تقديم
تصدير
الأدب العربي بين المحلية والعالمية
عن الأجيال الأدبية
متفرقات
مع لويس عوض
مؤتمر كيمبريدج
مصر في عيون العالم
شوارد
تقديم
صفحه نامشخص
تصدير
الأدب العربي بين المحلية والعالمية
عن الأجيال الأدبية
متفرقات
مع لويس عوض
مؤتمر كيمبريدج
مصر في عيون العالم
شوارد
الأدب والحياة
الأدب والحياة
صفحه نامشخص
تأليف
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
صفحه نامشخص
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
تصدير
تتناول هذه المقالات المنوعة موضوعات تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا، ولكنها لا تخرج في النهاية عن محور واحد هو الأدب باعتباره ظاهرة إنسانية؛ ومن ثم فهي تدور كذلك حول الإنسان الذي يكتب هذا الأدب أو يقرؤه أو يتجسد فيه!
وباستثناء المقالات الست (42-47) التي نشرت في الأهرام المسائي في باب «أحاديث الأحد» نشرت جميع هذه المقالات في صحيفة الأهرام الصباحية يوم الجمعة في عمود «الأسبوعيات» على مدى سنوات طويلة - من آخر 1986م إلى آخر 1992م - مع توقف أثناء حرب الخليج استمر عاما وبعض عام، بسبب الغصة التي ترسبت في حلوق كتاب العربية المؤمنين بها.
وسوف يلاحظ القارئ أن المقالات تتسم بالإيجاز الشديد الذي يفرضه ضيق المساحة في الصحيفة اليومية؛ ولذلك فأنا أعتذر مقدما عن عدم الاسترسال في الموضوعات التي تقتضي الإسهاب. ولتعويض ذلك أدرجت المقالات التي تشترك في طرح فكرة بعينها بترتيب نشرها في الأهرام كي أيسر على القارئ متابعة الفكرة، ولا شك أنه سوف يلحظ هذا الاتصال الداخلي فيما بين المقالات ولن تفوته الإشارات الصريحة إلى مقال سابق أثار بعض الضجيج فاقتضى الإيضاح. كما سيلاحظ القارئ عدم وجود بعض المقالات التي طالعها في «أسبوعيات الجمعة» في هذا الكتاب، وربما ضحك من السبب الذي سأورده له وهو ضياع أصولها من مكتبتي وتقاعسي عن بذل الجهد في البحث عنها في أرشيف الأهرام.
وأهم ما أود أن يذكره القارئ هو أن هذه المقالات، على ما يبدو بها من سمات الصحافة السريعة، ليست خطرات عابرة أو غير محققة، بل هي نتيجة التفكير المتأني والبحث المحقق، وكل ما بها من معلومات صحيح وموثق، من أسماء الكتب والمؤلفين إلى الذكريات المرتبطة بالحوادث والأشخاص، سواء في مصر أم في الخارج. وهذا هو الاتجاه الذي سار فيه عمود «الأسبوعيات» منذ أنشأه محمد زايد ورعاه ونماه الصديق الأديب سامي خشبة. وقد كنت أفضل أن أطلق على الكتاب عنوان «أسبوعيات» بغية إحالة القارئ إلى أصول المقالات، ولكن هذا العنوان ليس من حقي، بل من حق كل من أسهموا في الكتابة بهذا العمود على مدى السنوات السبع الماضية.
صفحه نامشخص
وسوف يلاحظ القارئ أنني أدرجت مقالا بقلم الدكتور لويس عوض عن أحد أعمالي المترجمة، وردي عليه، ثم رثائي له، انطلاقا من روح التلمذة الحقة التي ربطت بيني وبين هذا العملاق الشامخ - رحمه الله رحمة واسعة. وأخيرا فلن يعدم القارئ بعض الهزل في ثنايا الجد، وبعض التفاوت في النبرة
TONE
أو النغمة من مقال إلى مقال.
أرجو أن يقبل ذلك من باب التسلية والتسرية. فكتب المقالات تشبه - في أحسن حالاتها - الحدائق التي تضم الحشائش والأعشاب إلى جانب الزهور والفواكه! فليقطف القارئ ما يجده من زهر وثمر، وليضرب صفحا عما يصادفه من عشب وكلأ! فهذا أقصى ما أتمنى.
محمد عناني
القاهرة، 1992م
الأدب العربي بين المحلية والعالمية
معنى العالمية
منذ عدة أعوام رأيت إعلانا عن أحد الأفلام المصرية يتضمن الإشارة إلى ممثلة «عالمية» - وراعني أن تشترك إحدى فنانات العالم الكبار في فيلم مصري ينطق اللغة العربية، وأن يوضع اسمها في ذيل قائمة الممثلين مسبوقا بعبارة «بالاشتراك مع النجمة العالمية» - وجعلت أتأمل الاسم أياما (وقد علق بذاكرتي بعد أن رأيته كثيرا) وقررت أن أسأل عنه أحد الأصدقاء الذين تخصصوا في نقد السينما. ولم أجد عنده إجابة لسؤالي فقصدت صديقا آخر أعرف فيه المعرفة الموسوعية فأنكر هو الآخر، وكثرت تساؤلاتي حتى يئست وكدت أنسى الموضوع تماما، ثم جاء يوم قابلت فيه أحد المشتركين في الفيلم وكان يحضر معي عرضا مسرحيا فسألته فقال لي ببساطة ودون اكتراث: نعم، إنها إسبانية، وقد رحلت! فألححت عليه أن يشرح لي الموضوع فلم يزد على أن قال إنها فعلا ممثلة ولكنها من الطبقة الثالثة أو الرابعة، وسوق السينما في إسبانيا «نائم»!
وفتحت هذه العبارة بابا أمامي كنت أغلقته من سنين، وهو معنى «العالمية» الذي اختلط في الأذهان - كما تبين هذه الحادثة - بمعنى كل أجنبي، وخاصة كل ما هو أوروبي أو أمريكي (بالتحديد)؛ فنحن نتردد في أن نطلق على الأسترالي أو النيوزيلاندي - ولا أريد أن أذكر أحدا من بلدان العالم الثالث (أو البلدان النامية كما يسمونها) - لفظ عالمي؛ إذ تقتصر العالمية في لغتنا ومفهومنا واصطلاحنا على أبناء الدول الكبرى، وخاصة منها الدول الاستعمارية التي حكمت معظم بلدان الأرض في فترة ما من تاريخنا الحديث. أقول بابا كنت أغلقته من سنين لأنني كنت لا أريد أن أصدق ما قاله أستاذنا الدكتور لويس عوض ذات يوم من أن الدول «المسيطرة» تفرض قيمها على غيرها، ومثلما تتفوق عسكريا واقتصاديا تستطيع أن تتفوق - على الأقل من الناحية المادية - في نشر أدبها وفنونها وثقافتها. كنت لا أريد أن أصدق ذلك إما لنزعة براءة لم تفتأ تعاودني وإما لإيمان بقيمة الفن الجميل والأدب الراقي الذي قرأت كثيرا من نماذجه بغير العربية، ولكن الباب انفتح الآن ولم أعد بقادر على إغلاقه؛ فما الذي يجعل الأدب عالميا؟
صفحه نامشخص
التساؤل الأول - لا شك - هو ما معنى العالمية؟ هل معنى أن تكون ثمة رواية عالمية أن العالم يقرؤها؟ أي إنها تتمتع بقدر من الإقبال الشعبي يتخطى حدود الإقليمية واللغة والثقافة وما إليها؛ بحيث يقرؤها الناس في كل مكان وبأي لغة؟ (أيا كانت الأسباب الدافعة على ذلك) أم أن معنى العالمية هو أن ثمة خصائص في العمل الأدبي أو الفني تجعله قادرا على البروز بحيث ينتقل من حدود الاستمتاع المحلي به إلى آفاق العالم الواسع بلغاته وثقافاته المتعددة؟
التفريق بين المعنيين هام. أما الأول، وهو السائد، فلا يقتضي بالضرورة امتيازا فنيا خاصا للعمل الأدبي، بل ولا يقتضي احتواء العمل الأدبي على مادة إنسانية أصيلة حافلة تتخطى به حدود اللغة التي كتب بها، فإن هناك عوامل شتى تحدد إقبال الجماهير في بلدان العالم المختلفة على عمل دون غيره - منها ارتباطه الوثيق بالثقافة التي نبع منها؛ أي: كونه وثيقة اجتماعية أو ثقافية يحتاج إليها من يريد التعرف على الحياة في بلد ما. وفي هذا الإطار تندرج أعمال أدبية كثيرة كتبت بلغات متعددة، ويقرؤها القارئ لا للاستمتاع الأدبي في المقام الأول، بل للتعرف على الثقافة أو الحضارة التي تمثلها - أيا كان حجم الدولة أو الأمة في موازين القوة الدولية. ومن هذه العوامل أيضا ارتباط العمل بالجذور المشتركة للثقافة الإنسانية مثل الأساطير والحكايات الخرافية والرموز النفسية المستمدة من الوعي الجمعي (بل واللاشعور الجمعي)، وفي هذا الإطار تندرج الملاحم القديمة، الشعبية منها والأدبية، والمواويل والألغاز والقصص الشعبي وبعض الصور الدرامية الأولى التي مر بها المسرح عبر تاريخه الطويل، ومن هذه العوامل أيضا قدرة العمل على التسلية، وهذه قيمة محدودة؛ فالأعمال الأدبية التي تعتمد على الإثارة أو الإضحاك أو على تصوير مشاهد الرعب، تعتبر أعمالا ترفيهية بالدرجة الأولى، وهي رغم إقبال العالم عليها لا ترقى إلى مستوى الأدب الرفيع. وقد حل محلها في زماننا بعض مسلسلات التليفزيون الأمريكية، وأفلام الهزليات ومسرح الهزل والقصص الرخيص وما إلى ذلك. إن تلك الأعمال تطبع وتكتب ويقرؤها الناس بلغات متعددة، ولكنها لا تتمتع بالاعتراف الأدبي ولا يعيرها النقاد اهتماما كبيرا (مثل الروايات البوليسية مثلا).
المعنى الأول للعالمية إذن لا يفترض معايير أدبية أو فنية ولا مادة إنسانية صادقة ترقى بالعمل الأدبي إلى مصاف الروائع. أما المعنى الثاني فهو الذي يعنينا؛ وهو المعنى الذي يمثل صعوبة لا يمكن التهوين من شأنها.
لقد تحدثت عن المعايير الفنية والمادة الإنسانية. ولقد اقترنا في حديثي اقترانا وثيقا؛ ولكن الواقع أن نسبة وجودهما معا في عمل واحد تتفاوت من عمل إلى عمل، فلربما صادفت عملا أدبيا حافلا بالمادة الإنسانية، نابضا بالحياة البشرية التي يصورها، وهو مع ذلك لا يخضع للمعايير الفنية التي أشرنا إليها؛ فما هي تلك المعايير الفنية ومن الذي وضعها، وكيف تتغير - إذا كانت تتغير - ومن الذي يغيرها؟
المؤسسة الأدبية العالمية
إذا كنا نقيس الأدب بمقياس ذي شقين؛ أولهما المادة الإنسانية التي تهبه حياته وعمقه، والثاني المعايير الفنية «المتفق عليها»؛ فنحن نواجه في الحياة معيارين لا معيارا واحدا - الأول إنساني والثاني فني - وإذا كان المعيار الإنساني أيسر في التعرف عليه فهو أصعب في الحكم عليه؛ لأنه لا يصل إلينا إلا من خلال الشكل الفني - أي إنه يتحد به ولا يمكن فصله عنه؛ ولذلك فإذا ركزنا على ما اصطلح على تسميته بالمعيار الفني الذي يحدد الأدب الرفيع استطعنا أن نرى الشكل والمضمون معا.
وأول ما ينبغي أن نثبته هو أن المعايير الفنية نسبية وليست مطلقة؛ أي إن تحديدها يتغير من عصر إلى عصر ومن نوع أدبي إلى نوع آخر، بل ومن لغة إلى لغة. وتحضرني في هذا المقام نظرية «النسبية النقدية» التي نادى بها في الخمسينيات البروفيسور «بوتل» وعرضت لها في كتابي «النقد التحليلي» (1963م) ومفادها أن معيار تحديد الأدب الرفيع يستند إلى ما اتفق عليه النقاد «المحترمون» في أي عصر من العصور وأي مكان وأي لغة، وما وصفوه بأنه جدير بالبقاء. ولكن كيف نحدد أولئك النقاد «المحترمين» هل هم مثلا من كتبوا كتبا ضمنوها اختياراتهم لشعر الأقدمين أو المعاصرين كصاحب ديوان الحماسة أو المفضليات أو يتيمة الدهر أو العقد الفريد أو المستطرف أو حتى لصاحب «الكنز الذهبي» الإنجليزي وغيرهم؟ أم أنهم النقاد الذين قدموا نظريات في اللغة والأدب مستشهدين بشعر السلف أو «محاسن أهل العصر» (الجاحظ وابن الأثير وقدامة وبشر والثعالبي ومن إليهم)؟ أم تراهم نقاد اليوم؛ أي نقاد المتابعة
REVIEWERS
الذين يقدمون الأعمال الأدبية في الصحف والمجلات ويعلقون عليها تعليقات تتضمن أحكاما بالرفض أو القبول، وقد تتضمن بعض التحليل الفني أيضا؟ وأخيرا ألا يمكن اعتبار الفنانين أنفسهم والأدباء بما لهم من نظرات في إنتاج بعضهم البعض نقادا؟ ألا يمكن اعتبار أحكام أبي العلاء على المتنبي (وتعصبه له) أو أحكام تشيخوف على جوجول أو وردزورث على ميلتون وسبنسر؛ آراء نقدية قد تبين لنا بعض الجوانب الفنية في فن هؤلاء، وقد تفيدنا في فهم التيارات الأدبية التي ينتمون إليها جميعا؟
الحق أن النظرية - على وجاهتها - ليست مطلقة الدقة. فربما اتفق النقاد أيا كان تعريفنا لهم على تمجيد عمل أدبي في زمن ما ومكان ما، ثم طواه النسيان، ولم يعد بقادر على تخطي حدود عصره ومكانه. فالنقد علم لا يتمتع بالاستقلال عن سائر المعارف الإنسانية، ويتغير بتغيرها، ولا أقول إنه «يتقدم» بالضرورة؛ إذ إن ازدياد القدرة على التحليل الفني مثلا أو على ربط الأدب بسياقه الإنساني أو الاجتماعي لا يعني بالضرورة نضجا في التذوق أو عمقا في الفهم، وربما استطاع ناقد قديم أن يصل إلى نفس النظرة النقدية في عمل ما دون استخدام الوسائل الحديثة، بل ربما استطاع أن يتفوق على بعض المحدثين بإدراكه جوهر العمل اعتمادا على الحس الصائب وحده، دون التحليل المنطقي وما إليه من وسائل النقد الحديث. أضف إلى هذا أن النقاد بشر؛ فهم قد ينخدعون بمظهر ما من مظاهر العمل، وقد تضللهم أشياء أبعد ما تكون عن الاعتبارات التي ألمحنا إليها، فيصدرون أحكاما قد تتناقلها الأجيال من بعدهم على أنها مقدسات. وهل منا من لا يذكر الأقوال التي شاعت في كتب النقد، والتي دهشنا لها في صبانا ثم تقبلناها دون مناقشة؛ مثل «هذا أشعر بيت قالته العرب»، أو «أمدح بيت» وما إلى ذلك؟ وما يقال عن القدماء يصدق على المحدثين.
