الإهداء
الموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة1
1 - الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م)
2 - التعليم الجامعي (1952-1956م)
3 - السفر إلى فرنسا (1956-1966م)
4 - الأستاذ الجامعي (1966-1971م)
5 - السفر إلى أمريكا (1971-1975م)
6 - إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1976-1982م)
7 - التدريس في المغرب والبحث الدولي في اليابان (1982-1987م)
8 - رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م)
صفحه نامشخص
9 - «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م)
10 - الثورة المصرية، والربيع العربي (2011-2018م)
11 - كل نفس ذائقة الموت (2018م-...)
الإهداء
الموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة1
1 - الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م)
2 - التعليم الجامعي (1952-1956م)
3 - السفر إلى فرنسا (1956-1966م)
4 - الأستاذ الجامعي (1966-1971م)
5 - السفر إلى أمريكا (1971-1975م)
صفحه نامشخص
6 - إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1976-1982م)
7 - التدريس في المغرب والبحث الدولي في اليابان (1982-1987م)
8 - رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م)
9 - «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م)
10 - الثورة المصرية، والربيع العربي (2011-2018م)
11 - كل نفس ذائقة الموت (2018م-...)
ذكريات
ذكريات
1935-2018م
تأليف
صفحه نامشخص
حسن حنفي
الإهداء
إلى مصر
ذكريات عبرت أفق خيالي
بارقا يلمع في جنح الليالي
نبهت قلبي من غفوته
وجلت لي ذكرى أيامي الخوالي
كيف أنساها وقلبي
لم يزل يسكن جنبي
إنها قصة حبي
صفحه نامشخص
شعر: أحمد رامي
تلحين: رياض السنباطي
غناء: أم كلثوم
حسن حنفي
مدينة نصر، 30 أبريل 2018م
الموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة1
«الذكريات» ما تبقى من السيرة الذاتية. هي ما رسخ في الذاكرة، ولم يطوه النسيان. أما السيرة الذاتية فهو سجل لتاريخ حياة، يمكن أن يتم عن طريق شريط تسجيل، لا حياة فيها، يعتمد على التوثيق والتنسيق والاختيار، ما يدخل في السيرة وما لا يدخل، الحيرة بين الذاتي والموضوعي، رؤية سجل الذاتية الشعورية أو اللاشعورية، الرسالة التي يريد أن يوصلها للناس. أما «يوميات» فهو اللفظ الذي استعمله جابريل مارسيل في «يوميات ميتافيزيقية»، وعثمان أمين في جزء من «الجوانية». والعنوان «ذكريات» ليس ذكرياتي حتى أضفي طابع الموضوعية عليها؛ فالعصر يتكلم من خلالي، هموم الفكر والوطن.
وتتداعى الذكريات بطريقتين: الأولى زمنيا، من الطفولة الأولى حتى الشيخوخة الأخيرة في مراحل زمنية تميزها مراحل التعليم أو الأسفار أو النضال السياسي على النحو الآتي: (1)
الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م). (2)
التعليم الجامعي (1952-1956م). (3)
صفحه نامشخص
السفر إلى فرنسا (1956-1966م). (4)
الأستاذ الجامعي (1966-1971م). (5)
السفر إلى أمريكا (1971-1975م). (6)
إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1976-1982م). (7)
التدريس في المغرب والبحث الدولي في اليابان (1982-1987م). (8)
رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م). (9) «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م). (10)
الثورة المصرية، والربيع العربي (2011-2018م). (11)
كل نفس ذائقة الموت (2018م-...).
والطريقة الثانية، التقسيم الموضوعي للذكريات، مثل: الجامعة، السياسة، الاستبداد، الدين، الفن، الوطن، الهزيمة والنصر، القومية العربية، الحب. وعيب هذه الطريقة تجاوز التطور الزماني، وتقطيع التجربة الذاتية عبر مسار العمر لمعرفة مدى نضجها وكأن صاحبها قد مات. هذه الطريقة أشبه بالجسد الحي الذي يقطع بعد الذبح حرصا على الأجزاء، وليس خوفا على الحياة. قد تفيد تعليميا، ولكنها تقضي على الحياة العضوية للجسد.
2
صفحه نامشخص
كما تبدو هذه الطريقة وكأنها تأليف في عدة موضوعات متناثرة، وفي هذه الحالة تقضي على موضوعيتها وعلميتها.
وفي كلتا الطريقتين تأتي الذكريات وتذهب لاإراديا في سريانها، وإن كان يمكن أن تبقى في خطوطها العريضة، مراحلها أو موضوعاتها؛ فالذكريات تعوم في محيط من الحرية، وتسبح مع التيار، لا يمكن إيقافها بالقوة إن أتت، ولا يمكن استدعاؤها إن هربت؛ فالشعور تيار جارف كما يقول هوسرل وبرجسون: ميزتها الصدق في الحضور والغياب.
ومن ثم يكون السؤال: هل الذكريات علم أو فن؟ فلسفة أم أدب؟ هي كلاهما لأنها تحليل نفسي لصاحبها؛ فهي أقرب إلى علم النفس وتداعي المعاني والصور. وهي فن لأنها لا تخضع إلا لفن الكتابة وفن الرواية. ونموذج ذلك «قصة نفس» و«قصة عقل» و«حصاد السنين» لزكي نجيب محمود مقارنة ب «حياتي» لعبد الرحمن بدوي التي هي أقرب إلى السجلات والمدونات؛ لذلك كانت «اليوميات» إحدى وسائل كتابة الذكريات. يكتب الذكريات الأدباء مثل لويس عوض، والفلاسفة مثل رسل وياسبرز وسارتر، والعلماء مثل أينشتاين. والفنون التشكيلية سير ذاتية لأصحابها؛ مثل تماثيل نهضة مصر لمختار مؤرخا لثورة 1919م بالفن ومعبرا عنها بالحجر والإزميل، وموسى لمايكل أنجلو؛ فعندما تكتمل «ذكريات» من أي نوع ستكون؟
العنوان «ذكريات» وليس الذكريات؛ فربما لم أتذكر كل شيء؛ فالاسم النكرة أكثر دلالة من المعرفة. وربما يستحيل على الإنسان أن يتذكر كل شيء، وتلك فضيلة النسيان عند برجسون، ذكرى تأتي وأخرى تذهب وإلا لانفجرت الذاكرة لكثرة ما اختزن فيها من ذكريات. وإذا تذكرها فلن يستطيع أن يكتب كل شيء فيها حياء وخجلا في مجتمع ما زال الحب بكافة أنواعه: الحسي والمعنوي، الجسدي والروحي، ما زال غير مقبول صراحة كما يغني عبد الوهاب في أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات».
والذكريات تجارب ذاتية، قد يعيشها شخصان قريبان مثل الأخوين، ولكنهما يعبران عنها بطريقتين مختلفتين مثل يوسف وإخوته؛ فالذكريات لا تتعلق فقط بالذاكرة، هي إحدى وظائف، العقل، ولكنها ترتبط بالعواطف والانفعالات بل والمصالح والأهواء؛ فالحاضر هو الذي يتحكم في الماضي كما يتحكم الماضي في الحاضر؛ فالذكريات ليست فقط رواية للقديم بل هو تحريك من الجديد.
وهي ليست «ذكرياتي» لأن الموضوع ليس ذاتيا خالصا، إنما هي «ذكريات» أكثر من ثمانين عاما؛ فهي ذكريات عن عصر بأكمله: سبعة عشر عاما قبل الثورة، ثورة 1952م وتقلباتها من الناصرية (1956-1970م)، والانقلاب عليها منذ 1970م حتى بعد اغتيال رئيس الجمهورية عام 1981م، ثم استمر الانقلاب على الناصرية لأن الرأسمالية ليست جريمة حتى الثورة الشعبية في يناير 2011م والتموجات فيها بين الإسلاميين والعسكريين والفلول، جمعا بين الاستبداد والفساد، ووضعا للإسلاميين واليساريين في السجون والمعتقلات، انتظارا لثورة الجياع أو الجرابيع والعشوائيات، والعودة إلى الناصرية روح الثورة الأول، وتحقيقا لشعار الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وليس العنوان «حياتي» أو «سيرتي الذاتية»؛ فكلها تحول الذكريات إلى جانب ذاتي خالص، وتنسى أنها تعبير عن عصر بأكمله يمكن الرجوع إليه. وليست «يوميات» تدون أحداث يوم بيوم؛ لأن هذه الأحداث لها مسار موضوعي. وليست مجرد حوادث متفرقة، وإن كان أحمد رامي في الإهداء يقصد حبيبته؛ فربما أقصد أنا مصر، حبيبتي الكبرى، بالرغم من كل ما طرأ عليها من تطورات جعلت الناس تندم على أيام زمان أو الزمن الجميل؛ فهذا واجب المثقف الوطني الذي يحمل «هموم الفكر والوطن». ظننت أنها ستأخذ وقتا طويلا؛ عاما تقريبا، فلما قفزت على الجزء الأخير من «التراث والتجديد» «التفسير الموضوعي»، كما قفز «هيجل والهيجليون الشبان» من قبل، بدأت في الكتابة لاستراحة محارب من توثيق الآيات والموضوعات التي ربما أكون قد نسيتها حتى أصبت بضعف النظر أو إحساسا بدنو الأجل.
وإذا كانت الذكريات هي استدعاء الماضي، والماضي منصب في الحاضر، فيتداخل الماضي في الحاضر، الموتى مع الأحياء. تذكر الموتى ليس به حرج، ولكن الحرج مع الأحياء في المراجعة والتأويل المضاد على أحسن تقدير، وفي الخصام أو التقاضي على أسوأ تقدير. وفي تذكر الأحياء في الحاضر تشتد أزمة الاختيار بين الذكريات: أيها يذكر، وأيها لا يذكر؛ فتتدخل الإرادة في انتقاء الذكريات منعا للإحراج. وربما يختلط المستقبل أيضا مع الماضي والحاضر في ذكر ما كان الإنسان يود فعله ولم يفعله وهو قد فعله بالفعل. وهنا تتداخل الأبعاد الثلاثة للزمان؛ الماضي والحاضر والمستقبل. وقد تنسى بعض تجارب الحاضر، فلا تدخل في الذكريات التي تحتوي على التجارب الحية التي تبقى في الذاكرة، سواء في الماضي أو في الحاضر.
والتقسيم إلى إحدى عشرة مرحلة هو تقسيم زمني وموضوعي في آن واحد؛ فبدأت بالموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة، ثم أولا: الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م) حيث بدأ الوعي بالعالم عن طريق اللعب والفن والفكر. ثانيا: التعليم الجامعي (1952-1956م) حيث بدأ الوعي العلمي متزاوجا مع الوعي الوطني، والتطلع إلى أفق أوسع. ثالثا: السفر إلى فرنسا (1956-1966م) حيث توازنت الشخصية بين الدين والدنيا، تجارب الأنا والآخر، وصياغة مشروع «التراث والتجديد» (بالفرنسية). رابعا: الأستاذ الجامعي وفلسفة المقاومة (1966-1971م) ودرء الهزيمة أو النكسة في 1967م بعد النكبة في 1948م وقبل صفقة القرن في 2017م أشبه بنداء إلى الأمة الألمانية لفشته لمقاومة نابليون الذي احتل ألمانيا. خامسا: السفر إلى أمريكا (1971-1975م)، لمعرفة العالم الجديد؛ أمريكا، تدريسا ودراسة، قراءات وزيارات وتوسيع المعرفة بالدين من المسيحية إلى اليهودية، والفلسفة، من الفلسفة الأوروبية إلى الفلسفة الأمريكية. سادسا: إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1975-1982م) خاصة بعد مظاهرات يناير، 1977م «انتفاضة الحرامية»، وإعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية عام 1976م بعد أن أسسها منصور فهمي باشا في 1944م وتوقفت بعد الحرب العالمية الأولى، وزيارة القدس نوفمبر 1977م لإيجاد أحلاف خارجية، وكامب ديفيد 1978م، واتفاقية السلام 1979م، وطرد أساتذة الجامعات والصحفيين ، وتحويلي موظفا في وزارة الشئون الاجتماعية، وسجن هيكل، وإبعاد الأنبا شنودة إلى الصحراء في سبتمبر 1981م مما كلفه حياته في أكتوبر من نفس العام. وقد كتبت «مقدمة في علم الاستغراب» عام 1982م وأنا خارج الجامعة وفي ذهني
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . سابعا: فلسفة المشرق والمغرب، بالتدريس في المغرب وتولي الإشراف على البحوث الدولية في جامعة الأمم المتحدة في اليابان (1982-1987م). ثامنا: رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م). تاسعا: «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م). عاشرا: الثورة الشعبية والربيع والعربي (2011-2018م). الحادي عشر: كل نفس ذائقة الموت (2018م-...).
صفحه نامشخص
ويختلف طول المراحل من حيث المكان: أطولها مرحلة 167 شارع الحجاز (1970-1995م) خمسة وعشرين عاما، ثم مرحلة باب الشعرية (1935-1956م) واحدا وعشرين عاما في شارع البنهاوي، درب الشرفا، عطفة البنهاوي رقم 4، ثم مرحلة مدينة نصر (1995-2018م) ثلاثة وعشرين عاما في 18 شارع لوزاكا متفرع من أحمد فخري، ثم مرحلة فرنسا (1956-1966م) عشرة أعوام، ثم مرحلة العباسية الشرقية (1966-1970م) مع الوالدين 13 شارع الجنزوري منذ العودة من فرنسا 1966م حتى الزواج 1970م. إلا أن أكثرها عمقا في استدعاء الذكريات الماضية والأحلام الحاضرة هي المرحلة الأولى (1935-1956م) مرحلة الميلاد والكتاب والمدارس الأولية والابتدائية والثانوية والجامعية؛ فما زالت الشقة التي ولدت فيها، والغرفة التي ذاكرت فيها، وكنت فيها مع أخي سيد وأعز الأصدقاء محمد وهبي عبد العزيز هي أعمق الذكريات، وتعود دائما أكثر من أطولها في شارع الحجاز (1970-1995م)؛ فذكريات الطفولة أكثر عمقا في النفس من ذكريات الشباب في فرنسا أو الرجولة بعد الزواج أو الكهولة في مدينة نصر.
وكانت الذكريات في الصياغة الأولى تسترسل دون جهد كبير؛ فالخطوط العريضة تظهر، والمراحل الزمنية لا شك فيها. وفي الصياغة الثانية بدأت تظهر ما أسقطه النسيان في الصياغة الأولى؛ فبدأت بتجسيد أكثر، يملأ فراغاتها. وفي القراءة الثالثة بدأت تظهر موضوعات جديدة من دائرة النسيان إلى دائرة التذكر. ولو كانت هناك قراءة رابعة لخرجت بعض الذكريات من جوف النسيان؛ فالذكريات بئر له أعماق متعددة، وكلما نزل الدلو أعمق أخرج الماء؛ لذلك يستطيع من عاصروا الأحداث من الأقارب والأصدقاء، التلاميذ والزملاء، بالقراءة الجماعية، أن يصححوا أو أن يزيدوا ما نسيت؛ فالذكرى بارق يلمع ثم يختفي كما صور أحمد رامي في الإهداء. وما كنت أحاول أن أتذكره بالإرادة في قراءة أولى يأتي طواعية في القراءة الثانية؛ فتسلسل الذكريات ليس فعلا إراديا بل هو تيار جارف يأتي ويذهب. وهناك فرق بين الذكريات السطحية؛ أي مجرد تسجيل الأحداث، والذكريات العميقة التي أثرت في الوجدان، وتركت آثارا في الشخصية. الأولى سرعان ما يأتيها النسيان، وتكون على هامش الذاكرة. والثانية تكون في أعماق الذاكرة ولا تنسى، وتكون جزءا من الشخصية.
وهناك إشكال يظهر خاصة في الجزأين الأخيرين وهو: هل تستدعي الذكريات الأحياء مع الأموات، الحاضرين مع الراحلين؟ لا حرج في استدعاء ذكريات الراحلين، ولكن ماذا عن ذكريات الحاضرين؟ وكيف تستدعي ذكريات الحاضرين وقد تكون بعض المثالب مما يستدعي الحرج أو ما يظن أنه تجريح وتعرض بالمذكور؟ وكلهم أصدقاء وزملاء في الظاهر أو في الظاهر والباطن. ويصعب ألا يتعرف عليهم، بالرغم من عدم ذكر أسمائهم. والحل الوسط ذكر النماذج الجامعية دون إشارة إلى أحد بالاسم، ومع ذلك يمكن تعيين الأسماء بهذه الطريقة عن طريق هذه العلاقات مثل التخصص أو النشاط العلمي أو العلاقات الاجتماعية. ومع ذلك ظل استدعاء أسماء الأعلام مسألة مثارة لا أدري ماذا أفعل فيها رغبة في أكبر قدر من العمومية، ورفعا للإحراج، والزمالة الطويلة التي تجاوزت نصف القرن؛ فإذا ذكرت أحرجت، وإن لم أذكر تاهت الذكريات ووقعت في ضبابية، وهي مصدر المعرفة. وسألني أحد الأقارب أو الأصدقاء: لماذا لم تذكرني؟ ذكرت ثم شطبت ثم عدت إلى الذكر من جديد؛ فالأفضل أن يكون الإحراج لي وليس إلغاء الحوادث والأشخاص التي نشأت فيها الذكريات. ثم أحسست في قراءة ثالثة أنه لا بد من ذكر الأعلام حتى تتضح الذكريات في الراحلين فقط دون الحاضرين، ولكن في الهامش؛ نفورا مني من وضع أسماء الأعلام في النص. وأخيرا في قراءة رابعة وأخيرة عدت إلى الخيار الأول بإعادة أسماء الأعلام إلى المتن بمحاسنها وعيوبها؛ ففي العلوم الإنسانية لا يوجد صواب مطلق أو خطأ مطلق . وقد استدعى ذلك إسقاط الألقاب ورموزها مثل «أ.» للأستاذ، «د.» للدكتور، «أ.د.» للأستاذ الدكتور؛ فالذكريات لنماذج بشرية وليس لشخصيات اجتماعية تحرص على ألقابها. ويظل التردد حتى الآن قبل أن أدفع الكتاب إلى المطبعة، وربما يوجد حل نهائي. ووصلت إلى حل وقتي، وهو ذكر أسماء الراحلين دون أسماء الحاضرين، ثم تبرز قضية تلميذي نصر حامد أبو زيد، هل هو من الراحلين أو من الحاضرين؟ هل يدخل في النماذج أم إنه لا تصنيف له؟
وتتفاوت الذكريات في الأعماق. الذكريات الأولى هي الخطوط العامة للسيرة الذاتية والتي تأتي في القراءة الأولى، وعادة تكون ذكريات الطفولة. والثانية ذكريات فرنسا التي كونت الشخصية بعد ثقلها من اختيار النص إلى اختيار الواقع، ومن التقليد إلى الاجتهاد. والثالثة ذكريات العودة إلى مصر خاصة ذكريات الفترة الأخيرة بعد السفر إلى أمريكا والمغرب واليابان، وبعد مزيد من التعرف على الوطن العربي. وأعمق الأعماق هي الطفولة الأولى ومحل الولادة والسكن قبل المغادرة إلى فرنسا، وهي مرحلة الأمل في الاستقلال أو الموت الزؤام ومقاومة الاستعمار والفقر والإقطاع قبل أن تنقلب على نفسها في المرحلة الأخيرة في قرب النهاية؛ مرحلة اليأس بعد عديد من تجارب الإحباط في محاولات النهضة والإصلاح والتجديد والثورة إلى مرحلة الاستبداد والاعتراف بإسرائيل وإقامة كافة العلاقات معها والارتماء في أحضان أمريكا والخليج ووضع نفسها في صفقة القرن.
والخطورة في الذكريات أن يتناولها أحد بالزيادة والنقصان؛ زيادة ما يحب، وإخفاء ما لا يحب؛ الكشف عما يريد أو التستر على ما لا يريد ظانا منه أنه يحافظ على مركز صاحب الذكريات. ويتم ذلك إراديا وليس بالفعل الطبيعي للذاكرة والنسيان، بل إن إكمال الصورة وإبرازها على نحو غير ما هي عليه يقرب من المغالاة؛ فقد توصف بالكذب إذا زادت عن حدها، وأصبحت أكبر من جزء للصورة الأولى، تعظيما للنفس أو إقلالا من شأن الآخرين.
ومن القضايا المنهجية الصلة بين الخاص والعام؛ فهل كل ما يحدث وتستدعيه الذاكرة هي ذكريات؟ وماذا يفيد الناس أنني جعت أم شبعت، نمت أم استيقظت، عريت أم لبست؟ لا يهم إلا ما له من دلالة على الفقر، ونشأة الوعي مبكرا؛ فالذكريات هو مجموع الدلالات للأحداث وليس الأحداث ذاتها كما يفعل الخبر الصحفي للناشئين. لا يهم إلا ما له علاقة بالفكر أو الوطن كما عرضت في «هموم الفكر والوطن»، وهو ما يشغل كل الناس في اللاشعور بعد أن انشغل الشعور بمشاكله في الحياة اليومية كالغذاء واللباس والإسكان والمرض، وكيفية تكييف حاجاته مع دخله المحدود. ومع ذلك لا تنفصل الذكريات عن البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نشأت فيها؛ فهي أقرب إذن إلى علم النفس الاجتماعي عن الوصف التقريري.
