ويمكنا أن نضيف إلى هذه الشهادات ما رويناه سابقًا عن تبشير عرب العراق فإن الشواهد المروية هناك عن الرسل وتلاميذهم تصح في عرب الجزيرة. ومثلها أقوال المؤرخين في بشارة الرسول برتلماوس للعرب. وكذلك ورد في السنكسارات القديمة وفي خطط المقريزي أن يهوذا الرسول المعروف بتداوس "كرز في سورية والجزيرة".
رابعًا وإن تخطينا عهد الرسل إلى القرن والثالث للمسيح رأينا بلاد الجزيرة زاهرة بالدين النصراني. ففي الرها كانت الترجمة الأولى للكتب المقدسة إلى السريانية وهي الترجمة المعروفة بالبسيطة في أواخر القرن الأول للمسيح أو أوائل الثاني وهناك تولى طاطيانوس تلميذ القديس يوستينوس الفيلسوف الشهيد في القسم الثاني من القرن الثاني تنسيق الأناجيل الأربعة برواية واحدة تعرف بالدياطاسارون.
وهناك تنصر الأباجرة ملوك الرها سواء يسلم بصحة المكاتية بين السيد المسيح والأبجر المعروف باوخاما كما تعتقده الكنائس السريانية أو يؤجل تنصرهم إلى أيام كراكلا برجوع التاسع (١٧٩ ٢١٤) وهناك عقد مجمعان واحد ذكره اوسابيوس في تاريخه (ك٥ ف٢٢) نحو سنة ١٥١ للمسيح التأم فيه ١٩ أسقفًا للنظر في أمر الفصح وتعيين يومه والآخر عقد بعده بزمن قليل للفحص عن أقوال بعض المبتدعين كتاودوطس وابيون وارتيمون حضره ١٤ أسقفًا فكفى بعدد هؤلاء الأساقفة دليلًا على انتشار الدين المسيحي في زمن قريب من رسل الرب يؤيد ما جاء في تقاليد كنائس الجزيرة عن أسماء عدة أساقفة رعوا المؤمنين قبل القرن الرابع في مدن عديدة كنصيبين وبازبدى (جزيرة بني عمرو) وآمد والرقة وهلمّ وجرّا.
أما كون العرب هناك كانوا من جملة المتنصرين فيشهد عليه ابن ديصان الذي عاش في الرها (١٥٤ ٢٢٢) فيذكر أهل الرها وأهل حضر وكانوا من عرب قضاعة عليهم ملك يمتد ملكه في أنحاء الجزيرة فقال عنه عدي بن زيد:
وإخو الحضر إذ بناهُ وإذ ... دجلةُ تجبى إليه والخابورُ
خامسًا ثم جاء القرن الرابع والخامس فكانا زمن انتصار الدين المسيحي في العالم الروماني فظهرت النصرانية في كل رونقها وجلالها في أنحاء الجزيرة فاستقلت القبائل العربيّة هناك مواردها العذبة وكان ذلك على الأخص بواسطة الرهبان والسيّاح الذي اختاروا بلاد الجزيرة ليقدسوها بفضائلهم كما قدّس سيّاح مصر بلاد الصعيد. وكان منشئ العيشة الرهبانية في الجزيرة القديس أوكين من تلامذة القديس انطونيوس الكبير. وقد اجمع المؤرخون الكلدان والسريان أنه قدم من مصر في العشر الثاني من القرن الرابع في جبل نصيبين المسمّى جبل الإزل وبشّر بالإيمان في نصيبين وعمّد عاملها وأولادها وطاف بلاد قردى وبازبدى وجهات نصيبين حيث كانت قبائل العرب وتلمذا الناس وبنى الأديرة منها دير الزعفران مقام بطاركة اليعاقبة في يومنا وهو قرب ماردين وتتلمذ له عدد من الرهبان وكانت وفاة مار أوكين في نصيبين.
ويؤيد شهادة السريان المؤرخ اليوناني المعاصر سوزومان في الكتاب السادس من تاريخ (الفصل ٣٤) فقال عنه أن أوكين وهو دعاه أونس (Aones) جارى القديس انطونيوس بنشره المناسك الرهبانية في الجزيرة وفي تخوم العجم وقال عنه إنه سكن في نواحي نصيبين في فادانا (Phadana) ثم انتقل المؤرخ إلى ذكر تلاميذه أو المشبهين بسيرته فذكر في جبل سنجار بأتّاوس وأوسابيوس وبرجس وكالس وآبا ولعازر سقّف بعد ذلك على نصيبين وعبد اله وزينون وهيليودورس وذكر في حرّان أوسابيوس الحبيس وبروتوجان الذي تولّى الأسقفية على حرّان بعد بيتوس.
وذكر السريان من تلامذة مار أوكين القديس شليطا الراهب الذي بشّر بالإيمان في بازبدى ثم سابا الذي عمر هناك ديرًا ويوحنا الذي كان يطوف القرى وينصر الناس وآحا أخا يوحنا ثم تبعهم آخرون كثيرون وعمّروا الأديرة العديدة حتى صارت بعض أنحاء الجزيرة كمدن رهبانية لا سيما الأمكنة المقفرة والجبال كالجبل المعروف بطور عابدين في شمال شرقي ماردين وجبل الإزل السابق ذكره وجبال الموصل آلاف منها للرجال ومنها للعذارى وقد بقي من هذه الأديرة إلى يومنا آثار ظاهرة وبقايا معتبرة. فإن حضرة القس إسحاق أرملة وصف في مقابلة نفيسة الأديرة التي ترى آثارها بقرب ماردين فقط (اطلب المشرق ٧٦٠:١٢) .
النصيبيني والقديس أفرام والأساقفة القديسين برسيس واولوجيوس وربّولا والقديس بوليان سابا.
1 / 42