صفحه نامشخص
فإذا التفتنا إلى الجانب الآخر للنسبية النقدية وجدنا عددا من العوامل لا يمكن إغفالها في هذا العصر الذي تتحكم فيه أجهزة الإعلام، وتتحكم في أجهزة الإعلام فيه قوى اقتصادية وسياسية لا سبيل إلى إنكارها. وأجهزة الإعلام في أبسط صورها تتمثل في القدرة على إشاعة أنماط وموضوعات فنية بحيث تصبح معيارية؛ أي إنها تتحول إلى مثل يحاكيها الناشئة وتشكل أذواقهم الفنية، أو تعدلها على الأقل، بحيث تخلق الجو المناسب لترويج أعمال فنية بعينها، حتى إن سوق الأدب قد أصبح - شأنه شأن كل سوق - يخضع للعرض والطلب، وما على الأجهزة الأدبية - كما ذكر «الدوس هكسلي» في مقاله «كتاب وقراء» - إلا أن تعمل على إيجاد الطلب الذي يضمن رواج المعروض! ولا شك أن النقاد على المستوى الإعلامي أحيانا يصبحون - دون أن يدروا - مروجين لبضاعة قد تكون وقد لا تكون أنموذج الأدب الرفيع. فإذا أخذنا في اعتبارنا التوسع الهائل والتشعب والتنوع الذي طرأ على أجهزة الإعلام أدركنا مدى خطورة الدور الذي تلعبه في تحديد المعايير الأدبية. وهذه الأجهزة في مجموعها تشكل ما يسمى بالمؤسسة الأدبية التي تمتد من الجامعات وما يقوله الأساتذة في قاعة الدرس وفي الكتب، إلى الصحف وما ينشر فيها، وأخيرا إلى الإذاعة والتليفزيون.
وتصب كل العوامل آخر الأمر في صورة المؤسسة الأدبية العالمية؛ أي إن ما ينطبق على بلد بعينه يمكن أن ينطبق على أشكال الأدب وفنونه في العالم الذي يفقد اتساعه كل يوم، ويضيق باطراد، حتى لربما قرأت رواية صدرت في بلد بعيد قبل أن يقرأها أبناء ذلك البلد! والمؤسسة الأدبية العالمية جهاز معقد في تركيبه وأدائه، بسيط في مفهومه وجوهره؛ فهو يعني باختصار أن هناك جهازا غير مرئي يتكون من المعايير التي نحكم بها على الأدب، ويعتمد على الأعمال الأدبية التي ورثها العالم الحديث من أوروبا. وهذا الجهاز لا يتكون من معايير فحسب، بل هو يتضمن قيما معينة ليست في حقيقة لأمر قيما إنسانية خالصة، ولكنها قيم اجتماعية وسياسية واقتصادية. ولذلك فربما فرضت المؤسسة عملا أدبيا أو رفضته بسبب المقاييس الفنية الدقيقة أو المادة الإنسانية التي تحدثت عنها أولا. وربما كان خير مثال على وجود هذه المؤسسة هو لجنة ترشيح المؤلفين لجائزة نوبل. فهو مثل ملموس واضح؛ إذ لا يمكن للجنة أن تختار إلا الأعمال التي تجسد القيم التي فرضها عالم القوة في أوروبا على الدنيا. ولكن الأمثلة الأخرى كثيرة، وهي لا تعنينا بقدر ما يعنينا وجود الجهاز غير المرئي. فكيف يعمل هذا الجهاز وما سبيل الأدب العربي إليه؟
البطولة والتميز العنصري
عندما كان الشعراء العرب في الماضي يجتمعون لدى الحاكم ليتطارحوا الشعر، كانوا ينصبون أحدهم حكما، وربما كان شاعرا أقل شأنا، بل ربما لم يكن شاعرا بالمعنى المفهوم، بل مجرد عالم باللغة وتاريخ الأدب، ولكن أهم صفة ينبغي أن يتصف بها هو علمه بالمعايير الفنية التي يقاس بها الشعر الصادق ووعيه واستيعابه التام لقيم العرب أو للقيم والمفاهيم التي يحب العرب أن تسود؛ أي إنه كان ممثلا للمؤسسة الأدبية العربية. وعندما تجتمع «لجنة القراءة» - أي اللجنة التي تختص بفحص النصوص الأدبية إما للتمثيل أو للإذاعة أو للنشر - فإنها تمثل أيضا المؤسسة الأدبية في مكان محدد وزمان محدد، وعندما «يقرر» الأستاذ في الجامعة «تدريس» رواية بعينها للطلبة فإنه أيضا - في غالب الأحيان - يمثل المؤسسة الأدبية التي ينتمي إليها في زمانه، وذكر القارئ في هذا المجال هو المفتاح الوحيد لإدراك مدى سلطة هذه المؤسسة التي نعيش جميعا في ظلها دون وعي كامل.
إن الطفل الذي يفتح عينيه على كتاب من قصص البطولة - سواء كانت هذه القصص خيالية أم واقعية - يتشرب إلى جانب المتعة الفنية قيم البطولة ومفهوم البطولة. وإذا كانت هذه القصص بوجه عام تنزع إلى المبالغة أحيانا في تصوير قدرة الإنسان على تخطي الصعاب، وتحقق في الخيال ما يصبو إليه الإنسان في دنيا الواقع؛ فهي تتفاوت في تصويرها وتحديدها لما يكمن خلف البطولات الفردية أو الجماعية من قيم. فكل شعب له القصص التي تمجد تاريخه، وهذه القصص شائعة على المستوى الشعبي، بل إن بعضها مكتوب شعرا وتحول إلى ملاحم تروى وتتناقلها الأجيال، ولكن المجد باعتباره قيمة مطلقة يرتبط بقيم أخرى من حق أجيالنا الجديد أن تعيد النظر فيها. خذ مثلا قيمة الانتصار على الأعداء باعتباره قيمة في ذاته؛ إنه يرتبط بمفهومنا للأعداء. من هو العدو؟ إن العدو في التاريخ الأدبي ليس دائما الطاغي الباغي أو المعتدي الآثم! إنه أحيانا شعب آمن مسالم يتعرض للغزو والسلب والنهب، وكم من قصص البطولة ما يصور الغزاة الفاتحين أروع تصوير ويسبغ عليهم من هالات المجد ما يعجز اللسان عن وصفه! حقيقة إن الناشئة في بلد ما يحتاجون إلى ما يذكي فيهم حب الوطن والإعجاب والإكبار لأبناء وطنهم من الأسلاف الميامين، ولكنهم في غمرة ذلك الإعجاب وفي انتشائهم بما يدف في جوانح قصص البطولة من مشاعر، يتشربون قيما أخرى مثل الإيمان بتميز الجنس الذي ينتمون إليه على سائر الأجناس، وحقه في السيطرة على سائر أمم الأرض؛ مثلما حدث في تاريخ أوروبا الحديث! وربما لم يكن الامتياز العنصري هو القيمة الصريحة، ولكن امتياز الأمة (الذي يرجع في جذوره إلى امتياز القبيلة أو حتى العشيرة) يوصى به ويعمل على غرسه. وإذا كان الأدب الأوروبي يحفل بمثل هذا اللون من القصص، الشعري منه والنثري، فالأدب العربي لا يخلو منه، وحسبنا أن ننظر في أيام العرب (في الجاهلية مثلا) حتى نرى نماذج ساطعة منه. قد يقول قائل إن القهر والبطش الذي تصوره هذه القصص التي حفظها لنا تراثنا الشعري كان انتقاما لضيم وقع، أو ثأرا لهزيمة سابقة حلت بالقبيلة، ولكن قيم الثأر والانتقام في ذاتها ليست بالقيم الإنسانية العليا؛ أي إنها لا تبرر المذابح والسلب والنهب والسبي والاستذلال الذي يتلو النصر أيا كانت الذرائع التي يقدمها المدافعون عنها. (انظر قصة الصراع بين قبيلتي طسم وجديس في اليمامة، كتاب أيام العرب في الجاهلية لجاد المولى) بل إن ملحمة الإلياذة نفسها تقوم على قيمة قد يشك الباحث المحدث في صدقها، وهي الثأر من مختطفي امرأة. إن الملحمة تروي لنا حربا ضروسا امتدت عشرة أعوام وقتل فيها الآلاف من أجل استعادة هيلين اليونانية من «باريس» الطروادي الذي اختطفها من بلادها وعاد بها إلى بلاده. والأسطورة التي تساندها أسطورة التحكيم بين جمال الربات الثلاث الذي قبله باريس ورشوتهن له؛ تتضمن قيما لا يسع الباحث الحديث إلا أن يعيد النظر فيها!
والنتيجة المحتومة لنزوع كل شعب وكل لغة إلى تمجيد البطولة في الأسلاف في قصص وشعر ومسرح هي ترسيخ قيم معينة في وجدان كل أمة - مهما صغر شأنها في عالمنا الحديث - مثل تمجيد القوة والغلبة، وهي قوة عسكرية بالدرجة الأولى، سواء كان المحارب يمتشق حسامه وينزل حومة الوغى بنفسه، أم يضغط على زر آلي في جهاز بالغ التعقيد ليطلق صاروخا أو يلقي قنبلة! والأدب الذي ينطوي على مثل هذه القيم قد يتفاوت من شعب إلى شعب في دقة التصوير ورشاقة العبارة وإحكام البناء، وما إلى ذلك من ظواهر الصنعة الفنية، ولكنه في النهاية يتصل بالشعب نفسه؛ بتاريخه وثقافته التي تنتظم عددا من القيم لا يكاد أن يكون عليها خلاف، وفي وسطها عند المركز معنى البطل والبطولة!
إن تفسير الطاقة البطولية مرتبط بتراث الأمة الإنساني، وهو التراث الذي يستتبع مجموعة من التقاليد والأعراف والقيم تصبح علما على الأمة. فالتقاليد العربية المعروفة مثل المروءة والشجاعة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف والوفاء بالوعد، كلها ترتبط بصورة الإنسان المثالي - أو البطل - التي خلقها الأدب؛ استلهاما للحياة وإلهاما لها، وتقاليد الغلبة والمخاطرة وارتياد المجهول والاختراع والاستعمار - بالمعنى الحسن والمعنى السيئ جميعا - تمثل جزءا من صورة البطل في الأدب العربي. فالأدب الغربي يحفل بصور الأسفار البحرية واكتشاف الجديد وعمران الأرض وأمانة الكلمة، ويدين ما على نقيض ذلك.
وإذا كانت آداب الأمم تشترك في جوهر واحد؛ هو الاحتفال بالغالب المنتصر، فهي تتفاوت في تفسير سر النصر والغلبة. فبعضها يرجعه إلى عبقرية علمية، والبعض يرده إلى طاقات جسدية ونفسية، والبعض الآخر يعزوه إلى قوى غيبية مثل الآلهة أو الأقدار، والأدب يتفاوت هو الآخر في تصويره لهذه التفسيرات من عصر إلى عصر، وقد استطاعت دول أوروبا الحديثة أن تفرض على العالم تفسيرها الخاص لقوتها وغلبتها، وأن تقنع كثيرا من الشعوب حديثة العهد بالاستقلال والنهضة بوجهة نظرها الخاصة فيما يمثل مقومات الإنسان المثالي عبر العصور. وفي نطاق الدراسة الأدبية استطاع النقاد والمستشرقون أن يختاروا من آداب الأمم الأخرى ما يناقض مفهوماتهم تلك حتى يزداد وضوح الاختلاف بينهم وبين الآخرين، وحتى يؤمن الآخرون أنهم قد تخلفوا عن ركب الحضارة للأسباب التي قررها الغرب ثم رسخها. فماذا فعل العرب إزاء هذا الأدب؟ وماذا فعل المستشرقون بالأدب العربي؟
القيم وعالم اليوم
إذا كانت صورة البطولة وقيمها وما ارتبط بها من تفسيرات تمثل جانبا مهما من التراث الأدبي الإنساني، فإن ثمة صورا وقيما أخرى لا تقل عنها أهمية، تتضمنها علاقة الرجل بالمرأة وتفصح عنها شبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة، وبخاصة ما ينبع فيها من النظام الاقتصادي والأوضاع السياسية ويصب فيها. وفي هذا جميعا ينزع الأدباء الذين يحظون باعتراف المؤسسة الأدبية إلى بلورة قيم ومثل تتصل بمفهومهم للإنسان المثالي سلبا أم إيجابا؛ فإدانة الجريمة موضوع عالمي لا خلاف عليه، ولكن ما يعتبر جريمة في مجتمع قد لا يعتبر جرما في مجتمع آخر، وما يتفق الجمهور عليه في زمن ما قد ينبذه الجمهور في زمن لاحق. ولهذا وجدنا من الأدباء الكبار من يطويهم النسيان بعد فترة أو من لا يحظون بأي اعتراف بهم في حياتهم على الإطلاق؛ لخلاف في المفاهيم والقيم مع المؤسسة الأدبية.