والخطورة أيضا في عدم ضبط الميزان بين الذاكرة والخيال؛ فقد يتذكر الإنسان شيئا إلى المنتصف دون النصف الآخر، فيأتي الخيال لتكملة الصورة؛ فالموضوع نصفه ذاكرة ونصفه خيال. والسؤال هو: هل الخيال يكمل الذاكرة أم إنه يفارق الذاكرة بدافع الإبداع الفني؟ نصفه فلسفة ونصفه فن، بدايته صدق ونهايته أقل صدقا ولا أقول كذبا؛ فالذاكرة تحتاج أحيانا إلى ضبط وتوضيح وإكمال. لا يطبق على التذكر مقياس الصدق في العلوم الطبيعية المتطابق مع التجربة ولكن الصدق مع النفس. لا يعني ذلك وجود منطق للتذكر فإنه يظل فعلا حرا يقوم على الاستبطان والتداعي، بصرف النظر عن الترتيب الزماني، وهذا سبب التكرار أحيانا كما هو الحال في الموسيقى؛ إذ يتكرر اللحن من المقدمة إلى الوسط إلى النهاية. وكما هو الحال في القرآن الكريم مثل
فبأي آلاء ربكما تكذبان
في سورة الرحمن؛ لذلك يصعب ذكر فهرس تفصيلي بحوادث معينة؛ لأن ذلك يفصل المتصل كما يقول برجسون. يكفي المراحل الكبرى التي تختلف الذاكرة عليها.
وبالرغم من حرصي الدائم على التوازن الكمي بين الأبواب والفصول إلا أن الذكريات حكمت نفسها بنفسها؛ فهناك تجارب شكلت شخصيتي مثل إقامتي في باريس عشر سنوات ورئاستي للقسم ومحاولة تأسيس مدارس فكرية ولا أقول فلسفية، وتعمقت في شعوري وأصبحت لا تنسي، في حين كانت أجزاء أخرى أصغر مثل أحزان خريف العمر وتمنياتي المتفائلة، والمستقبل المفتوح.
صفحه نامشخص
ومعروف في دراستي «التراث والتجديد» أنني لا استعمل ضمير المتكلم المفرد «أنا» أو «الجمع»؛ فالعلم موضوع وليس ذاتيا. أما الذكريات فإنها تجمع بين الذات والموضوع من خلال الذات؛ ومن ثم لا ضير في استعمال ضمير «الأنا المتكلم»؛ فالتجربة ذاتية، وهو مصدر الذكريات الذي يجمع بين الذات والموضوع في علاقة متبادلة بينهما. إذا رأى الكاتب سكنه القديم هاجت فيه الذكريات، وإذا تذكر شيئا أكمله بالخيال الذي هو الوجه الآخر للذكريات.
وقد تتكرر بعض الإحالات، ولكن لكل سياقها ومدى عمومها أو تفصيلها؛ فالذاكرة لا تعرف التنظيم والتنسيق والرسم الهندسي؛ فالكتابة هي استدعاء تلقائي طبقا لمدى عمقها واتساع حضورها في اللاشعور. والحكم بالتكرار هو عدم تميز كاف بين التقرير الصحفي والسيرة الذاتية، بين الوصف والتقرير والإبداع الذاتي.
إن هذه الملاحظات المنهجية لم تأت استنباطا من منهج معد سلفا، بل هي نتاج استقراء كل إشكال صادفني في كتابة الذكريات، وحاولت التعبير عنها تجريبيا، ثم رصدتها نظريا كتمهيد منهجي، أسوة بباقي أجزاء «التراث والتجديد»، وأنا أول من ينقدها، كما تم أيضا من قبل في «محاولة للنقد الذاتي». ومع ذلك أتمنى أن تصل هذه الملاحظات إلى حد «خطوات في المنهج» بعد وضعه موضع النقاش مع من ما يزال يجد فائدة في النقاش الفلسفي.
الفصل الأول
الطفولة: الكتاب، المدارس
الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م)
أنا من مواليد 1935م حي باب الشعرية الذي به جامع الشعراني الذي كان يؤذن فيه محمد عبد الوهاب. ومن شارع الجيش الشارع الرئيسي في باب الشعرية الذي يربط بين العتبة والعباسية، يتفرع منه شارع البنهاوي الذي به جامع البنهاوي الذي يصل إلى باب الفتوح ثم باب النصر. وتتفرع من وسطه تقريبا حارة درب الشرفا ثم عطفة العبساوي والمنزل رقم 4 الدور الأول فوق مخازن السحار للبقالة. عنوان طويل مقارنة بالعناوين الطبقية الأخرى، رقم المنزل واسم الشارع ثم اسم الحي كما حدث بعد ذلك في 167 شارع الحجاز، مصر الجديدة. وكنت أستحي من هذه العناوين الطويلة التي بها الدروب والعطفات. وكنت أذهب إليه بين الحين والآخر؛ أذهب لرؤية البيت الذي ولدت فيه، والشقة التي قضيت فيها طفولتي وصباي قبل سفري إلى فرنسا. وما زلت أحلم بها وبسطوحها الخاص وجملوناته الخشبية التي كانت سقف مخازن السحار للبقالة. وكنت أنزع قعدتها الخشبية السوداء لعمل «عوامة» التي يسير بها الأطفال. رجل فوقها، ورجل أخرى على الأرض ترفعها بعد تركيب عجلتين صغيرتين، أمامية وخلفية، ومتصلة بين العمود الرأسي والقاعدة الأفقية، تربطهما مفصلة - على أحسن تقدير - للانحراف بها يمينا ويسارا مثل دريكسيون العربة.
وكان أول وعي بالناس بعد الأقارب هم الجيران؛ ففي مدخل المنزل هناك غرفة واحدة في الحوش، وهي التي تحولت في المنازل الحديثة إلى حجرة البواب، كانت تسكنها نساء فقط؛ فهيمة الأم والتي كانت تلبس السواد طول الوقت لتكشف عن ذراعيها وساقيها البيضاء، وصالحة الابنة الطويلة الفارهة، والتي كنت أشعر نحوها بشيء ما لا أعرفه. ولما ضاقت الحجرة، سكنوا تحت بير السلم المظلم الذي تسكنه العفاريت؛ فقد كان به الحوض ودورة المياه. وكانت صالحة تعمل وتعول الأسرة. وينظر إلينا على أننا من الأغنياء لأننا نسكن بالدور الأول ونذهب إلى المدارس والجامعات. كانت أرض الحوش من الطين؛ فلم يكن السيراميك قد عرف بعد، وإن وجد فمن يقدر على شرائه؟ وكان في مدخل شقتنا على يمين الحمام البلدي والمطبخ. وفي الواجهة غرفة داخلية مظلمة لا تطل على شيء إلا سطح المخزن على مستوى أدنى والذي كان يستخدم ملعبا «للعوامة». وعلى اليمين غرفة لأخي سيد وأنا الصبيان في المنزل. وعلى اليسار غرفة لأخواتي البنات الخمس: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية، وكلهن من خريجات مدارس المعلمات التي كانت في ذلك الوقت أنسب تعليم للإناث وأسهل وظيفة لهن مدرسات. وعلية الوحيدة التي تفوقت في دراستها، وأخذت الثانوية العامة من المنازل، ثم ليسانس الآداب من قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ثم الماجستير والدكتوراه حتى أصبحت رئيسة القسم، وسافرت إلى اليونان، وتزوجت وهي طالبة صديقا لي طبيبا، د. عبد المحسن حسين عبد الله. أما نادية الصغيرة فقد تخرجت من مدرسة التجارة، وأصبحت موظفة في بنك حيث تعرف عليها زميلها محمد وتزوجها، وأصبحت ربة منزل. وهي التي قمت بتكاليف الإعداد لزواجها بعد أن قام أخي سيد بتكاليف إعداد أخواتي الثلاث الأخريات نظرا لغيابي في فرنسا، وحجج الوالدين مرتين. وكانت أكبر الغرف تطل على العطفة، وتحتها مخازن السحار. أما الوالدان، فكان الوالد في غرفة الأولاد والوالدة في غرفة البنات. أما الصالة الوسطى فكانت غرفة المعيشة والاستقبال، وبجوارها شقة الجزار والكبابجي، وفوقها غرفة الفران عم توحيد وابنه صلاح، وبجواره اللبان الذي كان أبناؤه في الدراسة، وكنت أعطيهم دروسا في الثانوية العامة اتقاء لشرهم. وأما جارتنا نعيمة فكانت جميلة بيضاء وطويلة، وزوجها يعمل في «الأورنس»؛ أي الجيش الإنجليزي، كما يصور نجيب محفوظ في «زقاق المدق».
كان الوالد موسيقيا بالجيش بفرقة البيادة المصرية، يلعب الترمبون، يرفض اللعب في الأفراح لأنه كان يعتبر ذلك إهانة له وللفن وللجيش، يشارك كضيف نعم، أما كلاعب فلا، باستثناء حفل التخرج السنوي لمدرسة الجزويت بالفجالة التي كان يقدرها؛ ربما لحضورها الأجنبي أو للغتها الفرنسية أو للعشاء الفاخر الذي كان يقدم للموسيقيين، وكان يأخذني لأتفرج على عالم جديد غير عالم المدارس الحكومية الفقيرة والتي يحرم كل شيء فيها. وقد كان هو أستاذ الموسيقار الشهير لفرقة رضا، علي إسماعيل، ولما رأى فيه النبوغ نصحه باللجوء إلى المعهد العالي للموسيقى الذي كان يشترط الحصول على التوجيهية؛ أي شهادة الثانوية العامة، فقمت بالتدريس له، نظام الثلاث سنوات في سنة واحدة. كنت أذهب إليه في حي الدقي. ولما نجح أصبح أشهر لاعب كلارينيت في مصر. ظهر في أغنية «عاشق الروح» الأخيرة في فيلم «غزل البنات». ولما أنشئت فرقة رضا للفنون الشعبية أصبح ملحن أغانيها الراقصة الشعبية، وقائد فرقتها. وكنت أذهب إليه أحيانا في مسرح البالون أنا وصديقي محمد وهبي عبد العزيز، فيدخلنا مجانا، وكان أخوه رجب مجرد عازف للأبوا في الفرقة، وكان كلاهما يحبان الجنس الآخر؛ رجب لابنة عمه، وعلي للفنانات شأن معظم الفنانين في ذلك الوقت.
وكانت ستي يامنة وخالتي أم عبد الله تحضران من بني سويف إلى القاهرة لحضور حادث الولادة. وكانت ستي من قبيلة بني مر في أسيوط، جنوب بني سويف، ثم نزحت إلى الشمال، وهي القبيلة التي منها الزعيم عبد الناصر. وكان جدي قد نزح من الأندلس إلى المغرب ثم انتقل شرقا واستقر في بني سويف عائدا من الحج، وأصبح تاجر دقيق بجوار محطة القطار، وما زلت أذكر شعره الأشقر ووجهه الأحمر. وأراد أن يزوج أبي قبل الذهاب إلى التجنيد، فأخذ بيده إلى منزل ستي بجوار مدرسة زعزوع خلف المركز، وطلب من ستي يد ابنتها، وكانت نائمة، فرفعت الغطاء من على وجهها ثم سأل جدي أبي إذا كانت تعجبه فأجاب بالإيجاب. واستيقظت والدتي فوجدت نفسها قد تزوجت وهي نائمة؛ فالاختيار ليس لها. ثم نزحا معا إلى القاهرة، حي السيدة زينب، بجوار مدرسة السنية، ثم بعد ذلك انتقلا إلى باب الشعرية حيث ولدنا أنا وأخي وجميع أخواتي. وما زلنا جميعا نحن إلى هذا الحي الذي أصبح رمزا للأصالة كلما أحسست أنني انتقلت من طبقة لأخرى، وكلما أحسست أنني اغتربت عن أصالتي وعن سلوكي الشعبي.
صفحه نامشخص
وكانت خالتي لا تنجب، ولا تحتاج إلى أموال ستي أو أن ترثها، فكانت ستي تعطي والدتي ما تيسر من مال ليساعدها على المعيشة. كان لستي عدة بيوت ريفية قسمتها مناصفة بين أمي وخالتي، ونحن في الجامعة وفي حاجة إلى مصاريفها. كانت والدتي تذهب إلى بني سويف وتهمس في أذن ستي فتوافق على بيع أحد البيوت. بيعت أربعة بيوت ونحن في أربع سنوات الجامعة، ثم اندارت ستي وأقنعت خالتي ببيع بيوتها وهي عاقر بالرغم من زواجها وطمع زوجها في صيغتها في يديها. ولما اقتنعت وتوفت ستي أقنعت والدتي خالتي ببيع آخر بيوتها، وتأتي لتعيش معنا في القاهرة حتى تجد من يساعدها، وكانت عرجاء؛ رجل طويلة وأخرى قصيرة بعد أن وقعت من على السطح وهي تطعم الدجاج، فانزلق بها السلم، ولم يكن في ذلك الوقت أطباء، فاكتفت بالوصفات البلدية والجبيرة ولكن ظل العظمان متفرقين. وبالفعل عاشت خالتي آخر سنواتها معنا في 13 شارع الجنزوري بالعباسية بعد أن أصبح المنزل الذي ولدنا فيه معرضا للانهيار. وبالفعل هدمت الأدوار العليا الأربعة وبقي الدور الأول الذي ولدت فيه.
وكان أبي قد توفي فيها، ورأيته أنا وزوج أختي الكبرى في لحظته الأخيرة، ورأيت الروح وهي تصعد وأبي يتألم إلى أن فتح فمه ثم توقف عن الحراك. وما زلت أتساءل: هل الروح في لحظتها الأخيرة تخرج من الفم؟ وكنت أسمع وأنا صغير دون أن أشاهد أن الروح تبدأ بأخمص القدمين وتنتهي تدريجيا إلى أعلى. وما إن خلت غرفة في الشقة حتى استدعيت خالتي للعيش فيها، وكانت سعيدة، بينها وبين أفراد الأسرة منافسة على الطعام. كانت تعتبر أولاد أختها أولادها، يأخذون منها العيدية في كل عيد. الوالدة ليس لها شهادة ميلاد؛ فلم يكن مطلوبا منها ذلك، ولكنها كانت تقول إنها أصغر من الوالد بحوالي عشر سنوات.
والوالد وهو من مواليد 1900م بسبب الخدمة العسكرية كان شاويشا بالجيش في فرقة البيادة (المشاة) للموسيقى العسكرية، لاعب ترومبون الأول، ثم رقي صول (شرف). وكان علي إسماعيل وهو قريب لنا من تلاميذه. وكان يرفض دعوات اللعب خارج الجيش احتراما لهيبته، وما كان يسود الأفراح من هزار وتدخين الممنوعات لا يليق. ورفض أن ينتقل إلى أي مكان آخر مثل السودان ليس فقط كي يترقى بل أساسا حفاظا على البقاء في القاهرة مع أسرته. كان يحب الجلوس على المقهى مع زملائه في الجيش ويشرب الشيشة حتى كبر أولاده، وظن أن ذلك عيب وهم على أبواب الجامعة. ولما قامت ثورة يوليو 1952م، أرادت إفساح المجال للشباب في الجيش، فأخرجته وحولته إلى وزارة الشئون الاجتماعية، كما انتقلت أنا إليها عندما أخرجنا الرئيس المغدور بقرار منه في سبتمبر 1981م خارج الجامعة مع الإعلاميين وعلى رأسهم هيكل وإبعاد البابا إلى دير في الصحراء؛ لأنهم كانوا يعارضون سياساته التي انقلب فيها على عبد الناصر، والتي بلغت قمتها في مقاومة مظاهرات يناير 1977م (انتفاضة الحرامية) بالقوة وزيارته إلى إسرائيل في نوفمبر من نفس العام، ثم اتفاقية كامب ديفيد في 1978م، ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979م والذي أدى إلى اغتياله في أكتوبر 1981م. ثم أحيل إلى المعاش كموظف في الدولة 1960م ثم توفي 1980م، ومعاشه ستة جنيهات.
وبعد أن توفت خالتي، وكان أبي قد اشترى قبل أن يتوفى مقبرة بالبساتين كان هو أول من دفن فيها. كان أبي باستمرار يمازح خالتي ويخطف منها طبق الطعام وهي تمنعه من ذلك عن طريق البصق فيه، وتضحك عليه بأنها هي التي كسبت المعركة. وكانت والدتي ترجوه أن يتركها في هدوء «سيبها يا أبو السيد.» كانت تحبني وتعتبرني ابنها الوحيد؛ فقد حضرت ولادتي عندما أتت من بني سويف إلى القاهرة، وكنت أنا أقرب إخوتي لها، كانت تؤثرني بالمصروف المدرسي اليومي قرشا أو قرشين عليهم. وكنت أدافع عنها باستمرار إذا مسها أحد بسوء، وتحزن وتقول لوالدتي: «ياللي بيعتيني بيتي.» وأنها خسرت كل شيء بسببها وأولادها، ولم أكن أدري هل هذا مزاح أم جد. لقد كانت تحن إلى بيتها الأخير في بني سويف، وحجة والدتي أنه دخل في التنظيم؛ أي سيهد عن قريب؛ لأنه بارز في الشارع عن صف البيوت الأخرى. وبيت عصمت المقابل الذي يحدث اختناقا مع بيت خالتي، لا يهد لأنه أكثر جدة، وعصمت ذو شأن في المدينة، ولأول مرة أرى الحاج وهو يضع كفيه في دماء الضحية ويطبعها على الحائط كي يعرف الجميع أنه حاج وينادونه بلقب «حاج» في «الحاج عصمت»؛ لأن عصمت بمفردها أو عصمت أفندي لا تعطيه حقه.
وأصبحت مقبرة البساتين مدفن العائلة؛ بها أبي وأخي وزوج أختي فاطمة وأمي وخالتي وحماتي وأحد الأقرباء لأمي وأخيرا زوجة أخي، والموت ليس به ازدحام كالحياة، وربما أكون أنا أو أختي الأصغر مني أول زائريها. ومع ذلك فكرت أخت زوجتي في شراء مقبرة لهما بطريق السويس، لم يدفن بها أحد حتى الآن، وربما أكون أول زائريها، والأمر متروك لزوجتي الحبيبة؛ إما أن أدفن في مقبرة العائلة حيث بها أمها أو في المقبرة الجديدة لآل مرعي. الأولى طرقها غير أسفلتية وكلها مطبات، وتتسرب إليها مياه عين الصيرة بين الحين والآخر. والثانية طرقها أسفلتية، نظيفة، أعدها الجيش. الأولى داخل القاهرة، والثانية خارج القاهرة.
وكانت شقة العائلة بالعباسية التي توفي بها أبي وأمي وخالتي مطمع أختي لتزوج بها ابنها الأكبر الذي يسير بعصوين، فلم يعترض أحد نظرا لحالته الصحية، فتزوج بها وأنجب، ورعت زوجته والدتي في سنواتها الأخيرة، فكانت الشقة استحقاقا لها بالرغم من تساؤل جميع البنات.
كانت الأخت الكبيرة «طيبة»، «بنت حلال» أنجبت أربع بنات وولدين، يعشون من معاش من أمي. وكانت من بعدها أيضا طيبة وفي حالها، تزوجت وأنجبت ولدين وثلاث بنات. والثالثة كانت تعشق الدنيا، ثم بعد ذلك تدينت وقرأت القرآن، ومسكت بالمصحف، ولبست البياض، وغطت رأسها، تعظ الناس، تزوجت وأنجبت، ولها ثلاثة ذكور وأنثى واحدة شبيهة بأمها مثل أحد الذكور. والصغرى جمعت بين الطيبة وسلامة النية، وزادت الهبالة فتزوج عليها زوجها المتدين امرأة متدينة نصابة طمعت فيه، وأخيرا عاد إلى الحب الأول. وأولاده أربع إناث تزوجن وأحببن إلا واحدة، أصابتها عقدة نفسية لشدة الرقابة عليها من أبيها المتدين. كلهن الآن جدات لهن أحفاد، أطال الله في عمرهن. تفوق الذكور والإناث جميعا بين أستاذة جامعية ومحاسب ومهندس. وكانت أمي تسميها «من تشاركني في حياتي» باعتبارها ابنتها البكر.
