مقدمة
تمهيد
اسم زحلة وموقعها
تربتها وصخورها
نباتاتها وحيواناتها
ماؤها وهواؤها
قدمها وآثارها
حوادث زحلة القديمة
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن الثامن عشر
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن التاسع عشر إلى يومنا
صفحه نامشخص
زحلة بعد سنة 1860
استدراكات
كلمة الختام
مقدمة
تمهيد
اسم زحلة وموقعها
تربتها وصخورها
نباتاتها وحيواناتها
ماؤها وهواؤها
قدمها وآثارها
صفحه نامشخص
حوادث زحلة القديمة
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن الثامن عشر
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن التاسع عشر إلى يومنا
زحلة بعد سنة 1860
استدراكات
كلمة الختام
مدينة زحلة
مدينة زحلة
تأليف
عيسى إسكندر المعلوف
صفحه نامشخص
مقدمة
لما كنت مولعا بإحياء آثار مسقط رأسي «زحلة» المحبوبة منذ الصغر، كنت أنتهز الفرصة لجمع كل ما يتعلق بآثارها وأخبارها، حتى توفقت إلى أخذ امتياز «جريدة زحلة الفتاة» في ك1 سنة 1910، ولم أشأ أن ينشر العدد الأول منها إلا مزدانا «بتاريخ هذه المدينة»، فسعيت في ابتياعه من حضرة مؤلفه ونشره على صفحات الجريدة، ثم جمعه بكتاب على حدة يبقى أثرا مذكورا لوطني ومواطني. فأرجو بعد كل هذا أن تحوز خدمتي القبول لدى المواطنين الكرام، الذين أهدي إليهم هذا التاريخ في أول السنة الحالية (سنة 1911)، وحسبي فخرا خدمة وطني بإخلاص.
إبراهيم نقولا الراعي
زحلة في 1 ك2 سنة 1911
تمهيد
وضع كثير من المتقدمين تواريخ عامة، وجرد الآخرون تواريخ خاصة للناس والمدن ونحوها، فحفظوا بذلك ذكر من تقدمهم، إلى أن كان عصر انحطاط بلادنا منذ بضعة قرون؛ فقلت العناية بهذا الفن الذي هو من أنفع الفنون وأجزلها فائدة للآتين. حتى لقد كادت معرفة التواريخ تتلاشى ذكرا وتعفو أثرا من بيننا. فتنبهت منذ أميطت عني التمائم إلى ضرورة وضع تواريخ لكثير من مدننا التي أوشكت أن تطمس أخبارها، ولأسرنا (عيالنا) التي قلما يوثق بأخبارها، فوقفت كثيرا من أوقاتي وأرصدت ما يلزم من الأوراق القديمة والمخطوطات للبحث والتنقيب، غير مدخر وسعا في هذا السبيل، ولا متوان ضجرا من سؤال الشيوخ والحفظة والمراجعة. وقلما وقفت على مخطوطة أو ورقة إلا وراجعتها بتدقيق، مستنسخا كل ما له علاقة منها بموضوعي. فاجتمع لدي تعاليق كثيرة في تضاعيف مجلدات وافرة، ولن أزال متحديا هذه الخطة إلى هذه الساعة، فوجدت أمامي مادة غزيرة. وكثيرا ما كنت أعارض الأقوال والمخطوطات، وأمحصها على قدر الطاقة تبسطا في البحث وتحقيقا في العمل. وهذه خطة من كان في عصر مثل عصرنا الحاضر، قد انقطعت فيه أسباب العناية بأسلافنا وبلداننا، وانصرفت فيه أفكارنا إلى استقراء ما عند الإفرنج من التواريخ والأنباء التي لا علاقة لها بموطننا ولا بقومنا، حتى إذا رأى أحدنا كتابا لأحد المستشرقين من الفرنجة يبحث عنا أعرض عن مطالعته ونبذه ظهريا؛ لفشو مرض استضعاف أنفسنا بيننا، واحتقار بلادنا ونحو ذلك مما يعد عيبا فينا وعارا علينا:
وماذا الذي تدريه عند أجانب
إذا كنت في أحوال دارك جاهلا
هذا ولما جئت زحلة واتخذتها لي موطنا منذ بضع عشرة سنة، شرعت أبحث عن تأريخها وشئون سكانها وقدم عمرانها، فراجعت ما وصلت إليه يدي من الأوراق القديمة والسجلات والمخطوطات التي أشارت إليها، مثل تاريخ القس روفائيل كرامة الحمصي، والقس حنانيا المنير الزوقي، وهما من الرهبنة الحناوية الشهيرة، وتاريخهما في حوادث القرن الثامن عشر للميلاد، وتعاليق بعض أساقفة مدينة زحلة في يومياتهم الخاصة، وكذلك بعض الكهنة الذين ولعوا بكتابة ما يجري أمامهم من الحوادث. أخصهم الطيبو الذكر الأسقفان باسيليوس شاهيات وأغناطيوس ملوك والخوري فيلبس النمير؛ فضلا عن التواريخ الأخر المطبوعة أو المخطوطة، مثل تاريخ الأمير حيدر الشهابي الشملاني وطنوس الشدياق الحدثي وتشرشل بك الإنكليزي والكردينال لاڤيجري الفرنسي، وبعض كتب رحالة الفرنجة في القرنين الماضيين، ونكبات الشام وملاحم جبل لبنان لإسكندر بك أبكاريوس الأرمني، وتاريخ إبراهيم باشا له وحوادث سنة 1841م فصاعدا للخوري أرسانيوس الفاخوري، ونحو ذلك من المراجع الكثيرة التي جمعت منها ما جمعت، إلى أن ذكر لي أحد أصدقائي «تاريخ زحلة» للطيب الذكر وطنينا المطران غريغوريوس عطا الزحلي. فبادرت إلى طلبه من مؤلفه لما كان حيا، فتكرم علي بنسخة مختصرة منه بخط الخوري روفائيل أبي مراد
1
صفحه نامشخص
نسيبه وكاتبه إذ ذاك. فجمعت هذه المراجع ووضعت «تاريخ زحلة» مستعينا على تفصيل بعض الحوادث بأحاديث بعض الشيوخ المعروفين بصحة محفوظهم وتحقيق رواياتهم، فجاء التأريخ مطولا:
أيا وطني إن فاتني بك فائت
من العيش فلينعم لساكنك البال
ولكي لا يكون هذا التاريخ ناقصا؛ قدمت الكلام على مدينة زحلة وحالتها الجغرافية وموقعها ووصفها قبل أن أسترسل إلى ذكر وقائعها وشئونها، وما تقلب عليها من الحوادث الخطيرة، وذكر مشاهيرها وأسرها ونحو ذلك من المباحث اللذيذة.
