على أنّ هذه الشواهد في الدعوة النصرانية الأولى في بادية الشام تعم كل عناصر الآهلين ولا تفرز العرب من سواهم فتبقي شكًا في تنصرّهم إلا أن ما يتبع ذلك العهد من الشواهد التاريخية أصرح وأجلى. فقد أفادنا مؤرخو العرب أن القبيلة الأولى التي توات على بادية الشام باسم الرومان إنما كانت قضاعة من قبائل اليمن. ثم غلبتها على الأمر سليح ثم جاءت بعدهما قبيلة غسّان فملكت على تلك الجهات وبقي. ملكها إلى ظهور الإسلام. والحال أن هذه القبائل الثلث قد دانت بالنصرانية على رأي أولئك المؤرخين. قال اليعقوبي في تاريخه (طبعة ليدن ٢٣٤:١) عن قضاعة "أنّ قضاعة أول من قم الشام من العرب فصارت إلى ملوك الروم فملكوهم فكان أول الملك لتنوخ بن مالك بن فهم ... فدخلوا في دين النصرانية فملكهم ملك الروم على من ببلاد الشام من العرب". وكذلك بنوا سليح فقد صرّح بنصرانيتهم المسعودي في مروج الذهب (طبعة باريس ٢١٦:٣) قائلًا: "وردت سليح الشام فتغلّبت على تنوح وتنصّرت فملكها الروم على العرب الذين بالشام" أما نصرانية غسان فهي من الأمور التاريخية الراهنة التي لا يختلف فيها اثنان على أن كاتبًا من البغاددة أغفل اسمه كان تصدّى لنا في هذه المسألة ونشر في المقتبس (٣٨٢:٢) رأيًا خالف فيه جمع المؤرخين وزعم أننا بنسبتنا النصرانية إلى غسان ركبنا شططًا فرددنا عليه بمقالتين ضافيتين نشرناهما في المشرق (٥٥٤:٥١٩:١٠) جمعنا فيها البيّنات اللامعة والشواهد الساطعة التي تثبت تديّن غسّان وأحيائها وملوكها بالنصرانية ولابأس أن يقال غسّان كلها مع امكان وجود بعض أفراد أو عشائر لم يكونوا نصارى فإن الكلام على الأغلبية.
ولإثبات زعمنا أتينا بالأدلة التابعة التي نركن فيها إلى أقوال مؤرخي العرب فقط وكل ذي انتقاد يعلم أنّ كتبة العرب لم يدوّنوا تاريخًا صحيحًا قبل القرن الثامن وإنما نقلنا نصوص كتبة يوثق بهم من يونان ورومان وسريان ممن كانوا معاصر للحوادث التي فصلوا أخبارها وأمكنهم الوقوف على صحّتها أما بالمعاينة أما بصوت العموم.
نصرانية غسّان غسّان قبيلة يمنية قدمت جهات الشام بعد افجار سد وسيل العرم فاستوطنوها ثم تغلبت على أهلها بعد سليح كما سبق فصار إليها الأمر وتبعت قضاعة وسليحًا في نصرانيتهما. والكتبة العرب لسان واحد في إثبات ذلك فإن تتبّعنا آثار النصرانية في كتبهم وجدناهم يذكرون لملوك غسّان الأولين أبنية تدلّ على نصرانيتهم فإن حمزة الأصبهاني في تاريخ الملوك والأنبياء (ص١١٧) يؤكد أن ثاني ملوك غسّان عمرو بن جفنة بني بالشام عدّة ديورة "منها دير هند ودير حالي ودير أيوب" ثم ذكر (ص١١٨) للأيهم بن الحارث بن جبلة أخي المنذر الغسّاني الأكبر أنه "بنى دير ضخم ودير النبوة". ومن المعلوم أن تنصّر الملوك يدلّ عادة على تنصّر رعاياهم. وفي الواقع لا تكاد تجد مؤرخًا عربيًا إلا يشير إلى النصرانية غسّان فالمسعود في مروج الذهب طبعة مصر (٢٠٦:١) وفي كتاب التنبيه والإشراف طبعة ليدن (ص٢٦٥) وابن رسته في كتاب الأعلاف النفسية (طبعة ليدن ٢١٧) وأبو الفداء في تاريخه (٧٦:١) والنويري (Rasmussen،٧٢) وغيرهم لا يدعون في الأمر ريبًا. وقال اليعقوبي من كتبة القرن العاشر للمسيح (في تاريخه ٢٩٨:١): "وأما من تنصرّوا من أحياء العرب فقوم قريش ومن المن طي وبهراء وسليح وتنوخ وغسّان ولخم".
وقال السيوطي في المزهر نقلًا عن كتاب الألفاظ والحروف بأن اللغة العربية لم تؤخذ من قبائل شتى إلى أن قال أنها لم تؤخذ "ولا قضاعة وغسّان وةإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية" يريد بالعبرانية السريانية الفلسطينية.
وممن أشار إلى نصرانية غسّان النابغة في بائيّته التي مدح فيها ملوك غسّان وأثنى على دينهم وذكر عيد الشعانين فقال: محلَّتهم ذات الإِلهِ ودينُهم قديمٌ فما يرجون غير العواقبِ رقاق النعال طِيّبٌ حجزاتهم يحيَّون بالرَّيحان يوم السباسبِ
1 / 7