وكانت الوالدة أمية، لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها في الحياة عالمة كبيرة، سواء في شئون المنزل أو مع الأقارب والجيران والأصدقاء. كانت تستيقظ في الفجر مثل الوالد وتبدأ في إعداد شئون المنزل من عجين وطبيخ وغسيل وتنظيف. كان من عادة الأسرة المصرية أن تعجن في المنزل؛ تشتري الدقيق وتعجنه وتخمره وترصه وتقدمه على طاولات من الفران الذي يأخذه وينقله إلى الفرن ويستخرجه طازجا بالعدد. وكانت تعرف كم كيلو دقيق يستخرج منه رغيف، الطري والملدن، وكان هذا يتم مرة في الأسبوع؛ فما دام هناك عيش في «المشنة» تكون الدنيا مستورة. وكنا نشتري الدقيق من السحار على باب درب الشرفا وشارع البنهاوي، وهو يسجل التاريخ، ومرة واحدة أخطأ في عدد المرات في الشهر، ولكن الوالدة هي التي صححته بذاكرتها؛ فليس مقياس الصواب والخطأ المكتوب في دفتر البقال بل المسجل في ذاكرتها. كانت تعد ثلاث وجبات يوميا لتسعة أفراد؛ الوالد والوالدة، وأخي سيد وأنا ، وخمس بنات: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية. وكلنا نأكل الصنف من طبق واحد. ولم تكن هناك عادة أطباق الغرف المشتركة ولكل فرد طبق يأكل منه بعد أن يغرف ما يريد. وكانت المشكلة ما بعد الطعام، تتكاسل أخواتي البنات عن تنظيف الأطباق، والرجال؛ الوالد وأخي وأنا، ليس المطلوب منهم شيئا، فيقع العمل كله على الوالدة، فتعبت. ومرة سمعتها تصرخ عاتبة على أولادها البنات: «أصل انا العبدة اللي اشتراها لكم أبوكم»، فأحسست بالظلم الاجتماعي الذي يقع على المرأة. أما الرجل فلم يكن مطلوبا أن يفعل شيئا، عكس ما رأيت في أمريكا فيما بعد، عندما دعانا أستاذ الفلسفة إلى العشاء، زوجتي وأنا. ولما انتهينا قام هو ولبس مريلة المطبخ وظل يغسل الأطباق وزوجته تسامرنا!
وكان الوالد يغار عليها من أي رجل يأتي لزيارتنا؛ فقد كان يراها أجمل امرأة في العالم. كان يغار خاصة من عم إسماعيل (والد علي) الذي كان يأتي لزيارتنا لرؤية بنت خالته متأنقا، على شعره الناعم كريم يجعله يلمع ليجذب النساء إليه، في حين كان والدي بسيطا في لبسه بالجلباب ولا يضع فوق شعره أية مساحيق. وكان عم إسماعيل متكلما مبتسما في حين كان الوالد أقصر في الكلام، ولا يبتسم أو يضحك إلا عند الضرورة. والوالدة تريد أن تظهر قدرتها على الكلام، فتتبارى مع عم إسماعيل، ووالدي لا يستطيع أن يجاريها، فأحس بالغيرة، فقام وانتفض وصرخ في وجه أمي لأن الضيف ضيف وعم إسماعيل يهدئ فيه حتى تهبط نار الغيرة منه. وكانت عائلة عم إسماعيل كلها تحب النساء؛ علي، ورجب، وجمال. وهذا طبيعي. أما بالنسبة للوالد فهذا غير طبيعي؛ فالنساء كلهن في الوالدة. مع أن زوجة عم إسماعيل كانت بيضاء، وضاحكة بالرغم من قصرها وبدانتها. وكانت ابنتها خديجة، هيفاء، بيضاء، في غاية الجمال، أحببتها عن بعد، وحضرت يوم زفافها على ابن عمها الذي أخذها في الحجرة المجاورة وهي تصرخ، وقام بالواجب، وفي الخارج يطبلون ويزمرون. وعندما خرجت رأيت الألم على وجهها، وحزنت لها وعليها، على هذا الحبيب الذي انتهكت كرامته ، وعلى وجه الرجل علامات بؤس وشقاء لأنه لم يجد أي لذة أو سرور في ذلك.
أما الأخ فهو سيد الذي كان أستاذا للأدب العربي في جامعة القاهرة، وتلميذا لشوقي ضيف، تلميذ طه حسين، ثم وكيلا للكلية، ثم عميدا لآداب بني سويف، ورئيسا لقسم اللغة العربية، وبها كان إداريا ماهرا، يغلب مصلحة الطلاب على قوانين الإدارة. أما الأخت الكبرى فكانت مدرسة، بدأت التعيين في دشنا بمحافظة قنا، وكانت هذه أول مرة تبتعد فيها عن أفراد الأسرة، وكان والدي يذهب لزيارتها بين الحين والآخر بزيه العسكري، وله صور في آثار الأقصر. وبالرغم من قصر أختي الكبرى وسمنتها فقد جاءها خطيب من هناك، أحول العينين، طويل وأسمر، أكبر منها سنا، يسمونه «علي أفندي»، يعوج الطربوش بزره الأسود المتدلي، معجبا بنفسه كما هو الحال في الأفلام المصرية، وكانت الوالدة تقابله بالترحاب، وهو لا يتوانى في خدمة الأسرة ليبين مهارته الاجتماعية، يعرف فلانا وعلانا من علية القوم؛ فكان على صلة بالدولة وإدارتها حتى إنه جهز إجراءات دفن أخي الأصغر علي الذي مات وهو رضيع بنزلة معوية، وحملته جارتنا في البدروم على يديها وهي تتصنع البكاء، وذهبت معهما مصاحبة إلى المدافن لا أدري أيها، ولو عاش لكان لي أخان. وتقدم لخطبة أختي الكبرى، لا أدري رسميا أو غير رسمي، ورفضت أمي. كيف تفارق ابنتها الكبرى إلى الأبد وتعيش في الصعيد؟ وكانت الجارة التي لم تكن على وفاق دائم مع أمي ، وكانت جميلة بيضاء، كلما تعاركت مع أمي بالكلام، كما هو الحال في العادات الشعبية، تقول لها: «يا بتوع علي أفندي.» وتقول لها أمي بعد أن أحست بالإهانة: «اخرسي، قطع لسانك من لغلوغه.» وكان زوجها طيلة النهار خارج المنزل، ولا يخرج إلا في الصباح الباكر. وفي يوم خرج والدي لشراء خبز فتقابل معه ويبدو أنهما تشاجرا بالكلام، وأحست والدتي بتأخر والدي، فخافت أن يكون قد اصطدم بخروج جارتها، وعاد والدي مكفهر الوجه، وسألته الوالدة: هل تقابلت معه؟ فقال لها: نعم، وتشاجرنا. فخرج الموضوع من أيدي النساء، ووقع في أيدي الرجال، ولكن بسلام. وفي يوم من الأيام وجدت الشرطة على باب المنزل ثم على باب الشقة المجاورة لي ويأخذ جارتنا مكبلة بالحديد. وكانت التهمة أنها خلعت بلاط الحمام، وعملت هوة تسمح بنزولها إلى مخزن البقالة وسرقة صفائح الجبن والزيت وأشولة الأرز، ففرحت. وكنا نعايرها بعد أن رجعت إلى المنزل، بأنها «حرامية»، وهي تعايرنا بأننا «بتوع علي أفندي».
صفحه نامشخص
وأخيرا تزوجت أختي الكبرى، وكانت تدعى نبيهة واسم الدلع «بخاطرها»، وكانت أمي تسمى «أم بخاطرها» نسبة لها أو أم سيد نسبة لأخي الأكبر سيد؛ تزوجت من قريب لوالدتي، سيد حامد، مثالا في الأخلاق والمساعدة الأسرية. وهو الذي كنت أعتمد عليه دائما في مصالحتي مع الأسرة عندما كانت لا تستجيب لطلباتي مثل شراء الكمان أو في الاشتراك في حمام السباحة حتى لا أغرق، وكانت طريقتي في الخصام هي الصوم؛ لذلك كانوا يسمونني «غاندي». هو الذي يصمم لي المكتبة والرفوف لوضع الكتب. وهو الذي تابع طبع رسالتي الأولى الفرنسية بالمطابع الأميرية بعد موافقة الأمين العام للمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في ذلك الوقت، ثم شحن مائة نسخة إلى باريس كما تتطلب السربون في ذلك الوقت. وهو الذي جاء معي لمحل الموبيليات للتفاوض على ثمن غرفة النوم مع زوجتي وتخفيضها من مائتين وعشرين جنيها إلى مائتين وعشرة جنيهات، وأصر عامل المحل على أن يأخذ خمسة جنيهات إكرامية له لوقوفه إلى جانبنا ضد صاحب المحل صدقا كان أم نقاقا. كانت حالتنا المالية لا تسر؛ فكان معاش الوالد ستة جنيهات، نأخذ الدقيق، وهو الأهم، من بقال على ناصية الحارة، وهو السحار، مع تأجيل الدفع حتى أول الشهر، حوالي أربع مرات؛ فالخبز أهم شيء في الأسرة، وكان الفرن قريبا من المنزل على مدخل عطفة العبساوي، ويسكن صاحبه فوقنا.
انتظرت والدتي مرة أختي الكبرى على باب المدرسة بعد أن سعت لنقلها إلى القاهرة بعد زواجها، ونجحت في ذلك، وعاتبتها على أنها تركت أسرتها دون أي معونة مالية، فقصت أختي القصة إلى حماتها التي عايرتنا بهذه الطريقة في الشحاذة مع أنها موافقة على أن تعطي أختي والدتها جنيها أو اثنين شهريا.
ولما توفت زوجته وهي شقيقتي الكبرى لم يستطع العيش بدونها، وتوفي هو بعد شهر، وكانت مقبرته بجوار مقبرتنا، وفي آخر الطريق مقبرة علي إسماعيل، وترك من بعده ذرية صالحة، ولدين وأربع بنات، تزوجن جميعا وأصبح لهن أحفاد يحفظون الود لخالهم.
وكنت مرتبطا بأولاد شقيقتي الكبرى: سوسن، وسهير، وسهام، وسلوى، وأحمد، ومحمد. وكنت آخذ سوسن وسهير سيرا على الأقدام من باب الشعرية إلى شبرا لإرجاعهما إلى والديهما بعد أن تكونا قد قضتا الليل عند جدهما وجدتهما وخاليهما. وكنا نطوي المسافة طيا دون أي ألم في الأقدام خشية من ركوب المواصلات العامة، مثل الترام، الذي كان في ذلك الوقت خيرا مما هو عليه الآن. كما كنت آخذ شقيقاتي؛ سعاد، وفاطمة، وعلية، إلى سينما مصر، وكنا نرقص على سلم المنزل ونقول: «رايحين السيما.» ولما كبرت شقيقاتي، ووالدي محافظ، كن يقصرن الرداء بالحزام فوق الركبة تقليدا للكبار.
أما الأقارب فأتذكر تاجر الجلود بالصنادقية الذي كان قريبا للوالدة، وكنا بين الحين والآخر نذهب إليه لاقتراض بعض المال، خاصة في أوائل العام الدراسي، سيرا على الأقدام خلال شارع المعز لدين الله الفاطمي وخلال القاهرة القديمة. وكانت أخت الحاج حسنين جدي أفقر منا، تعيش أسرتها من عمل اللعب، الوز الملون المتحرك؛ الأب يقطع الأخشاب، والابن يبيع في الأسواق، والثالث غادر هذه الحياة البائسة ليبحث عن رزق أوسع نجارا ، ويأتي لزيارة الأسرة بين الحين والآخر. لم يتزوج بائع اللعب، ومرة أتانا إلى المنزل مصاحبا بامرأة مدهونة بالأصباغ وعلى رأسها قبعة ظانا أن ذلك أعلى قيمة في الحداثة، وقدمها على أنها زوجته التي يتباهى بها. وكان له أخ آخر سائق بين القاهرة والإسكندرية، أتانا مرة وانفجر بالبكاء لأننا أسرة مفككة، فقدمنا له العشاء والمنامة حتى ضحك وجفف دموعه، ولم نره بعدها! وكان أبي له أخ علمه الموسيقى فكون فرقة موسيقية متواضعة يشارك فيها في الأفراح. وكان يزورنا في هذه الفترة «عم إسماعيل» أنيقا لامع الشعر لزيارة الوالدة قريبته، فكانت تلقاه بالحفاوة المطلوبة ولكن الوالد كان يغار منه على والدتي ويفتعل خناقة مع الوالدة، ثم تتم المصالحة، وكان الوالد لا يحب كثيرا أن يأتي. وكان عم حسين حما شقيقتي النابغة يحب الحديث مع الوالدة، هو كثير الكلام وهي تسمع، وكان حلو الحديث. لم يكن أبي يغار منه لأنه لم يكن متأنقا مثل عم إسماعيل، كان بجلباب فضفاضة، أهتم الأسنان. كلاهما تجاوزا السبعين؛ الوالدة، أما عم حسين فقد جاوز الثمانين. اثنان من كبار السن لا خطر من أن يتحادثا لشغل أوقات الفراغ.
وكان الجيران على أنواع: الصديق، في الظاهر والباطن، والمنافق؛ أي الصديق في الظاهر والعدو في الباطن، والعدو في الظاهر والباطن؛ فالصديق في الظاهر والباطن في الشباك الذي أمامنا، وكانت صالحة على مستوى معين من الجمال، بيضاء هيفاء، قليلة الكلام، وعينان براقتان، وفم ضاحك، وقلب نابض. والصديق في الظاهر والعدو في الباطن من فوقنا، زوجة الفران، التي لديها ابن (صلاح) الذي كان متقدما في شئون المرأة عنا، وهو الذي علمني كيف أعاكس المطلقة التي في السطح، بإطفاء نور السلم وتقبيلها. ولما كان ذلك كثيرا علي، انتظرتها وهي خارجة من المنزل وأنا في الشباك وقذفتها بالماء، وهي حركة عدو لا صديق، فمسحت قدمها بمنديلها وواصلت السير. نظرت إلى أعلى ولسان حالها يقول: هل هكذا يفعل العاشقون؟ وندمت وعرفت أنه ليس كذلك تكون المعاكسة؛ أي الغزل. وبعد كل فشل ترن في أذني أغنية محمد عبد الوهاب «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات»: «وعشق الروح ما لوش آخر، لكن عشق الجسد فان.» فهل هناك عشق صادق أم تعويض عن الفشل؟ وقد كان صلاح غير موفق في دراسته وليس له في العلم رغبة لأنه هو الذي سيرث أباه في الفرن. اختلف مع والده مرة عندما عاتبه أنه ليس ناجحا مثل من تحته، وهم نحن، فسكب على نفسه الجاز فأشعلها، ثم أطفأته الجيران، وبقي تأثير الحريق في وجهه، وذهب إلى قريبة له في مدخل درب الشرفا حتى يتصالح مع والده. وكان الوالد فتوة، يدخل المعارك بالعصا بين الأسر أو الأحياء عندما يبدأ الصراع بين درب الشرفا حيث أسكن والعطوف. وعادة ما تكون الغارة علينا لأنهم هم الأقوى، قوة وعددا، وكما صور نجيب محفوظ في «التوت والنبوت» في الحرافيش. وكانت أخته ليلى جميلة ذات صدر بارز يكاد يقع من بروزه. وتثني ظهرها بدعوى التنظيف والكنس.
وكان في وسط الحارة امرأة فتوة، نفيسة، يخشاها الجميع، ولم أكن أعرف لماذا؟ وهي طويلة بيضاء مثل تحية كاريوكا في فيلم «سمارة» و«عفريت سمارة». في يديها صيغة من اليد إلى الكوع، تجلس على باب المنزل أكثر مما تعيش في شقتها. وكان في آخر العطفة ميدان مغلق، سكانه أكثر رقيا، كان لي فيه أصدقاء لم يعيشوا طويلا في صداقاتهم. وكان جمال إسماعيل في الخديوية الثانوية يأتينا لزيارة فريق التمثيل في خليل أغا الثانوية، وكان أخي أحد أعضائها، يتحدثون عن التمثيل، وكان العزبي يغني، واستمر جمال إسماعيل في التمثيل، وتحولت الهواية إلى مهنة، أما أخي فاستمر في السلك الجامعي، وكان أبو زهرة مع هذا الفريق، وأنا مثله تركت الموسيقى إلى الدراسة.
وكنا ونحن صغار في سن ما قبل المدرسة نلعب في الحواري والشوارع. وكانت اللعبة المفضلة لدينا في ذلك الوقت «العوامة» وتتكون من عمودين من الخشب؛ واحد أفقي نضع عليه رجلا والأخرى تدفع بها على الأرض، والثاني رأسي في آخر خشبة أخرى أصغر مثل (الدركسيون) وعجلتين رولمان بلي؛ الأولى أمامية والثانية خلفية . وإذا كان الطفل ميسور الحال وضع عجلة أخرى، الأولى يمينا، والثانية يسارا. وإذا كان ميسورا أكثر ربط العمودين بمفصلة حديدية تسمح بالتحول يمينا أو يسارا. وكان في سطح المنزل الخاص الذي تحته مخازن السحار جملونات للضوء محملة على عواميد خشبية، فكنت أخلع عمودين وبالتالي يكتمل جسم العوامة. وكنا نلعب بها منذ ساعات الفجر الأولى، والشوارع خالية. وفي صباح باكر قام شيخ جليل ذو ذقن بيضاء وفي يده شيشة من على الكرسي على رصيف المقهى وجرى نحوي وأخذ العوامة ورفعها ثم ضربها على الأرض فتفتتت؛ فقد صلى الفجر وأراد أن يجلس على المقهى في هدوء ويدخن الشيشة، وهؤلاء الأطفال يسببون الصخب له. فمنذ ذلك الوقت كرهت المشايخ ونفاقهم، والدين الذي لا يرحم. وكيف لي أن أصلح العوامة من جديد؟ واللعبة الثانية أن شقتنا كان بها غرفة تطل على سطح مخازن السحار، فإذا كنا ميسورين نلبس قباقيب عجل ونسير في السطح، وفي وسط العام الدراسي نأخذ كتبنا للمذاكرة هناك. وعندما قام الصراع بين الإخوان والثورة في 1954م أخفيت منشورات الإخوان في إحدى مواسير الحائط حتى اكتشفها والدي وأخذها وحرقها خوفا علي، وانتابني حزن كبير.
وكنا نلعب في الحارة السباق جريا بالعرض من شرطي «امسك حرامي»، وهي مسافة لا تتجاوز خمسة أمتار، وكانت بالنسبة لنا كافية للسباق. وفي لعبة أخرى نقذف بصفيحة إلى أعلى ونتلقفها باليدين، ومن ينجح في ذلك يكون أبوه ملكا. فعلت ولم يصبح أبويا ملكا، بل دخلت أنا المستشفى لإجراء جراحة عاجلة في الرقبة ما زال أثرها حتى الآن، في شارع عبد العزيز تحت إدارة وزارة المعارف العمومية وهو الاسم القديم لوزارة التربية والتعليم. أما كرة القدم «الكرة الشراب» فكنت أكرهها ولا أحب لعبها لأنني لم أعلم أين الفن فيها، وأحيانا يكون الدفع فيها هو الأساس، وأين الحارة التي تغلق نفسها للاعبين؟ ومهما كبرت الكرة الشراب فلن تتجاوز قبضة اليد، وليس لدينا مال لشراء كرة النفخ، وكانت الخسائر فيها كثيرة؛ الوقوع على الأرض وجروح الركبتين، وولولة الأم، وقسمها أني لن أنزل لألعب في الحارة من جديد، ولكننا كنا نجعلها تحنث بالقسم. ولعبة أخرى هي نط الحبل، ولكنها كانت للبنات أكثر مما هي للصبية. ولعبة «السيكة» التي كانت ترسم على الأرض بالطباشير الأبيض عدة مسافات، ووضع قطعة من الطوب في كل مسافة، ثم القفز عليها من أجل زحزحة الطوب من خانة إلى أخرى، وتسمى أيضا «النطة». ولم تكن الرياضة أمنية الأطفال في ذلك الوقت.
ثم وقعت كنبة على ساقي فانكسر، وتم تجبيره عند برسوم، طبيب الشعب، في ميدان رمسيس. وكانت والدتي تحملني على كتفيها كالحصان من باب الشعرية إلى ميدان رمسيس لتشتري السمك الطازج من رجل مشهور هناك، في الخلفاوي أو الحلفاوي، كان يقعد «بالمشنة» على الرصيف، وتعود والدتي إلى المنزل، وكنت أستغرب كيف حملت هذا الحمل الثقيل ذهابا وإيابا، وتحمل السمك؟ ولما كبرت عرفت أن ذلك هو إخلاص المرأة المصرية لبيتها.
صفحه نامشخص
وكان والدي يرسلني إلى محل الطرشي بدرب البزازرة أمام جامع البنهاوي لشراء طرشي، وأوصي البائع بمزيد من ماء اللفت، فكنت أذهب بطبق مفتوح وأعود وقد انسكبت منه معظم مياه اللفت على الأرض. وفي المرة الثانية أردت أن أعرف طعم ماء اللفت هذا الذي يصر عليه والدي، فقمت بتذوقه بدلا من انسكابه على الأرض بفعل المشي، فوجدت طعمه لذيذا، وذهبت إلى الوالد وماء اللفت ناقص أيضا. ثم أرسلني الوالد إلى بائع الطرشي لأقول له إني أتيت من طرف عم حنفي، فزاده إلى الثمالة. ولم نكن نعرف في ذلك الوقت أن طبق الشراب في حاجة إلى غطاء لكي يحفظه داخل الإناء.