ولما كنت قد بدأت بنشر هذا التاريخ في السنة الأولى من جريدة المهذب، التي توليت إنشاءها منذ كانت صغيرة مدرسية إلى أن صارت كبيرة عمومية، وكتبت شيئا مقتطفا من هذا التاريخ في كتابي «دواني القطوف» من صفحة 116-125؛ لم أجد بدا من الإشارة إلى ذلك هنا إحاطة بأطراف الموضوع، وحفظا لحقوق طبع هذا الكتاب الذي أنفقت وقتا وعناء في ترتيبه وتنسيقه على أسلوب عصري.
ولما كان جناب إبراهيم أفندي نقولا الراعي صاحب امتياز «جريدة زحلة الفتاة» يحب إحياء هذا الأثر الوطني قياما بالواجب؛ فاوضني بشأن طبع هذا التاريخ، فاتفقت معه على ذلك لقاء قيمة معلومة بشروط مسجلة، بحيث تكون حقوق إعادة طبعه محفوظة لإدارة جريدة زحلة الفتاة فقط.
فإلى كرام الزحليين مواطني أزف الآن هذا التاريخ الوطني، آملا ممن يرى فيه خللا أو زللا أن يرشدني إليه لأصلحه في الطبعات الآتية، وما العصمة إلا لله الذي هو خير من يعتصم به في افتتاح كل عمل لتحسن خواتمه. جعل الله افتتاح هذا العمل مدرجة لخير الختام بمنه وكرمه.
عيسى إسكندر المعلوف
هوامش
اسم زحلة وموقعها
صفحه نامشخص
أرى أن اسم زحلة مأخوذ من زحل الرجل عن مكانه إذا تنحى وتباعد، ومنه المزحل اسم مكان للموضع يزحل إليه، أو مصدر ميمي على حد قول الشاعر:
ويركب حد السيف من أن تضيمه
إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
ومما يؤيد هذه التسمية، أن الجهة الشرقية من القسم الجنوبي من المدينة عند محلة البيادر حذاء سراي الحكومة لن تزال معرضة للزحول في كل سنة؛ لعدم تماسك تربتها بشيء من الصخور أو الأشجار، وكذلك بعض أنحاء المدينة معرضة لهذا الخطر. وهناك موقع سيدة الزلزلة الأرثوذكسية التي أقيم معبدها تذكارا لزلزلة حدثت، فخسفت الأرض حولها، كما يظهر للرائي الآن. وفي لبنان قرية عين زحلتا بهذا المعنى.
وربما سميت المدينة بهذا الاسم منسوبة إلى هيكل أقيم فيها لزحل المعبود القديم، وإذا صح هذا الرأي فالأولى أن يكون هيكل هذا الإله الوثني على تلة المشيرفة الغربية الواقعة على الجانب الجنوبي من المدينة مقابل قرية وادي العرايش، وهي في قضاء المتن الأعلى من لبنان، وسيأتي ذكرها في آثار المدينة.
أما ادعاء العامة أن زحلة سميت باسم الملك الزحلان من بني هلال،
1
وأن التلة الشرقية على الجهة الجنوبية مسماة باسم ابنته شيحا، فهو من المزالق التاريخية المبنية على الوهم والتخرص، وذلك كثير في بلادنا ينكره التاريخ الصحيح.
وموقع المدينة اللبنانية الحالي في حضيض جبل الكنيسة،
2
صفحه نامشخص
وهذا الجبل من لبنان الغربي من قضاء المتن، وهو دون جبل صنين الذي يقابله ارتفاعا يشرف على سهلي بعلبك والبقاع والجهات الأخر، وفي سفوحه كثير من القرى.
وبناء مدينة زحلة الحالي يمتد في واد منفرج على ضفتي نهر البردوني، وموقعها بديع يأخذ بمجامع القلوب حسنا، ويتخلل المدينة هذا النهر مترقرقا على الحصى، ومنه تفرعت مجار على الجانبين لإدارة الطواحين المائية.
