وأن تتبعنا تاريخ النصرانية بين عرب العراق في أواخر القرن الخامس ومدة القرن السادس وجدنا بينهم رجع صدى لهذه الحوادث الجارية في ظهرانيهم وهم منوطون في العراق بالكنيسة الكلدانية التي تبعت اضاليل نسطور وفي الجزيرة وديار بكر وربيعة وأنحاء الرها بالكنيسة السريانية التي غلبت عليها الهرطقة اليعقوبية وكان ملوك الحيرة أول من تأثر بهذه الحوادث فان السياسة قضت عليهم بان يتبعوا الدولة الساسانية التي بسطت حمايتها على النسطورية وعضدتها في بلاد العراق إلى نصيبين وذلك بغضًا بملوك الروم الذين كانوا يتقلبون حينًا مع البدعة اليعقوبية وحينًا مع الكنيسة الكاثوليكية. ونرى المؤرخين الروم واللاتين مضطرين في ايضاح تاريخ ملوك الحيرة فتتناقص فيهم اذ كانوا يرونهم في مصاف اعدائهم الفرس فيعضهم يجعلون وثنيين ويعضهم يذكرونهم في عداد النصارى ويروي غيرهم عن أمراء الجيش ما لا يصح إلا عن الملوك وبعكس ذلك ينسبون إلى الملوك ما أتاه الأمراء. وترى شيئًا من هذا الاضطراب في رواية السريان العرب. وها نحن نورد من ذلك ما نراه أقرب إلى الحق.
خلف المنذر الأول في ملك الحيرة أباه النعمان بعد تنصره وزهده فملك ٤٤ سنة (٤١٨ ٤٦٢) قضاها في حروب متواترة ضد الروم في خدمة ملوك الفرس لا سيما بهرام جور بن ازدشير الذي كان تربى بين عرب الحيرة. وكان بهرام عدوًا للنصارى فامتحنهم في بلاد فارس وجوارها وصادرهم وقتل منهم كثيرين تعيد الكنيسة ذكرًا لاستشهادهم وكأن المنذر وافقه على آرائه وعاد إلى شرك آبائه القديم. وأخبر سقراط المؤرخ معاصره أنه ددخل في بلاد الروم فنهب وسلب حرق وسبى وكان يقصد السير إلى القسطنطينية ليفتتحها لكنه لم يفلح وأصيب جيشه بكسرة عظيمة وقتل منهم ألف على قول سقراط وسبعون ألفًا على رأي الكتبة السريان وقام الملك بعد المنذر ابناؤه الثلاثة بالتوالي اعني نعمان الثاني (٤٥٢ ٤٧١) المعروف بابن شقيقة صاحب الفرقتين الشهباء ودوسر ثم الأسود (٤٧١ ٤٩١) ثم المنذر الثاني (٤٩١ ٤١٨) ولا نعلم من أمر دينهم شيئًا بل اخبارهم مضطربة لا تؤخذ سندًا لتاريخ واثبت منها أخبار النعمان الثالث ابن الأسود بن المنذر (٤٩٨ ٥٠٣) الذي سها عن ذكره معظم مؤرخي العرب إلا حمزة الأصفهاني (ص١٠٤) وقال أن أمه كانت تدعى أم المالك وأنها كانت ابنة عمرو المقصور أحد ملوك كندة وجد امرئ القيس الشاعر غزا أيضًا الروم ونهب بلادهم وكان في خدمة الملك قباذ. ولعله هو هو الذي أشار إليه مؤرخو الروم لما ذكروا فتح الرفس لمدينة آمد فقالوا أن ملك العرب طلب أن لا يصيبوا باذى الذين التجأوا إلى كنيسة الأربعين شاهدًا وفي هذا دليل إلى ميله إلى النصرانية لكنه بعد ذلك دالت عليه الدولة فكسره الرومان دفعتين. وأخبر يوشع العمودي المؤرخ السرياني أن النعمان مشى أخيرًا إلى محاربة الرها قباذ ولما نهاهنا عن ذلك أحد ضباط جيشه النصارى وذكر له قصة الأبحر ملك الرها والسيد المسيح غضب عليه وشتم دينه وكان ذلك داعيًا إلى موته إذ انتقض جرحه السابق فمات. فعين قباذ كخلفه في تدبير الملك رجلًا يدعوه أبو الفداء وحمزة الأصفهاني وغيرهما أب يعفر علقمة وهذا لم يكن من أبناء الملوك ولعله كان فقط وليًا للملك وإنما كان من إشراف اللخميين وأحد أبناء أسرة بني ذميل النصرانية التي سبق ذكرها فاستخلفه قباذ ولم يتول سياسة الدولة إلا ثلث سنوات ثم أقيم امرؤ القيس الثالث الذي لم تطل مدته (٥٠٥ ٥١٢) .
1 / 37