ويعيش الإنسان بين دائرتين صغيرتين؛ الأولى دائرة الوالدين، والثانية دائرة الأبناء والأحفاد. ففي الدائرة الأولى الصغرى وهي دائرة الأسرة، الوالدان والأشقاء والشقيقات قبل الزواج والانفصال عنهما. فالأب كان طيب القلب، يحافظ على أسرته وأبنائه وأحفاده، يلتقي بهم في المناسبات عندما يكبرون ويتعاطف الأبناء معه طبقا للآية
وبالوالدين إحسانا . وهو موضع احترام وتقدير الجميع. كنت أزورهم مرة أسبوعيا هو والوالدة بعد الزواج وتكوين أسرتي الصغيرة؛ الزوجة والأولاد ثم الأحفاد. رأيته وهو في اللحظة الأخيرة وكان زوج شقيقتي موجودا والروح تصعد إلى بارئها، وعلامات الألم بادية على وجهه وفمه المفتوح.
أما الوالدة فقد توفيت بعده بعشر سنوات، وكنت أزورها وهي مريضة على الأقل مرتين في الأسبوع، وفي آخر مرة رأيت ظهرها وقد آلمها من قرحة الفراش، وفي اليوم التالي كنت أحضر عزاء أحد الأقرباء ولم أستطع زيارتها لتأخر الوقت. حزنت كثيرا وندمت لأنها توفيت ذلك اليوم ولم أرها للمرة الأخيرة، ولم أسامح نفسي كيف لم أصعد لزيارتها حتى لو كنت متعبا؟
وتوفي أخي من دائرتي الأولى الصغيرة. كنت بجانبه أنا وابنته في غرفة الإنعاش بمستشفى القصر العيني الفرنسي، وأخذنا عزاءه في مسجد المدينة الجامعية.
أخشى من النفس الأخير الذي ينقطع بعده دخول الهواء إلى الرئتين. كنت بجوار أبي وبجواري زوج شقيقتي الكبرى وهو في النزع الأخير، رأيت فمه مفتوحا على آخره، ووجهه متألم. وبعد ذلك انتهى تعبير قسمات الوجه، وانفض الصدر، وتوقف التنفس، قرأ زوج أختي الفاتحة عليه، ووضع الغطاء على وجهه، وخرجنا من الغرفة، ورجونا من أمي ألا تصرخ؛ فقد قام أبي بواجبه خير قيام، وربى سبعة من أولاده؛ ولدين وخمس شقيقات. وكان فخورا بتلك البنايات السبع التي بناها. صحيح أنه من المحافظين، وكنا إذا زرناه أنا وزوجتي الحبيبة لمساعدته في بعض الأعمال المنزلية؛ لأن والدتي كانت في بني سويف، كان يجلس أمامنا، وكنا نشاهد في «التليفزيون» جنازة عبد الناصر عنده، وكانت زوجتي ترتدي «جونلة» قصيرة فرمى لها بغطاء التلفزيون قائلا: «استري نفسك.»
كان تقليديا، وكانت زوجتي تعد له الطعام أثناء غياب والدتي، ومرة كانت تطبخ فاصوليا خضراء، وتقطعها بالعرض، ولما انتهت من الطبخ وأكل منها رأينا عدم الرضا على وجهه. فسألناه: «ما الخبر؟» فقال: «إن زوجتك قطعت الفاصوليا بالعرض، أما أمك فكانت تقطعها بالطول؛ ولذلك ففاصوليا والدتك ألذ من فاصوليا زوجتك.» فقبلنا النقد عن رضا مع أنه لا فرق بين تقطيع الفاصوليا بالطول أو بالعرض.
وكانت والدتي تطبخ لنا الكشك الصعيدي، وكنت أكتب على وجه الطبق بالصلصة الحمراء اسم زوجتي؛ فيضحكان الوالدة والوالد رحمهما الله.
وكان عندما يقرأ الجريدة الصباحية يعيد قراءة الأخبار لوالدتي التي كانت أمية، وهو يمثل ما يقرأ كي تفهم ما يحدث في السياسة خاصة أنني وأخي كنا من المسيسين.
وقبل أن أغادر إلى فرنسا سألت والدي: «أين هي كتيبات الإخوان؟ والمجلة التي كانوا يصدرونها؟» قال: «أخفيتها داخل ماسورة حائط في السطح فلا يستطيع أحد رؤيتها.» خشية علي من ملاحقات الأمن أو الشرطة.
كان مخلصا لأسرته، ونحن في الإسكندرية والأسرة تودعني قبل ركوبي الباخرة، أعطاني أخي عشرين جنيها مكافأة الباحث التي كان يأخذها في الشهر، ولما رأى الوالد ذلك أخرج ما في جيبه وكانوا خمسة جنيهات. فأعطاها لي، وفرحت. وحزنت في الوقت نفسه، فرحت لهذه العاطفة النبيلة في الأسرة. وحزنت؛ لأنني أخذت كل ما معها وكل مصروفها في هذا الشهر.
صفحه نامشخص