فلندعنَّ طور سينا لننحدر إلى أطراف جزيرة العرب في جنوبها الشرقي حيث نلقى بلادًا واسعة كثيرة الخيرات وافرة الأسباب تمتد بين بحر القلزم وبحر الهند فيها السهول الرحبة المخصبة والجبال الطيبة الهواء الغنية بالمعادن وبالأشجار النافعة كالكروم والبن والورس واللبان أو الكندر. فتلك البلاد سكنتها أمم عديدة تزاحمت فيها وتنازعت على ملكها وتركت فيها آثارًا عظيمة من أبنيتها كهياكل وقصور اشهرها قصرًا غمدان وريدان وكانت تلك الشعوب من عناصر شتى وقبائل مختلفة منها كوشية ومنها سامية. وبلاد اليمن تشمل عدة أعمال ومخاليف كعسير ومهرة وحضرموت والشحر ومن مدنها الشهيرة مأرب ذات السد قاعدة بتابعة اليمن ومن حواضرهم أيضًا ظفار وصنعاء ونجران وزبيد وذمار وعدن كلها قصبات شهيرة حافلة بالسكان دارة المرافق. وكانت لغتها من اللغات السامية تدعى بالحميرية لها فلم خاص يعرف بالمسند وجد منها الأثريون المحدثون كتابات عديدة يرتقي بعضها إلى الأزمنة السابقة لتاريخ الميلاد بمئين من السنين تدل على أن أهلها كانوا يدينون بالصابئية ويكرمون القوات العلوية والنيرات السماوية والسيارات السبع وكان المتملك على اليمن في أوائل تاريخ الميلاد ملوك من حميرة يتلقبون في الكتابات المكتشفة حديثًا في جنوبي جزيرة العرب "بملوك سبأ وذي ريدان" ولما استولى ملوك حمير على بلاد حضرموت نحو السنة ٣٠٠ للمسيح أضافوا إلى ألقابهم "ملوك حضرموت ويمانات" (١ لا مراء أن النصرانية منذ بزوغها وجهت أنظارها إلى اليمن كما يشهد عليه أقدم الكتبة الغربيين والشرقيين حتى أن بعض الآباء زعموا أن المجوس الثلاثة الذين سبق ترجيحنا لجنسهم العربي كانوا من اليمن وماتوا شهداء في صنعاء بعد أن عمدهم القديس توما قبل سفره من عدن إلى الهند (٢.
ومن الرسل الذين يُنسب إليهم التبشير بالمسيح في اليمن متى الرسول فإن أوريجانس في كتابه الذي رد فيه على الأمم ومثله المؤرخ سقراط (ك١ف١٥) وروفينوس ونيقيفوروس في تاريخه (ك٢ف٤) كلهم يؤكدون بأن متى الرسول بشَّر في جهات الحبش وادعى المحدثون بأن اسم الحبش يطلق أيضًا على اليمن وهو اسم شاع عند القدماء فسموا به تلك الناحية لأن الحبشة كانوا استولوا مدة طويلة على اليمن ولأن قبائل من الحبشة كانت اجتازت من سواحل الحبش إلى اليمن وهذا القول لا يخلو من الصحة لأن القدماء ربما دعوا أهل اليمن بالحبش منذ عهد هيرودوتس واسطرابون (ك١ص٥١ من طبعة أوكسفورد) إلا أن معظم الكتبة لا يسلمون ببشارة متى في اليمن ويزعمون أن القديس بشَّر حبشة أفريقية ليس عرب اليمن.
وسبق لنا ذكر القديس برتلماوس ودعوته للعرب فإن الكتبة القدماء كاوريجانوس وأوسابيوس القيصري (في التاريخ الكنسي ك١ ف ١٠) وسقراط المؤرخ زادوا على تعرفهم للعرب بقولهم أن الرسول برتلماوس بشَّر بالمسيح في الهند القريبة يريدون بها اليمن لأن اسم اليمن كان مجهولًا لديهم فسمَّوها بالهند القريبة معارصة بالهند الشرقية ما وراء البحر الهندي. ثم أن المؤرخ فيلوسترجيوس (ك٢ف٦) وتاوفانوس في تاريخ سنة العالم (٦٠٦٤) وتاوفيلاكتوس (ك٣) يدعون الحميديين بالهنود.
وزاد بعضهم إيضاحًا قالوا أن برتلماوس بشر بني سبا. وفي الميناون المنسوب إلى الملك باسيل يقال أنه بشر هنود العربية السعيدة وهي اليمن كما لا يخفى.
وقد رأيت آنفًا أنهم ينسبون أيضًا دعوة النصرانية في بلاد العرب إلى القديس توما قبل سفره إلى الأقطار الهندية. وقد ارتأى هذا الرأي القديس غريغوريوس النزينزي في ميمرة عن الرسل. ومثله تاودوريطس في كتابه عن الأناجيل (ك٩) وبعض كتبة السريان.
1 / 19