وقد تنبه إلى هذه الحقيقة الناقد الإنجليزي والشاعر «ماثيو أرنولد» حين قارن بين امتياز الشعراء، لا على أساس الشكل وحده، بل على أساس ثراء المادة الفكرية، وقد هداه بحثه إلى أن النقاد هم الذين يوفرون هذه المادة للأديب، فكان يقول: إن على الناقد أن يوجد تيارا من الأفكار الحديثة الصائبة بحيث يجد الفنان نفسه في إطار يضمن لعلمه العمق ويكتب له البقاء، وكان يضرب المثل لهذا الشاعر الألماني العظيم «جوته». وقياسا على هذا نجد أن «روح العصر» (وكان الناقد الإنجليزي وليم هازليت أول من ابتكر هذا التعبير) يمكن أن تفسر لنا طبيعة المادة التي يتناولها الفنان في عمله.
أما الخطأ الثاني فهو يتعلق بطبيعة عمل الفنان - وهذا أيضا لم يصحح إلا منذ عهد قريب - إذ كان يظن أنه مصور وحسب أوانه مجرد مرآة تعكس حياة الناس (في مجتمعه مثلا) أو حياة الطبيعة؛ ومن ثم كان النقاد يركزون في دراستهم على جوانب «المهارة في المحاكاة» ومدى صدق التصوير، وقد كان للشاعر الإنجليزي «كولريدج» - وهو أبو النقد الحديث - فضل تحرير الأذهان من هذا الخطأ الفادح حين أسهب في «السيرة الأدبية» في الحديث عن الخيال الإبداعي وعمل المخيلة الإبداعية (وأنا أستخدم هنا المصطلح الذي أتى به ابن خلدون قبل كولريدج بما يزيد على أربعة قرون).
وبفضل هذا المفهوم أصبح الجميع يدركون أن عمل الفنان يتمثل في إعادة تشكيل الواقع لا تصويره، وأن جهد التفكيك والتحليل لا ينفصل عن جهد التجميع والتشكيل؛ ولهذا لا بد للذهن من أن يحكم فن التفكير التحليلي الذي لا يأتي إلا بالدراسة واستيعاب المنهج العلمي الحديث.
ولقد قيل قديما إن كل فنان يضمر في داخله ناقدا - يتحكم في اختيار المادة وتحديد الشكل، بل ويصدر أحكام القيمة. ولذلك كان أفضل الفنانين هم أفضل النقاد دائما - وأضيف إن أفضل النقاد مبدعون - فملكة الإبداع تتضمن جهدا مركبا لا غنى عنه للناقد والفنان جميعا، ولا غنى لأيهما عن معارف العصر، وهو ما لا يتأتى بالتعليم والدراسة.
خرافة الكمال
لم يتردد الشاعر المبتدئ في الاعتراض عندما أبدى له أحد زملائه نقدا، وكان اعتراضه عنيفا وحاسما؛ فهو يستند إلى ما شاع في الخمسينيات - نقلا عن مدرسة النقد الحديثة الأوروبية الأمريكية - من أن العمل الفني كائن مستقل له قوانينه الخاصة، وأنه كامل في ذاته، لا يحتمل الزيادة ولا النقصان، ولا يمكن ترجمته، ولا يمكن نقله من صورة إلى صورة، أي من شكل أو وسيط إلى شكل أو وسيط آخر (كالرواية والمسرحية والقصيدة وما إليها)، وإلا مسخ وشوه وخمد، ولم يعد - باختصار - عملا فنيا.
وتعجب زميله الذي يكتب الشعر أيضا من هذا العنف غير المتوقع؛ فقد كان اعتراضه يسيرا، منطقيا إلى أبعد الحدود، بل لا يعدو أن يكون اقتراحا بتقسيم القصيدة إلى قصيدتين؛ لأنها تنقسم - في صورتها الحالية - إلى لحظتين تمثلان رؤيتين لا يجمع بينهما تماثل أو تناقض، ولا يشدهما تقارب أو تقابل، ولا يتصلان بتناظر أو تضاد، ولا يؤدي أحدهما إلى الآخر ولا ينبع منه، ولا يكاد يربط بينهما سوى ما يربط بين القصائد المتفرقة في ديوان واحد!
وكنت أتابع المناقشة ولكنني لم أتعجب؛ إذ وجدتني في موقف الزميل الناقد رغما عني ذات يوم وعام 1986م يؤذن بالأفول، حين أبديت نفس الملاحظة لقصيدة في ديوان الشاعرة وفاء وجدي، واعترض أحد الزملاء على حق الناقد في التعديل أو اقتراح ما يمكن أن يغير من شكل القصيدة. باعتبار العمل الفني كيانا مطلقا لا يجوز المساس به. وطفقت أتأمل هذا الموقف الناشئ من إساءة فهم المذهب الفني الحديث؛ فلا شك أن النقد الحديث لا يقصد القول بكمال أي عمل فني، ولكن ما هي أسباب سوء الفهم؟
السبب الأول في رأيي هو معنى اصطلاح «العمل الفني» بداية؛ فنحن نقنع بالشكل الخارجي للعمل في تحديد انتمائه إلى أسرة الفن - فما دام منظوما ومقفى (أيا كان نوع النظم والقافية)، ويقدم رؤية ما؛ فهو قصيدة، وما دام منثورا ويحكي وقائع وبه شخصيات وأحداث؛ فهو قصة ورواية، وما دام مكتوبا بالحوار وبه مواقف وما إلى ذلك؛ فهو مسرحية. ونحن نسرع في الحكم باستقلاله وكماله حين نقرر أنه عمل فني! وما أبعد هذا كله عما يعنيه النقد الحديث!
إن النقد الحديث يقول في الحقيقة إن «العمل الفني» يطمح إلى الكمال؛ أي إنه في صورته المثالية كامل، ولكنه لا يرقى إلى هذه الصورة المثالية أبدا؛ فهو مرتبط بنقصان البشر، وما هو في الحقيقة إلا سجل مجسد لمشاعر وأفكار أبعد ما تكون عن الكمال شكلا ومضمونا، وكلنا يذكر قول العماد الأصفهاني: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.»
صفحه نامشخص