جوهر نجلي البكر الأكبر هو الإخلاص؛ الإخلاص في العمل؛ يخرج من الصباح الباكر ويعود في المساء، متعبا في حاجة إلى الراحة بعد عناء. يعطي نموذجا للإخلاص لزملائه الذين يعملون معه، أعلى منه رتبة أو أقل، وكأنه كان يدور في وعيه اللاشعوري حديث الرسول «إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه.» أصبح العمل هو بؤرة حياته، وربما لم يعد يبقى لباقي الدوائر الأخرى في حياته أي مكان، ومع ذلك هو حسن العشرة، مخلص للأصدقاء، صاحب «نكتة»، يلعب مع الأطفال وكأنه طفل مثلهم، وتلعب الأطفال معه، يخلص لأسرته، ويؤدي معظم خدماتها بالرغم من ضيق وقته، لم يلهه الإخلاص في العمل عن التمتع بالموسيقى والمسرح.
وهو متخصص في النظام الفيدرالي الذي قد يطبق في الوطن العربي أسوة بالاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السويسري، والمملكة المتحدة، وألمانيا الاتحادية، والاتحاد الأوروبي؛ يجمع الدول المتحدة مع جيرانها في منظمات إقليمية. وأول مظاهر هذه الاتحادات، المرور الحر من وطن إلى آخر دون تأشيرة دخول، والاقتصاد الحر لكل دولة، ويكون الاتحاد أساسا في السياسة الخارجية وفي الدفاع.
والابن الأوسط تدور حياته وحياة زوجته وأولاده الثلاثة حول محور الإيمان؛ فالجميع متدين، يؤدون الصلوات، ويحترمون الشعائر، ويخلصون للجد والجدة، والأعمام والأخوال.
وهو مخلص لعمله في علم الاتصالات، ولديه خبرة واسعة في مجال عمله بتركيا وكندا، ولولا صعوبة عودته إلى الوطن وإيجاد عمل يليق بمستواه الفني بعد أن كان مهندسا كبيرا في شركة للاتصالات يملكها نجيب ساويرس والتي تم بيعها لشركة أخرى استغنت عن معظم مهندسيها الكبار. وينتظر أن تسمح الظروف للعودة إلى الوطن، وإذا وجد عملا جديرا بمستواه التقني كمهندس للاتصالات.
أما الابنة الصغرى فيمكن تلخيص شخصيتها، كما أشعر بها، في كلمة واحدة هي «التمرد»؛ التمرد على بقايا المحافظة في الأسرة الأولى، والتمرد في حياتها الأدبية والنقدية، وعلى أوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية. شاركت في الكثير من الندوات الأدبية، ولها اجتهادات أولى في كتابة القصة القصيرة، ولها محاولات في النقد الأدبي، ولها مشاركات في الحركات الوطنية، والأحزاب التقدمية. تعد الآن رسالتها للدكتوراه بألمانيا في النقد الأدبي من مرحلة ما بعد التحرر من الاستعمار، تنقد نظريات النقد الأدبي الصورية والاجتماعية لتقيم نقدا أدبيا يجمع بين الأشكال الأدبية والبنيات الاجتماعية والحركات الوطنية، لها ابنة هي حفيدتي، يبدو أنها ستكون مثل أمها وجدها، تنتقل من التمرد إلى الثورة، كما انتقل جيل الإصلاح والنهضة إلى جيل الثورات العسكرية، ثم انتقال الثورات العسكرية والنخب الدينية إلى الثورات الشعبية الجماهيرية، ومنظمات المجتمع المدني، وجيل الشباب الذي عانى من التهميش وغياب القيادات الثورية، ومثل الانتقال إلى ثورة 2011م.
