أما النصرانية فكان لها فيهم تأثير عظيم. وهذا ما يلوح من الآثار القديمة التي ورد فيها تاريخ تلك البلاد بعد السيد المسيح فلما أشرقت شمس النصرانية سار دعاتها إلى ما بعد النهرين والجزيرة والعراق فدعوا إليها أهل تلك الأقطار الذين لبوا دعوتهم وانتظمت الجموع الغفيرة في سلك النصرانيةٍ. وإذ كانت العرب ممتزجة مع سكان تلك الجهات اقبلوا هم أيضًا إلى التدين بها وجحدوا عبادة الأصنام والكواكب. ولنا على تنصر عرب العراق شواهد سبق بعضها عهد مالك بن فهم فمن ذلك ما رواه كتبة الكلدان عن أول من بشر بالدين المسيحي في مواطنهم وكان العلاقة يوسف السمعاني في مكتبته الشرقية (٤:٥ ٣٠) جمع عدة شواهد من أقوالهم تصرح بانتشار النصرانية في العراق ونواحي اشور وبابل على يد الرسشولين توما وبرتلماوس وبدعوة ثلاثة من المبشرين الأولين أعني ادي أو تداي أحد السبعين وتلميذيه اجي وماري. لكن كثيرًا من علماء التاريخ لم يسلموا له بصحتها اذ رأوها حديثة العهد من القرن العاشر فما بعد لكن الاكتشافات الحديثة في السريانية لم تبق ريبًا في الأمر اذ تثبت أن ادي الذي يعتبره الكلدان كرسولهم كان حقًا من تلامذة السيد المسيح وأن بشارته في جهات العراق لا يجوز نكرانها. فان اقدم التاريخ الكلدانية من القرن الخامس إلى التاسع التي نشرت مؤخرًا كتاريخ "برحد بشابا عربايا" وتاريخ "مشيحا زخا" وشعر نرساي في القرن الخامس وشهادة آباء مجمع المدائن المنعقد في بلاط الملك كسرى سنة ٦١٢ وأعمال الشهداء والكتب الطقسية القديمة كلها تشير إلى بشارة الرسول ادي كما أن بعضها يروي اعمال اقديس ماري تلميذ ادي. وفي الشواهد عن هؤلاء المبشرين الأولين للكلدان ربما ذكروا أيضًا تبشيرهم لنواحي العرب. قال صاحب كتاب النحلة من كتبة القرن السابع: "وكان الداعي والمنصر والمتلمذ والمدبر بالجزيرة والموصل وأرض بابل والسواد وما والاه من بلاد التيمن والحزة ونواحي العرب من التلاميذ السبعين ادي وماري ولحق بهما من التلاميذ الاثني عشر ناثنيل وهو ابن ثلماي (أي برتلماوس) . وقد قال سليمان بن ماري عن هذا الرسول (ص٥): ان برتلماوس تلمذ مع ادي وماري "نصيبين والجزيرة والموصل وأرض بابل والسواد وبلاد العرب وأرض المشرق والنبط".
وقد سبقهما القديس أفرام الكبير في القرن الرابع وذكر بشارة ادي إلى الرها والمشرق في الميمر الذي مدح فيه مدينة الرها.
أما ماري فان ذكره لا يكاد يفترق عن ذكر ادي في الشواهد السابق ذكرها كالكتب الطقسية النسطورية وأعمال المجامع وترجمته الموما إليها وكلها تشير إلى دعوته بين العرب في بلاد ميشان وسواد العراق وسكان الخيام. قال ابن ماري في تاريخ فطاركة المشرق: "انَّ ماري بادر إلى تلماذ جميع نواحي ارض بابل والعراقين والأهواز.. وبلاد العرب سكان الخيم ونجران وجزائر بحر اليمن" وقد روى الطيب الذكر السيد عبد يشوع خياطة في مقدمة أعمال ما ماري ان ذخائره وجدت سنة ١٨٧٩ مع ذخائر يشوع سبران أحد شهداء القرن السادس بين آثار كنيسة قديمة موقعها في كرملاء شرقي الموصل. فهذه الشواهد من شسأنها أن تزيل الشك في تارخية ماري التي ارتابت فيها البعض.
قلنا أن بعض قبائل العرب كانت سبقت مالك بن فهم في سكني العراق من جملتها بنو اياد الذين يذكر المؤرخون تنصرهم منهم البكري في معجم ما استعجم (ص٤٨) . وقد أشار شاعرهم لقيط بن يعمر الايادي إلى بيعهم في قصيدته العينية التي كتبها ليحذرهم من غزوة كسرى وهي من أقدم الآثار العربية فقال:
تامت فؤادي بذات الجزع خرعبةٌ ... مرَّت تريدُ بذات العذبة البيَعا
ففي ذكره للبيع في ديار اياد على عهد كسرى شاهد على شيوع النصرانية بينها منذ القرن الرابع وهذا يخالف رواية ابن دريد في الاشتقاق (ص ١٠٥ Wustenfeld ed.) حيث أخر تنصرهم قائلًا: "اياد قدم خروجهم من اليمن فصاروا إلى السواد فالحت عليهم الفرس في الغرة فدخلوا الروم فتنصروا".
وكان أيضًا بين قبائل العراق قوم من لخم. وفي السيرة الحلبية (طبعة مصر ٣: ٩٥) إن بني لخم كانوا من عدد القبائل المنتصرة. لكن الكاتب لم يذكر رمن تنصرهم.
1 / 30