وكانت القوافل تسير ذهابًا وإيابًا من العراق إلى اليمن ومن اليمن إلى العراق فالنصرانية التي كانت بلغت في الشمال مبلغًا عجيبًا ما كانت لتهمل هذه الوسائط لنشر الدين المسيحي في الجنوب. ومن التقاليد الشائعة عند الكلدان أن رسولي الكلدان الأولين أدي وماري سارا أيضًا إلى بلاد العرب سكان الخيم وإلى نجران وجزائر بحر اليمن.
وجاء في المصحف الناموسي (ص ١٨): "وبشَّر الجزيرة والموصل وأرض السواد كلها وما يليها من أرض التيمن كلها وبلاد العرب سكَّان الخيم وإلى ناحية نجران والجزائر التي في بحر اليمن ماري الذي من السبعين". وإلى هذه البشارة في اليمن أشار القديس أفرام في القرن الرابع حيث قال في أحد ميامرة: "جاءت ملكة التيمن (سبأ) إلى سليمان ونالت من نوره شعلة استضاءت بها وبقيت تلك الشرارة مخبوة تحت الرماد إلى أن ظهرت شمس العدل السيد المسيح فاتقدت تلك الشرارة حتى أصبحت نجمًا باهرًا ينير اليوم تلك الأنحاء".
وما لا ينكر ان النساطرة كانوا انتشروا في تلك البلاد قبل الإسلام وأنشأوا عدة كنائس وكان لهم فيها أساقفة أتوها من قبل جثالقة المشرق أصحاب كرسي المدائن وبقول فيها بعد الأغسلام مدة كما سيأتي. وقد ارتأى العلاَّمة دي ساسي في إحدى مقالاته أن نصارى الشمال من أهل العراق كانوا يترددون إلى اليمن وأنهم أدخلوا بين إخوانهم في الدين الكتابة السرانية بدلًا من الخط المسند الشائع هناك قبلهم. وقد روى السمعاني في المكتبة الشرقية (Assemani، BO، III٢، ٦٠٣) أن اللغة السريانية كانت دخلت في جهات عديدة من اليمن. وكذلك ذكر المؤرخ فيلسترجيوس أن في زمانه كانت مستعمرات أخرى سورية احتلت سواحل أفريقية بإزاء بلاد العرب وأن أصحابها كانوا يتكلمون بالسريانية. وقد جاء في كتاب كشف الأسرار في بيان قواعد الأقلام الكوفية "إن القلم الكوفي كان يُدعى بالسوري" ولعله أراد بذلك شبهه بالقلم السرياني. وقال هناك أن "آل طسم وقحطان وحمير" كانوا يكتبون به.
* ومن أعظم الشواهد التي أثبتها العرب على دخول النصرانية في اليمن ما رواه الطبري في تاريخه وياقوت في معجم البلدان (٧٥٢:٤) وابن خلدون في كتاب العبر (٥٩:٢) ابن هشام في سيرة الرسول (ص٢٠) وغيرهم أن أهل نجران وهي من أمهات مدن اليمن تنصروا جميعهم. وقد ذكروا الخبر في كلام طويل خلاصته أن رجلًا من بقية أصحاب الحواريين" يقال له فيميون وقالوا قيمون وقالوا ميمون من أفضل الناس عبادة وأعرقهم في أعمال الصلاح كان سائحًا تجري على يديه الكرامات والمعجزات وصل في سياحته إلى بلاد غسان فتبعه رجل من أهل الشام اسمه صالح فتوغلا في بلاد العرب ثم اختطفتهما سيارة وباعوهما بنجران وأهلها حينئذٍ من بني الحارث بن كعب المنتمين إلى كهلان يعبدون العزَّى على صورة النخلة.
فأوقف فيميون سيده على بطلان الشرك بما صنع لديه من الآيات ولاسيما إذ دعا ربه في يوم عيد العزى فأرسل الله ريحًا جعف النخلة من اصلها فعرف أهل نجران صحة دينه ودانوا بدين المسيح. وجعل فيميون عليهم رئيسًا أحد أشراف المدينة عبد الله بن الثامر ورعاهم أسقف كان يدعى بولس.
وأقام أهل نجران على دين المسيح حتى دعاهم إلى اليهودية أحد ملوكهم اسمه ذو نواس كان متعصبًا لدين اليهود فأبي لنجرانيون اتباعه في ضلاله وكان رئيسهم إذ ذاك اسمه الحارث واستعدوا للدفاع عن بلدهم إلا أن ذا نواس دخله بالمكر وحفر أخاديد (أشار إليها في القرآن) أضرمها نارًا وألقى فيها على ما روى ابن اسحاق عشرين ألفًا من النصارى أو يزيدون ماتوا في سبيل إيمانهم مع الحارث رئيسهم.
1 / 22