52
ذهبت فرقة من الزحليين بقيادة بعض الفرسان إلى جهة كساره وحوش الأمراء لصد هجمات الدروز وأبدت بسالة وثباتا، وبينما كان الزحليون ينتظرون قدوم يوسف بك كرم في هذا اليوم من طريق صنين كما وعد، وهم قد تفرقوا في متاريسهم رادين هجمات الخصوم من الجهات الثلاث إلا الغرب؛ لانتظارهم قدوم النجدة منه، إذا بالدروز قد دبروا حيلة خدعوا بها الزحليين؛ وهي أن خطار بك العماد قائد دروز لبنان الموغر الصدر على الزحليين الذين قتلوا ولده الشيخ علي في موقعة ظهر البيدر كما مر، أخذ نحو ألفي مقاتل من رجاله الأشداء ونشر أمامهم أعلاما مسيحية عليها صورة الصليب كانوا قد غنموها من بعض المواقع ودخلوا زحلة من جهة الغرب (محل حاووز الماء الآن)، بالأهازيج المسيحية إيهاما لسكانها أنهم رجال يوسف بك كرم، فلاقاهم بعض الزحليين فأطلقوا عليهم رصاصهم وخرقوا متراس بيت البريدي ودخلوا البلدة من الغرب، وأحرقوا بيوت الشركاء الملاصقة دير مار إلياس الطوق، وبيت البريدي المذكور الذي أخلاه محافظوه لقلتهم، وانضموا إلى متراس سيدة النجاة فخرقت محافظة البلدة من الجانبين الغربيين؛ لأن متراس بيت القاصوف أخلي عند دخول الدروز البلدة وخلا الجو للدروز، فدخلوا زحلة ولا سيما حارة الراسية وأضرموا النار في بيوتها، ونهبوا ما وصلت إليه أيديهم ولم يكن الجند المحافظ يستطيع أن يوقف نيران الشر بل أطلق المدفع على البلدة، فانذعر السكان وهرب معظمهم فاشتد العراك في المتاريس الثلاثة الباقية، التي هي متراس بيت أبي علي المعلوف، ومتراس البيادر، ومتراس سيدة النجاة. فثبت محافظوه ثباتا غريبا، وقتل بعضهم بعد أن قتلوا من المهاجمين خلقا كثيرا ثم قوي المهاجمون لمتراس بيت أبي علي، فأخلاه محافظوه وبقي متراس البيادر وبيت العن محصنين. وكان مطرانا زحلة عاقدين جلسة في سيدة النجاة، فلما علما بدخول الدروز فرا مع كثير من الزحليين وعيالهم من جهة حارة البربارة على طريق صنين لا يلوون على شيء، فاندفق الدروز على متراس بيت العن للفتك بمن فيه وهم كثيرون، وكان يتقدمهم قائداهم الشيخ إسماعيل الأطرش وخطار العماد، فخاطبا الزحليين شفاها من خارج البوابة بقولهم: «سلموا تسلموا عن يدنا»، فأجابوهم وهم يظهرون من الضعف قوة قائلين : إننا لا نسلم حتى نفنى ولا تظنوا الزحليين هربوا؛ بل ذهبوا مرافقين لنسائهم وأطفالهم ليبعدوهم عن مواقف القتال ويعودوا لمحاربتكم، وعندنا ذخيرة نحو نصف سنة ونحن خمسمائة بندقية «بارودة» هنا. ثم قالوا لهم: «أشهروا حالكم» واشتعلت نار البنادق فقتل الزحليون من الدروز على البوابة نحو عشرين كان الدروز يخفونهم ويحرقونهم لئلا تخاف رجالهم وتتقهقر، وكان قتلى الدروز جميعهم نحو خمسين، فأحرق الدروز الطبقة العليا من بيت العن من جهة بيت الزرزور، فهبطت ونزل المحاصرون إلى الطبقة السفلى والنار تتساقط عليهم واحترق ابن أبي إلياس بالش.
