ومن الشواهد الجليلة التي توقفنا على دخول النصرانية في اليمن منذ القرون الأولى لتاريخ الميلاد ما رواه أوسابيوس القيصري (ك٥ ف١٠) ومثله هيرونيوس (Hieron. De vir. Illustr.c. ٣٦) عن أحد العلماء الإسكندريين في النصف الثاني من القرن الثاني للمسيح: ألا وهو بنتاوس الفيلسوف فإن هذا كان من الفلاسفة الرواقيين جحد الوثنية وتنصر وعهد إليه دمتريوس أسقف الإسكندرية التدريس في مدرسة الإسكندرية ففعل وأحرز له شهرة واسعة بالتعليم الديني وعنه أخذ أوريجانوس المعلم الكبير فينتانوس المذكور نحو السنة ١٨٣ للمسيح تنزل عن التدريس وسافر إلى الهند ليبشر فيها بالدين النصراني. وقد اتفق المؤرخون على أن الهند المقصودة هنا هي المجاورة لمصر أعني بلاد اليمن كما سبق.
قال أوسابيوس: "فبلغ بنتانوس تلك الجهات ودعا إلى النصرانية أهلها فأوقفوه على إنجيل مخطوط بالعبرانية (١ للقديس متى كان أتى به إليهم القديس برتلماوس الرسول وأودعه عندهم" وفي هذا القول شهادة على ما سبق بالدعوة النصرانية في جهات اليمن منذ عهد الرسل.
هل كان لدعوة بنتانوس في اليمن تأثير في أهل تلك البلاد ذلك أمر لا يمكن القطع به وإنما هو محتمل بل مرجح ففي وجوده بين القوم أنجيلا قديمًا دليل على أن النصرانية التي بشَّر بها برتلماوس الرسول لم تمت بينهم. ويؤخذ من رواية أوسابيوس أن الأستاذ الإسكندري عاد إلى وطنه راضيًا شاكرًا لم يذهب تعبه سدىً. ولعله ل ينسَ أولئك الموعوظين فأمدهم بمرسلين يجاورنه في عمله. وكما هاجر بعض النصارى المصريين في زمن الاضطهادات إلى جهات سينا وبادية الشام على ما روى المؤرخون يجوز القول أيضًا بأن قومًا منهم هاجروا إلى اليمن لاسيما في عهد دقيوس وديوقلطيانوس فنشروا دينهم فيما بينهم.
ومما يستدل إليه من تواريخ العرب كالطؤري وسيرة الرسول لابن هشام والمسعودي وغيرهم أن النصرانية واليهودية أخذتا في النزاع والمخاصمة منذ أواسط القرن الثالث للمسيح. وبلغ الخصام إلى أعيان الدولة وملوكها. فيخبرون أن التبغ أسعد أبا كرب تهود على يد ربانيين من يثرب وحمل أهل رعيته على التهود وتبعه في أمره بعض أولاده بعده لكن النصرانية فازت في عهد عبد كلال بن مثوب.
وقيل أن عبد كلال المذكور ملك في القسم الثاني من القرن الثالث منذ نحو السنة ٢٧٣ للمسيح إلى ٢٩٧ وقد جعل حمزة الأصفهاني ملكه (ف ١٣١ طبعة بطرسبرج) أربعًا وسبعين سنة. وقد اتفق المؤرخون على تدينه بالنصرانية. جاء في القصيدة الحميرية.
أم أين عبد كلالٍ الماضي على ... دين المسيح الطاهر المسَّاحِ
وقال الطبري في تاريخه (طبعة ليدن ج١ ص ٨٨١): وملك بعد عمرو بت تبع عبد كلال بن مثوب.. فأخذ الملك عبد كلال.. ووليه بسن وتجربة وسياسة حسنة وكان فيما ذكروا على دين النصرانية الأولى وكان يسر ذلك من قومه وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان قدم عليه من الشام فوثبت حمير بالغساني فقتلته ثم عاد من بعده عبد كلال إلى اليهودية أخلافه. هذا ما يستخلص من تواريخ العرب إلا أن هذه التواريخ سقيمة جدًا ولاسيما تاريخ حمير. قال حمزة الأصفهاني (ص١٣٤): "ليس في جميع التواريخ أسقم ولا أخل من تاريخ الأقيال ملوك حمير".
ومما وجد من الكتابات الحجرية الحميرية في أواسط القرن الماضي (CISI.٦) كتابة فيها اسم عبد كلال وامرأته أبعلي وولديه هني وهعلل نقشوها تذكارًا لبناية دار يدعونها "يرث" شيدوها "برضى الرحمان" وذلك في شهر ذي خزف من السنة الحميرية) ٥٧٣ الموافقة للسنة المسيحية ٤٥٨. فذكر الرحمان من الأدلة على توحيده أو نصرانيته.
1 / 20