3
وهي على علو ألف متر ونيف عن سطح البحر في أسفلها، ونحو ألف ومائتي متر
4
في أعلاها. وتملأ أبنية المدينة فسحة الوادي الواقع بين منعطف جبلين من سلسلة لبنان الغربي، منفرجين في وسطهما وضيقين في الجانبين الشرقي والغربي. فالمضيق الغربي هو تحت قرية وادي العرايش التابعة لمديرية بسكنتا من أعمال المتن في لبنان، وهناك تنحدر ذراعان من سلسلة الجبلين المتقابلين، حتى تكادا تتماسان أمام نزل - لوكندة - الصحة القائم على الجانب الشمالي من المدينة، ومن هناك إلى قاع الريم واد عميق جدا ينفرج مرة ويضيق أخرى، فيمثل أبدع المناظر الطبيعية التي تملأ العين حسنا، وفيه كثير من أشجار الحور والصفصاف والتوت والكروم وغيرها. وهناك قريتا وادي العرايش وقاع الريم (قاع فرين) التابعتان لبسكنتا في العدوة الشمالية من الوادي ومقابلهما في العدوة الجنوبية قرية حزرتا، وسكانها من الشيعيين (المتاولة)، وهي تابعة لمديرية المتن الأعلى من لبنان.
والمضيق الشرقي موقعه بين تلة شيحا، المار ذكرها، وتلة أخرى تقابلها على الجانب الشمالي تعرف بتلة الحمار؛ لاحمرار تربتها (ومعظم تربة زحلة بيضاء)، وهي فوق قصبة المعلقة وأطراف حوش الزراعنة التابع لزحلة.
ومن نظر إلى هذا المنفرج بمضيقيه، رآه أشبه بحنجرة يحدق بها مضيقا الفم والمريء (الزلعوم)؛ فيجري البردوني من فم الوادي الغربي وينساب إلى الفم الشرقي، ثم يتخلل السهل إلى أن يصب في نهر الليطاني. فالمدينة غورية جبلية وأبنيتها منضدة بعضها فوق بعض، كأنها سلالم على سفوح وأسناد الوادي.
وذكر أحد سياح الإفرنج أن زحلة أشبه بالرمانة المفلوقة، وهذا التشبيه هو اليوم أصح منه في الأمس لكثرة مسنمات الآجر (القرميد)، التي تمثل حب الرمان الأحمر. وذكر المرحوم الدكتور پوست الأميركاني: إن قرية بيلان في شمالي سورية هي أشبه بمدينة زحلة؛ لأنها مبنية على عدوتي واد عميق، ومنظر بيوتها أشبه بزحلة وكذلك تلولها. فإن ترابها أبيض وفيها وحولها كروم كثيرة، ويشرف عليها جبال شامخة وموقعها حصين.
والبردوني يقسم المدينة إلى قسمين، القسم الجنوبي منهما أكثر عمرانا من الشمالي، ولكن هذا أحدث أبنية من ذاك، وعلى ضفتيه الأشجار المتمايلة بقدودها الممشوقة التي معظمها من الحور، وفي غربيها متنزهات الصفة، وهي من أبدع المواقع الطبيعية يختلف إليها الناس صيفا، فيروحون النفس بنسماتها البليلة، وحول هذه الحدائق النضرة والرياض الغناء طريق عربات يحدق بها، ويتصل بجسور هي أشبه بالأسورة لمعاصم المجاري المائية، يمثل أشكالا هندسية تخلب محاسنها القلوب وتملأ العين جمالا. وفي أعالي المدينة دوالي الكروم اللذيذة العنب، كأنها أصابع تشير إلى جماله، أو تعاويذ من الزمرد ترد عنه عين حاسده منشدة بلسان الشاعر:
صفحه نامشخص
فتح عيونك في سواي فإنما
عندي قبالة كل عين إصبع
وعلى الجملة فإن وادي البردوني الجميل جامع لمحاسن الطبيعة، من خضرة النباتات وزرقة المياه وصفائها وجمال الأبنية ولطف السكان.
ومما يحسن ذكره أن المغفور له الأمير بشير الشهابي الكبير لما جاء زحلة سنة 1814م، ورأى معظم أبنيتها في الجانب الجنوبي وليس في الشمالي (القاطع)، إلا ثلاثة بيوت قرب الماء؛ تأسف لذلك وقال: إن البناء سيتكاثر في هذه الجهة الشمالية وترتفع أثمان الأرض. فحققت الأيام صدق قوله هذا ولا سيما اليوم.
