هذا ما علق في ذهن العرب عن نصرانيّة غسّان ولعلّه كافٍ ليقنع بشيوع دين المسيح في بادية الشام كلّها لأن كلامهم يدلّ على أنَّ النصرانية بتلك الأصقاع ما كانت محصورة ما كانت محصورة في غسّان بل امتدت أيضًا إلى القبائل العربيّة من أهل الحضر والمدر الذين سكنوا في تلك الأنحاء واختلطوا بمستعمريها. فمن أراد أن يتتبّع تاريخ النّصرانية بينها ينبغي عليه أن يجمع ما دوّنه المؤرخون اليونان والرومان والسريان منذ انتشار الدين المسيحي في تلك الجهات إذ لا يجوز القول بأنّ النصرانية لم تؤثر في غير الأجانب المستوطنين فيها وأقوالهم جديرة بالاعتبار وهم معاصرون للأمور التي كتبوا عنها.
فما رواه أوسابيوس القيصري في تاريخه الكنسي (ك٦ ف١٩) أنّ النصرانيّة كانت في مبادئ القرن الثالث للمسيح راسخة القدم وافرة العدد في بصرى خاصرة حوران. ظ وقد أخبر أوريجانوس المعلّم الاسكندري الشهير أنّه رحل ثلاث مرّات إلى بصرى فالمرّة الأولى استدعاه حاكمها الروماني المدعو جاليوس سنة ٢١٧ ليفقهه تعاليم الدين المسيحي وينصره فجاء أوريجانوس إلى بلاد العرب ملبيًا دعوته وبعد أن أتم مرغوب الحاكم وعمّده رجع إلى الاسكندرية. أما الرحلة الثانية فباشرها أوريجانوس كما أفاد أوسابيوس في تاريخه (ك٩ ف٣٣) بسبب بيرلوس مطران بصرى. فإنّ هذا الرجل كان من مشاهير أساقفة زمانه في بلاد العرب ألف رسائل ومقالات دينيّة أو أدبية فصيحة الألفاظ بليغة المعاني لولا أنّه شطّ في كلامه عن لاهوت السيد المسيح فجرى بينه وبين الأساقفة معاصريه جدال وخصام ولما لم يقتنعوا إلى أوريجانوس ليأتي إلى حوران فيباحث بيرلّوس المذكور ويردّه عن ضلاله فعاد المعلّم الاسكندري إلى حاضرة العرب وبعد أن اجتمع باسقفها وتحقّق شططه عرض عليه الرأي الصحيح وأزال ريبه فجاهر بيرلّوس بخصضوعه للإيمان المستقيم أما مجمع من الأساقفة عقد لذلك وانصرف أوريجانوسش راجعًا إلى السكندرية. ففي التئام هذا المجمع دليل واضح على نفوذ النصرانية في بادية الشام ووجود أساقفة في مدنها كجرش (Gerasa) وربّة عمّان (Philadelphie) .
أما المرة الثالثة التي قدم فيها أوريجانوس الإمام إلى بادية الشام فكانت بسبب بدعةٍ ابتدعاه بعض أهلها فزعموا أنّ النفوس تفنى بالموت كالأجساد ثم تبعث يوم الدينونة معها لتنال الثواب عن أعمالها. فلمّا عرف أوريجانوس بهذا القول أسرع إلى تنفيده في مجمع ضم أربعة عشر أسقفًا وبين أمام الجموع الملتئمة لاستماعه حقيقة تعليم الكنيسة فردّ الضالّين وثبّت الإيمان في قلوبهم وانكفأ منصرفًا إلى مركزه (راجع تاريخ أوسابيوس ك٦ ف٣٧) .
1 / 8