على أن الخبر لم يلبث أن نما إلى قيصر الروم بواسطة رجل من أهل نجران فر هاربًا اسمه دوس ذو ثعلبان فاستنصره على ذي نواس فأمر القيصر النجاشي ألضبان ملك الحبشة بمحاربة اليهودي ففعل وأرسل جيشًا مع أرياط وأبرهة الأشرم فناجروه القتال وظفروا ببلاده ومات الطاغية غرقًا. وأتم الحبشة فتح اليمن فملكوا عليها أكثر من نصف قرن كان أول ملكهم أرياط (٥٢٥) ثم أبرهة الشرم (٥٣٧ ٥٧٠) ثم ابنه يكسوم (٥٧٠ ٥٧٢) ثم مسروق (٥٧٢ ٥٧٥) . أما الملوك الحميريون فبعد موت ذي نواس حاول أحدهم المسمى ذو جدنأن يضبط زمام الملك لكنه قتل في حرب الحبشة ولم يعودوا إلى الملك إلا في زمن سيف ابن ذي يزن الذي استعان بالفرس وأخرج الحبش من اليمن وملك هو وابنه معدي كرب. ثم أن الفرس لم يلبثوا أن يمدوا سيطرتهم على تلك البلاد وجعلوا عليها عمالًا كان أولهم وهرز (٥٩٧) ثم بدهان وفي زمنه فتح المسلمون نواحي اليمن.
هذا ملخص ما جاء في تواريخ المسلمين وقد أيدته في أموره الجوهرية التواريخ اليونانية والسريانية كتاريخ الحرب الفارسية لبروكوبيوس الغزي Procop.، de Bello Pers.I، c. ٢٠) وتاريخ يوحنا المعروف بأسقف آسية (Assemani، BO، II، ٨٣) وتاريخ تاوفانوس (ج١ ص ٣٤٦ من طبعة بونا) وتاريخ يوحنا ملالًا (٤٣٤ من الطبعة عينها) فكل هؤلاء ذكروا أمور الحبشة وما جرى من الحروب بين ملكها وملك حمير اليهودي بسبب قتله لنصارى نجران. وفي رواياتهم بعض إفادات عن ذي نواس الذي يدعونه دمنوس أو دميانوس وعن القيصر يوستينوس الذي انتصر للمظلومين وبعث الحبشة لمحاربة ملك اليمن. وكان على الحبشة ملك يجعونه أليسباوس (Elesbass) أو الصبان وصحفه غيرهم باليستاوس من أحكم الملوك وأعرقهم في الدين النصراني. وهم يقولون أن أسقف نجران المدعو بولس كان توفي قبل هجوم ذي نواس عليها وأن الملك اليهودي بعد ظفره بنجران انتهك حرمة قبره.
أما استشهاد أهل نجران على عهد ذي نواس فقد وصفه المعاصرون منهم شمعون أسقف بيت أرشام الذي سمع في العراق الخبر من شهود عيانيين فدوَّنه في رسالة نشرها السمعاني في المكتبة الشرقية (BO، I، ٣٦٤ - ٧٩) . وكذلك ليعقوب الرهاوي فيهم ميمر نشره الأب بيجان (Acta Martyrum I. ٣٧٢ - ٩٧) ثم نشر البولنديون أعمالهم في اليونانية عن نسخة قديمة في تاريخ ٢٤ ت (Act. SS. X، Oct. ٧٥٠ - ٧٨٠) وفي مكتبتنا الشرقية نسخة عربية من هذه الأعمال نقلناها عن مخطوط قديم.
ومن الآثار الكتابية التي نشرت حديثًا وأتتنا بفوائد جديدة عن دخول النصراني في نجران أعمال القديس "أزقير" بالحبشية من مخطوطات خزانة الكتب الشرقية في لندن فنشرها لأول مرة الأستاذ الإيطالي المفضال كنتي روسيني وخلاصتها أن "أزقير" كان كاهنًا نصرانيًادعا إلى دينه أهل نجران فأمر الملك شرحبيل بن ينكف بحبسه لكنه نجا من الحبس وعمد كثريين وتبعه رجل يدعونه قرياقوس واجتمعت عليه اليهود ففند أقوالهم وقضي لمجادلته آخرًا بقطع الرأس مع ٣٨ آخرين وعيده في الكلندار الحبشي واقع في ٢٤ من شهر خدار (٢٠ ت ٢) .
فكل هذه الآثار بينت انتشار النصرانية في اليمن. ولم يزدها اضطهاد ذي نواس واليهود إلا نموًا لأن ملك الروم ونجاشي الحبش القديس ألصبان ما فتئنا أن أرسلا جنودًا إلى اليمن انتقمت للمظلومين وكسرت شوكة اليهود في تلك الأنحاء.
وقد أتتنا في هذه الحقبة الأخيرة شواهد جديدة غير منتظرة ألا وهي كتابات يونانية وحبشية وحميرية اكتشفها الأثريون وهي تبين ما كان من النفوذ للحبشة في بلاد اليمن، "فاليونانية اكتشفها في أكسوم الرحالة الإنكليزي هنري سلت (H. Salt) كتبها "أيزن ملك أكسوم والحميرين وريدان والحبش والصابئة وزيلع وتهامة وبغيث وتوقال ملك الملوك ابن الإله المريخ غير المغلوب" يصف فيها انتصاره على أعدائه البغثيين. وتاريخ هذه الكتابة أواسط القرن الرابع يظهر منها أن ملوك الحبشة الوثنيين كانوا استولوا مدة على اليمن والحميريين.
1 / 23