وفي أسفل المدينة على جانبي النهر طريق للعربات، كأنه المنطقة المستديرة بخصر المدينة، وهو يتصل مرارا بجسور متقنة قائمة على النهر، فيمثل دوائر مختلفة الأشكال. وهناك المتنزهات التي تصف فيها الكراسي والمناضد، ويختلف الناس إليها على اختلاف أجناسهم ولا سيما بعد العصر، يروحون النفس بتجاذب الأحاديث وبقبقة النارجيلات، ويقتلون الهموم بطلعة الكئوس المقتولة بماء البردوني كأنها الشموس،
5
وأوراق الأدواح تحدق بهم كأنها المراوح المتحركة تلطف حرارة الهواء، وتنعش الأفئدة بنفحاتها المبردة. وخرير المياه يشنف الآذان بحسن إيقاعه. وبعض الشلالات تنحدر من الأقنية المرتفعة، كأنها الأفاعي الهاربة أو البلور المتكسر على الصخور. والفوارات (النوافر) تنطاد في الجو، كأنها ترشقه بمثل ما رشقها به من حب الغمام (البرد) في الشتاء. والأزهار مرصعة بها بسط الخضرة الزمردية، كأنها النجوم في القبة الخضراء وقد وصفت هذه المناظر سنة 1898م بقولي:
إلى متنزهات النهر بادر
وسرح في مشاهدها النواظر
فبرذوني زحلة في صفاه
صفحه نامشخص
تكور حول مفتر الأزاهر
ومن أعطاف «قاع الريم» يجري
لقاع ظبي الأوانس وهو حائر
فطورا مثل نصل السيف يبدو
عليه فرنده يتلو البشائر
وطورا في تحويه تراه
حكى دور المناطق بالخواصر
يصفق بالخرير على حصاه
ليرقص عطف أغصان نواضر
تدغدغه النسائم في مزاح
صفحه نامشخص
فيضحك عن حباب كالجواهر
تخالسه لحاظ الشمس هزءا
وتغمزه بأحداق فواتر
فيشكر فضلها طورا ويشكو
فوا عجبا لشاك وهو شاكر
مطاحنها لطحن الهم تجري
بماء والفراش عليه دائر
ويسعى الماء في فصل الأراضي
وفي وصل قد افتتنت قناطر
رعاه الله من فصل ووصل
صفحه نامشخص
بمنعطفاتها يسبي الخواطر
تخلل جنة تملا عيونا
محاسنها فيا نعم المناظر
فثغر الزهر يضحك طي كم
ولطف نسيمها بالذيل عاثر
وعند «الصفة» اصطفت كراسي
وكل للعشير غدا مسامر
مراكزها أحاط بها خطوط
يمثل شكلها شبه الدوائر
طريق المركبات بها أحاطت
صفحه نامشخص
ودارت كالخواتم بالخناصر
فبعض الناس يعلو مركبات
تسير برهطهم مثل البواخر
ومنهم راجل يسعى حثيثا
ومنهم فارس للخيل زاجر
ومنهم راكب الدراج يعدو
على عجل فينظر مثل طائر
فقبعة تمايل فوق رأس
كميل مظلة عند الهواجر
وأزياء يحسنها مشد
صفحه نامشخص
بضغط قلوب أهل الود جائر
بها المتفرجون قد استداروا
كما دارت بمعصمها الأساور
فيا لله من أدب وظرف
تعزز فيهما تلك المظاهر
ترى السكان في طرب ولهو
يؤلف جمعهم طيب العناصر
كذا الغرباء في أمن وصفو
وتكريم به أمنوا المعاثر
معدات السرور لهم تدانت
صفحه نامشخص
وكم للصحب قد كشفوا السرائر
ويا حسن المناضد إذ تجلت
عليها أنجم الراح الزواهر
تحول همهم حالا سرورا
فتحسب أنها إكسير جابر
وبعد مغيب شمس الأفق ذرت
مصابيح بها اندحرت دياجر
ولما تأخذ النفس انبساطا
يعود الجمع بالأفراح خاطر
وينثر عقد ذاك النظم حالا
صفحه نامشخص
فما أحلى انتظاما غير ناثر
وعلى الجملة فإن المدينة تسر النفس بحسن مرآها، وأبنيتها الجميلة، وأنزالها الفسيحة، وأسواقها ومياهها، ورياضها ولطف سكانها، وتستقدم إليها المصطافين؛ للتمتع بما حباها الله به من الامتيازات الطبيعية والتسهيلات النقلية. ويكفينا الآن في وصفها ما كتبه إبراهيم أفندي الحوراني لما زارها سنة 1902 في الجزء 1915 من النشرة الأسبوعية الغراء، قال: «من المدن التي تقدمت في سورية تقدما يذكر مدينة زحلة فكل بيوتها إلا القليل منها يضاهي أحسن بيوت بيروت، وفيها كثير من المدارس والمعلمين والخطباء والشعراء والأطباء والفقهاء ...» ثم أطال في وصف الكلية الشرقية.
ومن أفضل التسهيلات فيها؛ أنها في متوسط تشعبات السكة الحديدية، فمنها إلى دمشق نحو خمس ساعات وكذلك إلى بيروت وحماة، وإلى حلب نهار كامل. وكانت الأسفار قبلا إلى هذه المدن شاقة خطرة فأصبحت اليوم سهلة كل السهولة؛ فضلا عن أن طريق العربات يمتد منها إلى دمشق فبيروت فبعلبك فكثير من المدن والقرى.
وعلى الجملة فهي أكبر مدينة لبنانية شهيرة قائمة في شرقي لبنان، متجهة إلى سهلي بعلبك والبقاع؛ بل هي قضاء برأسها من الأقضية السبعة كما سترى.
هوامش
تربتها وصخورها
إن تربة زحلة وما يجاورها معظمها بيضاء كلسية أشبه بالطباشير ؛ ولذلك سمي البقاع الغربي الذي كانت المدينة قاعدته (قبل تنظيم متصرفية لبنان) بإقليم البياض.