صفحه نامشخص
القضية لا تقتصر إذن على الشكل الفني أو على جوانب الصنعة مهما بلغت أهميتها (والحق أن لها أهمية قصوى)، بل إنها تتعدى ذلك إلى ما يكمن خلفها من أحكام تستند إلى القيم والمفاهيم التي تحتفل بها المؤسسة الأدبية. ومن هنا جاء إصرار المؤسسة الأدبية العالمية على ترشيح أعمال معينة للشهرة والذيوع تمجد قيمها وتحط من قيم الآخرين. وأقرب الأمثلة على ذلك صورة العربي أو المصري في فن الرواية المعاصرة بالإنجليزية؛ تلك اللغة التي كادت أن تصبح عالمية. فشخصية «علي» العربي في رواية «بوابة مندلبوم» للكاتبة الإنجليزية «إريس ميردوخ» تجمع كل الرذائل التي يدينها المجتمع الإنجليزي وعلى رأسها الكذب. والكذب الذي يلجأ إليه هذا الشخص يمكن تفسيره وتحليله بعدة طرق، ولكن الكاتبة توحي من طرف خفي بأسباب معينة ترمي في مجملها إلى إدانة الشخصية العربية وسلبها عنصرا من أهم عناصر مثلنا العليا وهو الوفاء. وأما ما يختارونه للترجمة إلى الإنجليزية من الأدب العربي فهو عادة مختارات قديمة من الأدب الجاهلي يبنون عليها نظريات وتحليلات تجعل من أدبنا مرادفا لآداب الأمم القديمة ذات القيم والمفاهيم التي لم تعد تنتمي لعالم اليوم.
وأمم الأرض «المتقدمة» تحتفل بما أسميته «عالم اليوم» فهو العالم الذي يسبغون عليه كل الفضائل - وأسماها وأرقاها في نظرهم نظرة التشاؤم والسخرية من القيمة السلفية، ورفض الدين، والاحتفال بوحشة الفرد وعزلته في عالم قاس مرير، وما يستتبع ذلك من الإباحة، والتركيز على أن الإنسان كائن ضعيف مغلوب على أمره، وأن حريته موهومة، وأن الكثير مما اعتاد إكسابه المعنى في الحقيقة لا معنى له والفلسفات المختلفة التي نبعت من «عالم اليوم» تعمل على بناء عالم جهم قاتم الألوان، يتوارى فيه الأمل أو ينحسر، وتغرب فيه البسمات أو تفتر. وبعض كتابهم يدينون هذا العالم - بطبيعة الحال - ولكن الإدانة تحمل في طياتها معنى التقبل؛ لأنها تؤكد ضرورة التعايش معه، وإيجاد بديل أو بدائل لما فقده الإنسان في غمرة صراعه لتحقيق التقدم، والتعايش يحل بالتدريج محل العيش ليمثل أقصى ما يمكن لإنسان اليوم تحقيقه. وأما أولئك الكتاب الذين ما زالوا يسبحون في فلك الفضائل القديمة، عامرة نفوسهم بالأمل، زاخرة قلوبهم بالحب، فهم يوصفون بالرومانسية وتخصص لهم أماكن نائية في الكتب تتحول بالتدريج إلى زوايا نسيان.
وفي إطار هذه الحداثة، أو ما أسميته «المودرنية» في كتاب حديث لي، تبرز عدة تيارات جديدة يعلي أحدها شأن الشكل الفني إلى درجة التقديس، ويلغي ما أطلقت عليه في هذه المقالات اسم المادة الإنسانية. وهذا التيار يضفي على الأنماط الداخلية في العمل الأدبي أهمية غير عادية، بل يقول بقدرة البناء الداخلي على الإيحاء وحده بالأفكار والمشاعر، وبأن الشكل الداخلي لا يحتاج إلى مادة إنسانية صريحة؛ لأنه يمثل ترجمة لهذه المادة؛ أي إن التجربة الإنسانية أو الخبرة التي درجنا على اعتبارها مصدر المادة الإنسانية تتحول إلى شكل، فإذا ما استغرق هذا الشكل القارئ أو المتذوق انتقلت إليه التجربة أو الخبرة في صورة فنية خالصة. ولا شك أن للفنون البصرية والسمعية تأثيرا كبيرا على هذا الاتجاه الذي يبرز بأوضح معالمه في الشعر الحديث، ولا شك أيضا أن لنظريات وحدة الفنون تأثيرا مباشرا على تطور هذا التفكير النقدي، ولكننا رأينا منذ عهد غير بعيد من يضع له فلسفات مستقلة، ومن يقنن له تقنينا نقديا موغلا في الشطط، محاولا وضع أسس هندسية للبناء، مستقيا من دراسات علم الألسنة الحديث (وهو علم ما يزال في مرحلة التطور والتغيير) قوالب جامدة يصب فيها أي عمل بغض النظر عن مادته الإنسانية.
ولكن المودرنية ليست كذلك في حقيقة الأمر؛ إذ ما فتئت تتطور لتسمح بنشوء نظريات جديدة للقيم، وتفسيرات جديدة لسعي الإنسان وموقفه من هذا الكون، وتركز أيما تركيز على شبكة العلائق المتداخلة في نطاق المجتمع والدولة، انطلاقا من نظرة متكاملة دينامية، فأين نحن من هذا كله؟ وهل استطاع أدبنا الحديث أن يكسر الأنماط السلفية ويخاطب وجدان إنسان عصر العقل والعلم ؟
لقد كنت من المؤمنين دائما - وما أزال - بأن الأدب العربي الحديث قد تخطى مراحل الاستكشاف الأولى، وأنه وجد لنفسه طرقا (لا طريقا واحدا) يمتد من خلالها إلى وجدان العالم الجديد. وإذا كانت الأنماط الشكلية القديمة لم تعد تصلح للوصول إلى قلب الإنسان الحديث وعقله، فإن الأشكال الجديدة لدينا تتفوق على مثيلاتها في غالبية بلدان العالم، وأنا أقول هذا دون مبالغة، بعد أن اطلعت على آداب كثير من الشعوب مترجمة إلى الإنجليزية (قد لا تكون النماذج المترجمة أفضل ما لدى تلك الشعوب ولكنها مؤشر على الاتجاه العام) والأدب العربي الحديث، أيا كان غضبنا منه أو له، منوع حافل، وبه شتى التيارات التي يصفق لها العالم ويهلل، رضيت المؤسسة الأدبية العالمية أم لم ترض. أما جوهر المشكلة في نظري فهو أننا لم نمسك بزمام المبادرة حتى الآن في تقديم هذا الأدب إلى العالم. كيف نمسك بالزمام؟ وكيف وفي أي صورة يمكن لنا أن نقدم هذا الأدب؟
الأدب وحياة القارئ
إذا كان الفن فنا؛ فلابد أن يتخطى الزمان والمكان؛ فأنماط الفن ومادته عالمية، وهي تنبع من الإنسان وتصب فيه، وقد تتفاوت من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع، وقد عكف النقاد على درس هذا التفاوت وتحليله، ولم ينتهوا إلا إلى أن ثمة تيارات أو اتجاهات يمكن رصدها دون معرفة أسبابها الحقيقية، ولو أنهم يتفقون إلى حد كبير على أن هذه التيارات لا يلغي بعضها بعضا، وما قد يتذوقه إنسان اليوم قد يلاقي الفتور بل الرفض والنبذ من إنسان الغد، وما قد يشيح عنه إنسان اليوم قد يسطع كالدر في عصر لاحق. ولهذا كان «هازليت» يقول: إن الفنون لا تتقدم بالمعنى الذي يتقدم به العلم (بمعنى أن الحقائق العلمية الجديدة تطمس ما كان يظن أنه حقيقة بالأمس)؛ لأن العلم بطبيعته يطمس الجهل! وقد طور هذه النظرية ناقد محدث في أوائل القرن هو ت. أ. هيوم فقال بأن للفن دورات، وأن كل دورة تنتهي عندما تفقد الفنون التي شاعت في عصر ما قدرتها على التأثير، فتدفع إلى الوجود بألوان أخرى من الفنون تختلف عنها اختلافا يصل إلى حد التناقض، ثم ينتهي بها الأمر إلى فقدان القوة هي الأخرى؛ بحيث تعود الألوان الأولى، وهلم جرا.
والأدب كما نعرفه اليوم فن من الفنون يتوسل باللغة، فاللغة في الأدب مثل الألوان والمساحات والخطوط والنسب في الرسم، ومثل الأصوات في الموسيقى، وما إلى ذلك، ولكن الأدب كما سبق أن بينت في مقالاتي السابقة يتضمن أبعادا أخرى قد تفتقر إليها الموسيقى؛ فالتشبيه ليس تاما؛ لأن الأدب يشترك أيضا مع وسائل الإعلام في توصيل «رسالة» بالمعنى العلمي لهذه الكلمة - وهي رسالة تجمع بين العناصر الشعورية والذهنية، وليست أبدا مجردة من المعنى أو خالية من الدلالة. قد يبدو هذا الكلام بديهيا، ولكنه لا بد منه حتى ننظر في وضع الأدب العربي إزاء الآداب الأخرى.
قد تكون «الرسالة» في أبسط صورها إحساسا يتجسد في لقطة أو موقف أو صورة أو حادثة، بل قد تكون مجرد متعة تناغم الصور والألفاظ وجرسها الجميل في القصيدة القصيرة مثلا! وهذا أقدم ألوان «الرسائل» وإن كانت صورتها «البسيطة» خادعة! فالإحساس الذي يبدو بسيطا في حقيقته هو بلورة باطنية، تمزج بين المشاعر والأفكار التي تستمد طاقتها الحيوية من وجود الإنسان في مكان وزمان محددين. حقا قد تكون الفكرة عامة أو مجردة حتى إنها لتتخطى الزمان والمكان، وقد يكون الإحساس كذلك، ولكن الفن الأول - الفن الذي يرى معظم الباحثين أنه نشأ في بيئات بسيطة فاستمد مادته الأولى من علاقة الإنسان بالكون وتفسيراته لقوى هذا الكون الغامضة، أقول: إن هذا الفن الأول لم يلبث أن تعقد وتطور نتيجة لتعقد «الرسالة»؛ أي إن الإنسان لم يعد قادرا في هذا العصر على تبسيط الأشياء والتفكير أو الإحساس بنفس العناصر الخالصة التي كان أجداده يفكرون ويشعرون في أطرها. (ولو أن كاتبا محدثا يقول إن الإنسان الأول كان لديه قدر من التعقيد يستعصي علينا فهمه لبعد الشقة بيننا) فمثلا نرى أن القصة القصيرة والرواية الطويلة وهما فنان حديثان لا يقفان بطبيعة بنائهما عند «الرسالة »، وفي كل رواية ترى أن القارئ لا يتلقى رسالة واحدة أو حتى عدة رسائل واضحة. قد يخرج لا شك بانطباع واحد، ولكن هذا الانطباع قد يكون مركبا إلى الحد الذي يستعصي معه تحديد عناصره! وإذا كانت القصة القصيرة أبسط من الرواية في تركيبها؛ فإنها في صورها الحديثة قد تصل إلى حد من التعقيد يرتفع بها إلى مصاف الرواية! بل إن نشأة القصة القصيرة نفسها توضح لنا طبيعة هذا الفن. إن الكتاب أحسوا بالحاجة إلى التحليل الدقيق الذي لا تتيحه القصيدة، وكان تطويرهم لصورة القصة القصيرة بطيئا؛ لأنه سار جنبا إلى جنب مع تطور الصحافة، وتطور لغة النثر نفسها.
فإذا نظرنا إلى كل رسالة على حدة، وتأملنا الحاجة التي يحسها الكاتب إلى الكتابة، وجدنا أن لكل رسالة مرسلا ومستقبلا، ولا يمكن أن تكتمل العملية التوصيلية إلا بهما جميعا؛ أي إن حاجة الكاتب إلى الكتابة لا بد أن تتزامن معها حاجة القارئ إلى القراءة، ومن العبث أن نقول إن الكاتب يكتب ليخرج ما في نفسه سواء فهمه الناس أم لم يفهموه؛ لأن هذا معناه إلغاء وظيفة اللغة وطبيعتها الأساسية باعتبارها أداة توصيل. ولكن إقامة العلاقة بين الكاتب والقارئ من خلال العمل الفني؛ لا يلغي استقلال العمل عن أي منهما؛ لأنه بمجرد أن يكتمل يكون قد خلق في داخله عالمه ووضع الأسس التي تتيح للقارئ أن يستقبل الرسالة، أيا كان هذا القارئ.
صفحه نامشخص
ولكن هذا كله لا ينفصل عما أسميته بالمادة الإنسانية والأشكال الفنية التي تمليها المؤسسة الأدبية. ولأضرب لذلك مثلا محددا: إنني حين أقرأ قصيدة كتبها شاعر إنجليزي مثلا عن محارب من أبناء بلده إبان حرب من الحروب؛ فالمفروض أنني أتعاطف مع هذا الإنسان الذي حمل وخرج مدافعا عن وطنه - والدفاع عن الوطن قيمة إنسانية وعالمية لا خلاف عليها - ولكنني حين أندمج في القصيدة وأجد أن الشاعر يريد أن يوصل إلى القارئ في ثنايا الرسالة «رسائل فرعية» أخرى توحي بامتياز عنصري أو قبلي؛ فأنا أتوقف ويشوب تذوقي ما يعكره! لقد كتب «رديارد كبلنج » شاعر الإمبراطورية البريطانية قصائد وروايات كثيرة احتلت أماكنها على أرفف المكتبات سنين طويلة، ولقد تذوقها الإنجليز ودرسوها في مدارسهم، و«قرروها» على الشعوب المغلوبة على أمرها أيام حكم الإمبراطورية، ثم انحسرت الإمبراطورية فانحسر كبلنج! لم يعد يبقى منه غير الشكل الفني، وما أوهاه! إن «كيم» رواية جميلة عن الحياة في الغابات، والأطفال ما يزالون على حبهم لها، وكذلك عدد من رواياته عن غابات الهند، ولكن الرسائل الفرعية التي تقول بامتياز الإنجليز امتيازا عنصريا على غيرهم ما فتئت عقبة في سبيل تذوق كبلنج؛ باعتباره كاتبا إنسانيا! ولقد أخرج له ت. س. إليوت مجموعة من الأشعار التي يسمونها البالادات (والتي تترجم عادة بالمواويل؛ على عدم دقة هذه الترجمة) وقدم للمجموعة بدفاع عن المادة الإنسانية التي يمكن أن تبقى من كبلنج وهي مقدمة جديرة بالدراسة في ذاتها.
