ومن الأديرة الشهيرة في التاريخ الكنسي دير ريث الذي موقعه بجوار مدينة الطور فهذا الدير توارد إليه الرهبان ونمت شهرته حتى طمعت فيه قبيلة همجية كانت تسكن في سواحل مصر يدعونها بلاميس (Belmmeys) فاجتازت بحر القلزم واغتالت رهبانه سنة ٣٧١ وفرَّت هاربة فلما بلغ الخبر أهل فاران ساروا مع أسقف البلد وعوبديان الأمير إلى دير ريث وجمعوا جثث الشهداء ودفنوهم بكل إكرام. وقد روى إخبارهم أمونيوس الراهب الشاهد العياني لاستشهادهم.
وقبل أن يقدس هؤلاء وادي فيران وسواحل جبل الطور كان رقي قوم آخرون أعالي جبل موسى حيث كان التقليد عيَّن موقع مناجاة الكليم لربه وحيث صعد آليًا إلى جبل الله فانقطعوا على مثالهما للآلهيات. وقد مر بك ذكر بعض هؤلاء النساك في أواسط القرن الثالث. وأخبر سولبسيوس ساويرس (١ في سياحته إلى جبل سينا نحو السنة ٣٨٠ أنه رأى راهبًا كان يقطن أعالي سينا منذ خمسين سنة. ثم كثر عددهم فابتنوا لهم مآوي ليسكنوا فيها. على أن لصوص العرب الوثنيين والمعادين لأهل الحضر المتنصرين قدموا من شمالي الجزيرة وجهات الشراة وهجموا بغتةً على محابس الرهبان المتفرقة في أنحاء جبل موسى ووقع ذلك نحو سنة ٣٩٠ كما رواه أحد الشهود العيان والكاتب اليوناني القديس نيلوس الذي مر ذكره وكان هذا من أسرة شريفة تولى نظارة الأمور على مدينة القسطنطينية ثم استعفى ليتجرد لخدمة الله فرحل إلى طور سينا مع ابنه تاودولوس وتنَّسكا في ذلك المقام. فقتل العرب في هذه الزحفة سبعة من السياح وأسروا غيرهم وكان من جملتهم ابن القديس نيلوس الذي روينا شيئًا من إخباره في باب تاريخ أديان العرب وقد نجا من أيدي الغزاة في مدينة الخلصة بهمَّة أهلها النصارة وأسقفها (٢.
ومذ ذاك الحين أخذ رهبان جبل سينا يتحصنون في وجه الغزاة ولما صار الأمر إلى يوستنيان الملك ابتنى لهم الكنائس الفخيمة والأبنية الحصينة وجعل في خدمة الرهبان بعض قبائل العرب المتنصرين أخصهم بنو صالح وقد عرفوا بالجبلية. وكان الزوار إذا ما قصدوا الأراضي المقدسة يزورون أيضًا هذه الأديرة لينالوا بركتها وبرة أهلها. وقد ازداد عدد رهبانها حتى جُعل لطور سينا أساقفة عددنا أسماءهم في مقالة نشرناها في أعمال المكتب الشرقي (٣.
وكذلك اشتهر بين الرهبان بعض القديسين والكتبة كالقديس أنستاس السينوي في القرن السادس. وليس أقل منه شهرة القديس يوحنا رئيس طور سينا المعروف بالسلمي أو كليماكوس باسم كتاب ألفه دعاه سلَّم الكمال وكان معاصرًا للقديس البابا غريغوريوس الكبير وكان بين القديسين مكاتبات رواها جامعو آثار الحبر الأعظم. وقد ذكرنا في المشرق (٩٩٣:٧) ما تبرَّع به ذلك البابا من الحسنات لير طور سينا حيث أنشأ يوحنا مأوى للعجزة والزوار.
وفي أعمال القديس صفرونيوس بطريرك القدس تكرر ذكر طور سينا ورهبانه والزوار المترددين إليه (١.
وبعد ذلك بقليل استولى العرب المسلمون على شبه جزيرة سينا وقد قيل أن بين آثار دير الطور سجلا أعطاه محمد كامانٍ لأهله وبقي عندهم إلى أيام السلطان الغازي سليم الأول فأخذه إلى القسطنطينية. (رجع في المشرق ٦٠٩:١٢ و٦٧٩) . مقالتنا في عهود نبي الإسلام والخلفاء الراشدين للنصارى.
ومن الآثار النصرانية كتابات عديدة وجدت منقورة في الصخر أو مكتوبة بالمغرة على جوانب وادي المكتب. فإن السياح كانوا إذا مروا هناك كتبوا أسماءهم وطلبوا من الله الرحمة وأعلنوا إيمانهم بالله الواحد ورسموا بعض العلامات المسيحية كالصليب والأنجر وسعف النخل والحرف الأول من اسم السيد المسيح. وهذه الكتابات منها يونانية ومنها قبطية لاشك في نسبتها إلى النصارى. وبينها كتابات أخرى عديدة مكتوبة بالنبطية ومن جملتها ما نصفه يوناني ونصفه الآخر نبطي وبعض العلماء يرتأون إنها للوطنيين لمشركين أما غيرهم فيرجحون أيضًا أنها للنصارى منهم من قبائل تيم الله وكلب واوس ممن اعتقدوا النصرانية بل ترى العلامات النصرانية عليها كما ترى على اليونانية والقبطية وإن لم يكن في منطوقها ما يدل على الدين المسيحي صريحًا ما لم يقل أن تلك العلامات أضيفت بعد ذلك العهد والله أعلم (٢.
1 / 17