ومن الآثار التاريخية اليونانية عن نفوذ النصرانية في اليمن ما رواه المؤرخ الأريوسي فيلوسترجيوس من كتبة القرن الرابع ووائل الخامس. فكان هذا من قباذوقية وكتب تاريخًا في اثني عشر كتابًا دافع فيه عن أعمال الأريوسيين مباشرة من السنة ٣٠٠ إلى ٤٢٥ وتاريخه مفقود ألا ما نقله عنه فوطيوس البطريرك القسطنطيني في مكتبته يبلغ نحو ثمانين صفحة ومما روي هناك أن الإمبراطور قنسطنسيوس ابن قسطنطين الكبير المتشيع للأريوسية أرسل نحو السنة ٣٥٦ وفدًا من الرومان إلى الحميرية في اليمن وكان يترأس الوفد تاوفيل الهندي من جزيرة سرنديب أي سيلان. فرحل هذا إلى بلادهم ودخل على الملك وقدم لها ألطافًا وهدايا فنال لديه الخطوى وبشر هناك بالدين المسيحي واسترخص بتشييد الكنائس بل جادل اليهود الذين وجدهم في بلاط الملك وأقنع الملك بل حجج الدامغة عن صحة النصرانية حتى نصره. وشيّد تاوفيل ثلاث كنائس: الأولى في حاضرتهم ظفار والثانية في عدن على ساحل الاوقيانوس (الهندي) حيث كان ينزل الرومان للمتاجرة والثالثة في فرضة عند مدخل خليج العجم يظنونها هرمز وعين للمنتصرين رئسًا ثم رحل.
هذا ما رواه فيلستورجيوس إلا أن تشيعه للأريوسية حدا به إلى القول أن النصرانية لم تدخل بلاد العرب قبلًا والأمر على خلاف ذلك كما رأيت. والمؤرخون يرون أن الاسقف الذي أمضى أعمال مجمع نيقية سنة ٣٢٥ باسم "يوحنا أسقف الهند" إنما كان أسقفًا على اليمن وقد سبق أن اسم الهند كثيرًا ما أطلق على اليمن. وكذلك قد بين العلاَّمة المستشرق السنيورك. روسيني أن الملك قسطنسيوس لم يقصد بوفده إلى ملك حمير أمرًا دينيًا محضًا وإنما أراد أن ينهج للرومان طريقًا تجارية في البحر إلى اليمن ويعقد محالفة مع الحميريين ضد الفرس وملكهم سابور الثاني، أما اسم الملك المتنصر على يد تاوفيل في اليمن فلم يذكره المؤرخ فيلسترجيوس ولعله مرثد بن عبد كلال المالم على ماي ظن من السنة ٣٣٠ إلى ٣٥٠ وقد اطرأ الثعالبي في طبقات الملوك حلمه وحبه للفقراء وحكمته وتساهله وقال عنه أنه لم يشأ أن يقلق رعاياه بسبب دينهم. أو هو وليعة بن مرثد الذي تعصب أولًا لليهودية ثم عدل إلى النصرانية. وقد جاء للفيروزبادي ما يؤيد نصرانية هؤلاء الملوك حيث قال "أن كثيرًا من ملوك اليمن والحيرة تنصروا".
ومما يشهد على ثبات المعاهدة التجارية المبرمة بين الرومان والعرب قانون سنَّه تاودوسيوس الكبير في تلك الأثناء نظَّم فيه أمور الوفود الراحلين إلى الحميريين والحبشة من الإسكندرية.
ومن الشهود على نفوذ النصرانية في اليمن القديس هيرونيموس فإنه غير مرة ذكر بين المتنصرين أهل الهند والحبشة. من ذلك رسالته إلى مارسلا الرومانية (Migne، P.L.، XXII. ٤٨٩) حيث يعدد فئات المتقاطرين لزيارة الأراضي المقدسة وكلهم على إيمان واحد ممن كان يشاهدهم ويحادثهم فجعل في مقدمتهم العجم والأرمن وعرب اليمن (الذين دعاهم بأهل الهند) والحبشة. وكذلك كرر قوله في رسالته إلى السيدة ليتا (Ibid.، XXII. ٨٧٠) وخص بالذكر "رهبان الهند" أي اليمن كما قلنا.
وفي ترجمة القديس سمعان العمودي التي كتبها تاودوريطس في القرن الخامس قد ذكر غير مرة بين الذين قصدوا القديس على عموده عرب حمير وقد رآهم تاودوريطس عيانًا قال (Migne، P.G.، LXXIV. ١٠٤): "ولا يتزاحم حول سمعان أهل بلادنا فقبل بل يأتيه جموع من الإسماعيليين والعجم والأرمن ولكرج ولحميريين" وكذلك كتب أنطونيوس تلميذ لقديس (Ibid.، LXXXII، ٣٢٨): "قد نصَّر سمعان العمودي أممًا عديدة من الشرقيين (السراكسة) والعجم والأرمن والإسكوتيين ذووي القبائل". وقد صرَّح باسم تلك القبائل قدرينوس المؤلف فقال أنهم "الحميريون".
ثم أن النصرانية لم تدخل فقط إلى اليمن من جهة الجنوب ومن بلاد الرومان ولكن نفذت ليها من جهات الشمال وخصوصًا من العراق فمن المعلوم أن ملوك الفرس كانوا يسعون في محالفة ملوك اليمن ويتقربون إلى أهلها ليستعينوا بهم على رد غارات الرومان. وكذلك ملوك اليمن والحبشة ربما أوفدوا الوفود إلى ملوك العجم ليبرموا معهم المعاهدات كما روى المؤرخون.
1 / 21