وأرسلني والدي إلى الكتاب في سن الرابعة لأن الحكومة لا تقبل في المدارس الأولية قبل الخامسة، وكان الكتاب يسمى باسم مدرسة «الشيخ سيد»، ويقع في آخر درب الشرفا، عطفة العبساوي. صالة في الدور الأرضي مفروشة بالحصير، تستخدم للصلاة أيضا. وكانت التكاليف رغيف خبز وطبق مخلل بشرابه أو طبق سلطة. وكان التدريس بطبيعة الحال تحفيظ القرآن، وتعليم بعض قواعد اللغة العربية، وعلامات الإعراب. وكان الجلوس على الأرض تربيعا وحافين. والأطفال بالجلابيب مثل الشيخ بالجبة والقفطان والعمة. وكان صوت الأطفال جماعيا مرتفعا حتى يسمع الحاضر الغائب. وبمجرد أن ينتهي الدرس يهرع الأطفال بالخروج إما للعب أو إلى أهله. وكانت عيون الشيخ تروغ يمينا ويسارا إذا ما أحضرت الأم طفلها بنفسها، وسلمته للشيخ كأمانة فتقترب من الشيخ أكثر فأكثر، ولا ينسى الشيخ أن يبلغ السلام لأم الطفل مع ابنها في نهاية الأسبوع أو بدونها. لم أستسغ هذه الطريقة، ولم أستطع أن أكمل الكتاب، ولا طريقة الشيخ في تحفيظ القرآن، ولا العصا (الخرزانة) التي في يده، ولا صمت الأطفال إلا من صوت ترديد آيات القرآن وراءه، ولا هذه العلاقة بين السيد والعبد؛ علاقة العصا. فقدت اللعب، ولم أجد شيئا أفضل منه؛ حارة مسدودة، وعقل شارد، ولكن القلب ما زال ينبض.
وتروي الوالدة أنني بعد الطهارة كنت كلما أتانا ضيف أرفع الجلباب وأقول له: «أنا اطاهرت.» كنت فرحا بالحدث، وكنت أريد أن تشارك الضيوف فرحتي، وكان رباط الشاش ما زال موجودا، وكنت أسمع من يقول: «عيب يا ولد.» ولا أدري من القائل، ولكن لزقت في ذهني أن هذه المنطقة عيب أعريها، وأنني يجب أن أغطيها، وهكذا بدأت التفرقة بين مناطق الجسد؛ بين «التابو» الذي يجب أن يختبئ، وباقي مناطق الجسد التي يمكن أن تعرى. ورأيت ذلك في غسل الميت فيما بعد، عندما كانوا يخبئون هذه المنطقة بالمنشفة.
ولما بلغت الخامسة في 1940م انتقلت إلى المدرسة الأولية، مدرسة سليمان جاويش، في شارع مواز لدرب الشرفا من ناحية وشارع الحسينيين من ناحية أخرى، ويفتح على باب الفتوح وشارع المعز لدين الله الفاطمي في وسط زقاق ضيق. والمدرسة ذات فناء واسع، وفصولها خشبية «داير داير» الفناء، والإدارة بعد الباب بعدة سلالم يمينا ويسارا. وكان التلاميذ في الفسحة يخرجون من الباب ليشتروا الصميط من صابر الذي وضع بضاعته على صاج أسود كبير على الأرض، والتلاميذ يتسابقون للشراء؛ منهم من يدفع، ومنهم من يتظاهر بالدفع. ولا يستطيع صاحب الصاج في الزحام والصراخ أن يضبط كل شيء، كل يد ممدوة إلى صاجه، وأحيانا أكون واحدا منهم ما دام الأمر سهلا. يكفي صاحب الصاج أن يجمع التعريفات في حجره، وهو كسبان في النهاية. وكانت الغاية من المدرسة ليس التعليم بل الحفاظ على التلاميذ من ألعاب الطريق. فإذا أكمل التلميذ سنوات المدرسة الأولية الخمس فإنه يكون في الطريق إلى المدرسة الأزهرية، وليس الجامعة. وكنت ألبس البدلة والطربوش كي أكون أفنديا، والطربوش كان مغريا كي يكون كرة قدم، فأرجع إلى المنزل والطربوش قد تمزق، فآخذ درسا في أن الطربوش رمز النضج والكبر، فكيف ألعب به كرة في لعبة كرة القدم؟ وفرق بين الطربوش المطبق الذي يظهر من خوصة فتحات القماش الأحمر والطربوش المكوي المستقيم جنباته، وأحيانا تضاف رابطة العنق إلى البدلة حتى تكتمل صورة الأفندي. واكتشفت الأسرة أن عندي قصر نظر لأني لا أرى إلا القريب دون البعيد، وقمت بعمل نظارة طبية. وكانت العدسات في ذلك الوقت من الزجاج، ينكسر بسهولة إذا وقعت النظارة على الأرض. ولما كنت سريعا ما أصطدم بصبي آخر لضعف بصري وأنا أجري فتقع النظارة على الأرض، وينكسر الزجاج، ويصرخ الأهل ليس خوفا من التكاليف ولكن قد يدخل الزجاج في عيني، ولم أكن أدري ما العمل للجمع بين النظارة واللعب جريا واصطداما؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت، والذي دخل فقط عام 1960م كي أتشبه بأفنديته. وكنا نذهب إلى بني سويف في الصيف خوفا من غارات الألمان على القاهرة وأصوات المدافع. ولما توفت ستي نقلناها إلى مقابرنا في الضفة الأخرى للنيل. أما خالتي فدفنت في القاهرة في المقابر التي اشتراها أبي، وساعدناه ماليا، أخي سيد وأنا، ودفن فيها، وعليها اسمه حتى الآن حنفي حسانين أحمد. وبها، بالإضافة إلى خالتي، أمي، وحماتي، وشقيقتي فاطمة وزوجها فريد، وأخي سيد، وعلي النجار من أقرباء أمي، ثم أخيرا زوجة أخي.
ولما كانت المدرسة الأولية طريقا مسدودا إلا نحو مدرسة المعلمين العليا، ولا تؤهل للثانوية والجامعة، انتقلت إلى مدرسة السلحدار الابتدائية في أول شارع المعز لدين الله الفاطمي من ناحية باب الفتوح، وهو جزء من السور القديم، وكانت مملوءة بالآثار الإسلامية في النحت، نلعب بها، ولا ندري ما قيمتها، نختبئ وراء رءوس الرخام، وعواميد القصور. بها فضاء فسيح نلعب فيه، وفيها بدأ التعليم. ومدرسون يعطون مجموعات تقوية بدلا من الدروس الخصوصية بخمسين قرشا في الشهر. وكنت التلميذ الوحيد الذي رفض أولا لأنني لا أحتاج. ثانيا أن الثمن كان خمسين قرشا، وهو كثير على مصاريف الأسرة. أوقفني المدرس ووجهي للحائط عقابا لي، وكأنني المسئول عن ذلك. كنا نخرج كل يوم 11 فبراير كل عام في طوابير للذهاب إلى قصر عابدين، بقيادة مدرس اللغة العربية أو الدين، بالعمة والقفطان، جمعا بين الدين والسياسة بدلا من الجمع بين الدين والعلم والوطن؛ للهتاف بحياة الملك، وهو النشيد الآتي:
للمليك اهتفوا
يا أسود الحمى
للمليك اهتفوا
دائما دائما
للمليك يا بلادي اسعدي
صفحه نامشخص
للمليك كلنا نفتدي
نحن في ظله
قد ملكنا الزمن
نحن من حوله
فدية للوطن
وكان التلاميذ في ذلك الوقت وفي هذه السن المبكرة يشاركون في المظاهرات دون انتظار حتى ما بعد الجامعة لو أمكن الصبر بالرغم من أن للصبر حدودا. وسمعنا أن في الجامعة مظاهرات «لجنة الطلبة والعمال» فخرجنا من المدرسة في مظاهرة ونحن نهتف، وذهبنا إلى باب الشعرية حيث كان يسير الترماي، وأمرنا السائق: «دور يا أسطى.» إلى الجامعة، فذهبنا إلى جامعة القاهرة، وشاركنا في المظاهرات التي فتح عليها القصر الكوبري، كوبري عباس، فسقط الطلبة في النيل واستشهد البعض الآخر برصاص الجنود، كما هو واضح في بداية فيلم «في بيتنا رجل»، قصة إحسان عبد القدوس. وسمعنا باستشهاد عمر شاهين وعبد الحكيم الجراحي. وقد سمي مدرجان بآداب القاهرة على اسميهما قبل أن يتغيرا إلى مجرد أرقام 74، 78 حتى لا يتذكر الطلبة الحركة الوطنية، ومع ذلك النصب التذكاري أمام بوابة جامعة القاهرة الرئيسية، وفي آخر كوبري الجامعة تمثال نهضة مصر. وأخفيت ذلك عن الأسرة، وعدت من نفس الطريق إلى المنزل وكأنني عائد من المدرسة. وكانت هذه أول مرة يكون لي فيها نشاط سياسي في هذه السن المبكرة. وقضيت في مدرسة السلحدار الابتدائية ثلاث سنوات (1945-1948م).
وفي عام 1948م انتقلت إلى مدرسة خليل أغا الثانوية بشارع الجيش، وكان بها أيضا بعد الظهر «مدرسة تحسين الخطوط الملكية» في البدروم. ويلاحظ أن أسماء المدارس كانت كلها تركية أو مملوكية مثل: سليمان جاويش، السلحدار، خليل أغا. وفيها ازدادت نسبة التعليم والنضج. وكان بها قسط من الرياضة البدنية، واشتركت في «الجمباز» وأخي سيد في المصارعة، كما اشتركت في فرقة الرسم، وكنت أهوى رسم «البورتريه» صور الموسيقيين، مثل بيتهوفن وشوبان، أو الشعراء، مثل شوقي وحافظ. وكانت طريقتي هي تقسيم الصورة الصغيرة إلى مربعات أصغر، ثم أبدأ الرسم بتكبير هذه المربعات عشر مرات تقريبا، ثم أبدأ برسم كل مربع حتى تكتمل الصورة على فرخ ورق كبير. وقد علقت صور بيتهوفن وشوبان وشوقي وحافظ على حائط غرفتي أنا وأخي سيد، التي كانت تطل على السطح. وعندما غادرت إلى فرنسا في عام 1956م لم أعرف ماذا أفعل بهذه الصور؟ أتركها معلقة على الحائط أم أخلعها وأحتفظ بها في مكان ما؟ السطح وفوق أحد الجملونات. وفعلت، وأفسدتها مثل كل البلي. ويا ليتني احتفظت بها في مكان أمين كجزء من الذكريات المبكرة والجلوس على المنضدة هذا الوقت الطويل كما فعلت ذلك فيما بعد من أجل الفلسفة. كان همي أن آخذ أوراق الأفكار المتناثرة التي أدون فيها أحلامي بمجرد الاستيقاظ! وأخذتها معي إلى فرنسا عن الفكر والواقع، وتركتها في حقيبة في غرفة الحقائب في بيت الطلبة الألمان بالمدينة الجامعية بباريس. كما اشتركت في فرقة الموسيقى وأخي في التمثيل مع أبو زهرة. أما جمال إسماعيل فقد كان في المدرسة الخديوية، وكانت فرقتا التمثيل بالمدرستين تلتقيان لتكوين فرقة مشتركة. وتعلمت النوتة والصولفينج. وكنت أنا ورفيق العمر محمد وهبي عبد العزيز، الذي أصبح مستشارا في جامعة الدول العربية، نذهب إلى معهد شفيق للموسيقى في عابدين والملاصق لسور القصر، وكان عم وهبي - وهو عازف كمان في فرقة أم كلثوم - يدفع له المصاريف، وأنا لا أستطيع أن أدفع شيئا ولو خمسين قرشا في الشهر. وهناك تعرفنا على العلمي عازف الكمان، ثم قدم لنا عم وهبي في معهد الموسيقى العربية في شارع رمسيس ببنائه العربي، وكان هناك امتحان قبول في مادتي العزف والصولفينج، وأوصى عم وهبي المدرس الأرمني على وهبي فنجح، وأنا نجحت في العزف ولكني لم أستطع تقليد الأصوات؛ فقد كنت أسمع جيدا نغمة البيانو ولكني لا أستطيع تقليدها، وذهبت إلى علي إسماعيل ليوصي علي، ولم أدر إذا كان فعل أم لا. حزنت انفعالا، وقد تكون هذه التجربة إحدى علامات الاتجاه كلية نحو الفلسفة. وقد تكرر هذا الخيار بين الموسيقى والفلسفة وأنا في فرنسا بتجربة مرضية، إرهاق سنتين بدراسة كليهما واحتمال الإصابة بالسل في الرئتين. وتذكرت
ألا تعدلوا . وقد حاولت العدل ولكني لم أستطع. وتذكرت تجارب أخرى دفعتني إلى الفلسفة طبقا للمثل الشعبي: «أبو بالين كداب» وكان معنا أيضا المغني الأول العزبي الذي غنى في فرحي، وترددت هل أعطيه أجرا أم لا؟ وإذا أعطيت، خمسة أم ثلاثة جنيهات؟ وكان لدينا نظام الثقافة بعد أربع سنوات؛ حيث لا تخصص، والتوجيهية بعد خمس سنوات؛ حيث يختار الطالب بين ثلاث شعب: علمي، أو رياضة، أو فلسفة. لم أكن أفضل العلم؛ فهو دراسة للطبيعة. ويبدو أن اتجاهي كان دراسة الإنسان دون أن أعرف. ولما كان أدبي به شعبتان أدبي رياضة وأدبي فلسفة، وكان العقل أحد ملكات الإنسان، فاخترت أدبي رياضة. ودخل أستاذ الرياضيات، وكان أعرج عبوسا، وملأ السبورة السوداء بمعادلات بالطباشير الأبيض لم أفهم منها شيئا، فحولت في الحصة الثانية إلى أدبي فلسفة، ثم صرح المدرس بعد ذلك أنه قصد أن «يعقد» الطلبة؛ فمن كان هشا ترك، ومن كان صلبا بقي، ثم شرح هذه المعادلات التي هربتني منه بعد ذلك معادلة معادلة
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . وذهبت إلى أدبي واستمعت لأول مرة إلى الشعر العربي فتذوقته. بدأت أتذوق الآداب، القصة والرواية والشعر. وكان أستاذ الأدب يتكلم من قلبه، يريد أن يسمعه الطلبة ولا يكتبون وراءه شيئا. وكان أستاذ الفلسفة عقلانيا، يشرح تاريخ الفلسفة، ويعيرنا كتب أفلاطون وأرسطو، والبعض منا لم يشأ أن يرجع كتب الأستاذ بعد التخرج، فمنع تسليم شهادته حتى يرجع الكتب، وهو ما حدث بالفعل. وكان مدرس التاريخ «أبانوب» ضخم الجثة ولكنه حلو الحديث، يبدأ الدرس بآخر نكتة، يضحك هو أولا قبل التلاميذ حتى يضحكوا ويأخذون عليه. كنا نحبه إنسانيا واجتماعيا، ولكن التاريخ لديه رصد للحوادث، وهو ما لا تشتهيه النفس؛ لأنه خال من النزعة الإنسانية. والعقل والفن - أي الفلسفة والفن - عوضاني حنيني للموسيقى، في حين أن هيجل هو الذي اعتبر الأوبرا أعلى الفنون لجمعها بين الشعر والموسيقى. وفي هذه الأيام أعلن عن مسابقة التوجيهية في الشعب الثلاثة ، ومن الأدبي الفلسفة، فدخلت المسابقة وكان ترتيبي الأول على القطر مما شجعني على دخول قسم الفلسفة بآداب القاهرة بالجامعة. وأقامت مدرسة خليل أغا الثانوية حفلا لتكريمي، دعي فيه أستاذ الفلسفة عثمان أمين، وكنت أراه بوجهه الضاحك الأشقر، وكان هو الذي وضع سؤال المسابقة عن مقارنة الشك بين ديكارت والغزالي. وأحضر مدرس الفلسفة جاتوه وحلوى للمناسبة، وقمت بعزف قطعة من الموسيقى الشرقية أمام الجميع، وسارت شائعات بأنني أخذت ما تبقى من الحلوى في علبة الكمان! ولا أدري كيف تدخل الحلوى داخل جراب الكمان وهي موجودة! ووضع اسمي في لوحة الشرف مع أوائل الطلاب والناجحين في مسابقة العلوم والرياضيات على مدخل المدرسة بجوار حجرة الناظر. وأخذت مكافأة عشرين جنيها وزعتها، خمسا لوالدي، وخمسا لإخوتي، واشتريت كمانا بخمسة جنيهات، وساعة بخمسة أخرى. وكانت الجامعة ما زالت بمصاريف إلا للمتفوقين كما ثبت من مسابقة التوجيهية ثم من امتحان الثانوية العامة الذي حصلت فيه على 77,5٪. ثم قامت الثورة في يوليو 1952م، وقررت أن يكون التعليم الجامعي مجانا مثل التعليم العام الذي قرره طه حسين وزيرا وفديا للتعليم بعبارته الشهيرة: «التعليم كالماء والهواء.»
واكتشافي المرأة كان تدريجيا. البداية بصالحة أخرى في الشباك الذي أمامنا بجمالها وبياضها وكانت لها أولاد، وأكبر مني سنا، لكنه كان حب المراهقة. أما التجربة التي هزتني هي تجربة جارتي (الشابة) نعيمة بنت الكبابجي الذي على ناصية الشارع البنهاوي ودرب الشرفا . ولم يكن جزارا باللحم بل كان بائع كبدة يعدها في المنزل ويقليها في الدكان فتجلب الزبائن. كانت الشقة السكنية بجوارنا، وقلي الكبدة في الحوش فتملأ المنزل كله، وكانت رائحة الثوم تسيل اللعاب على نقيض الكبدة الإسكندراني المطبوخة والتي لا يمكن التمييز فيها بين المطبوخ والنيئ؛ فكلاهما بدمه. كانت تساعد أباها مع أمها في إعداد الكبدة، وكانت الأم تقوم بكل شيء، وتكون الشابة بمفردها في السكن، وكنت أنا لا أذهب إلى المدرسة لإعدادي مسابقة التوجيهية. وكان هناك شباك في الحائط الفاصل أصعد إليه لأناجيها. لا أدري إن كنت أحبها أم أحب صفاتها: البياض، الطول ، الحيوية، الابتسامة، وربما لا أدري ما هو الحب إلا إحساس باطني يدفع الإنسان إلى فعل لا إرادي بصرف النظر عن الخطأ والصواب وبصرف النظر عن الهدف والمستقبل، يرانا الطالع والنازل على السلم ونحن نتناجى، والشباك الآخر الرئيسي بجوار شباكها نتكلم من خلالهما، ونحن مكشوفان للجار في الحارة ولأبي صلاح صاحب الفرن الذي فوقنا، وفرنه أسفلنا على ناصية درب الشرفا وعطفة العبساوي؛ ففضحنا أنفسنا بأنفسنا إلى أن جاء يوم زواجها وانتقالها إلى بيت «العدل»، غنت لي أنها تتركني على عينها. وكان الجيران يحذرونها من «يد الهون» ولم أفهم الرمز وقتها كما يحرم السلفيون الآن، بعضهم وليس كلهم، استعمال المنقار لتكوير الكوسة والبطاطس والباذنجان. وكانت فترة حزن شديد، رجف القلب آخر يوم لها في المنزل. خرجت معها مرة واحدة، هي بالملاية اللف وأنا بالبدلة والكرافتة يسير كل منا بجوار الآخر، ووجهها في الأرض، وأنا أسمع تعليقات المارة: «مش كده يا أستاذ!» وذهبنا إلى المصوراتي وأخذنا صورة معا، وكان هذا أقصى ما يستطيع الحبيبان الغشم أن يفعلاه في الأحياء الشعبية. عرف ذلك الوالد ومنعني، وقال إنه يخشى على أخواتي مني، وشتان بين الموقفين، الأخت والحبيبة، عشق الروح وعش الجسد. كنت أحب الجمال والحيوية والظرف؛ أي القدرة على النكات مع المرأة، وأنا فنان، رسام وموسيقي. أرسمها وألحن لها، ولو كنت شاعرا لغنيتها في قصيدة حسن ونعيمة. كان مصيري هو مصير نجيب الريحاني ومصيرها مصير أنور وجدي في «غزل البنات».
صفحه نامشخص
وكنت قد تعلمت وأنا في الثانية الثانوية بعد البلوغ وبطريقة تلقائية عندما احتك القضيب بفخذي فقذف، وبلل البنطلون، وشعرت بلذة فائقة. وما جاء مصادفة تحول إلى فعل قصدي طوال مرحلة الثانوية، ثم قرأت بعد ذلك عن عيوبها، وتوقف بعد مغادرتي إلى فرنسا بأربع سنوات عام 1961م عندما أدركت أن العمل الطبيعي أفضل من العمل الصناعي؛ فالعمل الطبيعي به أنس وضحك وتعرف على الآخر، في حين أن العمل الاصطناعي خوف ووحدة وتأنيب ضمير.
