ومرة أخرى يبدو أنه تعارك مع والدتي فجاء يسكن عندي، وكنت قد أغلقت نصف الشرفة حتى أصبحت كغرفة صغيرة إضافية. عاش فيها والدي عدة أيام، وهو شارد الذهن ؛ لأن شريط الذكريات يمر أمامه، وكنا نحاول أن نصلح بينه وبين والدتي ولكنه كان يرفض. أما هي فأقل منه رفضا، وجاء زوج شقيقتي الكبرى إلى منزل والدتي فأقنعها بأنه يجب عليها أن تبادر وتصالحه؛ لأنها المرأة وهو الرجل، فأطاعته. وقدمت إلى منزلي، وأخذت معها والدي إلى بيته، وانتهى الأمر. وكان والدي يحضر لنا معه الطحينة من السرجة بشارع «الحسينية». وكان يركب الحافلة ذهابا وإيابا. وكنا ندعوه أنا وزوجتي للغداء قبل أن يرحل، فكان يرفض. فنسأله: «ما الخبر؟» فيقول لي: إن طبيخ زوجته أحسن من طبيخ زوجتي؛ فأعتذر له بأن زوجتي ما زالت حديثة العهد بالزواج لا تحسن الطبيخ، أما والدتي فهي أكثر خبرة منها، فتنبسط أسارير وجهه بهذا الاعتراف.
كان يحب أسرته، ولا يحب البقاء خارج المنزل، وكانت قوانين الجيش تحتم عليه أن يبقى «نبطشية» مع فرقة الموسيقى في المعسكر مرة كل شهر حتى الصباح، فكان يأتينا في المساء ويخرج في الصباح الباكر بعد الفجر ويصل المعسكر مبكرا وكأنه قضى الليلة فيه.
ومرة أراد أن يستقل أول مترو عند بداية العمل، حتى يصل مبكرا وقبل أن يستيقظ زملاؤه. كان الترام قد بدأ في التحرك، فجرى والدي خلفه، وسقط على الأرض قبل أن يدركه، وسند على أصابع يده عند سقوطه فانكسرت لثقل جسمه عليها، فلفها بمنديله، وأسرع إلى العمل في المعسكر. وقال لزملائه الموسيقيين بأنه وقع في الحمام، فأرسلوه إلى المستشفى العسكري حيث قاموا بخياطة الجروح، ولكن أصابعه ظلت ملتوية مدة طويلة. ومن حسن الحظ أن ذلك لم يمنعه من العزف على «الترمبون» الذي كان بحاجة إلى اليد والأصابع وليس الأصابع وحدها كالكمان.
وكان والدي غيورا جدا على والدتي لشدة حبه لها، فلا يتحمل زائرا رجلا يتباسط مع أمي في الحديث، فيخلق والدي سببا لتعكير الجو حتى يخرج الضيف، ويترك والدتي في سلام، رأيت ذلك لأول مرة عندما زارنا عم إسماعيل والد «علي» الموسيقي و«جمال» الممثل. وكان يأتي أنيقا، وكان شعره مصففا بقدر كبير من الكريمات والذي كان يلمع في الضوء، يتكلم وهو يضحك، وكان قريبا لوالدتي؛ فتدخل الوالد لتعكير الجو، فقال له عم إسماعيل: «صل على النبي يا عم حنفي» حتى يهدئ من روعه، ويخبره أنه لا نية عنده في مغازلة والدتي وقد تجاوز الستين ووالدتي الخمسين، وكانت ترن في أذني أغنية الفتيات صاحبات ليلى مراد في فيلم «غزل البنات»: «أبجد هوز حطي كلمن. شكل الأستاذ بقى منسجمن». وفي كل مرة يزورنا حمو شقيقتي يتكرر نفس الشيء؛ فقد كان متكلما ثرثارا ضاحكا، ولا يترك لغيره فرصة للكلام. وبالرغم من أنه كان قصيرا بين السمار والسواد، عجوزا، وأسنانه بين كل سن وسن فجوة، ودون أن يكون فيه أي نوع من أنواع جمال الرجال، كان والدي يغار منه لقدرته على الكلام بينما والدي أقرب إلى الصمت. فكان والدي يتهرب دائما من زيارة عم إسماعيل لنا دفاعا عن أمي وغيرة منه.