أما حصار سيدة النجاة فكان هائلا؛ لأن معظم الكهنة تركوا زحلة مع مطرانيها الكاثوليكي والأرثوذكسي كما مر، وبقي الخوري بطرس القطيني المعلوف، فجمع الخوري أخوته وبعض أهل بلدته في دار سيدة النجاة، وكان يدافع عنهم بمعاونة ابن عمه عبد الله جبور المعلوف، ولما دخل الدروز الدار دافعا دفاع الأبطال، وهاك ما ذكره الطيب الذكر المطران غريغوريوس عطا الزحلي رئيس أساقفة حمص وحماة ويبرود في مصنفه «تاريخ زحلة» المخطوط «أن الخوري بطرس القطيني المعلوف بقي وحده يحارب مع بعض الأهالي في زحلة وحاصر في الدار الأسقفية، وأصيب برصاصتين فقتل وسقط شهيد الغيرة، وفي النهار ذاته قتل في المعركة أخواه حنا وشاهين.» ومما يذكر من بسالة عبد الله جبور المعلوف في ذلك اليوم أنه حمل الخوري بطرس على ظهره قتيلا والرصاص يمطره من الدروز خوفا من أن تهان جثته وأدخله إلى الكنيسة. وكانت مريم والدة الخوري بطرس تقدم الذخائر لأولادها ومواطنيها، فشاهدت بعينيها قتلهم ثلاثتهم، أما ولدها خليل فأبدى بسالة تذكر بعد قتل أخوته، إذ شق صفوف الأعداء ونجا بوالدته. ثم جاء درزيان بالخوري يعقوب المعلوف الكاهن الثاني الذي بقي في زحلة، ودخلا به الكنيسة ليدلهما على قبر الأساقفة (الكمنتير) الذي ضمن الكنيسة؛ لأنه نمي إليهما أن خزائن الزحليين ومصوغاتهم مودعة فيه، فما كاد يخبرهما عن محلها حتى وقعا قتيلين من المحاصرين، فنجا الخوري وفر ليلا إلى كفر عقاب مع ولده وكثير من الزحليين. وكان في سيدة النجاة من المحاصرين عدا من ذكرنا جرجس فصوح المعلوف، وأبو عبد الله يوسف قادره، وطنوس القبرصلي، وإلياس أبو عيد، والفتى سليمان فارس الراعي. فأبدوا جميعهم ثباتا وبسالة وكان كلما دخل درزي يقتل، وكان كثير من الزحليين قد التجأوا إلى دير الآباء اليسوعيين في زحلة فلم يستطيعوا الدفاع، فهاجمهم الدروز، وقتلوا كثيرا منهم بينهم الأب يوحنا بيليوته، والأخ بوناتشينا، والأخ حبيب مقصود الزحلي، وهم من الرهبنة اليسوعية فقتلوهم
53
وأحرقوا الدير. ولما كانوا هاجمين من جهة الحاووز قتلوا الخوري أسطفان حريقة كاهن وادي العرايش الماروني على جسر الصفة أمام نزل (لوكندة) الصحة، وكان قد أبدى بسالة في مواقع زحلة. وكان عباس القلعي أحد حملة أعلام الدروز قد قتل فوق جسر الوادي.
وهكذا بعد أن أحرق الدروز كثيرا من أحياء المدينة وبيوتها، ونهبوا ما وجد في طريقهم ونكلوا بالسكان نادى مناديهم بلسان زعيميهم الأطرش والعماد أن لا يبيت رجل منهم في زحلة، وكان ذلك عند غروب الاثنين فأخلوها قاعا صفصفا، وكان مشهد أشلاء القتلى والجرحى من الفريقين يفتت الأكباد، ولا سيما حيث كان معظمها مكردسا في آخر سوق البلاط وفي جعيران على الجسر الكبير، وكذلك منظر الحريق والدمار كان فاجعا للعيون. وبقي المحاصرون في بيت العن وسيدة النجاة ومار ميخائيل إلى صبح اليوم التالي وكان في مار ميخائيل بولس المنير وأبو أنطون السكاف وغيره وقد أبدوا بسالة وثباتا، فلما تأكدوا خلو المدينة من الأعداء خرجوا إليها بعيون باكية وأفئدة دامية، وكان الفارون قد ساروا في طريق صنين الوعر لا يلوون على شيء، فباتوا في العراء يتضورون جوعا ويتفجعون أسفا لما حل بهم من الدمار، وبقي قليل منهم في بسكنته والباقون تفرقوا في كفر عقاب وزبوغة ووادي الكرم حيث دير القديس سمعان العمودي مصيف مطارنة بيروت وجبيل الكاثوليكين، وبعضهم سار إلى كفر تيه ومزرعة كفر دبيان والمحيدثة والشوير وبتغرين والخنشارة وغيرها، فنزلوا في هذه الأماكن على الرحب والسعة. ولما ضاقت بهم الأمكنة كانوا ينامون في الفضاء تحت أشجار التوت ويستظلون بها نهارا. وفي اليوم التالي كان يوسف بك كرم يستشرف زحلة، وهي بهذه الحالة المحزنة من أعالي محلة المشيرفة على طريق صنين فحزن وندم لتخلفه عن نجدتها معتذرا أن الأمراء اللمعيين هم الذين أخروه.
