ولنا دليل آخر على تنصر تلك القبائل اليمنية في العراق وذلك ما ذكره المؤرخون عنها فقالوا ان قبائل من قضاعة من تيم اللات وكلب بن وبرة والأشعريين مع قوم من الأزد تحالفوا وتآخوا فدعوا تنوخًا ونزلوا جهات البحرين ثم العراق ما بين الحيرة والانبار وتنصروا. قال ابن خلكان في ترجمة أبي العلاء المعري (ص ٤٩ ed. De Slane ("تنوح اسم لعدة قبائل اجتمعوا قديمًا بالبحرين وتحالفوا على التناصر وأقاموا هناك وسموا تنوخًا. وتنوخ احدى القبائءل الثلاث التي هي نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب". أما تنصرهم في القرن الرابع فيؤخذ من قول صاحب الأغاني عن سابور ذي الأكتاف لما حاربهم وكان شعارهم شعار المسيحيين. قال (١١: ١٦٢): "ونزلت تنوخ بالبحرين سنتين ... حتى نزلوا الحيرة فهم أول من اختطها.. ثم أغار عليهم سابور الأكبر فقاتلوه فكان شعارهم يومئذ: آل عباد الله فسموا العباد".
ولعل الدير ين أي دير الجماجم بظاهر الكوفة ودير الحريق قرب الحيرة اللذين ذكرهما ياقوت في معجم البلدان (٢: ٦٥٢و ٦٦٤) قد أنشأهما نصارى العرب في العراق تذكارًا لأؤلئك الشهداء الذين قتلهم سابور لأجل إيمانهم وفي روايات نقلها ياقوت ما يلمع بذلك. وجاء في روايات أخرى فيه عن ابن الكلبي إن دير الجماجم بناه بنو عامر شكرًا لله على ظفرهم ببني ذبيان وبني تميم بعد حرب وقعت بينهم. أما دير الحريق فبني تذكارًا لقوم أحرقوا بالحيرة.
وما لا ينكر وتثبته الشواهد التاريخية أن الأديرة كثرت في أواخر القرن الرابع للمسيح في جهات العراق التي كان يسكنها العرب. فان القديس أوكين الذي كان نشر العيشة الرهبانية في بلاد الجزيرة وما بين النهرين أرسل عصبة من تلاميذه حتى اقاصي العراق وما عتمت الآداب الرهبانية ان انتشرت فيها على يدهم أي انتشار خصَّ منهم المؤرخون بالذكر الراهب يونان أو بونس الذي شيد دير ين الواحد في الأنبار قاعدة اللخميين قبل سكانهم في الحيرة على الفرات والآخر بقرب نبنوى. وقد عرف العرب الديرين كليهما فذكرهما ياقوت ودعا الأول (٢: ٧٠١) دير ما يونان والثاني دير يونس قال عن هذا الأخير (٢: ٧١٠) أنه"في جانب دجلة الشرقي مقابل الموصل وبينه وبين دجلة فرسخان وأقل وموضعه يعرف بنينوى".
وفي التواريخ الكلدانية القديمة أن يونان المذكور طاف بلاد السواد وبشر العرب بالمسيح وكان قبل أن يزهد بالدنيا يتعاطى العلوم الفلسفية ويزاول الطل فحببه ذلك إلى العرب وكافة أهل السواد. ولما ابتنى ديره في الأنبار كثر عدد الطالبين اللترهب تحت تدبيره.
وفي النصف الثاني من هذا القرن الرابع تولى أحد رهبان النصارى اسمه عبدًا بناءً الأديرة في أنحاء العرب فقدم على جاثليق المدائن المسى تموز أو تومرصا ونال منه الرخصة في ذلك فبنى هو ديرًا كبيرًا في دير قنى أو درقان وطنه على اسم ما ماري حيث كانت ذخائر ذاك الرسول. وبنى تلاميذه أديرة أخرى منهم تلميذه عبد يشوع الذي شيد على نهر صرصر الدير المعروف بالصليب حيث كام ظهر صليب منير في أيام استشهاد المسيحيين على يد سابور باغراء المجوس. وشيد ديرًا آخر في باكسايا في سواد لاعراق ثم ديرًا ثالثًا عند الفرات. وأخبر المؤرخ ابن ماري (ص٢٩) أنه تلمذ العرب في متوث وميشان واليمامة ورد بني ثعلبة إلى الإيمان فجعله تومرصا اسقفًا مقامه في دير محراق. ومنهم تلميذه يبالاها الذي رد أقوامًا من العرب في أرياف الفرات وابتنى ديرًا في دسكرة السواد وديرًا آخر على ضفة النهر قيل أن عدد رهبان ديره قد كثر حتى ضاق بهم الدير مع سعته فبلغوا الأربعمائة بنيف وكان الرهبان من أنحاء شتى يتكلمون لغات مختلفة فجعلهم أربعًا وعشرين فرقة يتعاقبون في تلاوة الفرض الالهي ليلًا ونهارًا فيتلون الصلوات والتسابيح في لغاتهم أي السريانية واليونانية واللاتينية والقبطية. وكان سبقه إلى ذلك في هذه المناسك راهب آخر اسمه اسكندر الذي أنشأ طائفة الساهرين (Acemetes) لمواصلتهم الصلاة ليلًا مع نهار. وقد ذكر سليمان بن ماري في تاريخ فطاركة كرسي المشرق (ص٢١) وعمرو بن متى في المجدل (ص٢٨) كثيرًا من هذه الأديرة واختصروا تواريخها عن كتبة معاصرين أخصهم أّحي تلميذ مار عبدًا الذي وضع ترجمة حياة معلمه ثم صار بعد ذلك بطريركًا على الكلدان.
1 / 32