1
وهي خصيبة فيها كثير من الهوالك الحيوانية والمندثرات النباتية، وخاصتها أنها تصلح لغراس الزيتون والكروم ونحوهما. وأما تربة المدينة فخفيفة لكثرة انحدارها، إلا في المحلات الكثيرة الأشجار فإنها أصون لحفظ التربة، ولا سيما حيث تنبسط الأرض وتستوي طبقاتها، مثل البساتين ومرج عرجموش المعروف بالفيضة ونحو ذلك. فهناك تجد التربة حمراء والأرض تصلح للزرع والغرس فتثمر ثمرا طيبا. وفي المدينة ومشارفها آثار خزف وفخار كثيرة، تدل على أنها ربما اتخذت من تربتها، ولا أثر لهذه الصناعة فيها اليوم. ومن خواص هذه التربة أنها لزجة إذا مستها رطوبة؛ ولذلك تكثر الوحول في بعض الطرق التي لم تحصب ولم ترصف. ولقد لاحظ ذلك الأقدمون، فرصفوا أكثر الطرق والشوارع بالحصى المدملك الذي يكثر في مجرى النهر؛ فحبذا لو تنبه المفوض البلدي إلى ذلك في عهدنا.
أما صخورها ففيها انقلاب جيولوجي وتزحزح في طبقاتها وتشويش في تنضيدها، مما يدل على المؤثرات الطبيعية كالأمطار والرياح والمجاري المائية والزلازل والبراكين، التي غيرت ترتيبها وأحدثت هذا الانقلاب العجيب. وفي قمم الروابي والجبال المحدقة بالمدينة فوهات البراكين التي اشتعلت في أحد الأدوار وخمدت الآن، وهناك كثير من المصهورات البركانية، كالصوان والحمة (الحجارة السوداء) والألماس الكاذب «وتسميه العامة في لبنان ملح القاق»، أما في أعلى جبل صنين فطبقات الصخور على القمة أفقية الوضع وعلى المحيط تنكسر نحو المنحدر إلى الجهات الأربع.
صفحه نامشخص
وعلى الجملة فإن صخور زحلة سريعة التفتت رخوة، وذلك من تأثير امتصاص المطر للحامض الفحمي «الكربوني» من الهواء، وتشرب الأرض إياه فيتخللها ويفتتها. ولقد تناوب لبنان الفاعلان المهمان المائي الذي يمهد ما ارتفع من الأرض ويعلي ما انخفض منها. والفاعل الناري الذي يسعى بعكس ذلك، فيجعل السطح غير مستو. فكثرت فيه الأودية والمنخفضات والروابي والمرتفعات والسهول والمستويات، كما ترى في وادي البردوني.
ولما كانت صخور زحلة لا تصلح للبناء؛ اتخذ اللبن المجفف بالشمس لبناء بيوتها القديمة، وهو متين يصبر على الفواعل الطبيعية، ويتماسك الجدار المبني به حتى يصير كأنه قطعة واحدة صبت في قالب واحد. أما الأبنية الحديثة ولا سيما منذ بضع عشرة سنة، فمعظمها من الحجارة التي تقطع من مشارف المدينة على بعد أكثر من ساعة في غربيها، وتنقل على ظهور البغال، فهي كثيرة النفقات لصعوبة النقل من المقاطع (المقالع) البعيدة. وهناك حجر أشبه بالحجر السماقي، كأنه مرصع بفصوص بيضاء وحمراء يقبل الصقل فيصير لماعا جميلا، تسميه العامة «شحم بلحم»، تتخذ منه الأجران للمدققة (الكبة) والأحواض والبوابات ونحوها.
ومن أكبر الصخور في المدينة الذراعان الممتدتان في فم الوادي الغربي عند نزل (لوكندة) الصحة من الجنوب والشمال، ولكنهما لا يستخرج منهما حجر صالح للبناء، حتى إنهم عند تشييد ذلك النزل في آخر الذراع الشمالية لم يقطع منها حجر نافع؛ بل احتاج بانيها إلى تفتيت الصخور وإبعادها ليفسح للبناء محلا، واستقدم الحجارة من المقاطع البعيدة. وفي كثير من سفوح وأسناد وادي البردوني على ضفتي النهر طبقات صخرية حصوية مدملكة متراصة تدل على فعل المياه الجارية.
وفي مشارف المدينة كثير من المستحجرات الحيوانية، ولا سيما عند عين حزير وعين السواعير وغيرهما مثل الحلزون (البزاق) والتوتيا والمحار (صدف الدر) وبعض الأسماك، ومن أعجبها حيوان مائي بحجم الفرنك أو أكبر مستطيل الشكل، له على ظهره نقش بديع كأنه منبت شعر أو ريش، ومن ذلك حجارة صدفية مركبة من مسحوقات الصدف المتراصة، وغير ذلك مما يوجد بعضه في متحفي الكليتين الأميركانية واليسوعية في بيروت.
