وربما نفى المغتصبون هؤلاء المعترفين بالإيمان من بلادهم إلى بلاد العرب ليذوقوا هناك مشقّات العيش من الجوع والعطش والعري. وكثر عددهم في أيام بدعة آريوس. وكان بعض هؤلاء رجالًا ذوي علم واسع وفضل كبير كإيليا بطريرك القدس وأوجان أسقف الرها وبروتوجان أسقف حرّان. فكان المنفيّون إذ اختلوا بين العرب سعوا في إنارة عقولهم وبيّنوا لهم بطلان أوثانهم وأقنعوهم بجحد أضاليلهم.
بل يذكر التاريخ جملة من الشهداء قُتلوا في سبيل الإيمان في بادية الشام ومدنها كالقديس كيرلّس وأكويلا ودومطيان المستشهدين في مدينة عمّان على عهد ديوقلطيانوس وتذكرهم الكنيسة في ١٠ آب وكزينون وزيناس الشهيدين على عهده أيضًا سنة ٣٠٥. وذكر أوسابيوس القيصري (ك٨ ف٢١) أنّ في زمن هذا الملك "قتل عددًا لا يحصى من الشهداء في بلاد العرب". وفي السنكسار الروماني عدّة شهداء صورة المصرانية بين عرب الشام قتلوا في بادية الشام في ذلك الاضطهاد عينه فيكرمون لشهامتهم في غرة آب. واستشهد فيها على عهد يليانوس الجاحد القديسان أوجان ومكاريوس المكرَّمان في ك١. فلا غرو أن دم هؤلاء الشهداء أخصب زريعة الإيمان وأنماها في جهات العرب.
ومن هذه الآثار القديمة أعلام الأمكنة التي بقيت حتى اليوم كدليل ناطق على اتساع النصرانية في منازل غسان لاسيما الصفا وحوران. فإن عددًا دثرًا من أسماء الأمكنة يدعى في زماننا بالدير كدير الكهف ودير قن عددها الأثريون دي فوكوي ووادنغتون ودسو وغيرهم.
ويضاف إلى هذه الشواهد جداول المراكز الدينية التي تدل على تعدد الإسقفيات في تلك الأنحاء فإن مطران البصرى وحده كان يحكم على ٢٠ إسقفًا (١ وكان بعض هؤلاء الأساقفة ينتقلون مع القبائل الراعية فيسكنون الخيم ولذلك يدعونهم أساقفة الخيم وقد أمضوا غير مرة أعمال المجامع بهذا التوقيع "فلان أسقف أهل الوبر" أو "فلان أسقف القبائل الشرقية المتحالفة" أو "فلان أسقف العرب البادية". (٢. أفترى بينة أعظم من ذلك على انتشار النصرانية بين عرب الشام.
فهذه الحجج كافية ليقر كل مناظر بصحة قولنا عن غسان أنها كانت تدين بالنصرانية ولو شئنا لعززنا هذه الأدلة بشواهد أخرى من كتبة السريان كميخائيل الكبير ويوحنا اسقف أفسس ويوشع العمودي وابن العبري ونصوصهم توافق ما ذكرناه آنفًا.
ومما يقتضي التنبيه إليه أن النصرانية في بادية الشام ثبتت في عزها إلى ظهور الإسلام ونمت واتسعت حتى يجوز الفول بأن الوثنية تقلص ظلها حتى كاد يضمحل ومما يدل على ذلك أن نصارى العرب الذين اجتمعوا مع الرومان لرد غارات المسلمين في غرة الإسلام كانوا الوفا مؤلفة يبلغ الكتبة عددهم إلى مئة ألف بنيف (٣. فهذا العدد الوافر من المقاتلين يدل على أن النصارى في بادية الشام كانوا ألوف الألوف فلا يكاد يبقى بينهم مكان لأهل الشرك وعبدة الأصنام.
هذا ولا ندعي أن النصرانية الغالبة على بادية الشام كانت صافية خالية من كل شائبة وضلال. كلا بل نعلم حتى العلم أن البدعة اليعقوبية تسربت إلى تلك الجهات وكدرت صفاء الإيمان بما أدخلته من المعتقدات الباطلة في طبيعتي السيد المسيح وبزعمها ن المسيح طبيعة واحدة كما هو أقنوم واحد فمزجت اللاهوت بالناسوت وبلبلت كل تعاليم الخلاص.
ولم تكن اليعقوبية البدعة الوحيدة التي فوضت أركان التعاليم الرسولية بل دخل إلى بلاد العرب كثيرون من المبتدعين الذين كانوا يؤملون رواج أضاليلهم في أنحائها دون أن يلاقوا فيها زاجرًا يزجرهم ولا وازعًا يزعهم. وكان بعضهم يفرزن إلى جهات العرب لينجوا من مصادرة ملوك الروم الذين كانوا يريدون قهرهم على جحود أضاليلهم فيفضل أولئك المتشيعون الهرب إلى بادية العرب. فكثروا هناك ونشروا بدعهم حتى قال القديس أبيفانيوس أن بلاد العرب ممتازة ببدعها (Arabia baeresium ferax) .
1 / 11