وكان العمل السياسي ما زال مستمرا؛ فقد كانت الأربعينيات هي الثورة الوطنية ضد القصر والإنجليز. وكان الأستاذ علاء مدرس الرياضة البدنية في حيرة من أمره مع الطلاب في المظاهرة أم مع النظام المدرسي والدفاع عنه؟ كان في مصر في ذلك الوقت أربعة تيارات رئيسية: الأول، الوفد وهو التيار الرئيسي الأول، وكان يقود المظاهرات. وكان اليسار الوفدي قد بدأ في الظهور وبه مصطفى موسى الذي كان يسير في شوارع باب الشعرية يسلم على الناس في انتخابات عام 1951م، وهذا ما فعله معي وأنا سائر على الرصيف، وتساءلت: هل لي هذه الأهمية الكبيرة؟ وهو ما يحدث حتى الآن من المرشحين بالإعلان عن ذلك تأييدا لهم. الثاني، الإخوان المسلمون بشعار «الله أكبر ولله الحمد». والثالث، مصر الفتاة وكان متهما بإقصاء خصومه السياسيين عن الحكم. والرابع «حدتو» وهو اختصار للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني شبه الماركسي الذي كانت تحية كاريوكا عضوا فيه. وكان الطلبة لا يحبون الوفد لأنه حزب القصور والباشوات والتخلي عن ثورة 1919م وحادثة 4 فبراير، ولا يقدرون قيمة أحمد حسين ومصر الفتاة، ويخافون العنف والأعمال السرية، وكانوا تحت الفكرة الشائعة بأن الماركسية مادية وإلحاد، ولا تتفق مع المجتمع المصري، فلم يبق لديهم إلا الإخوان المسلمون، فانضموا تحت لوائهم، واستمعوا لنداءاتهم في المظاهرات. وفي باب الشعرية كان هناك سيد جلال مرشحا في انتخابات 1951م، بنى مستشفى باسمه، ولم يكن وفديا بل كان سعديا - على ما أذكر - مناهضا للوفد، فكنت في صراع أكون مع من ضد من؟ ولماذا عارض السعديون الوفد؟ هل صراع على السلطة؟ وما عيب يسار الوفد؟ ولم تكن فكرة الائتلاف قد بزغت بعد. وهنا ظهر الإخوان المسلمون وكأنهم المظلة الوحيدة للعمل السياسي دون علم بالخبايا والصراعات الداخلية والتنظيم السري ومقتل السيد فايز، وكنا نسمع عنه أنه كان يمثل يسار الإخوان أو على الأقل المعارضة العاقلة بوضع قنبلة على نافذته.
وفي عام 1951م ونحن على مشارف الإخوان بدأت حرب الفدائيين في قناة السويس، وتعرف الإخوان على كمال الدين رفعت الذي كان يقود حرب الفدائيين، وكان من الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة 1952م، وكان الشهداء ينقلون من الإسماعيلية للصلاة عليهم في جامع الكخية بميدان الأوبرا، وكان إخوان مدرسة خليل أغا يقودون المسيرة بلباسهم الكاكي والعصا وراء ظهورهم تشبيها بالسلاح. وكنت أسمع الناس يهتفون على الجانبين «حماكم الله»، «حرسكم الله»، فكان ذلك امتدادا للتعاون بين الإخوان والثورة منذ 1948م في فلسطين؛ فليست العلاقة بين الاثنين صفحة سوداء دائما. وكان عمري وقتئذ ستة عشر عاما، وكان المقاتلون أنفسهم لا يظهرون، ولم يكن الضباط الأحرار معروفين في ذلك الوقت. ونمت في روح الوطنية استمرارا للاشتراك - وأنا بمدرسة السلحدار الابتدائية - في مظاهرات جامعة القاهرة مع لجنة الطلبة والعمال عام 1946م. وفي يناير 1951م وقع حريق القاهرة، ولم أكن أفهم معنى الحدث، لماذا؟ وما الهدف؟ هل ثورة أم فوضى كما يقال الآن؟ هل نضال وطني أم «انتفاضة حرامية» كما وصفت - فيما بعد بربع قرن - انتفاضة يناير 1977م ضد غلاء الأسعار؟ هل لإقالة حكومة الوفد التي تناضل ضد القصر والإنجليز، من تدبير القصر والمعارضة؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت كي أراها، ولكني نزلت شارع الجيش حتى ميدان الأوبرا سيرا على الأقدام؛ فقد تعطلت المواصلات، ورأيت فندق الكونتننتال وهو يحترق، والناس تجري، معظمهم بجلابيب، وتساءلت: شعب أم لصوص؟ مع الشعب أم ضده؟ ولم أكن أفهم في التحليل السياسي كما يحدث الآن.
وفي صيف 1952م في 23 يوليو انقلبت الموازين، واندلعت الثورة المصرية، وكنا في بداية الصيف. وظهر لنا محمد نجيب زعيما وطنيا مصريا سودانيا، وحوله مجموعة من الضباط الأحرار، فانتهت الحيرة بين التيارات السياسية الأربعة، وانضم الجميع تقريبا إلى الثورة خاصة وأن بياناتها الأولى تتحدث عن القضاء على الاستعمار والإقطاع والملكية والتحقيق في اغتيال حسن البنا، وإعداد جيش قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، فانضم الجميع إليها. وكان خطابه الأخير يتحدث عن وحدة الأمة الإسلامية وليس فقط وحدة مصر والسودان. وكان الإخوان مع الثورة في البداية لأنها أبقت عليهم، ولم تحلهم كما حلت باقي الأحزاب خاصة الوفد حتى لا يكون خصما للثورة المباركة. وجاء نجيب إلى جامعة القاهرة، وألقى خطابا دعا فيه إلى الوحدة الإسلامية الجامعة، فضجت القاعة بالتهليل والتكبير. وكان بجواره أو وراءه قليلا ضابط واضع يديه على صدره، وهو يرى هذا المنظر ولا يشارك في الإعجاب أو التصفيق أو يحيي الطلاب، عرفنا بعده أنه عبد الناصر الذي استطاع تصفية معارضيه من الضباط الأحرار، بما فيهم الإخوان، مع أنه كان قد جعل رشاد مهنا، وهو من الإخوان، وصيا على العرش. وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة اثني عشر، نصفهم من الإخوان مثل كمال الدين حسين الذي عين وزيرا للتربية والتعليم وصاحب شعار «مدرستان في يوم واحد»، ثم استقال عندما وجد عبد الناصر ينفرد بالحكم. وجاءت مأساة 1954م، واتهام الإخوان بمحاولة اغتيال عبد الناصر بعد أن أطلق أحد أعضائهم في شعبة إمبابة النار عليه وهو يخطب في المنشية متطوعا بنفسه دون أخذ أمر مباشر من مرشد الجماعة حسن الهضيبي والذي كان ضد استعمال العنف، فحلت الجماعة، وفك التنظيم السري لعبد الرحمن السندي، وقبض على معظم قيادات الإخوان بمن فيهم المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد وسيد قطب، وحوكموا أمام محكمة الثورة، وهي محكمة عسكرية، إما بالإعدام مثل المفكر القانوني المستشار عبد القادر عودة صاحب «التشريع الجنائي الإسلامي»، وكانت كل جريمته أنه استقبل المتظاهرين في ميدان عابدين، ورفع قميصين ملطخين بالدماء تنديدا بهذا الفعل الوحشي. وكان حسن الشافعي أحد أعضائها وبرياسة جمال سالم، وما زال الشافعي يتهرب من هذه الذكريات الأليمة. وفي السنة الثانية شاركت في مظاهرات 1954م بعد أن كان عبد الناصر قد وقع مع بريطانيا اتفاقية الجلاء التي تخرج بريطانيا طبقا لها من قاعدة التل الكبير ومن منطقة القناة، وتجلي معسكرها الأحمر على ضفاف النيل مكان الجامعة العربية حاليا، ولكنها تسمح بالعودة إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى»، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف. وما زلت أذكر الشهيد عبد القادر عودة وهو يهز قميصا ملطخا بالدماء من شرفة عابدين قائلا إن هذه هي أخلاقهم. كنا نهتف في المظاهرات: «يا جمال للصبر حدود.» وأتذكر أغنية أم كلثوم «للصبر حدود»، وفيما بعد قرأت آية
فما أصبرهم على النار . وكان هذا هو أحد الدوافع التي جعلتني أتحدث عن ذلك في «من الفناء إلى البقاء». وقد اختفيت في فندق سيمراميس الذي كان يطل على ميدان التحرير الذي كان قبل الثورة يسمى ميدان الإسماعيلية نسبة إلى الخديوي إسماعيل في القاهرة الخديوية، وسط البلد. وفرحنا بالثورة وبقوانين الإصلاح الزراعي، والقضاء على الإقطاع، وتحرير الفلاح، وإعطاء كل فلاح خمسة فدادين ملكا له والقضاء على الملكيات الكبيرة وأولها أراضي القصر وأبعديات الباشوات التي كان يسير فيها القطار بالساعات، مجتمع النصف في المائة. وكان القصد ليس فقط تميلك الفلاح الأرض بل تحرير الفلاح من عبوديته للباشا والملك عن طريق ملكية الأرض. فإذا قيل لقد تفتت الملكية وأصبح من الصعب «ميكنة» الزراعة قيل إن هناك الجمعيات التعاونية التي نشأت من أجل ذلك. وقررنا أنا وبعض الأصدقاء: عبد المحسن حسين عبد الله الذي أصبح طبيب عظام وزوجا لأختي علية، محمد وهبي عبد العزيز صديق العمر من الجامعة العربية، العطار أستاذ الرياضة البدنية، فيما بعد، الذهاب من القاهرة إلى الإسكندرية سيرا على الأقدام، نرى الريف قاع المجتمع، والفلاح عماده. واتفقنا على أن المبيت في مقار هيئة التحرير، التنظيم السياسي الجديد للثورة والذي طلب عبد الناصر من سيد قطب أن يرأسه فرفض. وأخذ كل منا حقيبة صغيرة فوق ظهره، وكانت أول محطة بنها، وسألنا عن مقر هيئة التحرير، فأشاروا إلى بدروم عليه يافطة «هيئة التحرير » تحوط به المياه الطافحة، حتى جاء رجل، وحسب أننا من الحكومة فارتعد، وطمأناه أننا لسنا من الحكومة بل طالبو معرفة بأحوال الريف حبا في الثورة، ونمنا الليلة على الأرض، ولم نجد أحدا نحادثه أو نسأله عن شعور الفلاحين بعد الثورة. وفي الصباح استأنفنا السير حتى طنطا، وسألنا نفس الشيء: أين مقر هيئة التحرير؟ فأشاروا علينا بدور أول في مبنى فارغ ليس به أحد إلا اليافطة. واستأنفنا السير في اليوم الثالث من طنطا إلى كفر الزيات، وهنا أشاروا علينا بمصنع زيت وصاحبه بلا يافطة. ولما ظن أننا من الثوار انتابه الفزع والفرح في آن واحد، وأمر بالكباب، وكان يسمى ناشد، وطلب منا أن نستريح ليلة لديه بدلا من الاستئناف إلى كفر الدوار ثم إلى دمنهور، فوافقنا لإجهادنا، وقلنا له إننا سنخطر القيادة في مصر بحسن الاستقبال حتى تتأكد رياسته لهيئة التحرير، ثم صعوده بعد ذلك إلى أعلى سياسيا. واستأنفنا السير إلى دمنهور، وهناك أحسسنا بالتعب بالفعل، وبدأت أقدامنا تلتهب، ومع ذلك وصلنا إلى الإسكندرية، وذهبنا إلى هيئة التحرير في ميدان المنشية، فوجدنا أخا عبد الحكيم عامر، فرحب بنا، وتركنا ننام في شرفة ميدان المنشية الذي تمت فيه محاولة اغتيال عبد الناصر. وبعد الاستراحة عدة أيام، أخذنا القطار عائدين إلى القاهرة، وكانت ذكرى علاقة التنظيم السياسي الذي لا وجود له بالشعب الذي لا يعرف عن هيئة التحرير شيئا، والدولة التي لا تعبأ بشيء. وعلمنا في هذه السن المبكرة أنه لا يمكن بناء تنظيم سياسي من فوق على عكس الإخوان أو حتى قيام نخبة عسكرية بالثورة.
وكنت أذهب إلى شعبة الإخوان بباب الشعرية مساء بين الحين والآخر، ثم تعلمت كيف أذهب إلى المركز العام بالحلمية الذي أصبح الآن قسم الدرب الأحمر. وهناك تعرفت على سيد قطب وسألته أنني أريد أن أحول الإسلام إلى منهاج إسلامي عام، فنصحني بقراءة أبا الأعلى المودودي. وتعرفت أيضا على علال الفاسي الزعيم والمفكر المغربي، وسمعته بلهجته المغربية، ورأيته بلباسه المغربي. وكانت المحاضرة الأسبوعية كل يوم ثلاثاء، وكنت صغيرا ، وكانوا كبارا. وكنت وأنا ذاهب إلى الشعبة بباب الشعرية أحمل كماني معي فيقول لي أحد الإخوة: ألا تعلم يا أخ حسن أن الموسيقى حرام؟ كيف حرام وهناك موسيقى القرآن؟ وقد استقبل الأنصار المهاجرين بالدفوف والغناء كما حفظنا ونحن صغار، وكما ينشد في الأفلام المصرية:
طلع البدر علينا
من ثنايات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
صفحه نامشخص
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
مرحبا يا خير داع
ولما قامت ثورة مصدق عام 1953م ضد الشاه وأمريكا لتأميم البترول، وهرب الشاه، اعترض الإخوان في شعبة باب الشعرية وهاجموا مصدق، ووصفوه بأنه شيوعي، وأيدوا آية الله الكاشاني صديق الشاه، وعلقوا على جريدة الحائط الهجوم على مصدق ومدح الكاشاني، فغضبت وطلبت الكلمة بأن هذا اتجاه يميني، وأن الإسلام مع التأميم وضد حكم الملوك، وأن الأفضل جعل الشعار كتابا وقلمين وليس مصحفا وسيفين؛ فالمصحف والسيفان دعوة للقتال، والكتاب والقلمان دعوة للعلم.
الفصل الثاني
التعليم الجامعي (1952-1956م)
وأعلن عن مجانية التعليم في الجامعة، فحصلت على المجانية في الجامعة لثلاثة أسباب: الأول، مجموعي في التوجيهية كان 77,5٪ أي فوق السبعين مما يؤهل للجامعة. والثاني، أنني كنت الأول على القطر في مسابقة الفلسفة التي تؤهل للمجانية. والثالث، قرار الثورة بمجانية التعليم الجامعي أسوة بالتعليم العام. ولم يكن هناك تردد في الالتحاق بكلية الآداب، قسم الفلسفة، وكان قسما واحدا مع علم النفس والاجتماع في السنتين الأولى والثانية، ثم انفصل الاجتماع عن الفلسفة بعد السنة الأولى، ثم انفصل علم النفس عن الفلسفة ونحن في السنة الثالثة. وبقي كلا العلمين كمقررين دراسيين بحيث يدرس علم الاجتماع في السنة الثانية وعلم النفس في السنة الرابعة. ولم يخبرني أحد من أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس أو حتى الفلسفة حتى انفصال الفلسفة في السنة الثالثة عن القسمين الآخرين، ربما لأن القرار لم يكن قد اتخذ بعد. وهنا استرعي انتباهي عثمان أمين الذي كان يدرس الفلسفة الحديثة خاصة ديكارت، وكانت طريقته التعليق على ديكارت وتطبيقه على الواقع العربي المعاصر، وكان يقول «بين قوسين» كان ضاحكا مبتسما، يركز على «مقال في المنهج» و«التأملات في الفلسفة الأولى»، وفي الفصل الدراسي الثاني كانط. وكان يطيل في شرح معنى كلمة ترنسندنتال والفلسفة الترنسندنتالية، والتقابل بين البعدي والقبلي. وفي «نقد العقل العملي» كان يركز على الواجب والأخلاق عند كانط، وكناقد فني في «نقد ملكة الحكم». في السنة الثانية في علم الأخلاق، ويقوم بتدريسه توفيق الطويل الأستاذ الثاني الذي استرعى الانتباه من على المنصة، بينما عثمان أمين كان يقف في أسفلها في منتصف القاعة، يدرس واقفا وسائرا على الأقدام، ينقد الأخلاق الوضعية بجميع أنواعها، ويدافع عن الأخلاق المثالية بجميع أنواعها وفي مقدمتها كانط. وكان يسمح بالاختلاف في الرأي وتبادل وجهات النظر، وإذا قرر كتابات في الفلسفة الخلقية فإنه يطلب قراءته ومناقشته بابا بابا أو فصلا فصلا في المدرج.
وكانت الجامعة بالنسبة لي عالما جديدا، سواء من حيث العلاقات الاجتماعية المفتوحة أو من حيث التعليم الذي كان يتراوح بين الإملاء والكتب المقررة من ناحية والتفكير الحر دون إملاء أو تقرير كتاب من ناحية أخرى، وهم غالبا من الشبان، الجيل الجديد؛ مثل أستاذ الاجتماع الذي كان يرتجل ويناقش، وكان ماركسيا يسمى شريف، وتم تطهيره من الجامعة مثل محمود أمين العالم، ولويس عوض، وعبد العظيم أنيس، أو الإخوان مثل توفيق الشاوي من الحقوق في أزمة مارس 1954م. وكان يدرس واقفا أيضا زكريا إبراهيم الذي عاد من فرنسا عام 1955م، وفي صوته بحة أو انسداد سرعان ما ينفتح. وكان السؤال الباطني الذي يدور في نفسي: وما عيب الجمع بين العلم والأيديولوجيا، يسارية أو إسلامية؟ وهل ينفع تدريس العلوم الإنسانية كالاجتماع والقانون والفلسفة دون أيديولوجيا؟ وما العيب إذا ما أدت الأيديولوجيا إلى العمل السياسي؟ وما العيب في أن يسمع الطالب أيديولوجيات مختلفة ويفكر فيها بدلا من أن يحفظ كتابا مقررا؟
في السنة الأولى كنا في مدرج 74 أو 78، مدرج كبير متدرج مهيب جدير بالجامعة، ومنصة طويلة عريضة تضطر الأستاذ المفكر أن يقوم وراءها، ويتمشى وهو يلقي الدرس. أما الأستاذ الذي يملي فيكفيه الجلوس ؛ فضعف الجسد من ضعف العقل. وكانت التقاليد لا تسمح بالاختلاط الكلي؛ فالطالبات في ناحية، والطلبة في ناحية أخرى، ومن يخل بالتقاليد ينظر إليه على أنه يتحرش بالبنات أو إليها أنها تتحرش بالصبيان. وكان أستاذ الاجتماع أحمد الخشاب شابا أبيض قصيرا عازبا يملي ببطء، ويكتب الطلبة والطالبات وراءه، والكل سعيد. وكان ينظر بعين الإعجاب إلى فتاة بيضاء جميلة اسمها إيفون، باستثناء بعض المراسلات العلنية، حادثها مرة علنا؛ قال لها بحنان بالغ: «اسكتي يا إيفون.» فردت عليه بدلال: «مش أنا يا أستاذ.» بالنسبة لي كانت حبا بلا روح في حين أن مواصفاتها كانت تجمع بين الروح والجسد معا وهي الصفات التي أحبها. وتساءلت: ماذا كان جمال حواء؟ وهل أغرم بها آدم وهي الوحيدة الموجودة على الساحة ولم يقارن بينها وبين غيرها حتى يختارها، أم إنها كانت مفروضة عليه؟ وكانت هناك فتاة فلسطينية طويلة بيضاء، بنت عم الأولى، ذات وجه مشرق وصدر بارز، ولها ضحكة أنثوية لدرجة أنني تساءلت فيما بعد: هل أحببت الذات أم الصفات كما تساءل علماء الكلام والصوفية بالنسبة للذات الإلهية؟ ولما سألت عرفت أنها مسيحية من فلسطين، فأهديتها في عيد ميلاد السيد المسيح نسخة من كتاب «عبقرية المسيح» للعقاد مع إهداء فأرجعته لي مع صديق كنت أجلس معه مع قطع مربع الورقة الأولى التي عليها الإهداء، فحزنت؛ فإلى هذا الحد كان البعد ولا أقول الكراهية. حاولت فلم أفلح، كانت متكبرة، تعرف قيمة نفسها، شغلت قلبي، ولكن كيف الوصول إليها وكأنها كانت تهرب كلما اقتربت. وكان يأتيها قريب أو خطيب من كلية الحقوق ليصاحبها؛ فقلبها مشغول، فتدب الغيرة منه، كانت أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام. وبعد أن انفصل القسمان، الفلسفة والاجتماع، في السنة الثانية لم أعد أراها كثيرا، وكانت كلما رأتني فرت، لا أدري ما السبب: هل كراهية لي، أم لا تعرفني، أم لأنها مخطوبة لزميلها أو قريبها أو حبيبها الحقوقي، أم للتقاليد الاجتماعية؟ وفي السنة الرابعة علمت أنها النهاية؛ فستغادر إلى فلسطين وتتزوج هناك، وأغادر أنا إلى فرنسا ، وتنتهي قصة هذا الحب الصامت. وبعد خمسين عاما كنت بعمان وعرفت إحدى صديقاتي الأردنيات أنها هنا، فدعتها إلى المقهى، أتت لحظات في المقهى ومعها زوجها، مع أني كنت أعد قصة حياتي منذ أن افترقنا؛ فلا خوف مني. وهربت كالعادة وهي تنظر إلى الوراء بأن هذا موضوع انتهى، وأنا أنظر إلى الأمام بأن حب وعشق الروح لا ينتهي كما غنى عبد الوهاب في غزل البنات: «وحب الروح ما لوش آخر لكن عشق الجسد فان.» ثم انتهى كل شيء في زحمة الحياة التي هي أوسع كثيرا من دائرة الحب كما تصور الأفلام المصرية.