هوامش
نباتاتها وحيواناتها
كانت المدينة قديما كثيرة الغابات المشتبكة والأدغال، تنبت فيها أشجار السنديان السوري والعفص والبطم والسماق والدردار (بمعنى الشائك) والرمان والجوز والدلب، وغير ذلك من نباتات المنطقة الجبلية. وفي أعاليها ينبت البقل الذي هو من خصائص جبال الألب في أوروبة، وكانت مشارفها تظللها الأشجار الغبياء والمتعرشات الغناء، حتى لا يكاد المار يقطعها بدون أن يقطع بعضها شأن لبنان وسورية في الأيام القديمة؛ أيام كانت يد الإنسان لا تتحامل على الطبيعة بفئوسها، ولا تصليها نارا آكلة. فكان الداخل في هذه المدينة لا يكاد يرى للشمس أثرا إلا من خلال الأوراق، ولا يعرف للماء منسابا إلا من خريرها الذي هو أشبه بأنة الجريح من الحصى البلورية. وقد تصورت هذا المشهد الفتان الطبيعي، فقلت فيه مشطرا أبياتا للإمام ابن الوردي الشاعر المشهور وهي: «فيه دوح يحجب الشمس إذا»
نظرت فيه ويخشى من رقب
أوقف الإنسان حينا بعد ما «قال للنسمة جوزي بأدب» «طيره معربة عن لحنها»
إذ تربت في مغان للعرب
صفحه نامشخص
وقعت بالعود أنغاما بها «تطرب الحي كما تحيي الطرب» «مرجه مبتسم مما بكت»
عين مزن تشتكي مر الوصب
زهره قد فاح لما جررت «سحب في ذيلها الطيب انسحب» «فيه روضات أنا صب بها»
وهي ترنو لمناجاتي كصب
أصبح العيش لديها رغدا «مثلما أصبح فيها الماء صب» «نهره إن قابل الشمس ترى»
ومض برق لاح حالا وذهب
ولمن يدنو بدت صورته «فضة بيضاء في نهر ذهب»
وقد أحرقت هذه الغابات مرارا، ولا سيما لما هاجم الأكراد زحلة في سنتي 1777 و1793م كما سيجيئ، وفي منتصف القسم الأول من القرن التاسع عشر الماضي لم يبق لها من أثر، ولا سيما بعد أن ولع الناس بغرس التوت والكروم ونحوها.
وأشجارها اليوم معظمها الحور،
1
صفحه نامشخص
وهو على جانبي النهر وفي الأماكن الرطبة، فإذا كثر والتف سمي مجموعه غيضة وجمعها غياض، وخشبه يتخذ للجوائز (الجسور) والروافد (ما يوضع فوق الجسور في السقف) ونحوهما، وهو ممشوق قوي على حمل الأثقال والرطوبة، ومن خواصه أنه لا ينحني ولا ينقصم بسرعة مثل الصنوبر وغيره، وتجارته مهمة كما سترى.
وفيها بقايا الزيتون القديم، وكان كثيرا في بلاد البقاع وبعلبك التي سماها الأقدمون أهراء (حواصل) رومية، ولا سيما بستان قرب دير القديس إلياس الطوق، وفي بعض جهات من المدينة.
وفيها التوت ويكثر في البساتين فوق مرج عرجموش (الفيضة)، وعلى ورقه يربى دود الحرير، وقد يكون حسن النتاج في بعض السنين، وأما ما يربى منه في المدينة ففيالجه (شرانقه) أفضل مما يربى في البساتين لجودة الهواء وجفافه.
وفيها يكثر الزيزفون، وهو عطري الرائحة يتخذ زهره لمداواة السعال ونحوه. أما الفواكه فكثيرة أهمها التين والخوخ والمشمش والرمان والتفاح والإجاص والجوز واللوز وأفضلها العنب، وهو مشهور معروف يحمل إلى جميع الجهات وألذ أنواعه التفيفيحي، وهو أشبه بالتفاح منظرا وطعما، ويكون أبيض وأحمر يدوم طول السنة إذا وقي من الثلج والجمد (الجليد)، وأكثره من المتعرشات التي تغرس في الدور والفسحات. وأما النوع العبيدي فكثير لذيذ يصلح للعصر وللزبيب، ومثله الصوري في الكثرة والدربلي والجبيلي والمقصاص «وهو الذي يسمى في غير زحلة بالمرويح». ومن أنواعه الجيدة الزيني وعنب المير «الأمير» والقاري وقرن الوعل وبيض الحمام ومخ البغل والعاصمي وخدود البنات، ومعظمه من المتعرشات. أما الأسود اللون منه فأجوده المريمي والصبيغ إلى غير ذلك، وجميعه لذيذ الطعم جميل المنظر يصدق عليه قول الشيخ أحمد البربير: «زحلة حازت» عنبا
يضرب فيه المثل
كأنه لآليء
يصان فيها العسل
ويباع هذا العنب للأكل ويصنع منه الزبيب ولا سيما من الدربلي، ويعصر الخمر ويستقطر الكحول (العرق) من الأنواع الأخر.
أما بقولها ونباتاتها فكثيرة، ومن الأولى الكرنب والملفوف والخيار والقثاء والباذنجان واللفت والخس والرشاد والفجل والبنجر (الشوندر) والجزر والقرة والجرجير وغيرها. ومن الثانية الزوفي والخطمية وحي العالم اللاكوني والكثروم الخطي الورق والسميرنيوبسس السوري، كما في نبات سورية وفلسطين للدكتور پوست الأميركي. ومن رياحينها الورد وهو كثير عطري يستقطر ماؤه والبنفسج والبابونج والنرجس والإقاح والزعفران وشقائق النعمان وغيرها، وبعد جر المياه إليها كثرت الأزهار والنباتات والأشجار الإفرنجية.
ويزرع فيها من الحبوب الحنطة والشعير والرطبة (الفصفصة أي الفصة) والقطاني، وفي القديم كان يزرع حب الدخن. ولن تزال عين الدخن قرب سراي الحكومة دليلا على ذلك. وكذلك كانت تزرع الحشيشة (القنب الهندي) التي تستعمل في مصر للسكر والتنباك والتبغ وغيرها. وعلى الجملة فإنك تجد فيها نباتات السهل والوادي والجبل، وأنت لا تشعر أنك انتقلت من منطقة إلى أخرى بتغيير في الإقليم.