في هذا الإطار الكبير تستطيع تصنيف الأدب العربي الذي يمكن أن يرقى إلى مصاف العالمية؛ ليس فقط على الأساس القديم الوحيد، وهو الامتياز الفني - على أهميته القصوى - ولكن أيضا على أساس إثارته اهتمام القارئ؛ لأنه متصل بحياة القارئ (
RELEVANT )، وهو قادر على هذا؛ لأن الرسالة والرسائل الفرعية الباطنة إنسانية، ولأن المادة الإنسانية حافلة، وإذا توافر على ترجمته ترجمة أدبية صادقة من يخلص له وتحلى بالموهبة اللازمة؛ استطاع أن يفرض نفسه على المؤسسة الأدبية العالمية، بل وأن يعدل من مقاييسها، فكيف يكون ذلك؟
الإنسان الذي تغير
ما يزال الجدل دائرا حول «نوع» الأدب الذي يمكن أن يكسر حدود الإقليمية، إما بنجاحه في تحقيق معايير المؤسسة الأدبية العالمية، أو بتخطي هذه المعايير بحيث تصبح «غير ذات موضوع». فأما تحقيق معايير المؤسسة فهو «صعب»، إن لم يكن متعذرا لسبب بسيط؛ وهو هيمنة القيم التي فرضتها الدول الكبرى على مدى عصور طويلة، وهي قيم إنسانية وفنية معا؛ بحيث أصبح القارئ في كل مكان يتوقع أن يسمع هذا الكلام أو ذاك في هذه الصورة أو تلك، أيا كان موقف الأديب من القضايا المطروحة التي أصبحت «لا وطنية» (أو مثل بعض الشركات «عبر الوطنية»). وأقول إن تحقيق هذه المعايير صعب لأن اهتماماتنا ومواقفنا الفكرية تختلف عن الاهتمامات والمواقف التي حددت هذه المعايير على مر العصور. وقد ضربت مثلا في أحد مقالاتي بتصوير البطولة وعلاقة الرجل بالمرأة. ومن باب التذكير فحسب أقول: إنه سوف يتعذر على كاتب القصة الحديثة تحقيق أحد معايير المؤسسة الأدبية الغربية في هذه «العلاقة»؛ وذلك بنزع التابو
Tboo
تماما منها، ونزع هالة الاحترام الدفين التي تكلل المرأة في أدبنا، وذلك مهما بالغنا في النسيب والتشبيب! لقد حرم الأدب الحديث المرأة ذلك الوشاح الوضاء الذي ألقاه عليها مفهوم «الحب» الذي استقته أوروبا في القرن السادس عشر أول مرة من الشرق، وكما يقول كاتب حديث «لقد ذهب ضوء القمر الذي كان سبنسر قد أتى به من الأندلس، وحل محله ضوء الشمس»، وهو يعني بضوء الشمس ما كان الرومانسيون يقصدونه بضوء «النهار العادي»؛ أي إن «موسيقى الأفلاك» و«نيران الأفلاك» التي تحدث عنها سبنسر في ملحمته «ملكة الجان» قد انطمست وأصبحت المرأة كائنا ينتمي لعالم «النثر» بعد أن كانت تنتمي لعالم «الشعر»! وفي هذا الإطار أصبح «الحب» القديم قيمة يطمح إليها ولا تتحقق، وأصبح الشك في قيمة «نظام الأسرة» (أو الزواج باعتباره «مؤسسة») من أهم معايير المؤسسة الأدبية، ويكفي للتدليل على ذلك استعراض روايات الكاتبات الإنجليزيات المعاصرات؛ من «ميوريل سبارك» إلى «مرغريت درابل» خاصة في رواية الأخيرة وعنوانها الطاحونة.
وأنا أقول هذا من باب التذكير فحسب؛ فالشواهد كثيرة، ولن أعود إلى موضوع البطولة أو سواه. المهم أن نتبين أن «تخطي» معايير المؤسسة الأدبية العالمية هو في حقيقة الأمر أيسر من تحقيقها، فكيف يكون ذلك؟ أعتقد أن الإجابة واضحة الآن، وهي التركيز على القيم الإنسانية الثابتة التي لا تتغير بتغير المعايير الاجتماعية أو سواها وأدبنا العربي زاخر والحمد لله بهذه القيم.
ولتيسير التناول أقول إننا إذا أردنا من العالم أن يفهمنا ويتذوقنا فلا بد أن ننفذ إليه من باب فهمه الفهم الصادق. ومعنى فهمه تقديم ما نعرف أنه يستطيع أن يفهمه وما يكون ذا صلة بحياته حتى يتذوقه. حقا قد يستطيع الروائي أن يخلق عالمه الخاص الذي يجر إليه القارئ جرا، وقد يفعل المسرحي ذلك، ولكن الشاعر يستند إلى العالم الكبير المتوارث الذي خلقه الشعراء من قبله وفي عصره. ولذلك فإذا تصدينا للشعر فسوف نجد أن القانون الذي يحكم ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية هو القانون الذي يحكم ترجمة الشعر العربي إلى الإنجليزية مثلا. فالاختيار سيكون محكوما أول الأمر بتحقيق «الصلة
Relevance »، ثم بتحقيق المصطلح الشعري الذي وضعته المؤسسة الأدبية، وبهذا فحسب يمكن تخطي تلك المؤسسة! وأعتقد أن هذه المفارقة تحتاج إلى إيضاح وأمثلة. خذ قصيدة الرثاء. إنها نوع أدبي عالمي، ولكن المبالغة التي نجنح إليها في تراثنا تجعل من المتعذر إيجاد تلك الصلة بسبب الولوع بالمبالغة بل الإغراق والاستغراق فيها محاكاة لعصر أو لشاعر. فالمرثي هو جماع الفضائل بل هو الفضيلة المجسدة، وعندما توفي «توفيت الآمال» وهدت الجبال! وقد غير الرومانسيون الإنجليز مثلا من تقاليد هذا النوع بأن أدخلوا فيه فن التأمل، أي تأمل الحياة البشرية والنظرة الشاملة إليها من عدة زوايا، إلى جانب العنصر الوجداني الذي يجعل الرثاء أقرب إلى القصيدة الوجدانية منه إلى قصيدة المدح. وبهذا تأثر المحدثون فأوجدوا الصلة، واستخدموا المصطلح الشعري الحديث فاقتربوا من العالم. قارن مثلا رثاء «الخنساء» أخاها «صخرا»، أو رثاء «أبي تمام» لمحمد الطوسي بقصائد الرثاء الحديثة التي ترجمتها ووضعتها في كتابي عن الشعر العربي المعاصر، وهي قصائد لصلاح جاهين وفتحي سعيد ووفاء وجدي. إن الفارق هو في حقيقة الأمر فارق بين عالم قديم انقطعت صلتنا به، وعالم حديث نعيش فيه، ولا بد لنا معه من جسور! وأما المصطلح فسأورد نموذجا ساطعا له. إن المازني عندما ترجم بعض القطع من «شكسبير» كان ينشد المصطلح أولا وأخيرا، وهذا ما حدا به إلى التغيير والتعديل والتبديل (وكان يؤثر عنه أنه كان يؤلف حين يترجم، ويترجم حين يؤلف):
صفحه نامشخص
أبعدوا عني الشفاه اللواتي
كن يطفئن من أوار الصادي
وابعدوا عني العيون اللواتي
هن فجر يضل صبح العباد
واستردوا إن استطعتم مردا
قبلاتي من الخدود النوادي
وليس الأصل هكذا، والأقرب إليه أن يكون:
إليكن عني فتلك الشفاه
عذوبتها حنثت باليمين
وتلك العيون
صفحه نامشخص
فجر مبين
ضياء يضل مسير الصباح
ولكن أعيدوا إلي القبل
أعيدوا الرواء
طوابع حب طواها الأجل
وضاعت هباء!
فإذا عدنا إلى قصيدة الرثاء استطعنا أن نجد أن تغيير المصطلح على أيدي الرومانسيين قد أتى بحرية في التصور وحرية في «الحركة الشعرية» داخل الصور إلى الحد الذي يتخطى بها الزمان والمكان، ويهبها القدرة على أن تفرض نفسها على المؤسسة الأدبية - خذ مثلا قصيدة «أدونيس» للشاعر الإنجليزي شلي - إنها نموذج صادق للمصطلح الشعري الجديد الذي يجعل التأمل عنصرا أساسيا من عناصر «الحدس الشعري» - وقد ترجمها الدكتور لويس عوض، فأبدع في إخراج هذا المصطلح إلى العربية. ويكفي في هذا المجال تقديم مرثية صغرى من مراثي وردزورث، تبين الجانب الآخر للمصطلح الشعري في الرثاء وهو مزج التأمل بالنزعة الوجدانية:
ختم الناس على روحي وغيبها
ومحا مخاوف البشر
فبدت لعيني فتاة ليس تلمسها
صفحه نامشخص
يد السنين والقدر
فالآن قد سكنت والقوة اندثرت
ومضى زمان السمع والبصر
وغدت تدور ببطن الأرض دورتها
كالصخر والأحجار والشجر!
ترى هل نستطيع أن نترجم أدبنا العربي - من هذا اللون - إلى الإنجليزية أو الفرنسية مثلا، فنؤكد انتماءنا لعالم اليوم؟
الإحالة إلى الماضي
بعد تقديم عدد من قصائد شعرائنا المعاصرين بالإنجليزية في الإذاعة؛ استولت الدهشة علينا لمئات الخطابات التي تلقيناها من أمريكا وكندا وأوروبا تطلب المزيد وتعجب لمستوى «حداثة» الشعر لدينا، فاقترح الشاعر صلاح عبد الصبور، وكان رئيسا لهيئة الكتاب آنذاك، أن أصحب معي في جولتي بالولايات المتحدة (ضمن برنامج مصر اليوم) عددا من القصائد التي تمثل الشعر الحديث في مصر بحيث يطلع الجمهور الأمريكي على الشعر الحي - أي على الشعر المسموع لا المقروء فحسب. وحططنا الرحال أول الأمر في واشنطن، وكان أول لقاء مع الجمهور الأمريكي في مؤسسة «سميثونيان»، والربيع قد بدأ يكسو أشجار الشتاء بأوراق خضر صغيرة نضرة، وكان الصباح في الحديقة التي تطل عليها نوافذ القاعة بهيجا مشرقا وضاء.
وتولى الدكتور جورج عطية تقديم الضيوف ثم انطلقنا نقرأ الشعر ونتقبل أصداء الاستحسان بدهشة لا تقل عن دهشتنا بتلقي خطابات القراء، ولكن الدهشة الحقيقية كانت عندما حدد لنا موعد آخر مع جمهور آخر في مساء نفس اليوم؛ إذ تردد في الأوساط الأدبية والفنية خبر وصول الوفد، وقرر الدكتور عطية تنظيم لقاء مسائي تسجله الإذاعة (أو الإذاعات؛ فهي كثيرة في أمريكا). وفي ذلك اللقاء لم يقتصر الاستحسان على طلب الاستزادة، بل اتخذ صورة ندوة ناقشنا فيها الجمهور مناقشة مستفيضة، وتولى الرد من الوفد المصري بصفة أساسية الدكتور سمير سرحان والدكتور مرسي سعد الدين. وبعد أن تكررت اللقاءات في عدة مراكز ثقافية في أمريكا من المحيط إلى المحيط كما يقولون، ومن الشمال إلى الجنوب، كان السؤال الذي يلح على أذهاننا جميعا هو: إذا كان لدينا مثل هذا الشعر العظيم فلماذا لا يقرؤه الناس في كل مكان في العالم حتى اليوم؟
في جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا كان رد أحد كبار المستشرقين وهو «روجر ألن» أن الشعر العربي لم يترجم الترجمة الصادقة حتى الآن، وفي جامعة تكساس بمدينة أوستن كان رد «جودمان» مدير النشر والشاعر دافيد أن الشعر العربي مليء بالصحراء والجمال، وهو ما لا يفهمه الجمهور الأمريكي، بل إن ذلك الشاعر أعرب بصورة مباشرة عن شكه في أن يكون الشعر الذي سمعه عربي الأصل! وقال في دهشة أمريكية صادقة: «ولكن أين الجمال والخيام؟»
صفحه نامشخص
وفي جامعة نيويورك كان الاستقبال حافلا بفضل الإعداد الذي تولته الدكتورة منى نجيب ميخائيل - ولكن السؤال الذي لم يكن منه مهرب هو أيضا لماذا لم تقدم الشعر حتى الآن كما ينبغي - وتكررت القصة في لوس أنجيليس في جامعة كاليفورنيا؛ حيث احتفت بنا الدكتورة عفاف لطفي السيد أيما احتفاء. ولم يفلح التشاؤم الذي كان ملازما للدكتور لويس عوض في الإقلال من بهجة استمتاع الجمهور بالشعر والمناقشات الساخنة التي شاركت فيها الدكتورة سهير القلماوي مشاركة فعالة.
وعند عودتنا إلى مصر كنا قد عقدنا العزم (سمير سرحان وأنا) على أن نفعل شيئا؛ كنا قد فرغنا لتونا من الاشتراك في عمل ما، وكان ما يزال أمامنا عمل كثير! ونشرت بعض المجلات الأمريكية نماذج من شعرنا، فتحمس الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة لتقديم المجموعة التي تكونت لدي بالإنجليزية لنشرها عن طريق لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وكنت آنذاك عضوا بلجنة الترجمة، ولكن المشروع تعثر لأسباب لا مجال للخوض فيها، خاصة أن الكتاب على وشك الصدور من الهيئة العامة للكتاب (وبه خمسون قصيدة لثمانية عشر شاعرا) كان صلاح عبد الصبور قد رحل عن عالمنا، وكان أمامنا أن نختار بأنفسنا الشعر الذي يعيش في وجدان الناس. وعكفت على تأمل التراث القريب للشعر العربي، وقد كنت هضمت الكثير منه في ميعة الصبا، وجعلت أفكر ما عساي أفعل بالتراث الخصب الذي خلفته الحركة الرومانسية التي نطلق عليها حركة الإحياء أو البعث - وعادة ما تعتبرها كلاسيكية؛ لأنها ترتدي ثياب التقليد والتقاليد - وجعلت أبحث جنبات الدواوين عن شيء «ذي صلة» بحياة الناس اليوم، بمشاعرهم وأفكارهم اليوم، فوجدت ما حيرني وأقض مضجعي.