وكان قد قتل من الدروز نحو مائة وثمانين ومن الزحليين مائة وعشرون وذلك في يوم حرقها. وكان الأمير محمد الحرفوشي عدو الزحليين قد أرسله الأطرش والعماد زعيما الدروز ليخفر وادي قعفرين (قاع الريم) فوق زحلة، وليمنع النجدات عنها من تلك الجهة فدخل المدينة برجاله وحملوا ما تركه لهم الدروز من أسلابها. ومما يروى عن براعة فرسان الزحليين في الحرب أنهم كانوا يحشون «يدكون» بنادقهم وخيولهم راكضة بينما كان دروز حوران يوقفونها ليحشوا بنادقهم. ولقد تفانى الزحليون في الدفاع وأبدوا بسالة وجرأة عرفا بها منذ القديم، وهكذا انتهت موقعة زحلة التي انفرد فيها سكانها، ولم ينضم إليهم إلا العراقبة الملتجئون إليها ونجدة بسكنته المذكورة آنفا. ذلك مع كثرة عدد خصومهم.
ومما يروى عن نية الدروز في مهاجمتها أنهم قصدوا أن يشنوا عليها الغارات الجرارة من جهة الغرب بعد أن يستكملوا قواتهم؛ ليجمعوا سكانها في السهل وهناك تلتف حولهم النجدات المتواصلة، فينكلون بالزحليين كل التنكيل. ولكن هجوم كل من حنا أبي خاطر، ونعمان المعلوف، وغيرهما من فرسان زحلة إلى تعنايل فكساره ومقاتلتهم للدروز. وإخلاء أبي عبيد يوسف البريدي المتراس الذي كان في بيته وزحفه بمن فيه إلا القليل إلا القتال في كساره، وقدوم النجدة من بسكنته مساء الأحد كل ذلك رآه الدروز موجبا لتعجيل هجومهم ثاني يوم الاثنين فانتهزوا هذه الفرصة. ومن تفننهم الحربي والحرب خدعة أنهم عندما اجتمعوا تحت رايات الصلبان فوق أعالي المدينة، ورأوا طلائع الزحليين تستشرفهم اصطفوا صفين متقابلين لأحدهما أعلام الصلبان وللآخر أعلام الدروز وشرعوا يطلقون البنادق كأنهم يتحاربون ليؤكدوا للزحليين أن نجدة يوسف بك كرم قادمة إليهم؛ فلذلك تمكن الدروز من الدخول إلى البلدة من جهة الحاووز لمعرفتهم أن متراس بيت البربدي فارغ من الحامية، وقد اندفقوا من هناك فئتين؛ إحداهما دخلت حارة الراسية والثانية جاءت بطريق عين الدوق إلى القاطع. وبعد أن أخليت أكثر المتاريس كما مر اندفقت جيوشهم الجرارة من جهة عين الدخن (فوق دار الحكومة الآن)، وأحاطوا بزحلة ولا سيما بمتراس بيت العن كما سبق.
وكان زعيمي الدروز الكبيرين الشيخ إسماعيل الأطرش وخطار بك العماد ومع كل منهما قواد وزعماء، فمن قواد اللبنانيين من مشايخ آل العماد أسعد وكنج وملحم بك ومن غيرهم الشيخ محمود العيد، ومن قواد الحوارنة المشايخ واكد حمدان، وهزيمه هنيدة، وجمود الفخر وقبلان، ودعيبس عامر، وسليمان القلص، وحمد وفندي عزام، ويوسف صعرو، وكانوا كلهم في مقدمة الهاجمين على زحلة يوم سقوطها والمحرضين على القتل والنهب منها، وقد اتهموا بالتحقيقات التي ترأسها فؤاد باشا ومعتمدو الدول.
ومن زعماء الزحليين ومقاتليهم الأبطال الذين توفقنا إلى معرفتهم في موقعة ظهر البيدر نعمان المعلوف، وحنا أبو خاطر، ولحود البحمدوني، وأبو دعيبس مخول البريدي، ويوسف خليل حجي، وحبيب لوسيه بالش، وعبد النور الششم، وخليل الطباع، وطنوس القشعمي الحكيم من حمانا، ونعمه صليبي من فالوغا، وهذان كانا في معسكر زحلة .
صفحه نامشخص