صفحه نامشخص
وكان فيها قديما أيام كانت الغابات تظللها والحراج تشتبك في واديها وسفوحه وأسناده ومشارفه؛ كثير من السبع والنمر والضبع والفهد والعقاب والنسر والحدأة (الشوحة) والبازي والصقر، فانقرضت بانقراضها وبقي الدب والخنزير البري والغزال. ثم قل اليوم وجودها، أما الذئب وابن آوى والنمس والقنفذ والخرز (الأرنب البري) والغرير فكثيرة.
وقد اشتهرت قديما بتربية الخيول وتأصيلها وترويضها، ولكنها اليوم لا عناية لأهلها بذلك إلا نفر منهم. ويكثر الجاموس والبقر الضخم الجثة في بساتينها، وكذلك البغال والجمال والحمير، وهي قوية الأبدان. ويربى فيها الغنم والماعز وغيرهما من الدواجن. ومن الطيور التي تقتنص في ضواحيها الحجال والسماني والزرزور واليمام (الترغل) والحمام والوروار والقطا، ويكثر فيها الدوري والسنونو معششا في الطنوف (السفارات) والصفارية أو التبشر، وتسميها العامة «الصفراية» والصفرد (أبو الحن) وغيرها. ويوجد فيها قليل من النحل، وأفضله عسلا ما تربى في أعالي المدينة إلى جهة الجبل وكذلك دود القز. ويوجد في غياضها دجاج الأرض (الشكب) والفري وبعض الطيور المائية، كالأوز والبط وغيرها مثل الغرغر (ديك الحبش) والدجاج الأهلي والكركي «الرهو» والبجع «العراق»، وغير ذلك من الطيور القواطع والأوابد. وفي ضواحيها القبرة والثليجي (سن المنجل) والهدهد، ومن الصوادح الحسون «الشويكي الجوي» والشويكي البري والخضيري، وهي ممتازة برخامة ألحانها، وفيها حيات وضباب (حراذين) وسام أبرص (أبو بريص)، ولكن العقارب لا أثر لها فيها.
هوامش
ماؤها وهواؤها
إن ماء زحلة هو من نهر البردوني «البارد» الذي ينفجر من مغارة إلى غربي قرية قاع الريم في السفح الشرقي من جبل صنين، وتلك المغارة طبيعية بديعة المنظر تتدلى من سقوفها وجدرانها حليمات من المتجمدات المائية والرواسب الكلسية، فتكون فيها مشجرات حجرية أشبه بأشجار المرجان في البحر، إلا أنها بيضاء وتنضب بعد أن تذوب الثلوج، وذلك في تموز أو بعده بقليل. ولا يخفى أن خزانات الماء في الجبال العالية هي من الثلوج التي تملأ النخاريب والأخاديد والمغاور، وتنساب في الشقوق الصخرية متخللة الأتربة إلى أن تصادف منفذا لها، فتنفجر منه أنهارا وينابيع ومترشحات.
على أن مياه البردوني ليست جميعها من تلك المغارة، ولكن في عقيق «مجرى» النهر كثيرا من الينابيع والمترشحات التي تنصب فيه، فتبقى مياهه جارية بعد ذوبان الثلوج عن القمم العالية في صنين . وكذلك على عدوتي النهر مثل ذلك، وجميعه يترشح إليه فيكون جدولا صيفيا لا تنضب مياهه إلا نادرا في سني الجفاف الشديد وقلة الأمطار والثلوج. ولا تزال مثل هذه الينابيع تمده بمائها إلى أن يصب في نهر الليطاني
1
قرب مرج عرجموش (الفيضة)، ومسافة ما بين مخرجه ومصبه نحو أربعة وعشرين كيلومترا. والمشهور أن مياه هذا النهر كانت موزعة على المدينة القديمة «التي يترجح أنها كانت في محلة البساتين»، وعلى ضواحيها مثل الكرك وتل شيحا وعلين وغيرها، لما ظهر من القساطل الخزفية العظيمة المتينة والأقنية المتوزعة في أنحاء الوادي في سفوحه وأسناده ومرتفعاته وليس ذلك بغريب؛ لأن الأقدمين كانوا يبنون مدنهم قرب المياه، وينتفعون بها لإنماء الزروع والغراس، وهم أشد حرصا منا اليوم على الزراعة واستثمار الأرض. وقد جرت منذ القديم قناتان على ضفتي النهر يسميهما العامة «السكر» وذلك للاستقاء منهما، ولإدارة الطواحين المشيدة على الجانبين. وقلما دخلت مياه النهر بيتا ووزعت عليه.
ولو كانت هذه المياه في أوروبة أو أميركة، لكان دخان المعامل التي تديرها يحجب نور الشمس والشلالات الطبيعية التي تتخذها الصناعة لتوليد الكهربائية ونحوها تملأ العين جمالا، وتستقدم السياح
2
صفحه نامشخص
من أطراف المعمور للتمتع بجمالها الطبيعي. والحدائق التي تنبت على مجاري المياه من أجمل متنزهات الدنيا، ولكن الطبيعة هي العامل في بلادنا، أما يد الصناعة فلن تزال مغلولة. على أن نيل الامتياز الوطني بتوليد الكهربائية من هذا النهر للتنوير وتسيير القطارات، هو من تباشير الآمال حققها الله بالأعمال.