إن شعراء الإحياء (بما أحرزوه من إحياء) كانوا يحيلون القارئ العربي في هذا العصر إلى زمن بعيد؛ زمن يصعب بعثه إلا إذا تغير وجه الحياة برمتها في عالم اليوم، وأنا لا أقصد الجمال والخيام هنا؛ فقد توجد هذه مع إنسان هذا العصر، ولكنني أقصد النضج الذهني والوجداني الذي حققه ابن هذا القرن في وطننا العربي على امتداد ساحته، (مهما قيل عن التفاوت هنا وهناك بين مراحل هذا النضج) ولأضرب مثلا لهذا بقصيدة «الفخر».
كان الفخر في الماضي مرتبطا بتقاليد القبيلة ومجد الأمة وعراقتها وكان ما يفخر به الشاعر هو في الحقيقة جماع القيم والمبادئ التي تستنير بها الإنسانية، ولا تقتصر على القبيلة. ولذلك فنحن حين نقرأ مدائح الماضي أو قصائد الفخر (وهو نوع من مدح الذات) فإننا نواجه عالم الأنثروبولوجيا الثقافية التي شغلت نقاد القرن العشرين، ونحن نفعل ذلك شئنا أم أبينا عندما نقرأ شعر الماضي أيا كان لون هذا الشعر، ابتداء من شعر مصر القديمة واليونان والرومان فالعرب والشعر الأوروبي حتى شكسبير نفسه! أي إن دراسة الأدب الذي انتهى إلينا وأصبح يشكل التراث الإنساني؛ تتضمن قدرا من جهد «الإحياء»، فنحن نحاول أن نتصور عالم القدماء ونعيشه حتى نتذوق أدبهم؛ ولذلك يظل الماضي ماضيا، ثم يأتي أدب الحاضر ويذهب ليلحق بالماضي هو الآخر! المهم أن يكون الحاضر في أدبنا حاضرا لا ماضيا؛ أي أن تكون الإحالة إلى حاضر نعيشه فكرا وشعورا، لا إلى ماض من الفكر والوجدان جميعا، ولا أدل على ذلك من بائية البارودي الشهيرة التي يدرسها الطلبة في كل مكان، والتي يتفاخر فيها بأنه لا يطرب «بتحنان الأغاريد»، و«لا يملك سمعيه اليراع المثقب» (أي الناي). فالإحالة هنا ليست إلى الموسيقى كما نعرفها، ولا أتصور أن البارودي يفخر بعدم استمتاعه بالموسيقى (مثل جيسيكا ابنة شيلوخ اليهودي في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير)، ولكنه يفخر في الحقيقة بأنه لا يستطيب مجالس الأنس والطرب واللهو واللعب؛ أي إن الإحالة هنا هي إلى تلك المجالس التي صورها أبو الفرج الأصفهاني خير تصوير، كذلك سيرى القارئ أنه يقصد بالعلياء ما كان يقصده السلف من المجد الحربي، ولا غرو؛ فحياة البارودي في الواقع تؤكد هذا الفهم. والبيت الذي يقترب كثيرا من فن الإبجرام والذي أراد البارودي للقارئ أن يذكره به هو:
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
فالعلا (أو العلياء) بمثابة قيمة مجردة إطارها المرجعي هو الزمان السحيق، وليس هذا العصر، وقس على هذا ما فعله غيره من شعراء الإحياء، فبراعة استهلال شوقي تحيلنا إلى الماضي حين ينشد الأطلال في افتتاحية قصيدته دمشق:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
وتحيلنا إلى ماضي المصطلح الشعري حين يعمد إلى المبالغة الصارخة في استهلال رثاء مصطفى كامل:
صفحه نامشخص
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني
إن قارئ اليوم يعجب لهذا الذي مات فبكاه الشرق والغرب جميعا؛ لأن زمن الإغراق في الكذب قد انقضى، ولم يعد أعذب الشعر أكذبه، والمحتمل أن شوقي كان يريد أن ينتهي من هذا كله إلى الإبجرام الشهير:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
ولا داعي لتكرار ما قاله العقاد عن البارودي وشوقي معا؛ فقد كان العقاد واعيا بالاتجاه الذي سار فيه شعرهم - على غزارته وجماله - ألا وهو الإحالة إلى الماضي. وإذا كان من الصعب على قارئ العربية اليوم أن يعيد الحياة في الماضي، فكيف بالأجنبي الذي يريد أن يتعرف على أدبنا؟
اللغة المشتركة
يقول الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث إن هناك «واحات زمنية» في وجود كل إنسان يرتادها المرة بعد المرة ليروي عطش خياله، ويتبرد من هجير الحياة، وحينما صدمته انتكاسة الثورة الفرنسية كان يختلف إلى تلك الواحات حينا فحينا، وكثيرا ما كان يجد فيها العزاء والسلوى؛ لأنه كان يرى فيها الإنسان في مرحلة البراءة قبل أن تطحنه أضراس التجربة، وكان يعني بالتجربة مثل كل الرومانسيين مواجهة الشر والاعتراف بوجوده، بل والتصالح مع هذا الوجود!
وإذا كان جيلنا يجد نفسه اليوم في حاجة إلى ارتياد هذه الواحات، وربما كان ذلك قبل أن يحين موعد ارتيادها الحقيقي الذي لا يأتي إلا بالتجربة؛ فذلك لأننا عشنا سنوات كانت توازي سنوات الطفولة في صفائها ونقائها، وهي سنوات التفتح على الأدب العالمي وفورة الحماس الذي لم يسبق له مثيل في الستينيات، فكنا نقرأ بنهم في الأدب وكل ما يتصل به من دراسات نظرية وتطبيقية، وكنا نناقش ما شاء الله لنا أن نتناقش فيما قرأنا، وكان لنا أساتذة يمثلون القمم التي نطمح إلى تسنمها، وأنا أقصد بجيلنا بالتحديد جيل من تفتحت مواهبهم في الستينيات، وهم بعد في ربيع العمر أو على مشارفه فكتبوا المسرح والمقالة والكتاب، ونشطوا إبداعا وترجمة وتأليفا، وقد بدا لهم الطريق دون نهاية، أو كما يقول شاعر إنجليزي آخر وهو «ألكسندر بوب»: «كلما تراءت لهم قمة برزت من ورائها قمة!»
كانت الترجمة تشهد ازدهارا نادرا - ولكنه كان طريقا ذا اتجاه واحد؛ لأننا كنا نترجم من الإنجليزية (أو الفرنسية) إلى العربية فحسب، ولم نكن بعد نطمح بل لم نكن نتصور أن لدينا أدبا قادرا على احتلال مكانه الحق بين آداب العالم لسبب بسيط، وهو انبهارنا الشديد بالأدب العالمي الذي كان يفتح أمامنا آفاقا تختلف اختلافا بينا عن تلك التي عهدناها في أدبنا العربي. كانت المشكلة عندي هي أنني درجت على موازاة الأدب بإحكام الصنعة اللغوية، وكان هذا أمرا طبيعيا في سني بعد أن تركت الكتاب والتحقت بالتعليم العام، فوجدت بين أساتذتي من لا يكترث إلا للبلاغة التقليدية وصناعة الإنشاء، ووجدت في محيط الأسرة من أقاربي من يؤكد لي صحة ذلك - فكتاب الشيخ مصطفى عناني يعاد طبعه المرة بعد المرة «الوسيط في الأدب العربي» وكتب علي الجارم (النحو الواضح وغيره) تملأ المنزل، ووالدي غارق إلى أذنيه في العقد الفريد وفي نفح الطيب!
صفحه نامشخص
وكم كانت دهشتي عندما انتقلت إلى القاهرة عام 1954م وكتبت أحد موضوعات الإنشاء التي كنت أجيدها فوجدت أحد زملائي في الفصل وهو الأستاذ أحمد السودة يسخر منه باعتباره إنشاء! كان أستاذنا الدكتور عبد الرءوف مخلوف قد انتهى من رسالة الماجستير آنذاك، وكانت عن كتاب العمدة لابن رشيق، وكان من المعجبين باللغة التي أكتبها - ولم أفهم سر اعتراض صديقي على الإنشاء! أولسنا مطالبين بالإنشاء؟ وهل الأدب سوى إنشاء؟ لم أكن أدري حين ذاك أن طه حسين قد نقض ذلك قبل نيف وثلاثين عاما في مقدمته لكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين، ولم أكن أدري أن في الدنيا أدبا يستخدم لغة مشتركة تتجاوز البلاغة والفصاحة، وتستخدم مفردات أخرى ومعايير أخرى، ولا تقوم على عبقرية البيان وحدها!
وعندما دار الزمان وتخصصت في الأدب الإنجليزي حدث عكس ما كنت أتوقع؛ إذ وجدتني أعود إلى الأدب العربي فأجد العجب! إن روائع أدبنا العظيم يحجبها عن عيوننا تراث هائل من كتابات عصر الانحطاط وهو عصر طال فأمعن في الطول! أمامي الآن كتاب يتضمن رسائل بديع الزمان الهمذاني يقول في مقدمته الناشر: إنه أعظم ما تفتحت عنه قريحة السلف. وأذكر أنني كنت مطالبا منذ عدة سنوات بإعداد عروض لبعض كتب التراث التي حددت سلفا لي - وكان من بينها كتاب الأبشيهي، وعنوانه «المستطرف في كل فن مستظرف» - ووجدتني أكتشف كيف سادت فكرة الإنشاء قرونا وقرونا حتى انحصر الأدب في التمارين اللغوية، وحيث ولدت هذه الفكرة معايير خاصة تشكل في مجموعها مؤسسة أدبية لها قوانينها وقواعدها، بحيث حجبت عن عيون دارسي العربية «اللغة الأدبية المشتركة» - لغة الإنسان - التي يتكلمها الناس في كل مكان، بغض النظر عن لغة الألفاظ التي تختلف من بلد إلى بلد!
إن الواحات التي أرتادها اليوم في هجير الحياة هي واحات هذه اللغة المشتركة، تلك التي لم تمنع الأدب الروسي مثلا من أن يصبح أدبا إنسانيا عالميا؛ لأنه يستخدم تلك اللغة رغم أننا نقرؤه بالإنجليزية! وما زلت أذكر اليوم الذي قرأت فيه قصة تشيخوف «العنبر رقم 6» في ترجمتها الإنجليزية لأول مرة ذات يوم من أيام الصيف عام 1963م، ولم أستطع أن أصبر على انفعالي بها فأهرعت إلى منزل صديقي سمير سرحان، ودفعت إليه بالكتاب في ساعة مبكرة من ساعات الصباح وتركته وخرجت، وفي المساء التقينا في مقهى بالجيزة (امتدت إليه يد الهدم الآن) وكان قد أصابه نفس انفعالي فلم نتبادل أي حوار. كان كل ما قاله هو إنه سيحتفظ بالكتاب؛ ليقرأ بقية القصص، غير آبه باعتراضي على ذلك! وسرنا على النيل في صمت ذلك المساء، وقد استغرق كلا منا ذلك الحذق الخارق الذي يتميز به تشيخوف لحالة في تصويره من حالات النفس البشرية وهي تنزلق من عالم الأسوياء إلى عالم المجانين. وأعتقد أن هذه الواحة كانت قد بعثت إلي الحياة عندما رأى صديقي بعد عشرين عاما الإعداد المسرحي الذي قام به سمير العصفوري لهذه القصة، وأخرجها لمسرح الطليعة بعنوان «في زنزانة المجانين». كانت صورة العمل الأدبي قد اختلفت؛ فهي الآن مسرحية وهي باللغة العربية، بل وبلغة المسرح التي لم تكن تستخدم الألفاظ كثيرا، ولكنها كانت عملا أدبيا إنسانيا عاملا يستخدم «اللغة المشتركة»!
إن طريقنا إلى العالمية لا بد أن يتجه إلى اكتشاف هذه اللغة المشتركة في أدبنا العربي القديم والحديث، بعد أن نتخلص نهائيا من فكرة المساواة بين البلاغة القديمة والأدب!
عن الأجيال الأدبية
تواصل الأجيال
في فترة لم يبعد العهد بها دار حوار هادئ في الصحف القومية حول ما أطلق عليه البعض صراع الأجيال الأدبية، وأعترف إنني عندما اشتركت في هذا الحوار الذي نادرا ما احتد أو احتدم مع بعض الشوامخ من كتاب العصر وأساتذته، كنت منساقا بحماس شباب يوشك أن يولي، وغير مدرك لخطأ منهجي كنت قد وقعت فيه قبل ربع قرن في سياق دراستي للشاعر الإنجليزي «جون كيتس» وهو ما أسماه أستاذنا الدكتور مصطفى سويف «الخلط بين العمر الزمني والعمر الفني».
عاد إلى ذهني ذلك الخطأ، وعادت المناقشة التي دارت بيننا بتفاصيلها الدقيقة ذات مساء أثناء رحلة إلى أسوان، وكان في المقصورة معنا د. رشاد رشدي ود. لطيفة الزيات ود. فاطمة موسى، وكنا نحن الثلاثة - «سمير سرحان» و«عبد العزيز حمودة» وأنا - ما زلنا معيدين نحضر لدرجة الماجستير حين تطرق الحديث إلى التفتح المبكر لعبقرية الشاعر كيتس الذي كتب أروع قصائده وهو في أوائل العشرينيات (وتوفي في الخامسة والعشرين) ومدى علاقته بمعاصريه من جيل الرومانسيين الأوائل، وأذكر حماسي لفكرة الهوة بين الأجيال متأثرا بما قرأته عن تأثر كيتس بميلتون وشيكسبير، لا بوردزورث وكولر بدج - وكيف نبهني د. سويف إلى ضرورة الفصل بين العمر الزمني الذي يربط بين المعاصرين وبين العمر الفني الذي يمتد عبر الأجيال؛ ليقيم وشائج بين أدباء الماضي والحاضر، وأذكر الآن أن هذه الفكرة قد صاحبتني إلى إنجلترا حين قرأت كتابا من تأليف العالمة النرويجية «ثورا بالسليف» يرصد تأثير وردزورث على كيتس، وكيف أنني انتقدته في ضوء الخطأ الذي كنت قد وقعت فيه قبل عامين!
