وقد جاء أيضًا في تاريخ ابن العبري (مختصر الدول ١٤٨) أن المنذر كان يعتقد اعتقاد اليعقوبية كنصارى العرب إلا أن ابن العبري ليس مصيبًا في ذلك ولعله انخدع بشهادة بعض المؤرخين اليعاقبة مثله. ولنا على صحة إيمان المنذر دليل لامع وهو ما رواه المؤرخ اليوناني تاوفانوس قال أن ساويرس البطريرك السرياني الدخيل أراد أن يجتذب إلى بدعته ملك الحيرة فأرسل إليه أسقفين ليقنعاه بأن في المسيح طبيعة واحدة وليس طبيعتين كما تعلم الكنيسة الأرثوذكسية. فالملك سمع كلامهما ساكتًا ثم فض كتابًا كان في يده فبدت عند قراءته الكآبة على وجهه فسأله الأسقفان: ما الأمر. فقال: قد أبلغني كاتب هذه الرسالة أن رئيس الملائكة قد توفي فهذا الخبر قد امعظني جدًا. فضحك الأسقفان حتى قهقها وقالا للملك: كيف يمكن أن يموت ملاك لا جسد له فهذا كذب محض. فأردف الملك وقال لهما: وكيف أنتما تزعمان أن المسيح وهو ذو طبيعة إلهية مفردة قد مات. أليس هذا أعظم كذبًا وضلالًا؟ ثم رد الأسقفين خائبين.
فيظهر من جواب المنذر لهذين الأسقفين أنه ليس فقط كان نصرانيًا بل كاثوليكيًا يؤيد ذلك المؤرخ فكتور التونوي المتوفي سنة ٥٥٦ فقال أن المنذر تعمد على يد أساقفة من أنصار المجمع الخلقيدوني.
وكان هذا زالمجمع قد عقد سنة ٤٥١ وحضره أسقفان من العرب أوسطات ويوحنا فوقع كلاهما على أعماله باسم أسقف السراكسة أو الشرقيين. وعلى رأي البولنديين المشهورين بتدقيقهم في البحث أن البدعتين اليعقوبية والنسطورية لم تفشوا بين عرب العراق إلا بعد أواسط القرن السادس في أيام فيروز ملك العجم لما أطلق العنان لبرصوما. إلا أن السمعاني في المكتبة الشرقية (مج ٣ الجزء ٢ ص٦٠٥) يرتأي أن البدعتين أخذتا في الانتشار منذ أواسط القرن الخامس ويأتي ببعض الشواهد لتأييد قوله. وكان للنسطورية في العراق السهم الأفوز.
وكانت وفاة المنذر ابن ماء السماء في يوم حليمة أحد أيام العرب الشهيرة بين اللخميين وبني غسان. فضبط زمام الملك ابنه عمرو بن المنذر الشهير بعرو بن هند (٥٦٢ ٥٧٤) واشتهر كابيه بعدة وقائع مع الروم وعرب غسان وعرب اليمامة وغيرهم. أما دينه فالنصرانية لنا على ذلك شاهد جليل رواه أبو عبيد البكري الوزير في معجم ما استعجم (ص٣٦٤) وياقوت في معجم البلدان (٢: ٧٠٩) في وصف دير هند الأقدم أو دير هند الكبرى أم عمرو وابنة الحارث بن عمرو بن حجر الكندي قال: "وكان في صدره (أي صدر دير هند) مكتوب: بنت هذه البيعة هند الحارث بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك وأمة الملك عمرو بن المنذر أمة المسيح وأم عبده وابنه عبده في زمن ملك الأملاك خسرو وانوشروان وفي زمن أفرائيم الأسقف. فالإله الذي بنت له هذا الدير يغفر خطيئتها ويترحم عليها وعلى ولدها ويقبل بها وبقومها إلى أمانة الحق ويكون الإله (وروى ياقوت: الله) معها ومع ولدها الدهر الداهر".
فهذا القول من أوضح البينات على نصرانية عمرو بن هند بل على نصرانية ملوك كندة كما ترى.
وخلف عمر بن هند النعمان بن المنذر وهو صاحب عدي بن زيد الشاعر النصراني العبادي الشهير وعلى ما يستنتج من رواية مؤرخي السريان أنه كان نصرانيًا قبل جلوسه على سدة الملك. أما العرب فيخبرون أنه تنصر على يد صهره عدي بن زيد زوج ابنته هند بنت النعمان ومارية الكندية المعروفة بالحرقة. وقد روى غير واحد منهم (راجع الأغاني ٢: ٣٤) أن النعمان مر بمقبرة فأنشده عدي أبياتًا زهدية (اطلب شعراء النصرانية ص٤٤١ ٤٤٢) كانت سبب تنصره بل روى أبو الفرج أنه "لبس المسوح وتنصر وترهب وخرج سائحًا على وجهه فلا يدري ما كانت حاله فتنصر ولده بعده وبنوا البيع والصوامع".
على أنك رأيت مما سبق أن ملوك الحيرة تنصروا قبل ذلك وقد جاءت أخبار النعمان بن المنذر مضطربة فمنهم من أخبر أنه فتك بعدي بن زيد فقتله فقام ابن عدي المدعو زيدًا كجده فسعى به لدى كسرى انوشروان فحبسه وقتله. وروى غيرهم ولعله الأصح أن قاتل عدي بن زيد إنما هو خلفه المنذر أبو قابوس. أما ابنته هند فزهدت بالدنيا وعمرت لها ديرًا عرف بدير هند. ولهند هذه قصة مشهورة مع سعد ابن أبي وقاص بعد يوم القادسية ثم مع المغيرة بن شعبة الذي خطبها لما تولى الكوفة فردته ردًا لطيفًا وماتت في رهبانيتها.
1 / 39