ولما مرضت والدتي ولم يكن عندنا من يمرضها، أحضرنا سيدتين تتناوبان العمل، اثنتي عشرة ساعة في اليوم، تذهب إحداهما فتأتي الأخرى، كانتا تساعدانها في تنظيف ظهرها بالقطن والشاش من جروح قرح الفراش، وكنت أزورها مرة كل أسبوع، وأنا عائد من الجامعة. وفي يوم الزيارة عدت من الجامعة وكنت متعبا لأنني كنت في واجب عزاء فقررت أن أزورها في اليوم التالي. وعرفت أنها قد توفيت؛ فحزنت، وندمت على أنني لم أزرها في الموعد المحدد حتى لو كنت متعبا، وحضرت عزاءها، وكان صوان العزاء بميدان الحسينية، وكان كبيرا.
وكان أبي قبل أن يتوفى قد ساعدناه في شراء مقبرة للأسرة بمنطقة البساتين بجوار عين الصيرة، وكتبنا عليها لافتة باسمه. وكان هو أول من دفن فيها، وكانت خالتي هي الثانية، وأمي هي الثالثة؛ لأن مقابر أسرة أمي في بني سويف في الضفة الأخرى لنهر النيل، وحماتي فيما بعد. وظلت تلك مقابر الأسرة حتى الآن، بها أخي وشقيقاتي، وأزواجهن.
ويعيش الإنسان مع دائرة الأسرة الأولى؛ الزوجة والأبناء، ذكورا وإناثا. فأول عاطفة تركتها الزوجة الحبيبة في شعوري هي الوفاء، حاضرا أم غائبا، مستريحا أم غاضبا، عاشقا أم معشوقا، صحيحا أم سقيما، حرا أم سجينا، سعيدا أم شقيا.
فالوفاء عاطفة نبيلة لا تتغير، تعيش في الذكريات، ويسعد الإنسان برؤية شروطها، فلا خوف مما يسمى الخيانة للزوجة أو تعدد الزوجات أو الطلاق أو الهجر.
تدمع العيون في حالة التأثر إذا ما شعر صوابا أم خطأ أن الوفاء لا يقابله وفاء آخر؛ فالوفاء علاقة متبادلة بين زوجين، خاصة إذا كانا حبيبين، وبوجه أخص إذا كانا عاشقين. أمد لها العون فيما تحتاج، وتمد لي العون فيما أحتاج، تغنيني عن العالم، وأغنيها عن العالم، كما هو الحال في شعر نزار قباني في قصيدة قارئة الفنجان: «قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا». وبعد أن اكتشفت زوجتي الحبيبة موهبتها في النقد السينمائي انضمت إلى معهد السينما بأكاديمية الفنون للدراسة به حتى حصلت على البكالوريوس في السينما، وكونت مكتبة سينمائية كاملة عن تاريخ السينما المصرية والعربية، وحضرت معظم مهرجانات السينما في مصر والوطن العربي، وأسست مركزا لتاريخ السينما يقع في الطابق الثاني من منزلنا الجديد. ونشطت في عقد ندوات شهرية عن نقاد السينما المصريين قبل أن يرحلوا، وكانت الندوات مسجلة. ونشرت عدة مجلدات عن تاريخ السينما المصرية مثل أعمال حسن جمعة. وهي بصدد جمع مقالاتها في النقد السينمائي والتي تصدر عن قريب، ولولا اعتلال صحتها لكان نشاطها أوسع، ومع ذلك أصبح مركزها السينمائي مكانا للباحثين في تاريخ السينما المصرية يقدم خدماته مجانا وحبا في العلم ونشر الثقافة السينمائية.
