غير أن النصرانية في الجزيرة منذ أواسط القرن الخامس تشوّهت بأضاليل البدع ولاسيما البدعة اليعقوبية التي انتشرت في تلك الجهات انتشار العدوى القاتلة ففصلتها عن مركز الوحدة وأوقعتها في لجّة الضلال.
قال يوحنا الأفسي في تاريخه السرياني أن ما جرى بين قبائل العرب المتنصّرة من الجدال بسبب المجمع الخلقيدوني شتّت شمل كثيرين منهم حتى أصبحوا خمس عشرة فرقة. ومثله قال ميخائيل الكبير وابن العبري في تاريخها الكنسي على أن الكنيسة اليعاقبة يلقون التبعة على الكاثوليك وكان الأحرى بهم أن يلقوها على سوء تصرّفهم وعصيانهم على المجمع المسكوني وكان رهبان النساطرة واليعاقبة يتسابقون إلى عرب البادية ليثبتوا بينهم زؤان أضاليلهم. كأحودمه (٥٥٩ ٥٧٥) تلميذ يعقوب البردعي الذي أخبر عنه ابن العبري في تاريخه الكنسي "أنّه لما صار مفريانًا على المشرق ذهب ليدعوا إلى النصارنية القبائل العربية الساكنة في الخيم ورد منهم كثيرين وجعل عليهم كهنة ورهبانًا وابتنى لهم دير يدعى الواحد دير عين قنّا والأخر دير جثان بقرب تكريت".
واشتهر بين اليعاقبية بعد ذلك "جرجس أسقف العرب" فإن هذا كله من علماء عصره نقل إلى السريانية عدّة تآليف لليونان منها كتاب الأورغانون لأرسطو وألف التآليف العديدة في شرح الكتاب المقدس وأسرار الكنيسة وغير ذلك وكان كرسيه في عاقولاء بين عرب قبائل العرب. وميامره بالسريانية شهيرة. كانت وفاته سنة ٧٢٤م وفي أخبار الأخطل وقومه وحروبهم مع زفر بن الحارث وقبائله القيسيّة شواهد لامعة تبيّن أن النصرانية بقيت بين عرب الفرات زمنًا طويلًا بعد الإسلام في عهد بني أميّة.
الباب التاسع النصرانيَّة بين عرب شمالي سوريّة أنّ في شمال سوريّا مفاوز متسّعة تمتد من نواحي دمشق إلى تدمر شرقي جبل الشيخ ثم حمص وحماة وتبلغ إلى جهات حلب وتتناول البوادي الفسيحة التي تنبسط في تلك الأنحاء شرقًا نهر الفرات. فهذه الصحارى الرحبة كانت أيضًا من قديم الزمان محطًّا لقبائل العرب تجول في بسطتها دون أن يضايقا سكّان المدن وهناك تسرح مواشيها وترعى أبلها أيام الربيع فإذا اشتد عليها القيظ تقرّبت من الأرياف أو جاورت ضفاف الفرات.
فتلك البلاد الواسعة كانت في القرون السابقة للإسلام ديارًا لقبائل عربيّة جليلة أخصّها بنو كلب كانوا يسكنون منها القسم المتصّل بالفرات شرقًا في البيداء المعروفة بالسماوة. وقال الهمداني في صفة جزيرة العرب (ص١٢٩): "أما كلب فمساكنها السماوة ولا يخالط بطونها في السماوة أحد ومن كلب بارض الغوطة عامر بن الحصين وابن رباب المعقلي".
وقال في موضع آخر عن قبائل الجهات التي نحن في صددها: وإن جزْت جبل عاملة قصد دمشق وحمص وما يليها فهي ديار غسّان من آل جفنة وغيرهم. فإن تياسرت من حمص عن البحر الكبير وهو بحر الروم وقعت في أرض بهراء ... ثم من أيسرهم مما يصل البحر تنوخ ... ثم تقع في نصارى وغير ذلك إلى حدّ الفرات إلى بالس في برية خساف فهي من الدهناء ومنها مخرج إلى تدمر ذات اليمنين وهي تدمر القديمة وهي جانب السماوة.
"وما وقع في ديار كلب من القرى تدمر وسلميّة والعاصمية وحمص وهي حميرية وخلفها مما يلي العراق حماة وشيزر وكفرطاب لكنانة من كلب ثم ترجع بكنانة كلب من ديارها هذه إلى ناحية السماوة والفرات من المدن تلّ منّس وحرص وزعرايا ومنبج. ومنبج بينهم وبين بني كلاب إلى حد وادي بطنان".
1 / 44