وربما لم أكن ملوما وحدي على هذا الخطأ الذي عدت إليه في الكهولة؛ إذ استدرجني وزملائي إليه مقال مثير للكاتب الكبير (والمشاغب الأكبر) يوسف إدريس، أشار فيه إلى أنه ينتمي إلى آخر جيل عبقري تخرجه مصر! وشجعني على أخذ كلامه مأخذ الجد ما نشر من أحاديث للمسرحي العظيم نعمان عاشور وشيخ الفلاسفة زكي نجيب محمود - غير واع بأن الخطأ المنهجي يخفي أيضا تصورا خاطئا لا يصح لي أن أقبله - فالتسمية قد تعني ما يسمى في اللغات الأوروبية بالفجوة بين الأجيال، أي عدم قدرة جيل ما على تفهم جيل لاحق أو ثورة جيل جديد على الأنماط الفكرية للجيل الذي سبقه، ولكن هذا المفهوم الاجتماعي الصرف لا يمكن تطبيقه على الأدب إلا في أضيق الحدود؛ لأن تاريخ الأدب لا تتحدد مراحله أو مدارسه أو حركاته أو اتجاهاته بالتقسيمات الزمنية، وما التواريخ التي نضعها إلا حدودا مصطنعة تعين الدارس على رصد الظواهر وتذكرها، وإذا كانت القرون حدودا زائفة فما بالك بالأجيال؟! ولقد سبق لي أن عرضت في «الأهرام» نظرية «الدورات الأدبية» التي يفضي بعضها إلى بعض ويأخذ بعضها برقاب بعض، ومعنى هذا بطبيعة الحال ضرورة النظر إلى الأدب باعتباره كائنا يتمتع بحياة دائمة متواصلة، وإن اختلفت أشكاله وتعددت صوره، ومعناه أيضا أن حركة ما من الحركات الأدبية لا تنتهي تماما عندما تحل موجة جديدة، حتى وإن بدت مناقضة لها في اتجاهها الفكري أو في أشكالها الفنية، بل إنها حتى حين تناقضها تزيد من الوعي بها حتى تكتمل الدورة ويحين موعد عودة الحركة الأولى، بينما نرى أن ما كان موجة جديدة قد أصبح اتجاها قديما يظل كامنا حتى يحين موعد بعثه.
ومعنى هذا أيضا أن الاتجاه الأدبي - أيا كان لونه - لا يموت أبدا، بل يظل يومض خلال الرماد حتى تعود وقدته الأولى، ولكنه حين يعود يكون قد تلون بما ساد المجتمع من اتجاهات أخرى تؤثر في لون اللهب الجديد وتتحكم في حدة ضرامه. ولنضرب مثلا لهذا بضربين من ضروب الرومانسية؛ الأول عربي عريق، والثاني أوروبي حديث. أما الأول فقد صاحب تاريخ الأدب العربي على امتداده، يلتهب في كل فترة من فترات الفوران الاجتماعي والفكري، ويخبو في كل فترة خمود وثبات وجمود، وهو كلما عاد اختلفت صورته، حتى حين كان يبدو لغير المتمعن أنه «إحياء» أو «بعث» للماضي وحسب. وأما الثاني فقد صاحب كل نهضة فكرية في أوروبا، وارتبط أحيانا بالثورة والتحرر أو بالمثالية أو الفردية أو بالنزوع إلى الخيال، ولكنه كان دائما يستند إلى ما استند إليه الاتجاه العربي من إيمان بقدرة الذهن على قهر الظواهر وبقدرة القلب على استيعاب الوجود.
صفحه نامشخص
ويلتقي الاتجاهان في كل موضع في تاريخ الأدبين على فترات من المحال أن نحددها بالأجيال، بل إنها قد تدوم قرونا وقد تقصر حتى لا تتجاوز السنوات المعدودة؛ فالزمن هنا يخدع الباحثين كثيرا؛ فالثبات الذي يوحي به الشكل التقليدي لشعر «شوقي» يخفي في طياته رومانسية دفاقة لا تكاد تبين؛ لشدة حرص الشاعر على التمسك بالمصطلح القديم ويصدق هذا القول على «البارودي» من قبله؛ فهي رومانسية المثال والقيم المطلقة - وهي ضرب من الضروب التي بينها البروفيسور «لاف جوي» في «التمييز بين الرومانسيات». ولقد ظل هذا الاتجاه خبيئا حتى وجد في مدرسة الديوان من يفصح عنه أيما إفصاح - وإن بدا للقراء في العقود الأولى من هذا القرن أن العقاد لا يكاد يشترك مع شوقي في شيء!
كان العقاد وشوقي يشتركان في العمر الفني وإن اختلفا في العمر الزمني؛ أي إنه دون وجود شوقي لم يكن العقاد ليثور ثورته، ويفصح عن رومانسيته، وكذلك كان علي محمود طه وإبراهيم ناجي يشتركان مع أبناء الجيل السابق في الروح، وإن اختلفت صورة الرومانسية في شعرهم، فاتخذت إطارا جديدا كالصبغة الفردية والجنوح إلى الخيال - وكذلك كان الشعراء المحدثون الذين ارتبطت أسماؤهم بشعر التفعيلة وإن كانت الرومانسية أقرب إلى روح الثورة والتحرر مع ما يكسوها من حزن وألم، فكيف بنا نقسم هذه الاتجاهات تقسيما زمنيا لا فنيا؟
أجيال الرومانسية
عندما ذكرت في كتابي عن الشعر العربي المعاصر في مصر بالإنجليزية أن أقوى تيار في الجيل الذي تلا صلاح عبد الصبور هو تيار الرومانسية الجديدة، وحددتها قائلا: إنها مزيج من الاتجاه الحديث في العالم والرومانسية الأوروبية؛ لم أكن أتصور أن أغضب أحدا من كبار شعرائنا، ولم أكن أتصور أن أحدا سيسيء فهم هذه الفكرة غير العويصة. ولكن لاقيت نفس المصير الذي لاقاه أحد شيوخ النقد الإنجليزي «و. ب. كير» حين قال: إن الشاعر الأصيل أو المجدد لا بد أن يبدأ بالرومانسية؛ إذ غضب منه الكلاسيكيون من النقاد المعاصرين، مثل «ف. ل. لوكاس المتوفى عام 1966م» وبعض المحدثين من الشعراء الذين تصوروا أن الحداثة أو المودرنية تعني بالضرورة رفض الرومانسية، وهم لا يقصدون بها في حقيقة الأمر إلا الحركة الأدبية الأوروبية المعروفة.
ومكمن الصعوبة في فهم هذا القول كما بين بعض الشارحين (مثل نورثروب فراي وماير إبرامز) هو اختلاف الزوايا التي ينظر منها إلى الرومانسية؛ فالناقد الكلاسيكي مدفوع بطبيعته ودراسته إلى الحكم على الجوانب الشكلية؛ لأنه (أيضا بسبب تكوينه الفكري) لا يرى في الفن غير الشكل - فعالم الكلاسيكية عالم ثبات وقرار - عالم تحكمه قوانين راسخة مثل القوانين الرياضية وقوانين الصحة والاستواء؛ ولذلك فقلما يناقش نزعة نفسية تخرج عن إطار قوانينه أو خيالا جامحا يركض به في دنيا لا يألفها؛ ومن ثم فهو يؤمن بأن الفن شكل وأن الأفكار (مثل المعاني عند بعض نقاد العرب) يعرفها العربي والعجمي، وأن الفن ما هو إلا براعة البناء وهندسة التركيب وحيل الصنعة.
أما النقد الحديث فيدعو إلى عدم الفصل بين الشكل والموضوع؛ فالعمل الفني كيان حي نابض، يتعرض للتزييف بل للمسخ والتشويه إذا جردت شكله لدراسة بنائه، وهذا من أكبر أخطار المدرسة التي ازدهرت قبل عشرين عاما في فرنسا، ولم تلبث أن اندثرت - ألا وهي ما يصطلح على تسميتها بالبنائية أو البنيوية - أي الاتجاه إلى رؤية نماذج أو أنماط شكلية محددة ومكررة في الأعمال الفنية بغض النظر عن نوع الفكرة أو الإحساس؛ أي إن الناقد البنيوي كان يساوي بين عناصر متباينة بغية تصنيفها في هيكل يرى فيه الدلالة الكبرى، وكان يحاكي ما فعله بعض نقاد الثلاثينيات الذين أرسوا قواعد دراسة كل جانب من جوانب العمل الفني - كالإيقاع في الشعر، أو الصور الفنية، أو الألفاظ بأشكالها المختلفة، أو الشخصيات وما إليها - بطرق الإحصاء والتقسيم والتبويب والتصنيف، وقد لاقت هذه الأنواع من الدراسة هوى في نفوس كثير في أمريكا؛ إذ إن الأرقام لها سحر خاص وهي توحي بالمنهج العلمي الذي يؤدي إلى اليقين ، ثم انهار هذا المنهج أيضا عندما نهض معارضوه في ألمانيا (فولفجانج كليمن) وإنجلترا (راجوف) ليدحضوا ما ظاهره علم وباطنه تزييف؛ لأن حقائق الأدب مثل حقائق الحياة لا بد من معالجتها معالجة شاملة في سياقها الحي، وإلا لم تعد تعني شيئا.
الناقد الحديث ينبغي ألا ينخدع بالأرقام أو الأشكال وألا يتخذها أساسا لإقامة تماثل بين عملين أدبيين يشتركان في الهيكل ويختلفان في المادة، أو فيما هو أخطر من هذا - وأقصد به الاختلاف في «النغمة» أي فيما يسمى أحيانا «النبرة» (ترجمة لكلمة ال
TONE ). وقد كانت هذه الصعوبات في الحقيقة السبب في اختلاف الزوايا التي ينظر منها إلى الرومانسية؛ ومن ثم في عدم إدراك ما يقصد إليه «و. ب. كير» من ربط النزعة إلى التجديد بالرومانسية، فالحقيقة التي يريد إبرازها هي أن كل فنان ينشأ في ظل أنماط أدبية يتشربها وتتغلغل في أعماقه وهو صغير، وهو يحاول في بداية حياته استخدامها عندما يصل إلى مرحلة النضج، ولكنه يصطدم بأن الواقع الذي يعيشه والذي ينفعل معه لا يخرج بالصورة التي يريدها من خلال هذه الأنماط، ويجد أن عليه أن يشق لنفسه طريقا جديدا - ومعنى ذلك أنه يرتاد بقاعا غير مألوفة (في الشكل والمضمون جميعا) - وبهذا يجد نفسه يعيش الوحشة التي قال «ماثيو أرنولد» إنها قدر كل عبقري، وذكرها فرانك كيرمود في سياق الحديث عن «وليم بطلر ييتس» الشاعر الأيرلندي الأشهر. أي إن الفنان يضطر مرغما إلى الابتعاد عن التقاليد الأدبية؛ اقترابا من واقع فني - نفسي أو فكري أو إنساني. وهو بهذا يوصف بالشطط أو بالتفرد أو بالمثالية، ومن ثم بالرومانسية.
ومن هنا كان لكل جيل (وقد يطول زمنا حتى يقترب من القرن أو يقصر حتى لا يجاوز العقد الواحد) رومانسيوه - أي شعراؤه الذين يصوغون رؤاهم الأصلية في أشكال أدبية جديدة - ولهذا لم يتردد «كلينث بروكسي» في وصف شعر «ت. س. إليوت» بالرومانسية، ولم يجد من حاول أن يعارض أي تناقض بين الحداثة (أو المودرنية) وبين الرومانسية بعد أن تحرر مفهومها من الاقتصار على المعنى التاريخي؛ ولذلك أيضا لم أتردد في رصد الاتجاه الرومانسي في شعر صلاح عبد الصبور والجيل الذي تلاه عمرا ويشترك معه فنا وبالتحديد فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وفتحي سعيد وفاروق جويدة.
ولكن هل ينطبق هذا القول على الشعر فحسب أم يصدق أيضا على سائر الفنون الأدبية ونشأة الأشكال الجديدة؟
صفحه نامشخص
الأجيال والشكل الأدبي
تدلنا الدراسة الأدبية الحديثة على أن ثمة صلة وثيقة بين نشوء نوع أدبي محدد وبين المناخ الفكري الذي يسود في مرحلة ما من مراحل تطور أمة من الأمم، أو مجتمع من المجتمعات، (وأنا أستخدم لفظ «مرحلة» هنا بدلا من لفظ جيل نشدانا للدقة؛ فهي مساحة يصعب تحديدها وتختلف اختلافا شاسعا من بلد إلى بلد) بحيث تستطيع رصد نشأة النوع وتطوره في إطار فكري محدد دائب التغير والتحول؛ لأنه لا يقتصر على المعتقدات والأفكار السائدة في فترة ما، بل يتخطاها ليشمل الرموز التي تحتل مكانا بارزا في حياة الجماعة البشرية، والحساسية الفنية التي تتميز بها هذه الجماعة في تلك الفترة؛ ومن ثم فهو إطار يرتبط بنظم مادية ومعنوية وقيمية بعضها موروث وبعضها جديد، ولكنها تشترك جميعا في تشكيل ما أسميته بالمناخ أو الجو الفكري العام.
ولذلك فإن الراصد لنشوء فن القصة القصيرة في الغرب مثلا - مثلما فعل الدكتور شكري عياد في محاولته تأصيل هذا الفن الأدبي - لن يجد مناصا من ربطه بالتغيرات الاجتماعية التي استحدثت أطرا فكرية جديدة في حياة الناس في أوروبا وأمريكا، والراصد لنشأة مسرحية الفصل الواحد لن يلبث أن يجد لها جذورا، لا في الفنون الأدبية وحدها (وأهمها فن القصة القصيرة نفسه)، بل وفي اتجاه المجتمعات الحديثة نحو فلسفة «اللحظة الواحدة» - أي فلسفة تأمل الحياة من خلال ما يسمى في لغة السينما ب «اللقطة المركزة» - وقد كانت هذه اللحظات أو اللقطات تتوالى في الرواية أو المسرحية أو الملحمة، وغيرها من الأشكال الأدبية التي عرفها تراث الإنسانية القديم.
وقد بدأ هذا الاتجاه - لا شك - مع بداية العصر الحديث الذي يميل كثير من الدارسين إلى ربطه بالانقلاب الصناعي في أوروبا وانتشار الصحافة بالمعنى الحديث، وكان من أكبر الداعين له «إدجار ألن بو» الذي كان من أوائل من حاولوا تعريف القصة القصيرة، وكانت نظرته إلى الشعر ذات دلالة كبرى؛ إذ كان يرفض أي قصيدة يزيد طولها على المقطوعة، ويستريب بأي شكل من أشكال الشعر يحاول محاكاة الأشكال الأدبية المطولة؛ فالشعر عنده (مثل اللوحة أو التمثال) فن مكاني لا زمني، أي يعتمد على الحيز والمساحة لا على التعاقب والتوالي.