وبعتاب رقيق لأولادي الثلاثة في طريقة اختيار أسمائهم، هناك طريقتان؛ الأولى مركزية، وهي الطريقة القبلية التي ما زالت سائدة في الصعيد وفي بعض المناطق من الوجه البحري وفي عديد من الأقطار العربية؛ فلكل إنسان اسم ولكن الاسم الثاني اسم القبيلة. والطريقة الثانية هي الطريقة الطولية الممتدة بلا مركز؛ فهناك الاسم واسم الأب واسم الجد، الاسم الثلاثي، ونادرا ما يطلب الاسم الرباعي، فإذا طلب فإنه يكون أبا الجد. فمثلا اسمي بالكامل حسن حنفي حسنين أحمد، حسن اسمي، حنفي اسم الوالد، حسنين اسم الجد، وأحمد أبو الجد. وألاحظ ليس فقط في عائلتي بل في عائلات غيرى بأنه يتبعون الطريقة المركزية في تسمياتهم بانتسابهم لاسم القبيلة أو العائلة، ربما طلبا لأوراق رسمية في الغرب فيضطر الشخص إلى اختيار اسم مركزي لا أدري كيف! هل هو اسم الأب أم الجد أم أبو الجد ... إلخ. ويسقط الاسم الرباعي في حالة الأحفاد؛ فمثلا حفيدي «أنس» اسمه «أنس حاتم حسن» ويسقط الاسم الرباعي حنفي، فإذا تزوج وكان له ابن وسمي «محمود» يكون اسمه «محمود أنس حاتم» ويسقط الاسم الرابع وهو حسن. وما آخذه على أولادي الثلاثة هو إسقاط اسم الأب والاكتفاء باسم الجد وكأنه اسم العائلة؛ فيكون أسماء أولادي الثلاثة: حازم حنفي دون حسن الأب، حاتم حنفي دون حسن الأب، حنين حنفي دون حسن الأب. وحنفي هو ليس اسم العائلة بل هو اسم أبي؛ فأشعر بأن اسمي قد سقط وأنا الأب من تسمية الأولاد لأنفسهم، فأحزن؛ فأنا لم أسقط اسم أبي من تسميتي فأنا «حسن حنفي حسنين» وليس «حسن حسنين».
أما الدائرة الأوسع وهي الدائرة الثانية في أسرتي، فمعظمها من البنات باستثناء أخ لي. يتخللها تياران: التيار المحافظ، والتيار التقدمي. ويضم الاتجاه المحافظ معظم شقيقاتي البنات لأنهن لم يعملن بالسياسة كثيرا، إنما التفتن إلى حياتهن العملية في الوظائف وتكوين الأسر والحصول على الأبناء. وأما جيل الأحفاد هم الذين تأثروا بالجانب التقدمي في الأسرة الأولى وعاشوا مرحلة انكماش مصر وتخليها عن مركزها؛ قلب الوطن العربي. وقد تتستر إحداهن بغطاء الدين ولكن قلبها مع رعاية المصالح لأولادها وتدعيمهم أسرهم الصغيرة.
وكان أخي نموذجا للرجل الطيب، صافي القلب، يحب الخير للجميع. قبل أن يكون باحثا بقسم اللغة العربية قبل تعيينه معيدا بمرتب بسيط، ومع ذلك استطاع أن يساهم في إعالة أسرته وتزويج شقيقاته وإرسال الوالدين للحج مرتين، وكان تلميذا لأحد تلامذة طه حسين؛ فكان يحب العلم وفي نفس الوقت كان ضابطا احتياطيا في الجيش. وكان يهوى لعبة المصارعة، وكنت أشاهده وهو يصارع أحد الطلبة في مدرسة خليل أغا وكان قوي البنية، فكنت أخشى عليه من أن يصيبه مكروه. كان طويلا مثلي يلعب كرة السلة وأحيانا العقلة والمتوازيين، ويحب التمثيل؛ فانضم لفريق التمثيل بالمدرسة، وكان يدخل في مسابقات وزارة المعارف لفرق التمثيل المدرسية. وكان المنافس الأكبر في مدرسة خليل أغا لفريق تمثيل مدرسة الخديوية التي كان جمال إسماعيل قريبنا طالبا بها، صاحبني إلى الإسكندرية هو والوالد عند سفري لفرنسا بالباخرة فأعطاني عشرين جنيها وكانت مرتبه