من أعيان بني الحارث بن كعب وأعرق الناس في النصرانية. وممن طبقت أخباره أقاصي العرب في ذاك الوقت خطيب مصقع ضربت العرب المثل في بلاغته نريد القس بن ساعدة أسقف نجران وقد جمعنا في شعراء النصرانية (ص٢١١ ٢١٩) مارواه الكتبة العرب عنه وعن يزيد بن عبد المدان النجراني (ص٨٠ ٨٨) .
ومما يعود فضله إلى الحبشة كنيسة عظيمة جمعوا فيها ضروب المحاسن وأنفقوا عليها المبالغ الطائلة بنوها في حاضرة ملكهم صنعاء لا تزال حتى اليوم ترى بقاياها في جامع هذه المدينة وكانوا زينوها بكل أصناف الزين والتصاوير وضروب الفسيفساء وهي الكنيسة التي عرفها العرب بالقليس وذكروها في تواريخهم ووصفوها في كتبهم (أطلب مجموعنا مجاني الأدب ج٣ ص٣٠٢ وكتاب الأغاني ٢: ٧٥) فما لبثت أن جذبت إليها الجماهير المجمهرة حتى نسي الوثنيون قصر غمدان القريب منها وأصنامه الصابئية.
وكما فعلوا في صنعاء أقاموا أيضًا في ظفار كنيسة أخرى جليلة كانت آية في الحسن والجمال. وكان المتولى تدبير هذه الكنيسة أسقف شهير يدعى جرجنسيوس اتخذه ملك الحبشة كمستشار ومساعده لتنصير الحميريين فما ألا جهدًا في ذلك وقد ترك لنا من آثاره كتاب شرائع الحميريين التي ترى ترجمتها اليونانية في مجموع الآباء اليونان لمين (Migne، P.G.، T. ٨٦، col. ٥٦٧ - ٦٢٠) وكان يجادل اليهود ويرد على مزاعمهم وله جدال مع هربان الرباني صبر أيضًا على آفات الدهر باليونانية (Ibid.، col. ٦٢١ - ٧٨٣) ولدينا منه ترجمة عربية.
ولنا حتى اليوم دليل حسي على تأثير نصرانية الحبشة في العرب ألا وهو ما دخل في اللغة العربية من الألفاظ الدينية الحبشة بعضها حبشي الصل كالمنبر والمصحف والحواري والمنافق والفاطر (أي الخالق) والجبت (أي ظالضم) والشيطان والزار. وبعضها يوناني أو سرياني أو عبراني لكنه دخل في العربية بواسطة الحبش كما تدل عليه صورته الحاضرة كالإنجيل وجهضم والتابوت والقلم والحرم والجن والرقية. وللعلامة المستشرق نولدك بحث خصوصي في هذه الألفاظ.
وكان شيوع الخط المسند وهو الخط الحميري في بلاد العرب بفضل الحبشة واشتقاقه من الخط الحبشي القديم ظاهر. نقلوه إلى اليمن في التاريخ السابق للميلاد ثم استعملوه في كتاباتهم الحجرية إلى ظهور الإسلام قال ياقوت في معجم البلدان (٤: ١٧١) عند وصفه كنيسة القليس أن ابرهة كان كتب على بابها بالمسند: "بنيت هذا لك (اللهم) من مالك ليذكر فيه اسمك وأنا عبدك".
وفي مدة ولاية الجحبش على اليمن رحل إلى الهند قسما الرحالة (Consmas In - dicopleustes) نحو السنة ٥٣٥ فعدد ما وجده من الكطنائس في طريقه وانتشار النصرانية في أواسط الشرق وأقاصيه وقد خص بينها بلاد اليمن حيث قال ما تعريبه: "أنك حيثما تجد كنائس للنصارى وأساقفة وشهداء وسياحًا حتى بين أهل عربية السعيدة الذين يدعون بالحميريين كما في كل العرب أيضًا وبين النبط وبني جرم..".
وأن أسأل أكانت النصرانية في اليمن مستفيقة خالية من البدع. الجواب أنه من المرجح أن دينهم كان في أول الأمر خالصًا من كل شائبة وكاثوليكيًا محضًا لأن الأمبراطور يستينوس وخلفه لحسن ديانتهما ما كانا ليسمحا للحبش أن ينشرا في بلاد العرب غير الإيمان الأرثوذكسي الموافق لتعليم المجامع الأربعة الأولى. يثبت ذلك تكريم الكنيسة لملك الحبشة ألصبان الذي كان مالكًا في وقت فتح الحبشة لليمن ثم جلوس جرجنسيوس على كرسي أساقفة صنعاء وهو قديس تكرمه الكنيسة لقداسته. وإنما يظهر أيضًا أن بدعة أوطيخا سرت إلى جهات اليمن وكدرت صفاء إيمانهم فإن الحبشة في القرن السادس جنحوا إلى تعاليم اليعاقبة فلابد أن أضاليلهم انعكس صداها إلى العرب. لكن المؤرخين اليعاقبة قد بالغوا في ذكر شيوع هرطقتهم بين أهل اليمن كما يستدل من تاريخ يوحنا الآسيوي وكما نقله ابن العبري في تاريخ مختصر الدول (ص١٤٨) .
على أن العنصر العربي وسلالة ملوك اليمن لم يعودوا يطيقون نير الأجانب عليهم لاسيما بعد موت أبرهة وتملك ابنيه يكسوم ومسروق على حمير إذ تشددا على الوطنيين وأساء إليهم الصنع فأخذ أمراء حمير يطلبون لهم وسيلة لينجوا من الحبشة.
1 / 25