ويخبر عن المتعبدين في تلك الأديرة أو القلالي الممتدة بين الحيرة والبصرة أنهم كانوا يجتمعون في الأعيان فيحتفلون بها برونق وكان أهل تلك الأنحاء يخرجون إليهم فيحضرون حفلاتهم ويطلبون منهم شفاء مرضاهم. وكان النساك يعيشون غالبًا من صيد الأسماك ومن حسنات المؤمنين.
فهذه أديرة عديدة كلها من بناء نصارى العرب في جهات العراق. فلعمري أنها من أدل الأدلة وأجلى البينات على علو منار النصرانية بين عرب الجاهلية.
وما قلناه عن الأديرة يجوز قوله عن عدة كنائس وبيع شيدها العرب وأشاروا بذلك إلى تقاهم وتحمسهم في الدين. وكانوا يتفاخرون ببناء البيع في احيائهم. قال الفيروزاباي: وكان في الحيرة كثير من الكنائس البهية وقال الزبرقان بن بدر التميمي لما وفد على محمد يذكر كنائس قومه (سيرة الرسول لابن هشام ٩٣٥):
نحن الكرام ولا حيٌّ يعادلنا ... منا الملوكُ وفينا تنصب البيع
وقال في معجم البلدان (٢: ٧٠٣): "كان أهل ثلاث بيوتات يتبارون في البيع وربها (كذا) أهل المنذر بالحيرة وغسان بالشام وبنو الحارث بن كعب بنجران وبنوا دياراتهم في المواضع النزهة الكثيرة الشجر والرياض ولاغدران ويجعلون في حيطانها الفسافس وفي سقوفها الذهب والصور وكان بنو الحارث بن كعب على ذلك إلى أن جاء الإسلام". وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق (ed. Wustenfeld. ٢٢٦) من بني عدي ومن بني لخم بنو عدي بن الذميل بن اسس لهم بيعة بالحيرة وكانوا اشرافًا".
وكان يحق بنا ان نضيف إلى هذه الشواهد جدول الاساقفة الذين كانوا في القرن الخامس يدبرون كنائس العراق العربي كالأنبار والحيرة والبصرة وبيت عربايا وميشان وغيرها ولك ذلك يطول بنا فنشير إليه فقط اشارة خفيفة.
لكن الحقيقة تضطرنا أيضًا أن نذكر ما أصيبت به كنائس باب والعراق.
فان في أواخر القرن الخامس نفثت البدعة النسطورية فيها سمها وخدعت كثيرين من المؤمنين والأساقفة فاعاروا لها أذنًا صاغية وانتموا إلى أصحابها. ثم قامت باثرهم البدعة اليعقوبية وانتشرت انتشارًا عظيمًا في بلاد الجزيرة وبلغت أيضًا إلى انحاء العراق فقامت الحرب الدينية بين البدعتين على ساق وكانتا في البيعة الشرقية كالزوان الذي خنق الزراع الجيد الذي زرعه رب البيت. فلا غرور أن العرب انقسموا مع أهل تلك البلاد إلى قسمين فعدل قسم منهم ولا سيما أهل القبائل الواقعة شرقي الموصل حتى خليج العجم إلى النسطورسة بينما كان القسم الآخر ومقامهم على الأخص في غربي الموصل وفي ديار ربيعة إلى جهات الرها وتخوم حلب وحمص وحماة قد تبع اليعقوبية فابتدأ تقهقر النصرانية مذ ذاك الحين في الشرق فترى تاريخ الكنيسة الشرقية ينحصر غاليًا في تاريخ الخصومات والمشاغبات الني سببتها تانك البدعتان أو ما كان ينوط بهما من البدع والمشاكل. وزاد في الطين بلة تداخل ملوك القسطنطي من الروم في أمور الدين فأقاموا نفوسهم كقضاء في المعتقدات المسيحية وكان منهم من يعضد البدع وينتمي إليها جهارًا كما فعل قنسطنسيوس ووالنس اللذان نصراالريوسية وكزينزن زانستاس المدافعين عن اليعقوبية وكهرقل الذي دفع عن بدعة المنوثليين فكنت ترى المجامع تتوالى منها كاثوليكية ومنها هرطوقية فتبطل هذه ما أثبتته تلك وكان الأحبار الرومانيون مهتمين وقتئذٍ بتهذيب أمم البرابرة التي هجمت على المملكة الرومانية فلا يستطيعون أن يداووا اسقام الشرق كما يشاؤون لبعد الشرق عن نظرهم أو أيضًا لما كانوا يجدونه في ملوك الروم وبطاركة القسطنطينية من المخالفة لأوامرهم فاصبح الشرق في هرج ومرج واختلت بذلك أمور الدين وانتقض حبل الإيمان نية المتين.
1 / 36