ومن الكتابات الحبشية كتابة وقف عليها المرسل الإيطالي يوسف سابيتو (G. Sapeto) في أكسوم أيضًا ثم نشرها وفسرها وهي للملك النصراني "تازينا ابن الأعميد ملك أكسوم وحمير وريدان وسبا إلخ" افتتحها بذكر الاسم الكريم "خالق السماء والأرض الرب الأزلي". وكان تازينا المذكور مالكًا نحو السنة ٥٠٠ ومن كلامه يظهر أن ملوك الحبشة لم يزالوا باسطين سيطرتهم على الحميرين. ولا غرو أن نصرانيتهم أثرت بدين الحميريين الوثنيين واجتذبت منهم قومًا إلى المسيحية.
أما الكتابات الحميرية فأعظم شأنًا وأخطر بيانًا لتاريخ النصرانية اكتشفها في أنحاء اليمن رجال ذوو حزم لا يهابون الأخطار دخلوا في هذه السنين الأخيرة إلى أقاصي اليمن ونقلوا ما كانوا يراقبونه من الكتابات الحميرية الكاشفة لأسرار التاريخ اليمني. أشهرهم العلماء يوسف هالوي (J. Halevy) وأدورد كلازر (Ed Glaser) فأتوا من اليمن بمئات من الآثار الكتابية بينها كتابات حميرية تفصل محاربة الحبشة لذي نواس وظفرهم باليمن. وتاريخ هذه الكتابات بينها كتابات حميرية تفصل محاربة الحبشة لذي نواس وظفرهم باليمن. وتاريخ هذه الكتابات هو تاريخ حمير الواقع سنة ١١٥ للمسيح. فمن جملة تلك المآثر التاريخية كتابة تنسب إلى حصن الغراب وجدها كلازر فنشرها وهي "لسميفع أشوع" أقامها في ذي الحجة سنة ٦٤٠ (أي ٥٢٥ للمسيح) تذكارًا لدخول الحبشة في بلاد حمير بعد انتصارهم على ملها (ذي نواس) .
ومنها كتابة أخرى تاريخها سنة ٦٥٧ و٦٥٨ (أي ٥٤٢ ٥٤٣) ورد فيها ذكر انفجار سد مأرب وهو من أجل الحوادث التاريخية كان العلماء يرقونه استنادًا إلى مؤرخي العرب إلى القرن الثاني للمسيح فثبت الآن أنه جرى في أواسط القرن السادس. والكتابة قد نقرت في الصخر بأمر أبرهة اللمك الحبشي أولها: "بقوة ونعمة ورحمة الرحمان ومسيحه وروحه القدوس قد أمر برسم هذه الكتابة أبرهة الحاكم (على اليمن) باسم الملك الكثيزي (الحبشي) رمحيس ذو بي يمن ملك سبا ذوي ريدان وحضرموت ويمانات والعرب الذين في الجبال والسهول". ومما قال هناك: "ونحن على ذلك إذ بلغنا خبر تهدم السد والخزان والحوض والمصرف في شهر ذي المدرج سنة ٦٥٧.." ثم أردف أبرهة قوله: "فأرسلت إلى القبائل لتنفذ الحجارة والأخشاب والرصاص لترميم السد في مأرب.. ثم توجهت إلى مأرب وبعد أن صليت في كنيستها عمدت إلى ترميم السد فعزلوا الأنقاض حتى وصلوا إلى الصخر وبنوا عليه". ثم يذكر تأخر العمل لسأم بعض القبائل عن الشغل وكيف حالف أبرهة أقيال اليمن وقابل وفود ملوك الروم وفارس والحيرة (المنذر) وغسان (الحارث بن جبلة وأبي كرب بن جبلة) وغير ذلك مما يفيدنا علمًا عن أخبار العرب وفوز أبرهة بقبائلهم سنة ٦٥٧ للحبش (٥٤٢م) . ثم عاد إلى وصف ترميم سد مأرب فقال: "فرمموه ووسعوه حتى بلغ طوله ٤٥ ذراعًا وارتفاعه ٣٥ ذراعًا" ثم فصل هناك ما أنفق على العمل من الحجارة والأطعمة للعملة إلأى أن ختم الكتابة بقوله أنهم " انتهوا من العمل في شهر ذي معان سنة ٦٥٨ (٥٤٣) ".
ولعل هذا السد كان انفجر قبل ذلك غير مرة ورمم إلا أن أخبار العرب تنطبق خصوصًا على هذا الحادث الأخير. وإنما خلطوا في أقوالهم خلطًا عجيبًا وكفى به استدلالًا على ضعف رواياتهم التاريخية التي لايمكن التسليم بصحتها إلا بعد النقد والنظر الملي.
لا غرو أن النصرانية في مدة ملك الحبشة على اليمن بلغت أقصى النجاح والتقدم. لنا على ذلك شواهد تاريخية عديدة وكان أول ما بشر به الحبش أن جعلوا نجران كقبلة الدين النصراني بعد أن اصطبغت بدماء أهلها الشهداء فأقاموا فيها مزارًا كان العرب يقصدونه من كل صوب وكانوا أنفقوا عليه القناطر المقنطرة ليزينوه بأنواع الحلي. وهذا المزار قد شاع ذكره عند العرب فدعوه "كعبة نجران" أو "كعبة اليمن" وضربوا بحسنة المثل وإليه أشار الأعشى في بعض أبياته حيث قال يكلم ناقته:
وكعبة نجرانَ حتمٌ عليكِ ... حتى تناخيْ بأبوابها
تزورُ يزيدًا وعبد المسيح ... وقيسًا هم خيرُ أربابها
إذا الحبرات تلوتْ بهم ... وجروا أسافلَ هدَّابها
يريد بني عبد المدان الذين كانوا يتولون أمرها وهم
1 / 24