لاشك أن كل هذه النواحي التي كان عرب البادية يقيمون فيها لم تحرم من الدعوة النصرانية ولو لم يكن لنا حجّة لتأييد قولنا غير موقع ديارها لكفى به دليلًا لأنها واقعة كما ترى بين فلسطين والشام وجهات إنطاكية وحلب وأنحاء الرها وكلها بلاد أصابت سهمًا معلّى من الدعوة المسيحية لقربها من ينابيع الخلاص فلا غرو أن تكون جرت إليها منها داول قبل بقيّة الأقطار بعد صعود الرب بزمن قليل وفي هذه الأنحاء بل في القرى أيضًا، تعدّدت في القرون النصرانية الأولى الكراسي الأسقفية ليس في المدن فقط بل في القرى أيضًا حتى الصغيرة () كما يشهد على ذلك القديس باسيليوس في رسالته ١٩٠ إلى أمفيلوخيوس وورد في الآثار الكتابيّة أو التواريخ القديمة أسماء عدّة أساقفة كانوا يسوسون الرعايا المتفرقة في المقاطعات التي نحن في صددها وقد وقّع كثيرون منهم أعمال المجامع النيقاوي والقسطنطيني والأفسي والخلقيدزني.
وقد أثبت حضرة الأب سبستيان رنزفال في مقالته عن زينب (المشرق السنة الأولى ص٩٨٧ ت ٩٩٠) ما كان للنصرانية من النفوذ في تدمر والبلاد المجاورة لها في القرن الثالث للمسيح بفضل السلام السائد على تلك الأنحاء. كما ظهر ذلك النفوذ أيضًا في المجمع المنعقد سنة ٢٦٩ في إنطاكية للحكم على بولس السمساطي فحضره ثمانون أسقفًا وحرموه.
وقد صرّح في ذلك القرن ديونيسيوس الإسكندري بنصرانية تلك الأصقاع حيث كتب للبابا القديس اسطفانس "إن أقاليم سوريّا كلها مع بلاد العرب التي تمدّها بصدقاتك وبلاد ما بين النهرين تصادق على تعاليمك".
ويؤيد ذلك أخبار السيّاح الذين سكنوا في تلك الإقفار فاجتذبوا إليهم القبائل المجاورة لهم كالقديس ملكوس أومالك الذي روى قصته العجيبة القديس ايرونيموس وكالقديس اليان الواسع الشهرة في القريتين (المشرق ٦٥٨:٩) والقديس سمعان العمودي الذي مرّ ذكره وكان مقامه في شمال سوريا في الجبل المنسوب إليه. وقد أفاد تاودوريطس في تاريخه الإسماعيلي أي العرب كانوا يتقاطرون إلى عموده وأنه نصّر منهم ألوفًا مؤلفة (Ismaelitarum millia innumera. bilia) . وفي حياة القديس نونوس أنه لما كان في بعلبك عمّد ثلاثين ألفًا من العرب ويضاف إلى ما تقدم ما وجده الأثريون في شمالي سوريا من الآثار النصرانية العديدة رأينا بعض تلك الأبنية في ساحتنا إلى بادية تدمر (في المشرق ٩٥٦:٩) .
ومن ذلك أثر فريد اكتشفه زحّالة أوروبي قبل ١٢ سنة في زبد ليس بعيدًا عن حلب فيه كتابه بثلث لغات يونانية وسريانية وعربية تاريخه باليونانية سنة ٨٢٣ للإسكندر الموافقة لسنة ٥١٢ للمسيح. وهو أول أثر يعرف بالقلم العربي كتب ١١٠ سنوات قبل الهجرة. وهذا الأثر نصراني محض نقر في حجر ليوضع على مشهد أقيم هناك لتذكار الشهيد القديس سرجيوس. وهذا يثبت ما قلناه سابقًا عن تعبّد العرب لذلك الشهيد. وأخيرًا ساويرس البطريرك الدخيل وزعم البدعة اليعقوبية أي عرب البادية كانوا إذا تنصّروا يطلبون المعمودية في كنيسة القديس سرجيوس في الرصافة حيث قتل شهيدًا (روى في ميمره السابع والخمسين الذي قاله في ٧ تشرين الأول سنة ٥١٤ أعني سنتين بعد تاريخ الأثر المذكور) .
ومن الشواهد التاريخية المثبتة تنصر العرب في شمالي سوريا ما رواه ميخائيل الكبير وابن العبري عن يوحنا أسقف أفسس من كتبة القرن السادس أنه لما حصل الانقسام بين الملكيين وأعداء المجمع الخليقدوني تفرّق العرب النصارى وسكن منهم قسم في بادية تدمر في النبك والقريتين وحوّارين. وبقي هؤلاء العرب على نصرانيتهم زمنًا طويلًا بعد الفتح الإسلامي كما يشهد ياقوت الحموي (٧٧:٤) حيث قال عن القريتين في زمانه "أن أهلها كلهم نصارى".
ولنا في كتب العرب ما يزال كل ريب عن القبائل المتنصّرة في شمالي سوريا وقد رأيت ما نقلناه عن وصف الجزيرة للهمداني أن السهول الواقعة بين الشام وحلب والفرات كان معظم سكّانها من غسّان وتغلب وتنوخ وعلى الأخص من بني كلب الذين تفرّدوا بسكنى السماة الممتدة من الشام إلى نواحي الموصل وكانوا يسكنون خصوصًا في جهات تدمر وسلميّة حتى سميت تلك الجهات بادية كلب. فهذه القبائل كلها كانت نصرانية فأما غسّان وتغلب وتنوح فقد مرّت الشواهد على نصرانيتها فبقيت قبيلة بني كلب. ودونك الأدلة على تدينها بالدين المسيحي.
1 / 45