ومن البلاد اللاحقة بشبه جزيرة سينا بقعة واسعة في تخوم فلسطين عن جنوبها الشرقي كثيرة النخيل عرفها الكتبة اليونان ودعوها فينيقون أي مغارس النخل وقد ظن البعض أن موقعها في وادي فيران إلا أن كلام الكتبة الأقدمين لا ينطبق عليها. والصواب أنها شمالي غربي وادي فيران وقيل أن هناك مكانًا يدعى بالنخل لكثرة نخله فلعله هو مدلول كتبة اليونان. ففي القرن السادس كان يحتل ذا البقيع قوم من العرب من جذام ولخم وكان أحد أمرائهم يدعى أبا كرب. فروى عنه المؤرخ بروكوبيوس الغزي (١. أنه كتب إلى يوستنيان ملك الروم يقدم له ولايته فشكره الملك وجعله أميرًا على كل قبائل العرب (phylarque) التي في جوارهٍ فتولاها باسم ملك الروم واخضع العرب لأمره. ولاشك أن هذا الأمير كان نصرانيًا ولولا ذلك لما رضي يوستنيان أن يرئسه على بلاد كان الدين المسيحي قد مد عليهم سيطرته كالنبط وبني كلب وغيرهم. وفيه أيضًا دليل على نصرانية العرب المستوطنين لبقعة النخيل التي كان أبو كرب مالكًا عليها.
وقد جاءت الاكتسافات الجديدة للسياح الأوروبيين في بلاد مواب وآدوم والنبط مثبتة لهذه الآثار التاريخية القديمة فإن الكاهن العالم نزيل كليتنا سابقًا الدكتور لويس موسيل الذي تجوَّل مرارًا في تلك الأنحاء وصف ما رأى بالعيان في مجلدات ضخمة فرسم في تآليفه ما وجده من الآثار كالرسوم والقبور والصلبان وغير ذلك منها في صر الموقر (٢ وفي العويرة (٣ وفي أم الرصاص (٤ ومما ترى بقاياه إلى يومنا آثار كنائس عديدة في أمكنة شتى كعبد والعوجاء وفار وفينان وحسبان والكسيفة والمكاور والمحي وقد يسمى بعضها اليوم بإعلام تدل على دين أهلها كالكنيسة والنصرانية والدير (٥ بل وجد بين الأحياء التي تسكن حتى الآن في تلك البوادي عادات نصرانية تدل على اصلها القديم كرسم الصليب والدعاء إلى السيد المسيح (٦.
ومثله سائح آخر جال في تلك الأنحاء سنة ١٩٠٨ يدعى دلمان (٧ فإنه وصف نحو عشرين أثرًا نصرانيًا وجدها في رحلته إلى جهات النبط.
وليس أقل منها شأنًا ما رواه العالمان برونو ودومازفسكي في المجلدات الثلاثة الضخمة التي دونا فيها أعمال بعثتها العلمية إلى إقليم عربية (١ وقد مر وصفها للأب جلابرت في المشرق (٤٥٧:٨ ٤٦١) في المقالة المعنونة السكة الرومانية من مادبا إلى عقبة وفي هذا التأليف الجليل وصف آثار خطيرة للنصرانية لايسعنا هنا بيانها فيؤخذ من كل هذه الأدلة التي استدللنا بها أن طور سينا والبلاد اللاحقة أو المحدقة به كاد يعمها الدين النصراني في القرن السادس وقد أقر بذلك المستشرق دوزي (Dozy) في مقدمة كتابه عن الإسلام (٢ قال: "أن شبه جزيرة سينا كلها تقريبًا كانت ارتدت إلى النصرانية وكانت حاوية لجملة من الأديرة والكنائس وكان عرب الشام يدينون بالنصرانية (٣".
الباب الخامس النصرانية في اليمن
1 / 18