الشهري كله كباحث لدى الجامعة. كما أعطاني الوالد الخمسة جنيهات التي كانت كل ما معه قبل السفر، وظللت أحفظ له هذا الجميل حتى عودتي، وقمت بإعانة والدي ووالدتي وشقيقتي الصغرى بعد الرجوع من فرنسا بدلا عنه، وعين وكيلا لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان يخدم الطلبة ويساعدهم لأقصى حد، لدرجة أنه سمح لأحد الطلاب السوريين باستمرار تحضيره للدكتوراه وكانت عن هيجل لمدة عشر سنوات، وكان القانون لا يسمح بأكثر من خمس سنوات. وهو الذي أنشأ كلية الآداب بجامعة بني سويف، وكان عميدا للكلية ورئيسا لقسم اللغة العربية، ثم كبرت الجامعة بإنشاء كليات أخرى مثل الحقوق، والآن هي جامعة كبيرة تضم كلياتها العديدة ومبانيها الجديدة. وكان كثير التدخين؛ مما أصاب رئتيه بمرض خطير، وكنت معه ليلة الوفاة في المستشفى وبغرفة الإنعاش أنا وابنته الكبرى وهي تقول: «نحن نحبك يا أبى!» وقرر قبل أن يتوفى أن يهدي مكتبته إلى كلية الآداب بجامعة بني سويف؛ فهو عميدها الأول ورئيس قسم اللغة العربية الأول بها، وسمي أكبر مدرج بالكلية باسمه.
وكانت علاقة شقيقتي الكبرى بزوجها القريب من والدتي علاقة مثالية للعلاقات الزوجية من حيث التضحية والمحبة والفداء، وكانت أخت الزوج عانسا وصلت إلى ما فوق الخمسين ولا أمل لها في الزواج، وكانت في اللاشعور تحسد شقيقتي لحب زوجها لها وحب شقيقتي له. لم تفعل شيئا كريها ولكنها لم تكن تحسن المعاملة، وتعوض نقصها باستعلاء على أسرتها وربما في عملها، تسير بحذاء ذي كعب عال يخطف الأبصار، ولكن لا أحد ينظر إليها، وكانت شقيقتي من الحكمة بحيث لم تصطدم بها على الإطلاق بالرغم من وجود ثلاث نساء في منزل شقيقتي؛ هي وحماتها وشقيقة زوجها العانس. فإذا أخطأت شقيقتي في شأن من شئون المنزل هاجت وماجت، ولم ترد شقيقتي عليها، ولم تترك لها المجال لتعكير الصفو مع زوجها أو حماتها. ولما توفيت شقيقتي وحضرت بطبيعة الحال مراسم الدفن في مقبرة اشتراها زوجها انتظارا لهذا اليوم الكئيب، وجلست بجوار زوج شقيقتي وهو صامت لا يتكلم؛ مهموم لفقدان رفيقة حياته، وعيناه تنظر إلى المقبرة بعد الدفن وكأنه يقول: «لماذا تتركينني بمفردي وتغادرينني؟» وبعد شهر واحد لم يحتمل زوج شقيقتي ألم الفراق وخلو المنزل من الحبيبة شقيقتي؛ ففارق الحياة بعد شهر واحد من وفاة شقيقتي كي يلحق بها إلى نفس المكان.
وكانت إحداهن طيبة القلب للغاية، خيرة، لا تعرف الشر، وكذلك أبناؤها. وكانت أخرى في حالة متوسطة بين الطيبة وبين ما تدفعه إليها الحاجات الاجتماعية، لها ابنة لم تتزوج حتى الآن وقد قاربت على الخمسين نتيجة لظروف الضغط عليها من الاتجاه المحافظ في أسرتها، ولي شقيقة أخرى طموحة في العلم، تجاوزت مدرسة المعلمات إلى كلية الآداب بعد الثانوية العامة، وأصبحت رئيسا لأحد أقسامها، وهي الآن ما زالت وفية لقسمها وتخصصها بعد أن قاومت الاتجاهات المحافظة في أسرتها القائلة بأن البنات يكفيها التعليم المتوسط ثم الزواج. وأحد أبنائها وتقريبا الوحيد الذي يمثل الاتجاه التقدمي في الدائرة الثانية للأسرة، يناقش، ويحاور، وينقد، ويرفض.
صفحه نامشخص