ولكن هذا الاتجاه أيضا ما لبث أن أحدث رد فعل غير مباشر؛ لأن المناخ الفكري الذي ولده قد تغير في العصر الفكتوري نفسه في إنجلترا وفي عقود التحول الحاسمة، وفي روسيا بحيث عادت للرواية الطويلة مكانتها، واستطاعت الأنواع الأدبية الزمنية «أن تحظى بإقبال الجمهور العريض»، وأصبح من المألوف أن ترى كاتبا روائيا يكتب القصة القصيرة، أو شاعرا من هواة القصائد الطويلة يكتب المقطوعات، بل إن نهاية القرن شهدت تنويعا جديدا في هذا المجال على يد تشيكوف الذي لم يكن يكترث لما ورثه من أشكال، فكتب المسرح الذي يقترب من أنواع الأدب الأخرى، وكتب القصة القصيرة التي طالت بعض الشيء أو الرواية التي قصرت بعض الشيء، فأحيا بذلك تراث القصة القصيرة الطويلة أو «النوفلا
NOVELLA » والتي كانت قد أوت إلى الرقاد طويلا بعد أن قدمها شاعر الألمان الأكبر «جوته».
ونحن عندما استقدمنا كل هذه الأنواع من الأدب العالمي لم نكن نفتقر في الحقيقة إلى القاعدة أو الأرض التي يمكنها أن تستقبل وتحمي نباتات عربية أصلا من كل هذه الفنون اللغوية؛ ولذلك لم تستغرق المحاولات عقودا طويلة (كما بين الدكتور عبد المحسن بدر)، ولم نلبث أن رسخنا فنون الرواية العربية والقصة وما إليها؛ باعتبارها آدابا قومية كثيرا ما تطاول الآداب العالمية فكرا وفنا، ولم يلبث الكتاب الذين خلفوا الرواد أن طوروا شكل «النوفلا» ومزجوا بين المسرح وفنون الرواية (مثل يوسف إدريس وعبد الرحمن فهمي) ومن ابتدعوا فن «الخاطرة» - وهو صورة مصغرة من المقال الأدبي، يضارع قصيدة النثر، ويختلف اختلافا بينا عن إنشاء المنفلوطي والرافعي، ومن برعوا في كتابة القصة القصيرة جدا - أو الأقصوصة.
ولكن الذي لم ننتبه إليه في خضم هذه الأجيال الشكلية هو التحول الذي طرأ على شكل الرواية نفسها والذي استتبعه تغير المادة التي تتناولها نتيجة لتغير المناخ الذي كتبت فيه؛ فكاتب الرواية اليوم - وأنا أقصد الممتاز والمتميز - لا يحاكي نماذج قريبة بل يحاكي الرواد، حتى ولو كان قد بدأ حياته الأدبية محاكيا، بل هو يستلهم أرض واقعه ونفوس من حوله، وهو كثيرا ما يغوص في تاريخ أمته يستقي منها معاني لحاضره، وكثيرا ما يعتبر اللغة مادة للتجريب لا وسيلة للتوصيل فحسب. ولقد كان من عمق تأثير الجو الفكري والنفسي أن شيخ كتاب الرواية والقصة نجيب محفوظ وجد نفسه يغير من منهجه ومن أطره؛ ليس فقط في البناء والتصوير، بل في اللغة أيضا. إن إنتاج نجيب محفوظ الأخير درس لنا من أستاذ كبير؛ من فنان ذي حساسية لم يطل بها الوقت حتى تغيرت مع تغير العصر؛ فهو يمثل جيلا جديدا في كتاباته الجديدة، وأعماله أجيال، تماما مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب - قمة القمم - الذي يمثل تطوره حساسية أجيال كاملة لا جيلا زمنيا واحدا.
متفرقات
قصة مستوردة
صفحه نامشخص
دخل القصاص المبتدئ إلى مبنى الدار الصحفية الشهيرة، وسأل عن مكان إحدى المجلات التي تصدر عنها، ولم تكن إجراءات الأمن آنذاك صعبة أو معقدة، وسرعان ما وجد نفسه في غرفة رئيس التحرير، ولما عرض عليه ما أتى من أجله حوله إلى المحررة المختصة، وهناك حدث ما لم يكن يتوقع. كان القصاص قد تخرج لتوه بالجامعة، ولكنه كان يفضل أن يكتب قصصه الأصيلة المستمدة من تجاربه في القرية التي أتى منها، وأن يحاكي أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل بعد أن أذهلته قدرته على البيان، وأسرته بلاغته المطمئنة أو قل خطاه المتئدة؛ فأسلوبه لا يلهث فيتعثر ولا يتمهل فيضل.
وعرض الشاب قصته على المحررة - وكانت أقرب إلى الأقصوصة منها إلى القصة، فقرأتها على الفور ونظرت إليه وابتسمت، وقالت في ثقة ورقة: «هذا عظيم، ولكن الأسلوب لا يصلح لقرائنا، كما أننا نفضل القصص المترجمة على القصص المحلية؛ لأن الأجانب يجيدون تحليل نفسية المرأة، ومعظم قرائنا كما تعلم من الجنس اللطيف.» ولم يحزن الشاب ولكنه - شأن كل ناشئ - كان قلقا على مصير قصته فعاد يسألها عما يمكنه أن يفعل، وبنفس النبرات الواثقة نصحته المحررة أن يكتب «قصة مترجمة»! وتردد الشاب أول الأمر ثم ابتسم ابتسامة يخفي بها ارتباكه وقال في صوت خفيض: «ولكني لا أستطيع الترجمة؛ لأن معرفتي باللغات الأجنبية محدودة.» وخيل إليه أن نبرات الثقة في حديثها زادت وهي تقول: «ولهذا لم أطلب منك أن تترجم قصة بل أن تكتب قصة مترجمة!» وإزاء هذه الدهشة التي عقدت لسانه استمرت قائلة: «أقصد أن تكتب قصة مثل القصص التي ننشرها في مجلتنا - ويمكن أن تستمد مادتها من أبواب رسائل القراء، وستلاحظ أنها في الغالب من الجنس اللطيف، ولكن المهم أن يكون أسلوبها مترجما، أعني أن يوحي بأن القصة مترجمة؛ مثل أسلوب قصصنا المترجمة، وأن تكون الأسماء التي تختارها للشخصيات أجنبية، وأن يكون مسرح الأحداث في الخارج، ويستحسن أن يكون في إحدى البلاد غير المألوفة للمصريين، وستجد أوصافها في قصصنا المترجمة، ولا داعي طبعا لأن تذكر اسم من تترجم عنه أو اللغة التي تترجم منها؛ فهذا لا داعي له لأننا لن نذكره في المجلة، ولن نذكر اسمك بطبيعة الحال ولكننا سندفع لك أجر مؤلف لا أجر مترجم.»
وبعد محاورة قصيرة غادر الشاب الدار الصحفية، ولم يدخلها إلا بعد أعوام طويلة تقترب (حسبما يقول) من العشرين، ولكنه ورث من ذلك اليوم كراهية لكل ما هو مترجم، ونشأ في قلبه عداء لما أسمته المحررة بحق «أسلوب الترجمة»، واستمر هو في محاكاة أسلوب الدكتور هيكل حتى اكتشف أنه لا يستطيع محاكاة أساليب الكتاب، بل ولا يستطيع أن يتخذ من الكتابة هواية خاصة، فهجرها واقتصر على القراءة، ولم ينس أن يتجنب كل ما كتب عليه «قصة مترجمة».
عادت إلى ذهني هذه القصة الحقيقية - وليعذرني القارئ إن أنا تعمدت إخفاء الأسماء وحرفت بعض التفاصيل؛ إمعانا في الإخفاء - عندما رأيت بعض «المترجمات» التي تنشرها بعض دور النشر في دولة عربية شقيقة بعضها غفل من اسم المترجم، وبعضها عليه اسم زائف! وراعني إقبال الشباب في مصر على اقتناء هذه وتلك - وبعضها ذو ثمن باهظ - دون اكتراث لاسم المؤلف أو المترجم! وعجبت للسر في هذا الإقبال، بينما تحفل رفوف المكتبة العربية بقصص ومسرحيات لمؤلفين مصريين وغير مصريين وأغلبها بديع رفيع - هل لحقت الأدب لعنة «المستورد» - أي سحر السلعة المستوردة وما توحي به من جودة؟
ولكن الذي أعاد القصة إلى الحياة حقا هو ما أسمته المحررة «أسلوب الترجمة» أي أسلوب الرطانة الذي كان يحذرنا منه أستاذنا المرحوم الدكتور أمين روفائيل (والذي لا يذكره الدكتور شكري عياد بطبيعة الحال في كتابيه الأخيرين عن الأسلوب). فما هو هذا الأسلوب؟ إنه مستوى لغوي محدود الكلمات والعبارات، غريب الأبنية والهياكل، يوحي بالأصل الأجنبي ولا يرقى إليه، ويزخر بالعبارات التي أسأنا ترجمتها في بداية عهدنا بالترجمة، فأصبحت علما على اللكنة مثل حسن، حسنا، يا للسماء! وما إليها، إلى جانب ما أسميه بالكنكنة - كان يمكن أن يكون كذلك، ولو لم يكن كذلك - والعجيب أن ينزع الكثيرون من الطامحين إلى كتابة القصة القصيرة إلى استخدام هذا الأسلوب؛ ظنا منهم بأنه يوحي بالحداثة أو المودرنية، أو عجزا منهم عن استيعاب الأساليب العربية الأصيلة، والأدهى أن تتسرب سمات هذا الأسلوب العجيب إلى اللغة العربية المستخدمة في شتى المجالات (أي دون اقتصار على لغة الصحافة)، بل وأن تصبح من سمات اللغة المستخدمة في الحديث اليومي دون أن يكون لدى المتحدث علم باللغة الأجنبية التي قيست عليها العبارات والكلمات الدخيلة.
وكثيرا ما أتساءل: هل هذا من تأثير ترجمات الأفلام التي يراها المتفرج اليوم بلا انقطاع على الشاشة الصغيرة؟ (وهي ترجمات لا داعي للتعليق على رداءتها وانحطاط أسلوبها وابتعادها عن الأصل) أم هو من تأثير الترجمات الزائفة التي تلقي بها في أسواقنا دور النشر في ذلك البلد الشقيق؟ أم هو من تأثير الانغماس في العامية في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية؟ بل قد يكون ذلك نتيجة لاتجاه المبتدئين في صناعة الصحافة إلى الكتابة الإبداعية، دون أن يكون لديهم الاستعداد اللغوي الكافي، ثم انغماسهم فيها مع ما يلقونه من تشجيع في النشر والتنويه بأعمالهم! وربما تكون هذه العوامل مجتمعة من أسباب انتشار أسلوب الترجمة. ولكنني على يقين من أن المستورد في هذه الحالة لا يداني المحلي في أي مظهر من مظاهره.
احتراف الأدب
هل الأدب حرفة؟ أي هل يستطيع إنسان أن يعتمد على الكتابة الإبداعية في كسب عيشه؟ وأقصد بالاعتماد عليها عدم الانخراط في السلك الوظيفي أيا كان نوع الوظيفة - ولو كانت تدريس الأدب نفسه؟
حاولت الإجابة على السؤال أول الأمر من وجهة نظر تاريخية، فبرزت أهم مشكلة تواجه الكاتب أو المفكر، وهي مشكلة تحديد معنى كسب العيش. ومن قبلها بطبيعة الحال معنى الكتابة الإبداعية - رغم الوضوح الخادع للمصطلح الأخير. فمفهوم الإبداع متغير، وهو لا يقتصر على كتابة الأنواع المختلفة من الأدب الخيالي (القصة القصيرة، الرواية، الشعر، المسرح)، بل يتعداه اليوم إلى النقد - فالنقد يعتبر فرعا أساسيا من فروع الأدب - وهو يقتضي في رأي المحدثين طاقة إبداعية نستدل عليها من التفاعل الوجداني والفكري في آن واحد مع العمل الأدبي الذي يتعرض له الناقد، ومن قدرة الناقد المبدع على الربط بين مظاهر العمل الأدبي المحدد وبين غيره مما يزامنه أو مما سبقه، وكذلك بينه وبين الأطر الفنية والفكرية التي ينبع منها ويصب فيها؛ إما في عصره، أو في الأدب بصفة عامة، باعتباره كيانا مطلقا، كما نستدل عليها من قدرة الناقد على بلورة كل ما يخرج به في هذا الصدد في لغة موجهة إلى جمهور بعينه، وتهدف إلى إحداث تأثير معين، مهما كانت درجة الموضوعية التي يلتزمها.
أما كسب العيش فمفهوم جد عسير؛ فهو يتغير في العصر الواحد، بل وفي البلد الواحد، بل ويكاد يتغير من أديب إلى أديب. أما عبر العصور فهو يتغير تبعا لتغير المعايير الاقتصادية السائدة، وتبعا لمفهوم الضروريات والكماليات؛ فما كان كماليا بالأمس قد يصبح ضروريا اليوم بسبب إيقاع الحياة اللاهث (كوسائل الانتقال مثلا)، وما لم يكن معروفا بالأمس قد يصبح ضروريا في الغد (مثل وسائل العلاج الحديثة ذات التكاليف الباهظة)، وما لم يكن يتتبع نفقات كبرى بالأمس قد أصبح يبتلي الإنسان بأنواع الهموم (مثل نفقات التعليم والكساء للأسرة).
