وكان في مقدمتهم سيف بن ذي يزن فاستنجد بملك الروم وطلب منه جيشًا ليخرج الحبش من جزيرة العرب فلم تلق دعوته آذانًا صاغية فعدل إلى كسرى ملك العجم فنصره بجند من صعاليك دولته تحت قيادة رجل اسمه وهرز فظفروا بالحبشة وبددوا شملهم وملك سيف بن ذي يزن لكن ملكه لم يدم زمنًا طويلًا غذ فتك به بعض الحبشة فخلفه ابنه معدي كرب. ولم يلبث العجم أن استولوا على اليمن فارسلوزا عمالًا يحكمون باسمهم كان اولهم وهرز المذكور ثم خلفه باذان وفي عهده صارت اليمن في أيدي المسلمين.
أما النصرانية فإنها لم تمت بنفي الحبشة بل بقيت في عزها إلى ظهور الإسلام ولعل سيف بن ذي يزن عينه كان يدين بها يؤيده ما وقفنا عليه في أحد مخطوطات باريس العربية وهو كتاب أنساب العرب لسلمة بن مسلم (Suppl. Paris، ٢٨٦٦) في الصحيفة ٩٧ حيث قال أن سيف بن ذي يزن دخل على القيصر ومال إلى النصرانية. والحق يقال أنه ما كان ليلوذ بالقيصر ملك الروم النصراني لو دان هو باليهودية كذي نؤاس وكذلك قد مدحه الشاعر النصراني أمية بن أبي الصلت بقصيدته الشهيرة التي أولها:
لايطلبُ الثار إلاَّ كابن ذي يزنٍ ... في البحر خيمَّ للأعداء أحوالا
ولا شيء في هذه الأبيات يشعر بيهودية سيف. ولو عرف أهل نجران وعرب النصارى في اليمن أن ابن ذي يزن من أنصار لليهودية لما مكنوه من الملك وعلى ظننا أن نساطرة العراق انتهزوا فرصة دخول الفرس في اليمن لينشروا هناك بدعتهم ولعلهم كانوا سبقوا إلى بثها قبل ذلك فعززوها. وفي تواريخ النساطرة ما يصرح بانتشار تلك البدعة في جنوبي العرب ومقاومتهم لليعاقبة. وفي كتاب الأغاني (١٠: ١٤٨) أن عشرة من اساقفة نجران قدموا على نبي المسلمين وجادلوه فدعاهم إلاى المباهلة ولعل منهم من كان نسطوريًا وكان حينئذ رئيسًا على نجران رجل اسمه السيد فأعطي الأمان هو وقومه.
ولكن النصارى بعد فوز الإسلام أخذوا يضعفون في اليمن شيئًا فشيئًا ولاسيما بعد أن عمر بإخراجهم من الجزيرة استنادًا إلى حديث يعزونه إلى محمد هذا منطوقه: "لأخرجن اليهود والنصارى عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا". والظاهر أن هذا لم يتم بالحرف فإن لدينا عدة شواهد على وجود النصارى في اليمن في ايام الخلفاء فمن ذلك ما ورد في أعمال طيموتاوس الكبير بطريرك النساطرة أنه سام أسقفًا على نجران وصنعاء اسمه بطرس في أواخر القرن الثامن وجاء في كتاب الفهرست لأبي الفرج بن النديم (ص٣٤٩) أن المؤلف اجتمع براهب من نجران في اليمن يدعى حسان كان أنفذه جاثليق النساطرة إلى الصين فعاد منها سنة ٣٧٧ (٩٨٨م) وأخبره بعجائبها.
وجاء في تقويم الكنائس النسطورية الذي طبعه الخوري بطرس عزيز الكلداني (واليوم مطران سلست في العجم) عن بعض مخطوطات مكتبتنا الشرقية (ص٧) في الحاشية أن البطريرك يوحنا الخامس أرسل كتابًا إلى حسن قسيس اليمن سنة ٩٠١م يجاوب فيه على ٢٧ سؤالًا ألقاها عليه. وقال في الجدول أن في سنة ١٢١٠ للمسيح كان في صنعاء اليمن خمسة أساقفة للنساطرة. الأول مطرابوليط على صنعاء اسمه اسطيفانوس وتحت يده ثلاثة اساقفة إيليا وياولاها وشمعون لهم ثلاث كنائس وعدد المؤمنين عندهم ٥.٧٠٠. ثم كان أسقف لمدينة زبيد اسمه عبد يشوع وعدد المؤمنين فيها ٢١٠٠ بيت. ثم ذكر نجران وقال أن في سنة ١٢٦٠ كان لها أسقف يدعى يعقوب وأن في أنحائها كان ١٤٠٠ بيت من النساطرة. وقال عن عدن أنها كان يوجد فيها سنة ١٢٥٠م أسقف اسمه ميلو وأن جماعة النساطرة كانت ١٣٠٠ بيت إلا أن أكثرهم قتلوا بالسيف أو عدلوا إلى الإسلام. هذا ما نقلناه عن هذا الأثر الذي يمكنا أن نقابله على غيره لنتأكد صحته.
وفي القرن السادس عشر ذكر الكاتب الأسباني أوردينو دي سينالتوس (Ordeno de Cenaltos) أنه في رحلته إلى الغرب لقي بعض قبائل عربية اختفت به وأكدت له أن أصلها من قبائل نصارى العرب في اليمن. وقد أخبرنا المرسلون الكبشيون في عدن سنة ١٨٩٥ انهم وجدوا في بعض أهل اليمن آثارًا مسيحية ظاهرة ورثوها من أجدادهم النصارى.
الباب السادس
النصرانية في حضرموت وعمان واليمامة والبحرين
1 / 26