وصار الملك من بعد امرؤ القيس إلى ابنه المنذر الثالث الشهير بابن ماء السماء الذي ملك ٤٩ سنة (٤١٣ ٥٦٢) وماء السماء لقب أمه معاوية (ويروي مارية) ابنة عوف وقبل بل هي أخت كليب والمهلهل التغلبيين وأن اسمها ربيعة والعرب دعوها بماء السماء لكرمها ورقة طباعها. ويدعى أيضًا هذا المنذر بذي القرنين لضفيرتين كانتا له من شعره. وكان المنذر المذكور من أرفع ملوك الحيرة قدرًا وأشدهم بأسًا وهو الذي انتصر من بليزار أحد أبطال الروم في زمانه وكبير قواد يستنيان أما دينه فان شواهد المؤرخين متضاربة في تعريفه. وما يحصل منها أنه عرف النصرانية منذ حداثة سنه لأن أمه كانت نصرانية فلا شك أنها لقنته منذ صغره مبادئ الدين المسيحي لكنه لما كبر وتولى الملك تحت سيطرة ملوك العجم عدل إلى الشرك ودين المجوسية أو بالحري إلى مذهب مزدك أي المانوية بإيعاز ملك الفرس.
والظاهر أنه في زندقته استقبل الوفد الذي أرسله إليه ذو نواس بعد قتله نصارى نجران كما أخبر الكاتب المعاصر شمعون أسقف بين أرشيم فطلب منه أن يقتفي آثاره ويقتل نصارى الحيرة فأثر كلام ملك اليمن في المنذر وأراد أن يختبر صدق إيمان المنتصرين من جيشه فدعا قومًا منهم وعرض عليهم جحود إيمانهم فقام أحد صناديد ضباطه فقال له: "أن تنصرنا قد سبق جلوسك على عرش المناذرة فهيهات أن تقنعنا بالعدول عن ديننا. وعلى كل حال إن كان رصفائي لا يثبتون في مذهبهم فإني لا أجحده مطلقًا ولست أخاف العذاب ولا الموت كما تحققت ذلك لما رأيتني في وقائع الحروب غذ لم يك سيفي أقصر من سواي". فلما سمع المنذر كلامه عرف أنه لايستفيد شيئًا فعدل عن قصده وترك كلا من جنوده يتبع دينه. وبقي المنذر على زندقته زمنًا وعبد كبعض العرب اللات والعزى. ومما أخبره عنه المؤرخ زكريا الخطيب وميخائيل الكبير أنه انتهك في بعض حروبه حرمة الكنائس والأديرة فنهب وسلب وأسر في أراضي الرومان عددًا من الأسرى بينهم ٤٠٠ من العذارى الراهبات قتلهن وقدمهن كذبائح للعزى.
على أن المنذر لم يثبت في زندقته بل جحد الوثنية ونبذ مذهب مزدك. بل تنصر بعد ذلك كما يؤخذ من شهادات المؤرخين الروم والسريان والعرب. وقد روى صاحب الأغاني (١٩: ٧٧) والقزويني (ص٢٨٥) وغيرهما خبر تنصره في مطاوي ذكرهم للغريين قالوا أن المنذر المذكور غذ كان قتل في بعض أيام ثملته اثنين من أعز ندمائه عمرو بن مسعود وخالد بن المضلل أقام على قبريهما غريين أو طربالين واتخذ لهما يومين يوم نعيم كان يغني فيه من أتاه قبل غيره ويوم بوس كان يقتل فيه أول وافد عليه. فقتل في إحدى السنين عبيد الأبرص الشاعر ثم أتاه في سنة أخرى أحد مضيفيه المحسنين إليه في يوم صيده يدعى حنظلة بن أبي عفراء الطائي وهو يرجي خيرًا فلم ير المنذر بدًا من قتله لئلا يخنث برعده إلا أن حنظلة طلب تأجيل الحكم لمدة معلومة واتخذ له كفيلًا شريك بن عمرو الشيباني فلما جاء اليوم المعهود وكاد ينفذ الحكم في الكفيل رجع حنظلة مستعدًا لقتل. وإذ قضى الملك المنذر منه العجب سأله ماذا دفعه إلى القيام بوعده فأجاب أن دينه النصراني دفعه إلى ذلك فتنصر الملك وأهل الحيرة معه. هذا ما رواه العرب. ومنهم من ينسب الأمر إلى النعمان الأول وغيرهم يروونه عن النعمان أبي قابوس إلا أن أصحاب النقد يرجحون أنه المنذر الثالث ابن ماء السماء. وهو يؤيد كما ترى ما قلناه عن تنصر المنذر.
أما حنظلة فروى ياقوت (٢: ٦٥٥) أنه بعد نجاته من الموت زهد في الدنيا وابتنى ديرًا قريبًا من الفرات عند الرحبة دعي باسمه دير حنظلة وكان حنظلة عم إياس بن قبيصة الذي صار ملكًا على الحيرة بأمر ملك العجم كما سترى.
1 / 38