صفحه نامشخص
وكانت مجموعات الإخوان تقعد في حلقات على الحشيش الأخضر في حرم الجامعة قبل أن تحاط بسياج حديدي كما هو الحال الآن، يتدارسون، وكان يمر عليهم حسن دوح خطيب الجامعة المفوه، ويلقي التحية، وبالمثل كان عبد المنعم أبو الفتوح الذي أصبح مرشحا رئاسيا منذ سنين. وفي يوم داخل الحرم الجامعي انقلبت سيارة مشتعلة نارا، ولا أدري إذا كانت سيارة الأمن الذي كان لا يسمح له بدخول حرم الجامعة أو سيارة الإخوان بها نواب صفوي زعيم حركة فدائيان إسلام الإيرانية، وهو تنظيم ثوري سابق بإيران على الثورة الإيرانية في فبراير 1979م، فأدركت منذ البداية العلاقة بين الإخوان والعنف كما رأيت، وليس كما سمعت، فتراجعت قليلا لأن حرق عربة داخل حرم الجامعة لا يدخل ضمن النشاط الفكري للحرم. وقبض على كل زملائي الإخوان بالجامعة؛ منهم فلسطيني في قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، وقضي على مستقبله بعد أن أخذ مؤبدا لاشتراكه في المظاهرة، ولم أره حتى الآن، ولا أدري إن كان حيا أو ميتا. وتساءلت: لماذا لم يقبض علي أنا أيضا؟ صحيح أنني لم أكن نشطا إلى هذا الحد، واخترت الإخوان اختيارا فكريا أكثر منه سياسيا. كان هناك ضابطان بالكلية: الأول مبتسم أبيض البشرة، طويل ونحيف نسبيا يصادق الطلاب ليأخذ منهم المعلومات عن زملائهم بدافع الصداقة والحماية. والثاني أسمر عبوس الوجه، مكفهر، مملوء وقصير يخبرنا الأول عنه أنه خطر على أمن الطلاب، ومن الأفضل أن يكونوا ضده، وهو يساعدهم في القبض عليهم. وأخبرني الأول أنهم بحثوا عني، واقتفوا أثري، وتتبعوا حركاتي وسكناتي، فوجدوني إخوانيا مسالما، ولست خطرا، وأن جمع التبرعات لأسر الشهداء والمعتقلين ليس عملا مضادا لأمن الدولة بل إنه يخفف عنهم هذا العبء. هذه رواية. وافتراض آخر أنهم لم يقبضوا علي لأن أخي من الضباط الاحتياط؛ ومن أجل بسالته «وعشان خطره» تركت حرا بشرط ألا أعود إلى المظاهرات من جديد. وبالفعل لم تكن هناك مظاهرات حتى عام 1956م سنة التخرج والمغادرة إلى فرنسا بحرا. وظللت صامتا، كاتما الخوف في قلبي وفي سلوكي، ومقسما العالم إلى أبيض وأسود، حق وباطل، صواب وخطأ، كما فعل سيد قطب في مرحلته الأخيرة بعد أن كان شاعرا، قصاصا ناقدا أدبيا ثم إسلاميا اشتراكيا ثم إسلاميا إخوانيا.
لقد كان الجو متوترا بين الإخوان والثورة على مدى سنتين منذ اندلاع الثورة. وحدث الانفجار في عام 1954م بمناسبة رفض الإخوان المعاهدة التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا بالانسحاب من قناة السويس ولكن لها الحق في العودة في حالة «الضرورة القصوى». وكان خوف القوى الوطنية من عبارة «الضرورة القصوى» التي يمكن أن يكون لها عشرات التفسيرات؛ فهو جلاء مشروط. كنت أوزع نقد المعاهدة في الجامعة، وفي مظاهرات كبرى خرجت من الجامعة إلى كوبري الجامعة وهي تهتف بسقوط اتفاقية الجلاء. ويهتف الطلبة السودانيون يسقط «صلاح الرجاص» ويقصدون صلاح سالم من أعضاء مجلس قيادة الثورة، والذي هو اسمه على طريق جديد يربط بين شمال القاهرة وجنوبها، والذي يعزى إليه فصل السودان عن مصر، وجنوب الوادي عن شماله كما فصل أخيرا جنوب السودان عن شماله. وسمي «رجاص»؛ لأنه لبس سودانيا، وركب حصانا يرقص على إيقاع الدفوف. وكان عبد الناصر وزيرا للداخلية في ذلك الوقت وعينه على السلطة فأمر بإطلاق النار على الطلبة المتظاهرين على كوبري الجامعة فتفرقوا وأعادوا التجمع في ميدان عابدين، وكان ذلك عام 1954م، وكنت في السنة الثانية. وشاركت في مظاهرات 1954م بعد أن كان عبد الناصر قد وقع مع بريطانيا اتفاقية الجلاء التي تخرج بريطانيا طبقا لها من قاعدة التل الكبير ومن منطقة القناة، وتجلي معسكرها الأحمر على ضفاف النيل مكان الجامعة العربية الحالي. ومع ذلك تسمح بالعودة إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى»، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف.
كنت فرحا بالجامعة ليس فقط بما يلقى في المحاضرات التي كان يغلب عليها الطابع المدرسي، ولكن أيضا بالنقاشات خارجها، على الحشائش في الحرم الجامعي، هايد بارك أخرى. وإذا كان فكري بارزا في المحاضرات فإنه يستحسن في مناقشات الحرم الجامعي. وظللت أفكر كيف تكون حديقة الأورمان ساحة يتناقش فيها الطلاب إن عز على الجامعة ذلك، كيف تكون «هايد بارك» القاهرة وكلها أراضي فاطمة إسماعيل بما فيها الجامعة وحديقة الحيوان؟
ومنذ ذلك الوقت فرض نظام الفصلين الدراسيين في العام ، ليس لأسباب علمية بل حتى ينشغل الطلبة في المذاكرة ولا يكون لديهم وقت للمظاهرات. ومع ذلك، ظلت عقلية الفصل الدراسي الواحد موجودة، نبدأ في أكتوبر، وتنتظم الدراسة في نوفمبر حتى مايو في السنة الثالثة باستثناء إجازة نصف السنة. في حين أن نظام الفصلين يقتضي أن تبدأ الدراسة في أوائل سبتمبر، وتتوقف عند عيد الميلاد ورأس السنة، ثم يبدأ الفصل الدراسي الثاني في يناير، وينتهي في يونيو، أربعة أشهر كل فصل دراسي على الأقل؛ أي ستة عشر أسبوعا، فأضر نظام الفصلين بالعلم، ولم يمنع المظاهرات؛ فالوطن أحيانا تكون له الأولوية على العلم، بدليل شهداء كوبري عباس، وكما يحدث الآن بتطبيق نظام الساعات المعتمدة أو اختيار الطالب بين الدروس الإجبارية والاختيارية؛ فيصبح هم الطالب تجميع درجات
A . ويكاد الاختياري لا يحضر فيه الطالب لأنه اختياري ولا الأستاذ؛ فكيف يقود سيارته من مدينة 6 أكتوبر حتى الجامعة لطالب أو طالبين وقد تعود على القاعة المملوءة ولو نسبيا لتوزيع كتابه. وفي الإجباري لا يتورع الأستاذ عن توزيع الكتاب المقرر. ويبقى الحال هكذا لمدة سنتين عليها 60٪ من درجة الماجستير أو الدكتوراه، ثم يكتب رسالة صغيرة عليها 40٪ معظمها معلومات منقولة من الإنترنت.
خرجت من السنة الأولى خاوي الوفاض، لم أتعلم شيئا. وفي السنة الثانية نظرا لغياب زكي نجيب محمود في أمريكا درس نيابة عنه مصطفى سويف المنطق. ولما كان أستاذا لعلم النفس وليس المنطق إلا أنه اختار موضوعا هزني لغويا وهو «المفاهيم العلمية وضرورة الدقة في استخدامها» مثل الفرق بين التقدم والتطور، وكان يرتجل. كان جادا عبوسا لدرجة أن أحدا لا يستطيع أن يمزح معه، وكان يمشي في الطرقات مستكبرا مع أنه لم يكن قد أخذ الدكتوراه بعد. وقد توفي منذ عامين، وحضر العزاء كثير من طلابه ومريديه. وهو الذي بنى أكاديمية الفنون، وقام باختبارات نفسية للقبول، وهو مؤسس علم النفس الاجتماعي. أما درس الفلسفة الإسلامية فكان يلقيه علينا - وهو جالس - أحمد فؤاد الأهواني، وهو درس تقليدي في الفلسفة الإسلامية، يركز على الفلسفة بالمعنى الدقيق، الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. كان ضاحكا مبتسما اجتماعيا «ابن نكتة»، ولكنه لم يثر في ذهني أي مشكلات، ولا ربط بين الماضي والحاضر. كان قريبا لعيسى البابي الحلبي صاحب المكتبة الشهيرة بالأزهر، يمده بالنصوص التقليدية، وقريبا من الأب جورج قنواتي، وهو من نفس الروح، وهي روح يوسف كرم التي كتب بها «تاريخ الفلسفة اليونانية»، و«تاريخ الفلسفة في العصر الوسيط»، و«تاريخ الفلسفة الحديثة»، روح جيلسون؛ فالفلسفة عمل الفلاسفة، ولكل فيلسوف منهج، مع أن جيلسون قد تجاوز هذا المنهج بكتاب «روح الفلسفة في العصر الوسيط»، ولم تكن هناك فلسفة مسيحية أو يهودية، ولم تؤثر في أحد من أساتذة الفلسفة تأثيرا كبيرا، وهي نظرة استشراقية للفلسفة الإسلامية. كانت روحه أقرب إلى وزارة التربية والتعليم؛ فقد كانت رسالته للدكتوراه «التعليم عند القابسي» بين التعليم والتراث الإسلامي.
وكنت طالب قسم امتياز، وهو القسم الذي يدخله الطلبة الحاصلون على جيد جدا أو أكثر في السنة الثانية، ويأخذون فيه مادة زائدة، ويكتبون بحثا، وكان لا يتجاوز عددهم طالبين، وأحيانا لا أحد. فإذا حافظ عليه الطالب بعد الحصول عليه في السنوات الثالثة والرابعة يعد الماجستير مباشرة دون سنة تمهيدية، ويكون مرشحا كي يكون معيدا بالقسم، وهو شيء مهيب كالضابط في الجيش أو الشرطة ، وهو مثل أمين الشرطة اليوم.
وفي السنة الثالثة بدأت اليقظة الفلسفية مع عثمان أمين الذي كان يعشق الفلسفة ويعيشها، وكان يبتسم ويريد أن يوصل الفلسفة للطلاب بسهولة ويسر. كان حبيبه ديكارت، وترجم له «التأملات في الفلسفة الأولى»، وكان «مقال في المنهج» قد ترجم من قبل، وكذلك «مبادئ الفلسفة»، وكان يطيل في شرح النصوص، ويطبقها على الواقع العربي، وهو ما كان يسميه «بين قوسين»؛ أي خارج الموضوع، بينما هو في صلب الموضوع. وفي الفصل الدراسي الثاني كان يدرس كانط، ويطيل النظر، ويشرح ويضرب الأمثلة في معنى «الترنسندنتال» في مقابل «الترنسدنت». وهو ما سماه فيما بعد في فلسفته الخاصة «الجوانية» في مقابل «البرانية»، العقلي في مقابل الحسي، القلب في مقابل العقل، الباطن في مقابل الظاهر. كان يركز على «نقد العقل الخالص» لكانط وبدرجة أقل على «نقد العقل العملي» باعتبار أنه موضوع علم الأخلاق، ولا يذكر تقريبا. و«نقد ملكة الحكم» عن الحكم الغائي والحكم الجمالي باعتبار أن ذلك موضوع علم الجمال في السنة الرابعة. وبعض الدارسين يرجعني إلى الظاهريات أصلا ومرجعا خارجيا، مع أنه من الأسهل إرجاعي إلى الجوانية كإطار مرجعي داخلي. كانت كلماته تدخل في قلبي مباشرة، فتوقظه، وتزيد من حرارته، وهو أحد معاني «ذكريات» إهداء الكتاب. وما زالت ذكرياتي معه هي الذكريات، ليس فقط في المدرج الجامعي بل في ساحات الحسين حتى الفجر، ونحن نطلب منه أن يتصل بزوجته الفرنسية كي تطمئن عليه، وهو يقول: لو اتصلت بها لقلقت؛ فالأفضل ألا أتصل حتى تطمئن. ولا غرابة في أنها تركته وأخذت أولاده، وعادت إلى فرنسا، موطنها الأصلي، واعتنت به شقيقته، ولكن شتان بين الزوجة الأقرب إلى القلب والشقيقة الأقرب إلى العقل. وعندما كنت أزوره في الفيلا التي يقطن فيها في ميدان أعضاء هيئة التدريس بالدقي كنا نتسامر حتى الصباح. زوجته تعرف عادته فتنام وابنه، أما الشقيقة فكانت تذكره دائما بأن الوقت قد تأخر فيقول لي: «سيبك منها.» وعلمت بعد ذلك أنها كانت تريد السيطرة عليه عندما زرته عام 1960م أثناء زيارتي للقاهرة آتيا من باريس وأهديته «نقد العقل الجدلي» لجان بول سارتر الذي صدر حديثا. وبقيت ترجماته لتأملات ديكارت آية في الإبداع والجمال اللغوي. كان يعرف قدره، يجمع بين الفلسفة والحياة، بين علمه وذكرياته. كان يعظم محمد عبده أكثر من اللازم، وهو موضوع رسالته للدكتوراه في باريس، وأنا أنقده لأنه يعتبر أن العقل في حاجة إلى وصي وهو النبي كما يصرح بذلك في «رسالة التوحيد»، وكنت قد كتبت على السبورة مرة: «أحب محمد عبده ولكن حبي للحق أعظم.» وهي العبارة الشهيرة التي قالها أرسطو عن أستاذه أفلاطون. وكنت وما زلت أقرب إلى الأفغاني الثوري أستاذه والذي كان يمسك بتلابيبه ويقول له: «والله إنك لمثبط.» ومع ذلك كان بالنسبة لمشايخ الأزهر من يغرد خارج السرب.
وأخيرا أتى زكريا إبراهيم، وكان قد عاد من فرنسا عام 1955م مشبعا بروح الظاهريات والفلسفة الوجودية. ولما سألناه من الذي أثر فيه وهو في فرنسا كتب على السبورة السوداء: هيدجر، ياسبرز، مارسل. وكنت أسمع عن هوسرل والقصد المتبادل، وعندما يخرج أنظر من النافذة وأشعر بهذا الإيحاء المتبادل بيني وبين الطلبة في الفناء. سمعت عن التجربة المشتركة لأول مرة منه. وكان لا يقرأ من ورق أو يقرر كتابا مع أن له - فيما بعد - عدة مؤلفات عن مشكلات فلسفية مثل مشكلة الفلسفة، مشكلة الحب، بأسلوب سهل شعبي لدارسي ومحبي الفلسفة على السواء. أحبه الطلبة، وكان منزله في مصر الجديدة مفتوحا لهم جميعا. ولم ينس الفلسفة الإسلامية؛ فكتب عن البيروني وآخرين. وكان هو الفيلسوف بعد عثمان أمين، تمت إعارته إلى جامعة الخرطوم، فرع جامعة القاهرة وإلى الأردن حيث كتبت عنه عدة رسائل، وإلى المغرب مثل نجيب بلدي وحبيب الشاروني. لم يعش طويلا، ولو عاش لكان أثره في مصر والوطن العربي أكبر، وأشد وأعمق كما حدث معي.
وبقدر ما كنت فرحا في السنة الرابعة بدراسة الفلسفة المعاصرة مع زكريا إبراهيم حدثت عدة أحداث قاسية. أعطانا يوسف مراد درسا في «علم النفس الصناعي»، وكيفية استعمال علم النفس في إدارة المصانع، فاعترضت على المقرر، وأنه استخدام العلم لخدمة المجتمع الرأسمالي، وقياس قدرات العمال لاختيار أحسن عامل لأحسن آلة. وأتانا سؤال آخر العام في الموضوع، وأجبت بنفس الطريقة فعرف ورقتي وأعطاني 12 / 20. وكان لا يوجد أستاذ لعلم الجمال، وكلف الأهواني بتدريسه، وكان السؤال: كيف تختار رابطة العنق؟ وكنت ثائرا على هذا النوع من علم الجمال؛ فقد كنت أنتظر علم الجمال عند هيجل وكانط، فعرف ورقتي وأعطاني 12 / 20. وكان عثمان أمين يدرس محمد عبده في الفلسفة المعاصرة، وكنت ناقدا لحركة الإصلاح بأنها لم تطور نفسها، وأن محمد عبده ليس عقلانيا كما يقال لأن العقل يحتاج إلى وحي ومعه النبي. ولما كان محمد عبده إلها، وبالنسبة لي يمكن تحويل الإصلاح إلى ثورة، فعرف ورقتي وأعطاني أيضا 12 / 20. وبدلا من أخذ 18 / 20 في ثلاث مواد خسرت 18 درجة في السنة الرابعة. وبدلا من أن أنجح بامتياز في السنة الرابعة وأكون طالب امتياز نجحت بدرجة جيد. وكان لدي ست عشرة درجة وفرا في المواد الأخرى أضيفت إلى الناقص فبقيت درجتان تبيح لجان التعويض منحها. وكان الأول في السنة الرابعة هو أخي وصديقي رشدي راشد الذي أصبح عالما كبيرا في تاريخ الرياضيات، ونال العديد من الجوائز العربية، وهو الآن باحث بمركز البحوث العلمية في فرنسا قبل أن يحال إلى المعاش، أتمنى له الصحة وطول العمر والبقاء. وقبل أن تعلن النتيجة النهائية قابلني رئيس القسم يوسف مراد وهو قبطي مصري على السلم الرئيسي وأنا صاعد وهو نازل: أين ستذهب يا حسن بعد التخرج؟ قلت: سأطلب تعييني معيدا بالقسم، ثم أعاد السؤال: في أي موضوع؟ قلت: أحول الإسلام إلى منهج عام للفرد والجماعة. فسأل لماذا؟ قلت لأصلح به حال الأمة، وأنهض من شأنها، وهو مشروع الأفغاني ولكن على المستوى الفكري أولا. فرد قائلا: «كده، طيب.» لا أتهم أحدا بالطائفية ولكني سمعت - فيما بعد - أنه أقيل من الجامعة محالا إلى المعاش بتهمة تغيير نتيجة أحد الطلاب المسيحيين؛ فأعطاه درجات أعلى من طالب مسلم كي ينجح بتفوق، وهذه تهمة أخلاقية أشنع ما يتهم بها الأستاذ الجامعي.
