وكان هؤلاء الأساقفة من أهل الحضر يسكنون مدن بادية الشام. إلا أن غيرهم كانوا يسكنون المضارب ويتنقلون مع القبائل الراحلة الناجعة المتقلبة في المجالات ارتيادًا لمراعي ومصالح أبلها. وقد بلغتنا أسماء بعضهم ممن عرفوا بأساقفة الخيام وحضر بعضهم المجامع الكنسية وامضوا عليها.
واشتهر بعض أساقفة البلاد العربية بما خلفوها من الآثار. منهم القديس طيطس رئيس أساقفة بصرى وضع عدّة تآليف أعظمها شأنًا ما كتبه في تزييف بدعة ماني والمانويين وكانت هذه التآليف مفقودة حتى توفّق إلى اكتشافها في عهدنا بعض المستشرقين فوجدوها في السريانية ونشروها مع ترجمتها. وكان طيطس في عهد يليانوس الجاحد ولم يخف من تحذير شعبه عن كفر ذلك القيصر المارق.
واشتهر في القرن الخامس للميلاد خلفه على كرسيه القديس انطيفاتر صاحب مصنفات عديدة في مواضيع دينية شتى كمقالات في أيضاح الإيمان وميامر في الأعياد وردود على الهراطقة.
وفي تاريخ كتبة اليونان كسوزومان (ك٦ ف٣٨) وروفينوس (ك٢ ف٦) وثاودوريطس (ك٤ ف٢٠) وثاوفان في تاريخ سنة ٣٦٩ وغيرهم من مؤرخي القرن الرابع إلى أواخر السادس للمسيح فصول شتى وأخبار منثورة عن أحوال الدين بين عرب الشام تفيدنا علمًا عن سطوة النصرانية واجتذابها لقلوب أهل البادية لاسيما بواسطة السياح والنسّاك الذين كانوا يعيشون في قفارهم ويخدمون الله كملائكة متقمصين أجسادًا هيولية فكانت فضائلهم العجيبة والكرامات التي تجري على أيديهم من شفاء الأسقام وطرد الأرواح النجسة واستمداد النعم الروحيّة والبركات الزمنية تجذب إليهم أهل المدن والقرى فلا يلبثون أن يسمعوا تعاليمهم ويستنيروا بارشاداتهم ويهتدوا على أيديهم إلى جادة الحق فيطلبوا الاصطباغ بمياه المعمودية.
قال سوزمان في تاريخه (Sozomene، HE، VI، C ٣٨) عن عرب الشام: "قد تنصروا كثير من العرب (هو من يدعوهم بالشرقيين) قبل زمان والنس (من ٣٦٤ إلى ٣٧٨) ممن اجتذبتهم إلى الإيمان المسيحي ارشادات الكهنة والرهبان الذين كانوا يعيشون في النسك والزهد في الأنحاء المجاورة لهم عائشين بالقسدلة ومجترحين المعجزات الباهرة". ثم ذكروا سوزمان ما اشرنا إليه سابقًا في دفاعنا عن النصرانية غسّان اعني رجوع قبيلة كبيرة كان زعيمها يدعى زوكوموس (هو ضجعم) فنال له أحد الرهبان بصلواته إلى الله ولدًا ذكرًا فاعتمد هو وكل قبيلته.
وأردف المؤلف ذلك بخبر ماوية ملكة العرب التي حاربت الرومان وغلبتهم واستولت على بلادهم إلى تخوم مصر ولم ترض بصلحهم إلا على شرط بأن يرسل الرومان إلى مملكتها ناسكًا شهيرًا يدعى موسى خصّه الله بصنع العجائب وبقداسة الحياة فسقف على العرب الذين تحت حكمها وكان عدد النصارى الذين وجدهم في دولتها قليلًا أما فأنار معظم رعاياها وعمّدهم. وقد أخبر ثاودوريطس في تاريخه (ك٤ ف٢٠) أن ماوية هذه توطيدًا للصلح مع الرومان قرنت ابنتها بالزاج مع القائد الروماني فكثور وكانت الفتاة شديدة التحمس في الإيمان.
ومنذ ذاك الحين إذا ورد اسم أحد ملوك غسّان إما في تواريخ السريان وإما في تواريخ اليوانان واللاتين تجد الكتبة لسانًا واحدًا في وصفهم كنصارى يخصّهم الكتبة بالألقاب الشرفية الممنوحة لهم من القياصرة فيدعون بطارقة وأمراء وذوي العز والدولى: وربما زادوا على هذه الألقاب ما دلّ على دينهم فيدعون مؤمنين () ومحبين للمسيح () وكذلك ورد في أحد المخطوطات لندن اسم الكاهن يدعى "كاهن ذي العزّة والمحب للمسيح البطريق المنذر بن الحارث".
وفي القرن الخامس أخذ الرهبان يعيشون عيشة اجتماعية بعد أن كانوا يعيشون منفردين في الأقفار والمرجّع أن الأديرة التي ذكرها حمزة الأصبهاني وأبو الفداء وغيرهما بنيت في ذها الزمان. وكذلك الأديرة التي وصفها ياقوت الرومي غفي معجم البلدان كدير أيوب في حوران (على ما يظنّ وهي بلد أيوب) ودير بونّا ودير سعد ودير البصرى وقد بقي بعض هذه الأديرة مدّة حتى بعد عهد الاسلام ومما زاد النصرانية ترقيًّا في بلاد العرب عدد كبير من الأساقفة والكهنة والرهبان كانوا في أيام الاضطهادات على عهدة القياصرة الوثنيين أو ملوك الروم المتشيعين لا يجدون على حياتهم أمانًا إلا بأن يهجروا بلادهم ويفرّوا إلى أنحاء العرب حيث كان يصعب على المغتصبين أن يدركوهم ويلحقوا بهم الأذى.
1 / 10