ومما لا ينكر أن النصرانية غلبت بعد ذلك على ملوك الحيرة وأهلها العرب حتى يجوز القول بأنها عمتهم قاطبة وأن المسلمين لما فتحوا مملكة المناذرة وجدوها مملكة نصرانية في دينها وآدابها وعاداتها. ومن بعض أصحابها أخذ العرب كتابتهم كما في مر الشرق (٤: ٢٧٨ ٢٨٢) وإن كانت بعض فروع الكتابة أتتهم أيضًا من نصارى النبط ومن أهل دومة الجندل ومن الحبشة كما ورد هناك أيضًا وأثبتته الاكتشافات الأثرية الأخيرة. وكان المتولي على عرب الحيرة في عهد الفتح الإسلامي إياس بن قبيصة الطائي كان كسرى أبرويز ولاه عليهم بعد وفاة المنذر ريثما يعين ملكًا من أبنائه فبقي على ولايتهم إلى دخول المسلمين الحيرة. ونصرانية إياس المذكور ثابتة لاشك فيها كما رأيت.
الباب الثامن
النصرانية في الجزيرة
تتبعنا آثار النصرانية بين العرب في الجاهلية على حدود بحر فارس ثم وجهات العراق ورأينا ما خلفته لنا التواريخ من أخبار الدين المسيحي في الممالك الثلاثة الكبرى التي اقتسمت جزيرة العرب أعني دول الغساسنة والتبابعة والمناذرة. وحتى الآن لم نستوف مآثر نصارى العرب على التخوم الفاصلة بلادهم عن البلاد المجاورة.
فمما لم نذكره حتى الآن السهول الواسعة والبقاع الرحبة الممتدة من جهات الموصل إلى مجرى الفرات المتوسطة بين الأرمن والشام. فهناك مفاوز متسعة يسقيها النهران الكبيران دجلة والفرات مع عدة أنهار تنصب فيها أخصها الخابور. فتلك البوادي التي كانت الأمم القديمة تتزاحم في ملكها لخصبها العجيب ووفرة خيراتها وسعة غلاتها ازهرت فيها مدن عددية وحواضر ممصرة لم يبق من أكثرها اليوم غير أخربة مهيبة أو مدن ثانوية تنبئ بعظم مقامها في القرون الغابرة منصيين ودارا ودنيسر وآمد وميافارقين وسعرت وماردين والرقة ورأس العين وقرقميش وقرقيسيا والرها التي يطلق على مجموعها اسم الجزيرة.
فتلك البلاد المتدفقة بالنعم الزاخرة بالخير قد أحبتها منذ سالف الأجيال قبائل العرب سواء كانوا من أهل الحضر أو من أهل المدر إذ كانوا يجدون فيها ما يصلح لمعاشهم الساذج ولرعية مواشيهم فينتقلون إذا شاءوا من الأرياف إلى البراري ليس من يتعرض لاستقلالهم أو يتداخل في أمورهم غير شيوخهم وأمراء عشائرهم.
وما يدل على انتشار القبائل العربية في الأنحاء المذكورة أعلامها المشيرة إلى قاطنيها كباعربايا وجزيرة ابن عمر وديار ربيعة وديار بكر وديار مضر وغير ذلك مما ينوه اسمه بأصل سكانه. فباعربايا أو بيت عربايا اسم لثلاثة أماكن احتلها العرب أخصها مدينة كانت قريبة من نصيبين. وجزيرة ابن عمر وعلى الأصح "ابني عمر" هي مدينة موقعها على دجلة يدعوها الكلدان بازبدي ثم نسبت إلى ابني عمر وهما على ما روى ابن خلكان "أوس وكامل ابنا عمر ابن أوس التغلبي".
أما ديار بكر وديار ربيعة وديار مضر فقد أحسن في وصفها ياقوت في معجم البلدان (٢: ٦٣٦ ٦٣٨) فقال عن ديار بكر: "ديار بكر هي بلاد واسعة تنسب إلى بكر بن وائل ... بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وحدها ما غرب من دجلة من بلاد الجبل المطل على نصيبين إلى دجلة ومنه حصن كيفا وآمد وميافارقين. وقد يتجاوز دجلة 'لى سعرت وحيزان وحينى وما تخلل ذلك من البلاد ولا يتجاوز السهل".
وقال عن ديار ربيعة: "ديار ربيعة بين الموصل إلى رأس عين ودنيسر والخابور جميعه وما بين ذلك من المدن والقرى وربما جمع بين ديار بكر وديار ر بيعة وسميت كلها ربيعة فإنهم كلهم ربيعة.
وهذا اسم لهذه البلاد قديم كانت العرب تحله قبل الإسلام في بواديه واسم الجزيرة يشمل الكل".
وقال في ديار مضر: "ديار مضر هي ما كان في السهل بقرب من شرقي الفرات نحو حران والرقة وشمشاط وسروج وتل موزن".
أما القبائل التي كانت تسكن في تلك الجهات فكانت من ذرية نزار بعد معد كإياد بن نزار بعد فرارهم من تخوم العجم ومضر بن نزار منهم بنو النمر بن قاسط ولاسيما بني ربيعة منهم خصوصًا بنو تغلب وبني بكر وبني شيبان. قال أبو محمد الحسن الهمداني في كتاب صفة جزيرة العرب (ص١٣٢ éd. D. H. Müller) يذكر منازل تلك القبائل:
1 / 40