صفحه نامشخص
كما حدثت لي صدمة كبيرة في حرية الفكر في الجامعة، وهي الصدمة الثانية. كانت في امتحان اللغة الألمانية التي كانت مقررة علي في آخر سنتين باعتباري طالب امتياز يأخذ لغة أخرى ومادة زيادة. كان مقررا أن آخذها مع الدراسات العليا في قسم التاريخ بينما وضعتنا إدارة الامتحانات بالكلية مع قسم اللغة العربية. وفي الامتحان وجدت الأسئلة مختلفة، فطلب مني المراقب، وكان قبطيا من حرس الجامعة، أن أكتب طلبا للعميد أشرح فيه الموقف. وبالفعل أخذت اكتب طلبا للعميد وبدأ بعبارة «الأخ الفاضل» عميد كلية الآداب، فانتزع مني المراقب الورقة معترضا: هل يكتب لعميد الكلية بأنه الأخ الفاضل، وليس السيد العميد؟ فقلت له: «إن البشر جميعا إخوة لا سائد فيهم ولا مسود.» ويبدو أنه أراد إخراجي من القاعة فلمس قلم الحبر ذراعه وترك أثر الحبر فيه، وحولني إلى العميد، وكان هو يحيى الخشاب (زوج سهير القلماوي)، فحولني إلى رئيس الجامعة بتهمة «قلة الأدب»، الذي كون مجلس تأديب من خمسة أساتذة من ضمنهم أساتذة حقوق طبقا للقانون. وسألني أحد أعضاء اللجنة: هل العميد أخوك؟ فأجبت بحديث الرسول نعم «وأنا شهيد على أن عباد الله إخوان.» ثم سأل: هل تعتقد ذلك قولا وعملا، فكرا وسلوكا؟ فأجبت نعم، أنا لا فرق عندي بين رئيس الجمهورية وجامع القمامة في الشارع؛ فكلاهما يؤدي وظيفة طبقا لتقسيم العمل في المجتمع. فسأل: هل ستبقى على هذا الاعتقاد طول العمر؟ قلت نعم. وأنا الآن في طريقي إلى فرنسا لإتمام دراسة الماجستير والدكتوراه، فطالبوني بالقيام مع التوفيق والنجاح بالموافقة. وعلى هذا الأساس أخذت الورقة البيضاء وهي تعادل تأشيرة الخروج. وبعد عدة استطلاعات وجدت أن أرخص طريقة للذهاب إلى فرنسا هي المركب من الإسكندرية على ظهرها 588222. وكان ثمنها اثني عشر جنيها استطعت توفيرها. وكان معي في ذلك الوقت بهاء طاهر بقسم التاريخ، والسيسي عازف البيانو من قسم اللغة الإنجليزية، وعبد الجليل حسن الذراع اليمنى لتأسيس مجلة «الكاتب»، وكان في قلبه «اليسار الإسلامي»، والذي غادر إلى ليبيا، وربما هو الذي كتب «النظرية الثالثة» بأجزائها الثلاثة للقذافي - وهو تلميذ عبد الناصر - قبل أن يستبد ويتجبر فيعود عبد الجليل إلى القاهرة، ويموت في وطنه. وقد سبقني بدفعة نبيل زكي الكاتب الصحفي بجريدة الأهالي، وجاء بعدي حلمي النمنم الكاتب الصحفي الذي أصبح وزيرا للثقافة، ومكرم محمد أحمد الصحفي الشهير ونقيب الصحفيين السابق، وطه حنفي المليجي الذي كان مدرسا للغة الفرنسية في وزارة التربية والتعليم ثم أصبح موجها عاما لها. جاء لزيارتي بالكلية مرة وأنا أمين اللجنة العامة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين برئاسة الجوهري، وكنا ندرس موضوعا هاما لا أستطيع أن أترك الجلسة، وما إن انتهت الجلسة وخرجت وجدته قد غادر. خطئي أنني لم أطلب منه الانتظار في الغرفة المجاورة للعميد، ولم أخرج لتحيته أولا وسط الجلسة، وحزنت حزنا شديدا لأنني لم أره منذ أن غادرت إلى فرنسا. يبدو أنه شعر بالإهانة لأني لم أخرج على التو. وقرأت نعيه في الأهرام بعد شهر. يبدو أن التاريخ كان يريد أن يجمعنا من جديد، ولكن الإرادة البشرية عاقت دون ذلك. وكان أقرب الأصدقاء إلي في الجامعة في سنوات الدراسة الأربع. ونظر إلى عيني مرة وأنا في المسجد قبل السفر إلى فرنسا وقال لي: «عيناك تبرقان.» وربما كان ذلك من الحزن لما حدث في الجامعة، والفرح للسفر إلى فرنسا. أما أحمد الكاشف فقد بدأ بهيئة التحرير وانتهى إلى سكرتير محافظ القاهرة. ذهبت إليه مرة لأحل بعض مشاكل رخصة بناء بيتي العربي. بعد أن امتلأت شقتي بشارع الحجاز، وملأت الحوائط رفوفا لاستيعاب الكتب، بنيت منزلا عربيا بمدينة نصر الفارغة في ذلك الوقت؛ بناه نجل شقيقتي علية، وهو المهندس محمد عبد المحسن بعد أن جربت مهندسين ومقاولين آخرين؛ منهم من استولى على كتابي عن المدينة العربية ولم يرجعه. وكنت قد اشتريت الأرض من مفتشة في وزارة التعليم التي كانت تمتلك الأرض وتقسمها على موظفيها بستين قرشا للمتر، واشتريتها أنا حسب إعلان الجريدة بقيمة 180 جنيها للمتر، وكانت تريد المبلغ فوريا ونقدا، فأخذت المبلغ، وظلت هي وأختها يعدون هذا المبلغ الكبير في الحجر وأنا أريدهم أن يقوموا بذلك في المنزل، ثم طمعت في المبلغ والأرض معا، وذهبت إلى كل الهيئات الحكومية لإبطال العقد: المياه، الكهرباء، رصف الطرق، تنظيف الأرض. ولما ظلت تماطل رفعت عليها قضية، فكسبتها، وجعلت الدور الأرضي (البدروم) كله لتنظيم مكتبتي في دواليب جديدة، وأضيف إليها قسم من الدور الأول وبينهما سلم خشبي داخلي. وفي هذا القسم العلوي وضعت الفكر العربي والإسلامي المعاصر؛ مصر، والوطن العربي والعالم الإسلامي، ثم في الجانب الآخر العلوم الإسلامية؛ أصول الدين، وأصول الفقه، وعلوم الحكمة. ولم يبق مكان لعلوم التصوف فنزلت إلى الطابق السفلي، وفيه الفلسفة الحديثة والمعاصرة ابتداء من الفلسفة اليونانية ثم العصور الوسطى، المسيحية واليهودية ثم الإصلاح الديني، ثم عصر النهضة؛ القرن السابع عشر، ثم القرن الثامن عشر، ثم القرن التاسع عشر الذي استغرق جناحا بأكمله، ثم القرن العشرين؛ منهم من قضى نحبه، ومنهم ما زال حيا، ومكتبي وسط هذا التاريخ للفلسفة. وفي طرقة أخرى فلسفة الدين بداية بالاستشراق، ثم الفكر الشرقي القديم ثم المسيحية. وفي آخر الطرقة العلوم الإنسانية؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وما تبقى من العلوم الفلسفية؛ المنطق، وفلسفة العلوم، والفلسفة العامة، وعلم الجمال. وفي الطرقة الأخيرة التي يجلس فيها مساعدي الأول توجد العلوم السياسية والاقتصادية، ومصر والوطن العربي وأمريكا؛ حيث كنت أزمع الكتابة عنها «أمريكا، الحقيقة والأسطورة»، ثم فلسطين وإسرائيل، ثم تأتي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وأخيرا بجوار الحديقة الأدب؛ الرواية، والقصة، والشعر، ثم النقد الأدبي. ومنذ عدة سنوات عندما بدأ العمود الفقري يضعف وتغيير بعض مفصلات الفخذ خصصت غرفة بدور السكن، الدور الأول، للبقاء بجوار الأسرة، ولأنني لم أعد قادرا على نزول السلم الخشبي الداخلي أو صعوده. ولما أوشكت أجزاء «التراث والتجديد» على الاكتمال، ولم يبق إلا الجزء الأخير، «الجبهة الثالثة» «النص والواقع»، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي أكتبه في الغرفة المأخوذة من شقة السكن، وبعد إلقاء الأساس الأسمنتي وشرعت في بناء الدور الأول رفض مهندس الحي إعطائي التصريح لأنني بعد أن رخصت الأساس كان يجب أن أرخص الأدوار فوقه، «إلا إذا» ولم أفهم. وأنا لم أكن قد بدأت إلا في البدروم حسب نصيحة المقاول، فجاء معي اثنان للموقع للتحقق من صحة أنني لم أبن بعد الدور الأول، فطلب مساعده أن يدخل دورة المياه، فأشرت عليه في المنزل المقابل، ووقف ينتظرني، يشير بيديه، كما فعل حسن يوسف مع نادية لطفي في فيلم الخطايا؛ لأنه يريد أن يأخذ منها موعدا للقاء حبيبها عبد الحليم حافظ نظرا لاعتراض الأب الذي رباه وليس أنجبه، فلم أفهم ماذا يريد. فهمت بعد ذلك أنه كان يريد رشوة للإمضاء، فلما لم أفعل رفض إعطاء الترخيص. ورفعت الأمر إلى القضاء مرة ثانية. فكسبت القضية وخسر. أما موظفة الحي فقد طلبت مني أن أسعى في منحة من معهد الخدمة الاجتماعية لابنتها، وكنت على صلة بأساتذتها، فسعيت ونجحت، ولم تفعل شيئا، كما أشار مهندس الحي الذي بيده الموافقة من عدمها إلى مفتاح عربته وهزه؛ مما يعني أنه في حاجة إلى تكاليف الطريق من منزله إلى الحي، فلم أفهم الإشارة، ولم يرخص البناء.
وكان معنا كامل يوسف سلامة من كلية الحقوق. وفي الصيف كنا نجلس على المقهى للعب الطاولة، وبمشروب واحد (حاجة ساقعة). نجلس طول المساء نتحدث عما سنفعل بعد التخرج. كامل كانت له رؤية واضحة في أن يصبح وكيل نيابة، وكان هذا اللقب في جيلنا له هيبة كبيرة. وبينت أنا أنني سأصبح معيدا لتكملة الدراسات العليا في الداخل أو في الخارج. وطه لم يكن له رؤية واضحة؛ فالأمر يتوقف على مجموع درجاته حتى التخرج. وقد سكنت الدور الأول ومكتبتي في البدروم، وأبنائي فوقي، لكل دور. وبعد أن اكتمل بناء البيت العربي وانتقلت إليه عام 1994م، كتبت على الحائط في البدروم «المكتبة الفلسفية المتخصصة». وفي يوم من الأيام جاءتني مصلحة الضرائب كي تعرف كم مكسبي في اليوم منها، فشرحت لها أنها خدمة عامة، فطلبوا إزاحة العنوان، كما أتى مندوب الضرائب العقارية الآن كي يبلغني كذبا، مع أنه بذقن واطمأننت إليه، أنه هناك لجنة أتت وقررت ضرائب ألفين وخمسمائة جنيه على كل ساكن، وعلى البدروم الذي به مكتبتي اثني عشر ألفا ونصف جنيه باعتبارها مخزنا، فاستغربت لأن السكن ليس عليه ضرائب عقارية، ومكتبتي أين أضعها بعد أن اتسعت على مدى ستين عاما؟ فأخبرني أن الموضوع في «حاجة إلى فلوس» وفرك إصبعيه، أدفع له النصف والباقي بعد الطعن. ثم جاء مرة ثانية يطلب صراحة الفلوس فطردته من المنزل صائحا «لعن الله الراشي والمرتشي.» وأبلغته أن الأمر في يد المحامي الآن وأعطيته اسمه ورقم تليفونه. فخرج منكس الرأس أن الحيلة لم تنفع بعد أن ظن أنني ميسور الحال وأن مكتبات الجامعة ليس بها مثل مكتبتي. ولم يلق اهتماما إلى أن مصاريف الموظفين عندي؛ الممرض، وربة المنزل، واثنين من السكرتارية، والبواب، تبلغ اثني عشر ألف جنيه ومعاش أربعة آلاف جنيه، غير تكاليف الأدوية والأطباء والحياة اليومية وأنا عاجز لا أتحرك إلا على كرسي متحرك.
وفي يوليو 1956م سنة التخرج، ونحن جالسون في شقتنا بباب الشعرية، وكانت غرفة الصبيان تطل على السطح الداخلي الذي هو سقف مخازن السحار، وكنا ثلاثة: أنا وأخي سيد وصديق العمر محمد وهبي عبد العزيز، إذ سمعنا خطاب عبد الناصر في تأميم قناة السويس، فقفزنا من الفرح، وظل بعضنا يقذف بعضا بالمخدات، ومن يومها أصبحنا ناصريين، ونسينا الخلاف بين الثورة والإخوان. وبدأت المؤتمرات؛ مؤتمر لندن وعلي صبري ممثلا للثورة، ولم تنجح مفاوضات القناة؛ فلا حلول وسط بين ملكية فرنسا وإنجلترا لها، وملكية مصر وهي على أرضها. وبدأت تلوح في الأفق بوادر الحرب.
كانت المرحلة الجامعية هي مرحلة الانفتاح على العالم، ورؤية عدة طرق فأيهما أختار، مرحلة الضوء الجلي والمطلوب سلوك أي طريق فيه، وهي مرحلة اختيار أي الإمكانيات أنا مدفوع إليها؟ لم يكن عندي اختيار حر، بل كنت مدفوعا بمصير تحدد من قبل، من البداية إلى النهاية. لم أكن شقيا بل كنت سعيدا لأن الطريق واضح وما علي سوى السلوك فيه.
الفصل الثالث
السفر إلى فرنسا (1956-1966م)
عشر سنوات في فرنسا غيرتني كلية، وعمقت تجربتي العلمية والحياتية. كان الإصرار على السفر إلى فرنسا دون بعثة أو تكاليف خاصة يحزن الأسرة كلها، وبالأخص الوالدة، كيف سأعيش؟ ومتى سأرجع؟ وأنا أعد عدة السفر ملأت حقيبة كبرى بكتب السنة، وفي حقيبة أخرى مذكراتي التي كنت قد بدأت كتابتها في الصلة بين الفكر والواقع، وأحلامي التي كنت أدونها بمجرد الاستيقاظ. كتب السنة اشتراها لي أخي سيد حتى قبل أن يعين معيدا، واكتفى بالباحث قبل المعيد بعشرين جنيها؛ فمعاش أبي الخمسة جنيهات كانت لا تكفي حتى لإعاشة الأسرة، وكان هناك جوال به خبز جاف وعلبة جنبة صفراء من المعونة الأمريكية. حاولت الأسرة إقناعي بكل الطرق بعدم السفر، وكان هناك طالب أعرف أسرته بدرب البزازرة بجواري اسمه عبد الحليم، وكان بدينا مثل أمه، وكان عقله كذلك، وأبوه ضعيف الشخصية مقارنة بأمه، وكان يأتيني بين الحين والآخر لأشرح له كل مادة عن طريق وضع نسق له لمذاكرتها، أوحوا إلى أمه لمنعي من السفر، فأخذت الحقيبتين والجوال، وأصررت على السفر. وطلب مجمع التحرير أن يأتي الوالد شخصيا ويوقع أمام الموظف المسئول على موافقته على السفر، فذهب الوالد سعيدا حتى أعلم أنه ما زالت السلطة بيديه؛ فهو رب الأسرة مهما عاق الابن الجامعي المتعلم. وذهب معي إلى ميناء الإسكندرية أخي سيد والوالد قبل السفر بيوم. وكان لنا قريب للأسرة ترزي عربي بالمنشية، وهو أخ جدي حسانين تاجر الدقيق ببني سويف؛ فقد كان النزوح دائما من الجنوب إلى الشمال، كما يتم النزوح الآن من الشرق إلى السعودية والخليج أو إلى الغرب ليبيا أو إلى الشمال والأردن، وكما ينزح الإخوة السودانيون والأفارقة من الجنوب إلى الشمال، وكما ينزح كل العرب الآن إلى الشمال، أوروبا بحرا، وكان له ولد في شبه سني أو أصغر، وكان اسمه رشاد، دخل قلبي من أول لحظة، كان طيبا خجولا مثلي، وكنا نسير إلى الميناء وارتبطنا بصداقة نادرة وأنا على وشك المغادرة. ولما أخبرني أخي سيد أنه على صلة بهم كما كان على صلة بباقي أقاربنا ببني سويف، أعطتني زوجة أخي رقم تليفون وعنوان شركته «أولاد المصري» لمواد البناء عرفت أنني سأستعيد صداقة رشاد والأقارب، فاتصلت فرحب بي وسألت عن أفراد الأسرة فتوفي معظمهم، وسألته عن المواد التي تقاوم رطوبة أكبر فقال بخشونة: «معرفش.» ظانا أنني سأستخدمه مجانا بعد أن صرح لي أنه هو الذي جهز شقة أخي على البحر وأنه تغذى معه، فحزنت.
كانت الأسرة ترى المركب تغادر وأنا أرى الرصيف وعليه الأسرة. وغادرت السفينة يوم 11 / 10 / 1956م وهي تبعد شيئا فشيئا، ووصلت مارسيليا. وكانت الوالدة تريد أن ترمي نفسها في البحر لحاقا بابنها، ولكن منعوها. وفي الليل وبعد التوصية كانت توضع لي ملاية على كنب المطعم لأنام، وكنا نطعم مما تبقى من موائد الأغنياء. وفي الليل أرى النجوم في السماء وهي تتقلب يمينا ويسارا طبقا لحركة المركب. ولما كانت المركب يونانية فإنها تبقى أربعا وعشرين ساعة في ميناء بيريه في أثينا ، يلتقي فيها البحارة مع أسرهم، وينزل من يريد، فنزلت بعدما رأيت شيئا كسائح، الأكربولوس، وسجن سقراط، ورأيت أثينا الحديثة وميدان الشهيد الذي به البرلمان. وكانت منظمة أيوكا تعمل من أجل استقلال قبرص، وكانت جزءا من نضال العالم الثالث، وكنا نهتف باسمها باعتبارنا طلبة وطنيين.
وفي اليوم الثاني مرت السفينة من مضيق مسينا الذي كنت أقرأ عنه في الجغرافيا في الثانوية. وكان همي الوصول من مرسيليا إلى باريس، وتعرفت على فرنسية كبيرة في السن وأقرضتني مائة فرنك، ما قيمته عشرة جنيهات، ثمن تذكرة القطار من مارسيليا إلى باريس. ولما تأخرت عليها في السداد هددتني في خطاب بأنها ستشكوني إلى رئيس جامعة باريس. ورددت إليها ما اقترضته منها في أول دخل لي من تدريس اللغة العربية للإخوة الجزائريين.
ولما وصل القطار محطة باريس نزلت منه وأنا لا أدري أين أذهب. وقابلني أحد الفرنسيين وسألني إن كنت أريد سكنا، فوافقت، وأخذني معه إلى منزله، غرفة صغيرة يؤجرها كي يعيش منها. وأعطاني هذه الليلة طبق شربة ساخن حتى أستمر في السكن معه ومع زوجته العجوز مثله. وبدأ الهوام يهرشني؛ فالملابس ما زالت في الحقيبة لم أغيرها منذ أن غادرت القاهرة. ودفعت له ليلة وطلبت الانتظار للباقي حتى تستقر أموري في الجامعة. وما زلت أذكر الحساء الساخن في الليلة الباردة.
صفحه نامشخص
وكانت القضية الثانية أين سأقضي الليلة، فذهبت إلى بواب السفارة المصرية في الحي السادس عشر؛ فهو لن يرفض أن أسكن معه عدة ليالي حتى أجد مسكنا لي. وأخبرني أنه ممنوع لأن بواب السفارة موظف في الخارجية، ولا يجوز استضافة أحد عند بواب السفارة. وهناك بيت السفير المجاور المكون من عدة غرف، ولكن سيكون نفس الرد، فاستغربت، ألا يقبل بواب السفارة طالبا سيغير العالم بأفكاره، وهو مشروع «التراث والتجديد». فذهبت إلى مسجد باريس كي أقيم فيه على عادة الطلاب القدامى، فأخبرني الإمام أنه ممنوع؛ فهو مستخدم للصلاة فقط، وسلمني إلى أحد الجزائريين كي أنام معه، وكانت غرفة في فندق في الحي العشرين الذي يقطنه العمال الجزائريون ، ستة على سرير واحد. وطلبوا مني أن أعطيهم دروسا في اللغة العربية؛ فقد كانت فرنسا تريد فرنستهم، استعمار اللغة بعد استعمار الأرض. وكنت أشرب فنجانا من القهوة كل صباح حتى لا يشعر صاحب الفندق أنه لا يستفيد مني شيئا ببقائي مع الإخوة الجزائريين. وكان في وجه أحدهم حب الشباب يهرشها طوال الوقت، وتواعدنا مرة في محطة لوكسمبورج، وفجأة رأيته قبل الموعد بيوم، وأخبرني أنه ظن أنني قد آتي اليوم؛ أي قبل الموعد بيوم؛ فالزمن ليس له مسار، الأمس واليوم والغد يتساوون.
وكنت قبل المغادرة من مصر، أعطاني أحمد فؤاد الأهواني خطابا لأحد تلاميذه في باريس يوصيه مخ بي خيرا، فذهبت إليه وأعطيته الرسالة، فكتب هو رسالة إلى مدام رامبارك مديرة مكتب البعثات التعليمية الفرنسية بالسفارة المصرية بباريس. ولما قرأت الخطاب وضعته على مكتبها مستغربة أنها لا تملك أي سلطة في ذلك، هي فقط مديرة إدارية تنفيذية لما يأتي إليها من تعليمات من إدارة البعثات في مصر. وأدركت ما أسهل الكلام الشفهي أو المدون وما أصعب الأفعال، فأحسست بالحرج أمامها وهي تقول لي إنها لا تستطيع فعل شيء. وقد كنت أضع أملا كبيرا فيها وفي خطاب التوصية الذي كنت أخشى أن يضيع ويضيع معه مستقبلي.