ولد الابن البكر بعد عام تقريبا من زواجي، وأخذناه معنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية عندما كنت أستاذا زائرا في جامعة تمبل بولاية بنسلفانيا، وكان طفلا صغيرا ما زال يحبو. وما إن اشتد عوده حتى أخذ يسير في الشقة ذات الأرضية الخشبية، ويدخل المطبخ ويحضر الأواني يقرع بها الأرض؛ حتى انزعج الساكن الجار بالدور الأرضي، وبعد أن استطاع أن يمشي دخل المطبخ وكانت زوجتي الحبيبة قد أشعلت الفرن لطهي الطعام، فلما وضع يده على زجاج باب الفرن لسعه؛ فجرى مسرعا بعيدا عنه. وكان كلما رآني أو رأى والدته حذرنا من لسعة الفرن قائلا: «يح!» كان يقلدني في كل شيء وأنا أقرأ الكتب مقلبا الصفحات، كان هو يأخذ أقرب كتاب من على الرف ويجلس على الأرض مقلبا صفحات الكتاب مثلي، ليعرف لماذا أقلب صفحات الكتاب وكأني أبحث عن شيء بداخله، وعندما لا يجد شيئا بين صفحاته يأخذ غيره ويقلب بين صفحاته فلا يجد شيئا فيرميه هو الآخر مستغربا عن ماذا أبحث! وكنت إذا دخلت الحمام يريد أن يعرف لماذا أغلق الحمام خلفي فيدفع بيده وأصابعه الصغيرة تحت عقب الباب فأرى أصابعه الصغيرة. فلما لا يستطيع فتح الباب أو الدخول ورائي يغادر، كانت واجهة غرفة الجلوس زجاجية، وكان يأتي بكرسي يصعد عليه؛ ليرى الفناء الأخضر. ولما كان يراني عائدا من الجامعة يخبط بيده على الزجاج ويهلل فرحا، ويأتي لانتظاري وراء باب الشقة ينتظر لأفتح الباب، ثم يتغير الفرح إلى بكاء؛ فأحمله وأربت على كتفيه محتضنا إياه، وأقول له أعلم أن أمك ضربتك فلا تحزن، فكان يفرح من جديد، كنت ألاعبه كثيرا، يجري فوق السرير وأنا أحاول اللحاق به. وكلما فر من قبضة يدي فرح وضحك على أنه انتصر علي. وتتكرر هذه اللعبة كل يوم؛ يصعد إلى السرير وكأنه يدعوني أن وقت اللعب قد أتى وهو يراني على المكتب طيلة النهار. كانت السعادة في هذا المنزل؛ سكن أساتذة الجامعة، كل سبت بعد الظهر أن يأتي ببرميل البيرة، وكان بالفناء شواية، ويحضر كل ساكن قطع اللحم ليشويها، ونشرب البيرة ونتعرف نحن الأساتذة الجيران بعضنا على البعض، وأحيانا طلاب الدراسات العليا. ويحدث أن تستلقي فتاة على العشب الأخضر وهي تشرب البيرة، وكنت لا أدري ماذا كان قصدها! وكان ابني قد بلغ السنتين، كانت تدعوه ليلعب معها فيستجيب ويجد شعرها الناعم المنسدل على الكتفين يبرق في الشمس فيتحسسه بيده، وكان يضع إصبعه في كوب البيرة الزجاجي الخاص بها ثم يضع إصبعه في فمها وهي تتذوقه معجبة ومبتسمة بهذه الشقاوة. ويرفض أن يغادر بعد نهاية الجلسة لكي نصعد إلى شقتنا، وتعرفت على معظم الطالبات عن طريقه، فقد كان حلقة الوصل بيني وبينهن. وكنت أرى مدير المنزل الشاب يأخذ طالبة كندية بعد أن شربا البيرة إلى حجرته. لم أفهم كل ذلك لأنني كنت قد حضرت توا من مصر متأثرا بمقولات العيب والحرام. ولما أرادت زوجتي إكمال دراستها والحصول على الماجستير، ويصعب ذلك وابننا ما زال طفلا صغيرا يحتاج إلى رعاية مستمرة وقضاء وقت طويل معه، قررنا إرساله إلى مصر ليبقى مع جدته وشقيقة أمه، ولما ذهبنا إلى المطار لتسليمه للمضيفة بكى؛ فنصحونا في الطائرة بأن تأتي والدته معه إلى القاهرة ثم تتركه مع الأقرباء وتجلس