ومما لا يجب على المؤرخ أن ينساه، هو تهافت الناس على الاستقاء من المياه الجارية، مع كثرة ما يرمى فيها من القمامات (الكناسات)، ويغسل فيها من الثياب الملوثة بالأمراض العضالة ونحو ذلك، اعتقادا أن المياه الجارية لا تحمل أقذارا، فتفشت الحميات وبعض الأمراض، وانتقلت بالعدوى لوجود جراثيمها في مياه الشرب. ولولا ما في هواء المدينة من المناعة؛ لكانت موباة يتجافى الناس عن النزول في ربوعها.
على أن هذا الخطر قد زال والحمد لله منذ أخذت شركة المياه
3
بجر نبع الزويتينة الواقع قرب قرية حزرته على العدوة الجنوبية، في متوسط ما بين وادي العرايش وقاع الريم المقابلتين لها، وهو ينبجس من سفح الوادي على علو ثلاثين مترا عن مجرى النهر. وقد قدر ذلك الينبوع الغزير بنحو أربعين ألف متر، حصر معظمها في نفق (تونل) طوله أربعة أمتار ببناء متين وخزان منيع، وبدئ بعمله في صيف سنة 1907، وجرت المياه من الينبوع الأصلي إلى الخزان الكبير الواقع على رابية فوق دير النبي إلياس (الطوق) على بعد 1800 متر بقساطل حديدية ضخمة. وقد كان تدشين هذا الخزان في أول آب سنة 1907، وتم توزيع المياه على جانبي المدينة وحوش الزراعنة في شهر تشرين الأول سنة 1909م، وهذه المياه ممتازة بصفائها وعذوبتها وبرودتها. ولكن لن يزال بعض الخلل في قساطلها وخزانها؛ إذ تنقطع في أيام المطر الكثير ويتعكر صفاؤها. ولعل المفوض البلدي يتوفق إلى تمهيد هذه العوائق. وقد بلغ ما وزع من هذه المياه على المدينة نحو ألف متر حتى الآن (أول سنة 1911).
أما ينابيعها المنفردة عن النهر والتي في ضواحيها ومشارفها فأشهرها بل أنفعها للصحة عين الدوق، وموقعها على تلة في غربي المدينة على العدوة الشمالية حيث مزرعة عين الدوق، وتوصف مياهها للضعفاء لجودتها. وتحتها على ضفة النهر الشمالية عين الدويليبي، نسبة إلى أسرة الدويليبي الموجودة إلى الآن في المدينة، وهي تجري بميزابين غزيرين متقنة البناء، فخربها سيل خريف سنة 1909. ثم عين البخاش نسبة إلى أسرة موجودة فيها إلى عهدنا، وهي على ضفة النهر الجنوبية فوق نزل الصحة. ثم عين القرداحي (وتسميها العامة عين القرداح)، وهي في أعلى الكروم فوق دير القديس إلياس (الطوق) على طريق المتن العمومية. وتحتها عين أخرى قد جر بعضها إلى الدير المذكور وإلى الكلية الشرقية.
ثم عين المزرعة في الكروم، وعين البقر، وعين علين وهي قديمة على تلة المدينة الجنوبية فوق سراي الحكومة قرب أطلال علين، ثم عين الدخن فوق السراي في سفح التلة، ومن تلك الجهة استنبطت عين وجرت إلى باحة السراي. وتحت البيادر فوق النهر عين القسيس، ومقابلها في حوش الزراعنة عين الغصين نسبة إلى أسرة فيها، وفوقها عين مقصود نسبة إلى أسرة فيها، وموقعها في منخفض تلة الحمار الغربي. وعلى تلة فوقها إلى غربيها عين الفلفلة ووراءها بئر هاشم،
4
وهي نبع صيفي قد احتفرت قديما. ذلك عدا ينابيع أخر في أنحاء المدينة، مثل فوار شبوع نسبة إلى أسرة باقية فيها الآن، وهو في خندق أبي كحيل الذي يفصل حارة الراسية عن حارة المعالفة أو سيدة النجاة على الطريق العام. وعين المعراوي نسبة إلى أسرة في المدينة، وقد جرت إلى دير الآباء اليسوعيين. وكلها عذبة باردة هاضمة؛ فضلا عن بعض ينابيع لا تصلح للشرب، مثل عين الصنان بدار المرحوم عبد الله مسلم في الحارة السفلى (التحتا)، وهي معدنية المياه فيها محلول الكبريت. وعين الفيكاني في محلة جعيران فوق الجسر القديم وغيرها، ومن يحفر في المدينة إلى عمق عشرة أمتار يستخرج المياه. وفيها آثار آبار قديمة كثيرة فضلا عن الحديثة.
وفي محلة البيادر قرب سراي الحكومة غدير تجمع فيه مياه المطر، فتبقى إلى منتصف الصيف أو آخره، فيمثل بركة بديعة المنظر كأنها المرآة أو صفحة البلور النقية تنبسط حولها البيادر، التي هي أشبه بمرج مرصع بالنبات والأزهار. وفي هذه البقعة يتنزه الزحليون في الشتاء وأول الربيع، إلى أن يشتد الحر فيتحولون إلى الصفة في غربي المدينة. وفي هذه الجهة يضرب السياح سرادقاتهم (صواوينهم)، ومن هنا تنجلي المدينة للناظر بأجمل مشهد طبيعي يملأ العين، فتنبسط له النفس فضلا عن جمال هذه البركة التي ترى فيها المدينة وجهها، فهي لها كالمرآة أو كما قال ابن تميم:
صفحه نامشخص