وفي الطريق إلى السفارة أوقفني شرطي طالبا أوراقي، فأخرجت له جواز السفر فنظر إلي مستغربا وهو يقول: ولكن وجهك الآن «معضم» أو بتعبيرنا الشعبي «مقفع» أو «مفقع». فقلت له: لأني وصلت هذا الأسبوع، ولم أستقر بعد، فأرجع إلي جواز السفر مستغربا، بعد أن اطمأن أنني لست من المهاجرين غير الشرعيين كما يحدث الآن.
وبعد أسبوع في 25 / 10 / 1956م وأنا ما زلت في مرحلة الاستقرار بدأ العدوان الثلاثي على مصر حيث تجمعت أساطيل الدول الكبرى في البحر الأبيض المتوسط. وبالاتفاق مع إسرائيل بدأ العدوان في أكتوبر، وهاجمت إسرائيل من الشرق، فاحتلت سيناء وذلك لحصار الجيش المصري بين فكي الكماشة، إسرائيل في سيناء والقوات البريطانية والفرنسية في قناة السويس بدعوى تأمين حرية الملاحة البحرية، وشهد الجيش تدميره. وقد طالب الشيوعيون والإخوان عبد الناصر وهم في السجون بإخراجهم وتسليحهم للدفاع عن بورسعيد التي لم يكن قد تم احتلالها نظرا للمقاومة الشعبية في القضاء على جنود المظلات، ففعل عبد الناصر، ثم طالبوا بإعادتهم إلى السجون من جديد ففعل أيضا. وكان الشعب معه لا فرق بين إخوان ووفد وماركسيين ومصر الفتاة؛ فالكل واحد لإنقاذ الوطن. وغادر معظم الطلاب الدارسين في فرنسا، بعد أن اجتمعوا في السفارة المصرية بباريس لمعرفة ماذا عليهم أن يفعلوا؟ البعض قال يعود إلى مصر للدفاع عنها، فيرد السفير عبد النبي مع المستشار الثقافي ثروت عكاشة: هناك من هم أقدر منكم على الدفاع. وقال البعض الآخر نغادر هذه الدولة الاستعمارية، وندرس في ألمانيا. وبالفعل حزموا أمتعتهم، وغادروا إلى ألمانيا. وفريق ثالث فضل استمرار الدراسة في فرنسا؛ فهذا أكبر رد فعل على الدولة الفرنسية. أما أنا فلم يكن عندي إمكانيات للعودة إلى مصر ولا إلى السفر إلى ألمانيا، ففضلت البقاء في فرنسا. وذهبت إلى اللوفر ورأيت آثار مصر ومسلة الكونكورد في الواجهة وسط الميدان المسمى باسمها، وأنا أبكي مصر والعدوان عليها. وكنت أسير في الشوارع وأنا أغني «لك يا مصر السلامة». وتذكرت تدمير الأسطول المصري غرب الإسكندرية بعد حصاره من القوات البحرية الفرنسية والبريطانية في موقعة نوارين الشهيرة لإسقاط محمد علي بعد أن أصبح قوة تهدد القوى الغربية، تريد تجديد روح الإمبراطورية العثمانية والغرب طامع في إرث الرجل المريض؛ فالتاريخ يعيد نفسه. ولم نسترح نفسيا إلا بعد أن انسحبت جيوش الدول الثلاث من مصر. البعض يقول بفضل التهديد الأمريكي بالتدخل أو تهديد بولجانين، أو قرار الأمم المتحدة بإيقاف العدوان، كل طرف يريد أن يأخذ الحق في جانب الانسحاب الذي تم في ديسمبر من نفس العام. والبعض الآخر يقول بفضل الإنذار الروسي. وفي كلتا الحالتين يظل رنين خطب عبد الناصر في الأزهر «سنقاتل». وطالب صلاح سالم عبد الناصر بتسليم نفسه لقوات الاحتلال واتهام زملائه له بالخيانة العظمى.
وكان هناك أحد الأنظمة الإسكانية للطلاب؛ ففي 15 شارع سوفلو
Souflant
في الحي اللاتيني هناك مكتب جامعي يقدم خدمة سكنية للطلاب يقوم على أساس التبادل
Au Pair
سكن مجاني في مقابل خدمة طلابية لأحد أطفال الأسرة، وهي غرفة فوق السطح كانت مخصصة للشغالات. ولما لم يعد نظام الشغالات يتبع كل شقة سكنية قائما قدمت الأسرة غرفة السطح إلى أحد الطلاب أو الطالبات. وكنت أستيقظ في الصباح الباكر وأسير من الحي العشرين حيث كنت أسكن مع الجزائريين كي أكون أول من يقرأ قائمة الغرف المعطاة للطلاب في مقابل التدريس لأحد أطفال الأسرة أو مقابل أجر زهيد لا يتعدى فرنكات في الشهر للطلاب الفقراء. ونجحت مرة في الحصول على غرفة السطح مقابل تدريس العربية والإنجليزية لطفل الأسرة. وفي يوم وأنا عائد من الجامعة وجدت غرفة السطح قد كسر بابها، ونقل عفشها وكتبها إلى غرفة أخرى في فندق مع دفع ليلة واحدة! فاستغربت، وذهبت إلى صاحب الشقة، فأخبرني أنهم في مصر طردوا أخاه، وكان موظفا في شركة قناة السويس، وليس من المعقول أن يبقى مصري في غرفة تبعه، وأنا مصري وأخوه مطرود من مصر، مع أن الطفل فرح بمدرس له مصري. وبعد الفرح بحل قضية السكن المجاني حزنت، وسألت مكتب الطلاب في الجامعة ما العمل؟ فأخبروني أن هذا عمل غير قانوني، وعلي أن أرفع قضية على صاحبها في قصر العدالة
في الحي. وبالفعل بالرغم من أنه لم يكن معي إلا أربعون فرنكا وهو ثمن القضية، كسبتها، وأخذني صاحب الشقة جانبا واعتذر، وعلي بعد ذلك أن أذهب إلى المحكمة، وهذا يتوقف على مهارة المحامين، عندي وعنده! وأنا ما زلت أبحث عن الطعام والسكن. وحدث ذلك في إليزيا
صفحه نامشخص
Alesia
بجوار دانفير روشيرو
Danfere Rocherot ، وأسدها الذي في الميدان الذي نحته نفس المثال الذي نحت أسدي كوبري قصر النيل في عصر إسماعيل. وأدركت أن الحق فوق القوة أو أن العدل فوق أهواء البشر.
ومرة أخرى وجدت غرفة رخيصة في محطة رانلاج
Ranlagh
بجوار غرفة تشوين الفحم في البدروم بلا نوافذ، وكنت لا احتاج إلى تدفئة. وكانت جارتي على الشارع موظفة في المترو الذي آخذ محطته كل يوم، وهي تختم لي البطاقة الأسبوعية، ولا أكلمها لأني لم أكن قد تجرأت على مخاطبة النساء بعد، وأنا الإخواني القديم. وفاجأتني هي بالحديث مرة: ألست جاري؟ قلت نعم، ولم أستمر في الحديث بالرغم من محاولتها مع صديقة في زيارة لها إسماعي صوتها لي ليلا، ثم فقدت الأمل مع أن الأمور ميسرة. كانت غرفتها بجواري بها نافذة تطل على الشارع، أجمل وأفضل عندما كنت أجد الباب مفتوحا. كانت الأسرة مالكة حجرتي لطيفة وودودة، ترحب بالطلبة الأجانب، تسألني كل مرة عندما أحضر لدفع الإيجار وهو أربعة جنيهات شهريا إذا كنت أحتاج شيئا أو إذا كان هناك شيء ينقصني، فأشكر ربة الأسرة. ورأيت المصعد الحديدي مثل المصاعد التي في الأبنية التي على ساحل الإسكندرية مثل فندق سوفيتيل أو المعهد السويدي، وكنت أحس به تدريجيا أنني في فرنسا، بالإضافة إلى المترو المريح الذي يغطي كل شوارع باريس في أنفاق تحت الأرض بحديده المشغول على فتحات النزول والخروج، والأبواب التي تغلق آليا إذا وصل المترو إلى الرصيف ثم تفتح بعد ذلك بعد المغادرة بلا زحام أو خطورة. وأجد أحيانا على كنبات الاستراحة الخشبية متشرد
Clochaet
وفي يده زجاجة النبيذ الأبيض والأخرى الرغيف الفرنسي الطويل باجيت
لا يسأل إلحافا. وأحيانا أجد بين الدهاليز تحت الأرض الموسيقيين يعزفون أو بعض الفنانين يرسمون، وقبعته مقلوبة على الأرض بجواره، والناس تقذف فيها الفرنكات المعدنية. وأحيانا أجد في هذه الدهاليز بعض الشعارات السياسية لبعض الأحزاب. وفي نفس الغرفة حاولت صديقة أحد المصريين إغرائي لما عرفت أنني أيضا في الكونسرفتوار، ولكني لم أكن بعد قد تعلمت مخاطبة النساء. وقالت لي مرة وهي في زيارة لي أريد أن أقضي الليل هنا، ولم أفهم ما تريد كما أفهم الآن، ورجوتها الذهاب إلى سكنها الذي كان على التبادل في حي آخر باعتبارها طالبة في الكونسرفاتوار. وبعد عدة سنوات ذهبت إليها في غرفتها بعد أن تعلمت كيفية الخروج من ثقافتي الإخوانية الإسلامية الأولى. وفي هذه المرحلة الرومانسية كنت أركب المترو من رانلاج في الحي السادس عشر، وأغير المترو إلى آخر محطة دانفير روشيرو. وكان الباريسيون يتقنون فن التغيير لاختصار الوقت، فإما أن يركبوا القطار من الأمام إذا كانت محطة التغيير بالقرب منه أو من الخلف إذا كانت محطة التغيير بالقرب منه. وأحسنت هذا الفن، وكنت أركب عربة المترو الأخيرة لأن التغيير كان من هناك. وكانت هناك فتاة فرنسية بيضاء ذات وجه جميل بالرغم من أنها قصيرة ألتقي بها كل يوم، وفي نفس المعاد، وفي نفس المكان، ينظر كل منا إلى الآخر، كانت تنتظر أن تأتي المبادرة مني كالعادة، ولكني لم أفعل. ولما أتت الفترة الواقعية عام 1960م تركت المكان والزمان إلى المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر، وأدرس في منزلي وآكل في مطعم المدينة الجامعية، فحزنت لتأخري. وكانت ترن في أذني آية
وكان الإنسان عجولا . فأطمئن إلى ما فعلت. بعد ذلك وفقت في السكن في المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر في غرفة مزدوجة مع أمريكي في منزل الولايات المتحدة الأمريكية، وكان بالقرب من محطة المترو بهذا الاسم، وعلى الشارع بضجته، وسألت زميلي بالغرفة: كيف تنام في هذه الضجة؟ فأجاب: أنا أسكن في شيكاغو فوق محطة القطار؛ فأنا متعود على ذلك. لا يوجد منزل للمصريين، بل هو نزل الطلبة الأرمن عندما كان نوبار باشا الأرمني وزيرا للتعليم في مصر؛ فبناه على نفقة مصر باسم الطلبة الأرمن. وقانون الإسكان في المدينة النصف من البلد الذي بنى. والنصف الآخر من باقي الجنسيات حتى يتحقق الترابط العالمي، كما لا يسمح قانون الإسكان بأكثر من أربع سنوات حتى يسكن الجميع. وبعد عام انتقلت إلى البيت الألماني لأني أدرس الفلسفة الألمانية؛ ولا بد أن أعيش مع الطلبة الألمان كي أكسب مزيدا من المهارة في اللغة الألمانية. ومكثت في البيت الألماني ثلاث سنوات (1960-1963م)، وبالفعل زادت مهارتي في الحديث باللغة الألمانية، وانتخبني الطلاب رئيسا لاتحاد الطلاب الألمان. وجاءت زيارة الرئيس الألماني لوبكه
صفحه نامشخص
Lübke
ورحبت به باللغة الألمانية، فاستغرب! مصري رئيس لاتحاد الطلبة الألمان يلقي خطابا بالألمانية ترحيبا بالرئيس الألماني! ورد عليه الدكتور شتيفن
Steffen
مدير المنزل: هذه هي الديمقراطية . وفي المدينة الجامعية حيث يقطن طلاب العالم كله تطورت شخصيتي وتفتحت، فانتقلت من المرحلة الرومانسية إلى المرحلة الواقعية بعد عدة صدمات؛ ففي غرفة الدراسة في بيت الولايات المتحدة، كانت هناك طالبة في غاية الجمال تجلس بجواري على المائدة المجاورة وبيننا الباب، ينظر كل منا إلى الآخر دون حديث، وفي يوم رأيتها وقد التقطها طالب مغربي، وكانت هي من فنلندا، فندمت على تأخري في التعرف عليها. بعد ذلك تعرفت على أمريكية كبيرة في السن ضخمة الجثة ودعوتها إلى غرفتي في بيت ألمانيا، فقبلت بسهولة. ولما دخلت الغرفة ورأت حالي المتواضع، لا عربة ولا منحة ولا سكن وبمجرد جلوسي بجوارها على الكنبة قذفت بالملابس، وقررت المغادرة، فاستغربت. ومرة رأيتها مصادفة بشارع راسباي
Raspail
في تقاطع بول ميش وهي تسير معجبة بنفسها لعلها ترزق بصديق، فذهبت إليها وهي تعبر الشارع ودون أن أشعر لكمتها، وأنا الشرقي الذي لا يطيق الهجران، فرآني أحد الفرنسيين المارين الرياضيين، هرع إلي وضربني لكمة كادت أن تخرج فكي من وجهي قائلا: هكذا أنتم يا أهل الشرق تضربون نساءكم، أما هنا في فرنسا فذلك جريمة كبرى، وتحاورنا نحن الثلاثة حول هذا الدرس. ومرة أخرى رأيتها مع فيتنامي قصير رفيع، فسألت من هذا؟ فقالت لديه موتوسيكل وسكن ومال وسنجوب فرنسا محافظة محافظة سويا، فتمنيت لها التوفيق. وكنت معجبا بطالبة ألمانية أخرى ذات أنوثة أخاذة، وانتظرت هذا المصري الألماني أن يبادر، فلم أفعل، فالتقطها لبناني كان أخوه معنا في المنزل، ووعدها بالزواج ثم خدعها، وتركها في أثينا حيث أخذ الباخرة إلى بيروت، وعادت إلى ألمانيا كسيرة القلب، لديها فكرة سيئة عن العرب الخادعين، وحزنت. وفي هذه المرحلة الرومانسية كانت تدعوني بعض العائلات الفرنسية للعشاء عشما في زواج ابنتها، فكنت أذهب وآخذ الورد مما كان يكلف الكثير، وعلى العشاء في الساعة السادسة تنتهي منه في العاشرة. والابنة ذهابا وإيابا إلى المطبخ كما هو الحال في الأفلام المصرية تحضر صينية القهوة دون أن ترتبك. واعترفت لي الوالدة مرة بأزمة الزواج في فرنسا، فإذا وضعت المال في كفة وابنتها في الكفة الأخرى لشاب لاختار كفة المال، ونظل نرغي في مثل هذه الموضوعات التي تهم الأسرة ولا تهمني هذا الوقت الطويل، وأصاب بالصداع، وتقول والبنت وهي تودعني إلى الباب: نرجو أن نراك مرة أخرى، فأقول: إن شاء الله، آمل كذلك، ولا يرون وجهي بعد ذلك، مع أن العروس تجمع بين المال والجمال. حدث ذلك أكثر من مرة، وأحتار بين قبول الدعوة إلى العشاء وما يتعلق بها أو الاعتذار، وقلت في نفسي: ليتها عرفتني فتأخذ فكرة عن الشهامة العربية. وتعرفت على طالبة ألمانية نشطة، كانت تريد الزواج، وهو ليس في ذهني، فتركتني إلى طالب ألماني فصدمت، وبعد خمس سنوات أتت إلى باريس، فدعوتها إلى غرفتي، وانتظرت هي عريس المستقبل فلم تجد إلا شابا شقيا، يفعل ما يفعله جميع الطلاب، فخرجت ولم أرها بعدها؛ فلم تعلم أنني قد تغيرت، وأنني لم أعد الشاب الرومانسي القديم، ثم كتبت لي بعد عودتي إلى القاهرة بعد أن قرأت عني في الصحف الألمانية، فرددت عليها بالذكريات الجميلة التي انتهى عصرها. وكان مبدئي في ذلك الوقت: صادق أجنبية وتزوج مصرية، وإلا فلمن تترك المصريات؟ ثم عرفت ألمانية أخرى من البيت الألماني كان يحوم حولها الكثيرون، وظلت معي لمدة عام، لم تكن ذكية، عادت بعدها إلى موطنها الأصلي في ساربروكن
Saarbrücken
ثم عادت إلى باريس بعد عام لتعرف موقفي، وبعد أن بينت لها أن لا موقف لي إلا العلم، قالت: يا عبيط! وعادت إلى ألمانيا، ولم أرها بعد ذلك. والألمانية الأخيرة التي عرفتها وأنا في باريس ظلت معي حتى عدت إلى مصر، وجاءت بعدها إلى مصر لزيارتي، وطلبت من والدتي أن أتقدم لها ووافقت والدتي، فأجابتها: ولكنه لا يريد، وذهبت بمفردها إلى الأقصر وأسوان، ثم رأيتها في إحدى زياراتي إلى باريس، وتصورت أنها ما زالت صديقتي، فاستغربت؛ فإن الزمن قد ولى، ثم تلقيت منها رسالة أخيرة بعد أن قرأت عن فكري في إحدى الصحف الألمانية، ذاكرة إياي بالاسم بأنني أصبحت من كبار مفكري الوطن العربي من خلال مشروع «التراث والتجديد». رددت عليها وشكرتها، ولا أظن في العمر بقية حتى نتذكر ما مضى. وقد ازدادت معرفتي باللغة الألمانية منها على مدى أربع سنوات، وزرتها في هيلدسهايم
Hildesheim ، وتعرفت على أخيها المزارع ومربي الخنازير. زرت معها أرجاء فرنسا في الصيف وألمانيا وإسبانيا، تسوق عربتها، ثم نقتسم باقي المصاريف مناصفة. وفي ليلة استيقظت على ضجة في المزرعة، فأيقظتها وسألت: ما هذه الضجة؟ فقالت: مجرمون لصوص الخنازير. فقلت: ولماذا لا يطاردهم أخوك؟ قالت: لأنهم مسلحون قتلة، والأفضل أن نفقد خنزيرا أو اثنين على أن نفقد أخي، فتساءلت في نفسي: أين الشجاعة الألمانية؟
وبعد أربع سنوات إقامة بالمدينة الجامعية أقمت سنتين بغرفة مزدوجة مع مبعوث مصري في القانون الدستوري، وكان لديه صديقة روسية يقضي لديها عطلة نهاية الأسبوع، وأخرى فرنسية التي كان يراها وسط الأسبوع والتي زارته في مصر رغبة في الزواج منه، وكانت جميلة شقراء. وكانت لها صديقة فرنسية حاولت مصادقتها فلم أفلح بالرغم من جمال تسريحتها الأسبوعية؛ فلم أكن أستطيع التعرف عليها ولو حتى الصداقة. وكانت له صديقة طياري ثالثة جاءته مرة لزيارته. ولم يكن موجودا، فقالت وماذا أفعل الآن؟ فأجبت أنا موجود، فأجابت أيكما يقضي الأمر، ويقوم بالواجب. وأدركت حاجة المرأة للجنس بصرف النظر عمن يقوم به. وكانت الصديقة الروسية تود الزواج به بعد أن كان يقضي عطلة الأسبوع في منزل والديها، وتقدمه لهما على أنه صديقها، ولما لم يحدث ذلك قاطعته، فحزن حزنا شديدا، ولم يفرغ حزنه وهمه إلا صديقته الفرنسية. وبعد أن استنفدت جميع حقوقي كطالب في المدن الجامعية، سكنت من جديد في دانفير روشيرو آخر عام في غرفة السطح، وما زال اسمي على لوحة أسماء السكان للبريد؛ فالصداقة لها حقوقها مثل الزواج في بلادنا؛ فلا تجوز خيانتها. وفي السنة الأخيرة تعرفت بالمصادفة على فتاة فنزويلية قصيرة سمراء ولكنها مملوءة بالحيوية، تعلو فوق وجهها ابتسامة شرقية. ولما كنت من أنصار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية دخلت قلبي في التو واللحظة. دعوتها إلى غرفتي فاستجابت، وكانت على علاقة بفرنسي يبدو أنه وعدها بالزواج. علمتني الحياة. كونت شخصيتي التجارب. ولا أدري إذا كنت قد أحسنت.
صفحه نامشخص