ولما ظفرت النصرانية بالدين الوثني في الدولة الرومانية بجلوس قسطنطين على منصة الملك بلغ صدى ذاك الانقلاب حتى العراق وحدثت نهضة جديدة ساقت الألوف المؤلفة إلى التنصر رغمًا عن معارضة ملوك العجم حتى كادت النصرانية تعم تلك الأنحاء كلها وتستأصل شأفة المجوسية لكنه قام سابور ذو الاكتاف وسفك دماء النصارى مدة ملكه الذي دام سبعين سنة فضحَّى ١٦٠.٠٠٠ من المسيحيين الذين كانوا في دولتها. وأعمال هؤلاء الشهداء ق كتبها شهود عيانيون تعد رواياتهم من أصدق وأثبت التواريخ نشرها المعاني ونقلها إلى اللاتينية.
ولا غرو أن بين هؤلاء الشهداء كان أيضًا قوم من العرب المنتصرين كما يستدل من أمكنة استشهادهم وبعض إعلامهم كعبد الله والحارث وعزيز وحبيب الخ وقد ذكر الياَّ النصييني اساقفة على البصرة (وكان اسمها فرات ميشان) منذ السنة ٣١٠ وقد شهد المؤرخون أن سياحًا من النصارى كانوا يعيشون بين احياء عرب العراق منذ أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع ذكرهم المؤرخ سوزمان ودعاهم بالرعاة لأنهم كانوا يعيشون في البراري ويقتاتون من النبات وروى ذلك المؤرخ "أنهم بحياتهم النسكية وفضائلهم العجيبة ردوا كثيرين من العرب والعجم إلى الدين النصراني".
ثم تبع هؤلاء السياح رهبان غيرهم جروا على مثال رهبان الصعيد وأخذوا عنهم طرائقهم النسكية فكثيرون منهم اشتهروا في جهات العراق وفي البلاد التي كان يسكنها العرب.
وممن خصهم بالذكر قدماء الكتبة الراهب حنا الكشكري الذي سكن في بلاد جرم وابتنى ديرًا هناك نحو سنة ٣٢٠.
وذكر تاودوريطس المؤرخ القديس سمعان القديم فروى أنه كان تنسك في بلاد "الاسماعيلين" مختفيًا في بعض المجاهل إلا أن العرب اكتشفوا مكانه وأتوه جموعًا متكائفة ليسمعوا تعاليمه وينالوا منه الشفاء لمرضاهم. فاجاب إلى ملتمسهم لكنه لم يزل يراقب الفرصة ليهرب من لجاجهم ويبقى معتزلًا في مناجاة ربه.
ويروى عن القديس يليان سابا أي الشيخ أنه ساح في بلاد العرب مع تلميذه المسمى يوحنا الفارسي في غضون ذلك القرن السابع.
وفي هذا القرن نفسه كانت القبائل اليمنية من آل نصر بن ربيعة الازدي التي انتقلت من جنوبي العرب إلى الشمال فألقت في جهاتها عصا التسيار وأخذت تقوى وتنمو وتضم إليها شتات القبائل العربية لتملك عليها. وكان بين ملوكها الأولين المسمى امرؤ القيس بن عمرو المعروف بالبدء الذي طالت مدة ملكه إلى أواسط القرن السابع. ومما يجدر بالذكر أن الكتبة يؤكدون تنصره قال ابن خلدون في تاريخه نقلًا عن ابن الكلبي وغيره (طبعة مصر ١: ٢٦٣): "ولما هلك عمرو بن عدي ولي بعده على العرب وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة امرؤ القيس بن عمرو ابن عدي ويقال له البدء وهو أول تنصر من ملوك آل نصر وعمال الفرس".
ولسنا نحن نرى في الأمر عجبًا بعد ما روينا عن أمور النصرانية في اليمن فهذه القبائل المهاجرة إلى الشمال كانت عرفت الدين المسيحي في مواطنها فبقيت حميرته فيها عند انتقالها إلى العراق. يؤيد ذلك ما رواه القزويني من أمر "الأنبياء" الذين أرسلهم الله إلى بني حمير ليردوهم إلى الله قال: "فيعث الله ثلاثة عشر نبيًا (لأهل اليمن) فكذبوهم". لكن المسعودي في مروج الذهب (٣: ٣٩٣) ذكر توبتهم على يد أولئك الرسل وانتظام أمورهم فقال: "وأزال الله انعامهم وأموالهم فقالوا لرسلهم: ادعوا لنا الله أن يخلف علينا نعمتنا ويرد علينا ما شرد من أنعامنا ونعطيكم موثقًا أن لا نشرك بالله شيئًا فسألت الرسل بربها فاجابهم إلى ذلك وأعطاهم ما سألوا فاتسعت بلادهم وأخصبت عمائرهم إلى أرض فلسطين والشام". وقال القزويني: "إن ذلك كان بين مبعث عيسى والنبي" فتعين بقوله هذا أن هؤلاء الأنبياء أو الرسل ما كانوا الا دعاة لدين المسيح كما يستدل عليه من الشواهد السابقة
1 / 31