمة جدًا ولاسيما تاريخ حمير. قال حمزة الأصفهاني (ص١٣٤): "ليس في جميع التواريخ أسقم ولا أخل من تاريخ الأقيال ملوك حمير".
ومما وجد من الكتابات الحجرية الحميرية في أواسط القرن الماضي (CISI.٦) كتابة فيها اسم عبد كلال وامرأته أبعلي وولديه هني وهعلل نقشوها تذكارًا لبناية دار يدعونها "يرث" شيدوها "برضى الرحمان" وذلك في شهر ذي خزف من السنة الحميرية) ٥٧٣ الموافقة للسنة المسيحية ٤٥٨. فذكر الرحمان من الأدلة على توحيده أو نصرانيته.
1 / 20