صفحه نامشخص
ولذلك فإن شاعرا كبيرا مثل «وليم وردزورث» استطاع أن يعيش على دخل محدود من استثمار رأسمال قدره تسعمائة جنيه (كان يدر عليه ما يقرب من مائة وثمانية جنيهات في العام في أوائل القرن التاسع عشر)، وكان يعيش هو وأخته أول الأمر في منزل ريفي صغير ذي حديقة لا بأس بها (أسماه
Dove Cottage )، ولم ينتقل منه عندما تزوج وأنجب ولحقت بالأسرة «سارة» أخت زوجته لتعيش معهم. كان طموحه الذي لم يفارقه منذ صباه هو أن يكون شاعرا متفرغا لكتابة الشعر، وألا يلتحق بوظيفة ما طول عمره، فكان يقضي وقته في القراءة (وكان شعراؤه المفضلون هم شيكسبير وسبنسر وميلتون)، وإتقان اللغات الأجنبية والترجمة منها، فترجم هجائيات «جوفينال» عن اللاتينية وغزليات «كاتولوس» أيضا عن اللاتينية ومقطوعات «مايكل أنجلو» عن الإيطالية القديمة وما إلى ذلك، كما كان يكتب حين يأتيه شيطان الشعر، وكان أكثر ما يأتيه وسط الحقول، ولم تكن تزيد متطلبات الأسرة عن الطعام الذي كانت تتولاه أخته «دوروثي» ابتداء من بذر الحب إلى جني ثمار البازلاء والبطاطس في الحديقة، وابتداء من العجن إلى إنضاج الخبز في الفرن المنزلي.
والمطلع على حياة هذا الشاعر يعجب كيف استطاع أن يحد من حاجاته الاقتصادية، فلم يكن يشغل فكره إلا الأحذية الجلدية المتينة التي تعينه على السير مسافات طويلة، وكثيرا ما تلمح في ثنايا رسائله واليوميات التي كتبتها أخته اهتماما بالغا. وقد أجرى أحد الدارسين حسابا استخلص منه أنه عندما بلغ الستين كان قد سار على قدميه مسافة تزيد على 180000 ميل!
ولكن هذا الشاعر لم يلبث - بعد أن حقق لنفسه ذيوعا عريضا - أن قبل وظيفة شرفية (أو اسمية) في مصلحة الضرائب، بل قبل أن يكون شاعر البلاط وهو المنصب الذي كان قد شغله «ألكسندر بوب» شيخ الكلاسيكيين و«روبرت ساوذي » الرومانسي الأشهر من قبل وردزورث! بل إنه قد تحول في شعره من الثورية المتطرفة إلى الرجعية الكاملة، وكتب سلسلة طويلة من السوناتات السقيمة العقيمة عن أحد الأنهار وسلسلة أخرى بعنوان السوناتات الكنسية! وسرعان ما هاجمه شعراء القرن التاسع عشر لهذا التحول وتلك الردة، فكتب «براوننج» قصيدته المشهورة في هجائه بعنوان «القائد المفقود»، وهو يعني في الحقيقة الذي ضل الطريق، مثلما كتب الشاعر العظيم اللورد بايرون هجاءه المعروف لشاعر البلاط الأسبق «روبرت ساوذي»!
ولكن احتراف الأدب وحياة التقشف ظلا مثلا يطمح إليه الأدباء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحاوله بعض صغار الفنانين والشعراء لا يذكر منهم اليوم سوى «دانتي غبريال روزني» وجماعته، بينما كان «ماثيو أرنولد» مثلا - شاعر العصر الفيكتوري وناقده العظيم - مفتشا في وزارة التربية والتعليم، وأما في القرن العشرين فقد انهار هذا المثل تماما ولم يعد من الممكن ولا من المستحسن أن يتفرغ أديب للأدب؛ إذ لم يعد مفهوم الأدب مقصورا على إبداع العمل الأدبي، ولم تعد متطلباته مقصورة على إحكام الوسيلة اللغوية، بعد أن تعقدت أنماط الحياة، وأصبح على الأديب أن يشغل نفسه بدراسات وقراءات غير أدبية، بل وباهتمامات فكرية تتخطى حدود العصر، ولم يعد في إمكان الناقد أن يجهل العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والنفسية! ولقد انتفت تماما فكرة الناقد الفني البحت - أي الذي يقتصر على نقد الشكل - إذ لم يعد الشكل منفصلا عن المضمون، وما تشعب الأشكال الفنية وتعقيدها إلا انعكاس لتشعب المضمون وتعقيده! كما لم يعد الأديب قادرا على احتراف الأدب - حتى ولو كان يدر عليه ما يكفي لكسب عيشه ويزيد!
الفنان والتعليم
من المفهومات الخاطئة التي شاعت فأوشكت أن تصبح لشيوعها صحيحة؛ مفهوم المقابلة بين الفن والعلم، أي تصور الكثيرين أن الفنان لا حاجة له بالدراسة؛ باعتبار أن الدراسة عمل العلماء لا الفنانين أو الأدباء. وينطبق هذا بصفة خاصة على التفرقة بين الناقد والأديب؛ إذ كثيرا ما يقال إن الأول عالم والثاني مبدع؛ ومن ثم فعلى الأول أن يدرس ويعلم، بينما لا يحتاج الثاني إلا إلى التأمل، ثم استنطاق موهبته الإبداعية التي لا تحتاج إلى عون من ثمار قرائح البشر؛ فهي ربانية يولد بها المرء ولا يكتسبها.
ويستند هذا المفهوم إلى خطأين في التفكير؛ أولهما الخطأ في فهم معنى الموهبة وعلاقتها بالإبداع، والثاني هو الخطأ في فهم طبيعة عمل الفنان أو وظيفته. أما الأول فإنه لم يصحح إلا منذ عهد قريب، وقد كان محوطا بالألغاز قرونا وقرونا - وذلك بعد نهضة علم النفس الحديث وتشعبه، بعد أن كان مقصورا في فترة ما على مجالات بعينها (أهمها علم النفس المرضي)، فأصبحنا ندرك المزيد عن دقائق عملية الإبداع وعملية التذوق الفني - ونحن مدينون في هذا الصدد لرائد هذه الأبحاث في العالم العربي أستاذنا الدكتور مصطفى سويف، وأصبحنا نعرف أن المادة التي يشكلها الفنان - أو ما أسميته من قبل بالواقع - لا تقتصر على تجارب الحياة من أحداث وأحاديث وصور ورؤى، بل تتضمن تشربا لروح العصر وهو ما لا يتحقق إلا بالتعليم، أي بالقراءة المتصلة والاستيعاب المتواصل لعلوم العصر. وإذا كنت قد كررت الإشارة إلى العصر هنا فذلك لأن مفهوم العلم أو العلوم يختلف من عصر إلى عصر؛ فقد تسود العلوم الدينية في عصر ما، وقد تسود العلوم الفلسفية أو العلوم الطبيعية، وهلم جرا؛ ولذلك فالفنان أو الأديب ينحدر من تراث أدبي أو فني صرف، ولكنه ينتمي للماضي الأدبي والحاضر الفكري معا.
وتحضرني كلمات ابن رشيق في كتابه «العمدة» عن اتساع نطاق المادة التي يتناولها الشاعر العربي مع اتساع نطاق المعارف العربية نتيجة للفتوحات الإسلامية، فاطلاع العرب على الثقافات الأجنبية واتصالاتهم بالحضارات القديمة وهو يطلق على هذه «المادة» لفظ «المعاني» وهو يعني أحيانا الصور الفنية - كما بينت ذلك في كتابي «النقد التحليلي» (1963م) - ويعني به «الأفكار» التي يتناولها الشاعر أحيانا أخرى.
وهذه المعاني أو الأفكار عادة ما تكون وليدة العصر الذي يعيش فيه الفنان. وسواء قبلنا آراء قطب الذاتية في هذا الصدد، وهو الشاعر الإنجليزي «وليم وردزورث»، أو قطب الموضوعية ت. س. إليوت؛ فإننا لا بد أن نواجه في كل مرة هذه الحقيقة الساطعة، وهي أن المادة الفنية لا يمكن أن تقتصر على التراث، بل لا بد أن تتضمن علوم العصر. وقد يكون هذا ثمرة لجهد فردي أي لتحصيل فردي من جانب الفنان؛ فالشاعر الرومانسي «شلي» كان يقرأ منذ بزوغ الفجر حتى منتصف الليل باللغات اليونانية واللاتينية والإيطالية والإسبانية والفرنسية، ويذكر من ترجموا له أنه كان يغفو من شدة الإرهاق وحاجته إلى النوم أثناء النهار، وأنه كان دائما يحمل كتابا معه يختلس القراءة فيه حتى ولو كان في حفلة أو مأدبة (وقد لا يعلم الكثيرون أن ت. س. إليوت حاصل على درجة الدكتوراه؛ فهي المعادل الحديث لنوع من التعليم القديم)؛ أقول: قد تكون هذه الإحاطة ثمرة جهد فردي، وقد تكون نتيجة لروح العصر التي تتمثل في الجهد الجماعي للمفكرين (من علماء وأدباء)، وخير من يعبر عنها هو الناقد.
صفحه نامشخص
وقد تنبه إلى هذه الحقيقة الناقد الإنجليزي والشاعر «ماثيو أرنولد» حين قارن بين امتياز الشعراء، لا على أساس الشكل وحده، بل على أساس ثراء المادة الفكرية، وقد هداه بحثه إلى أن النقاد هم الذين يوفرون هذه المادة للأديب، فكان يقول: إن على الناقد أن يوجد تيارا من الأفكار الحديثة الصائبة بحيث يجد الفنان نفسه في إطار يضمن لعلمه العمق ويكتب له البقاء، وكان يضرب المثل لهذا الشاعر الألماني العظيم «جوته». وقياسا على هذا نجد أن «روح العصر» (وكان الناقد الإنجليزي وليم هازليت أول من ابتكر هذا التعبير) يمكن أن تفسر لنا طبيعة المادة التي يتناولها الفنان في عمله.
أما الخطأ الثاني فهو يتعلق بطبيعة عمل الفنان - وهذا أيضا لم يصحح إلا منذ عهد قريب - إذ كان يظن أنه مصور وحسب أوانه مجرد مرآة تعكس حياة الناس (في مجتمعه مثلا) أو حياة الطبيعة؛ ومن ثم كان النقاد يركزون في دراستهم على جوانب «المهارة في المحاكاة» ومدى صدق التصوير، وقد كان للشاعر الإنجليزي «كولريدج» - وهو أبو النقد الحديث - فضل تحرير الأذهان من هذا الخطأ الفادح حين أسهب في «السيرة الأدبية» في الحديث عن الخيال الإبداعي وعمل المخيلة الإبداعية (وأنا أستخدم هنا المصطلح الذي أتى به ابن خلدون قبل كولريدج بما يزيد على أربعة قرون).
وبفضل هذا المفهوم أصبح الجميع يدركون أن عمل الفنان يتمثل في إعادة تشكيل الواقع لا تصويره، وأن جهد التفكيك والتحليل لا ينفصل عن جهد التجميع والتشكيل؛ ولهذا لا بد للذهن من أن يحكم فن التفكير التحليلي الذي لا يأتي إلا بالدراسة واستيعاب المنهج العلمي الحديث.
ولقد قيل قديما إن كل فنان يضمر في داخله ناقدا - يتحكم في اختيار المادة وتحديد الشكل، بل ويصدر أحكام القيمة. ولذلك كان أفضل الفنانين هم أفضل النقاد دائما - وأضيف إن أفضل النقاد مبدعون - فملكة الإبداع تتضمن جهدا مركبا لا غنى عنه للناقد والفنان جميعا، ولا غنى لأيهما عن معارف العصر، وهو ما لا يتأتى بالتعليم والدراسة.
خرافة الكمال
لم يتردد الشاعر المبتدئ في الاعتراض عندما أبدى له أحد زملائه نقدا، وكان اعتراضه عنيفا وحاسما؛ فهو يستند إلى ما شاع في الخمسينيات - نقلا عن مدرسة النقد الحديثة الأوروبية الأمريكية - من أن العمل الفني كائن مستقل له قوانينه الخاصة، وأنه كامل في ذاته، لا يحتمل الزيادة ولا النقصان، ولا يمكن ترجمته، ولا يمكن نقله من صورة إلى صورة، أي من شكل أو وسيط إلى شكل أو وسيط آخر (كالرواية والمسرحية والقصيدة وما إليها)، وإلا مسخ وشوه وخمد، ولم يعد - باختصار - عملا فنيا.
وتعجب زميله الذي يكتب الشعر أيضا من هذا العنف غير المتوقع؛ فقد كان اعتراضه يسيرا، منطقيا إلى أبعد الحدود، بل لا يعدو أن يكون اقتراحا بتقسيم القصيدة إلى قصيدتين؛ لأنها تنقسم - في صورتها الحالية - إلى لحظتين تمثلان رؤيتين لا يجمع بينهما تماثل أو تناقض، ولا يشدهما تقارب أو تقابل، ولا يتصلان بتناظر أو تضاد، ولا يؤدي أحدهما إلى الآخر ولا ينبع منه، ولا يكاد يربط بينهما سوى ما يربط بين القصائد المتفرقة في ديوان واحد!
وكنت أتابع المناقشة ولكنني لم أتعجب؛ إذ وجدتني في موقف الزميل الناقد رغما عني ذات يوم وعام 1986م يؤذن بالأفول، حين أبديت نفس الملاحظة لقصيدة في ديوان الشاعرة وفاء وجدي، واعترض أحد الزملاء على حق الناقد في التعديل أو اقتراح ما يمكن أن يغير من شكل القصيدة. باعتبار العمل الفني كيانا مطلقا لا يجوز المساس به. وطفقت أتأمل هذا الموقف الناشئ من إساءة فهم المذهب الفني الحديث؛ فلا شك أن النقد الحديث لا يقصد القول بكمال أي عمل فني، ولكن ما هي أسباب سوء الفهم؟
السبب الأول في رأيي هو معنى اصطلاح «العمل الفني» بداية؛ فنحن نقنع بالشكل الخارجي للعمل في تحديد انتمائه إلى أسرة الفن - فما دام منظوما ومقفى (أيا كان نوع النظم والقافية)، ويقدم رؤية ما؛ فهو قصيدة، وما دام منثورا ويحكي وقائع وبه شخصيات وأحداث؛ فهو قصة ورواية، وما دام مكتوبا بالحوار وبه مواقف وما إلى ذلك؛ فهو مسرحية. ونحن نسرع في الحكم باستقلاله وكماله حين نقرر أنه عمل فني! وما أبعد هذا كله عما يعنيه النقد الحديث!
إن النقد الحديث يقول في الحقيقة إن «العمل الفني» يطمح إلى الكمال؛ أي إنه في صورته المثالية كامل، ولكنه لا يرقى إلى هذه الصورة المثالية أبدا؛ فهو مرتبط بنقصان البشر، وما هو في الحقيقة إلا سجل مجسد لمشاعر وأفكار أبعد ما تكون عن الكمال شكلا ومضمونا، وكلنا يذكر قول العماد الأصفهاني: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.»
صفحه نامشخص