معه شهرا أو أقل أو أكثر حتى يتعود على غيابها والعيش مع أقربائه الجدد، وبدلا من أن ندفع ببطاقة السفر للمضيفة التي ستصحبه ندفعها لأمه وكان هو يسافر مجانا؛ لأنه لم يبلغ السنتين. فعادت به إلى المنزل لمدة ستة أشهر إضافية لأننا كنا بمنتصف العام الدراسي ولا تستطيع ترك الدراسة والسفر شهرا للقاهرة. وفي هذه الشهور الستة أظهر الطفل الصغير كل إبداعاته في اللعب والضحك والجري وملاعبة الفتيات وبداية الكلام والنطق باللغة العربية، لدرجة أننا أنا ووالدته نحزن لأننا كنا سنفترق عنه وهو لا يعلم ماذا ينتظره في نهاية العام الدراسي. وبالفعل أخذته أمه إلى القاهرة ودربته كيف يعيش مع الأسرة الجديدة، وكانت تختفي عن أنظاره بين الحين والآخر لتدربه على عدم وجودها، حتى تعود على خالته وأولادها، ثم عادت زوجتي إلى أمريكا وكأننا في حداد لغياب الطفل من وجوده معنا ولعبنا معه. ولكننا أدركنا أن العلم في حاجة إلى تضحية. وكنا نأتي إلى القاهرة سنويا في الصيف في رحلات جماعية «شارتر» كي نرى طفلنا. شعر أول مرة بالغربة نحونا، ورفض أن يبيت معنا في شقتنا، وظل يعيش في منزل جدته وخالته كما تعود خلال العام. وتدريجيا بدأ يتعود علينا من جديد، وأخذناه إلى الإسكندرية فقام في الليل قائلا إياكم أن تظنوا أنني نسيت خالتي وأولادها، وبكى؛ فقد كان لا يود أن يعيش في غربة مرتين. ونحن نغادر القاهرة عائدين إلى فيلادلفيا قلنا له إننا سنشتري له اللعب وسنعود إليه عن قريب كاذبين عليه. وفي كل صيف كنا نأتي للقاهرة لنراه حتى تعود على غيابنا وأن له أسرتين: أمه وخالته، أبوه وأولاد خالته، يلعب مع كليهما. وبعد أن انتهت زوجتي من دراسة الماجستير والحصول على الدرجة وكان قد تبقى لي سنة واحدة للعودة إلى مصر، وكنا نريد أن نكتشف أمريكا كما فعلت في كتابي الذي صدر أخيرا «أمريكا، الأسطورة والحقيقة»، خفنا عليه من الأسفار الطويلة التي قمنا بها ثلاث مرات، من الشرق إلى الغرب، ومن الشرق إلى الشمال عبر كندا، ومن الشرق إلى الجنوب وصولا لفلوريدا. وكنا نخاف أن يمرض ولا يتحمل هذه الأسفار الطويلة فقررنا أن يبقى في القاهرة دون أن نراه في الصيف كما اعتدنا. وزرنا في الصيف الولايات المتحدة، ولاية ولاية قبل أن نعود نهائيا إلى القاهرة. ومنذ ذلك الوقت لا يفارقنا الأولاد الثلاثة إذا سافرنا طويلا، سنتين في المغرب وثلاث سنوات في اليابان. وذهب ابني البكر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو طالب في الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ ليقضي فصلين دراسيين بجامعة بولدر في ولاية أوهايو، وسنة أخرى في انجلترا للحصول على درجة الماجستير في النظام الفيدرالي؛ إذ كان خريج العلوم السياسية. وبعد عودته وقبوله في وزارة الخارجية المصرية عين في السلك الدبلوماسي، وتدرج في المناصب في الوزارة حتى أصبح وزيرا مفوضا، وربما يصبح بعد عام سفيرا لمصر. وكانت رسالته للماجستير في انجلترا عن النظام الفيدرالي، وسجل رسالته للدكتوراه في موضوع مشابه في جامعة القاهرة إلا أن الخارجية استهلكته ولم يعد لديه وقت لاستكمال الدكتوراه. وبعد أكثر من خمس سنوات تنازل عن السلك الأكاديمي.
صفحه نامشخص