ولذلك فإن شاعرا كبيرا مثل «وليم وردزورث» استطاع أن يعيش على دخل محدود من استثمار رأسمال قدره تسعمائة جنيه (كان يدر عليه ما يقرب من مائة وثمانية جنيهات في العام في أوائل القرن التاسع عشر)، وكان يعيش هو وأخته أول الأمر في منزل ريفي صغير ذي حديقة لا بأس بها (أسماه
Dove Cottage )، ولم ينتقل منه عندما تزوج وأنجب ولحقت بالأسرة «سارة» أخت زوجته لتعيش معهم. كان طموحه الذي لم يفارقه منذ صباه هو أن يكون شاعرا متفرغا لكتابة الشعر، وألا يلتحق بوظيفة ما طول عمره، فكان يقضي وقته في القراءة (وكان شعراؤه المفضلون هم شيكسبير وسبنسر وميلتون)، وإتقان اللغات الأجنبية والترجمة منها، فترجم هجائيات «جوفينال» عن اللاتينية وغزليات «كاتولوس» أيضا عن اللاتينية ومقطوعات «مايكل أنجلو» عن الإيطالية القديمة وما إلى ذلك، كما كان يكتب حين يأتيه شيطان الشعر، وكان أكثر ما يأتيه وسط الحقول، ولم تكن تزيد متطلبات الأسرة عن الطعام الذي كانت تتولاه أخته «دوروثي» ابتداء من بذر الحب إلى جني ثمار البازلاء والبطاطس في الحديقة، وابتداء من العجن إلى إنضاج الخبز في الفرن المنزلي.
والمطلع على حياة هذا الشاعر يعجب كيف استطاع أن يحد من حاجاته الاقتصادية، فلم يكن يشغل فكره إلا الأحذية الجلدية المتينة التي تعينه على السير مسافات طويلة، وكثيرا ما تلمح في ثنايا رسائله واليوميات التي كتبتها أخته اهتماما بالغا. وقد أجرى أحد الدارسين حسابا استخلص منه أنه عندما بلغ الستين كان قد سار على قدميه مسافة تزيد على 180000 ميل!
ولكن هذا الشاعر لم يلبث - بعد أن حقق لنفسه ذيوعا عريضا - أن قبل وظيفة شرفية (أو اسمية) في مصلحة الضرائب، بل قبل أن يكون شاعر البلاط وهو المنصب الذي كان قد شغله «ألكسندر بوب» شيخ الكلاسيكيين و«روبرت ساوذي » الرومانسي الأشهر من قبل وردزورث! بل إنه قد تحول في شعره من الثورية المتطرفة إلى الرجعية الكاملة، وكتب سلسلة طويلة من السوناتات السقيمة العقيمة عن أحد الأنهار وسلسلة أخرى بعنوان السوناتات الكنسية! وسرعان ما هاجمه شعراء القرن التاسع عشر لهذا التحول وتلك الردة، فكتب «براوننج» قصيدته المشهورة في هجائه بعنوان «القائد المفقود»، وهو يعني في الحقيقة الذي ضل الطريق، مثلما كتب الشاعر العظيم اللورد بايرون هجاءه المعروف لشاعر البلاط الأسبق «روبرت ساوذي»!
ولكن احتراف الأدب وحياة التقشف ظلا مثلا يطمح إليه الأدباء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحاوله بعض صغار الفنانين والشعراء لا يذكر منهم اليوم سوى «دانتي غبريال روزني» وجماعته، بينما كان «ماثيو أرنولد» مثلا - شاعر العصر الفيكتوري وناقده العظيم - مفتشا في وزارة التربية والتعليم، وأما في القرن العشرين فقد انهار هذا المثل تماما ولم يعد من الممكن ولا من المستحسن أن يتفرغ أديب للأدب؛ إذ لم يعد مفهوم الأدب مقصورا على إبداع العمل الأدبي، ولم تعد متطلباته مقصورة على إحكام الوسيلة اللغوية، بعد أن تعقدت أنماط الحياة، وأصبح على الأديب أن يشغل نفسه بدراسات وقراءات غير أدبية، بل وباهتمامات فكرية تتخطى حدود العصر، ولم يعد في إمكان الناقد أن يجهل العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والنفسية! ولقد انتفت تماما فكرة الناقد الفني البحت - أي الذي يقتصر على نقد الشكل - إذ لم يعد الشكل منفصلا عن المضمون، وما تشعب الأشكال الفنية وتعقيدها إلا انعكاس لتشعب المضمون وتعقيده! كما لم يعد الأديب قادرا على احتراف الأدب - حتى ولو كان يدر عليه ما يكفي لكسب عيشه ويزيد!
الفنان والتعليم
من المفهومات الخاطئة التي شاعت فأوشكت أن تصبح لشيوعها صحيحة؛ مفهوم المقابلة بين الفن والعلم، أي تصور الكثيرين أن الفنان لا حاجة له بالدراسة؛ باعتبار أن الدراسة عمل العلماء لا الفنانين أو الأدباء. وينطبق هذا بصفة خاصة على التفرقة بين الناقد والأديب؛ إذ كثيرا ما يقال إن الأول عالم والثاني مبدع؛ ومن ثم فعلى الأول أن يدرس ويعلم، بينما لا يحتاج الثاني إلا إلى التأمل، ثم استنطاق موهبته الإبداعية التي لا تحتاج إلى عون من ثمار قرائح البشر؛ فهي ربانية يولد بها المرء ولا يكتسبها.
ويستند هذا المفهوم إلى خطأين في التفكير؛ أولهما الخطأ في فهم معنى الموهبة وعلاقتها بالإبداع، والثاني هو الخطأ في فهم طبيعة عمل الفنان أو وظيفته. أما الأول فإنه لم يصحح إلا منذ عهد قريب، وقد كان محوطا بالألغاز قرونا وقرونا - وذلك بعد نهضة علم النفس الحديث وتشعبه، بعد أن كان مقصورا في فترة ما على مجالات بعينها (أهمها علم النفس المرضي)، فأصبحنا ندرك المزيد عن دقائق عملية الإبداع وعملية التذوق الفني - ونحن مدينون في هذا الصدد لرائد هذه الأبحاث في العالم العربي أستاذنا الدكتور مصطفى سويف، وأصبحنا نعرف أن المادة التي يشكلها الفنان - أو ما أسميته من قبل بالواقع - لا تقتصر على تجارب الحياة من أحداث وأحاديث وصور ورؤى، بل تتضمن تشربا لروح العصر وهو ما لا يتحقق إلا بالتعليم، أي بالقراءة المتصلة والاستيعاب المتواصل لعلوم العصر. وإذا كنت قد كررت الإشارة إلى العصر هنا فذلك لأن مفهوم العلم أو العلوم يختلف من عصر إلى عصر؛ فقد تسود العلوم الدينية في عصر ما، وقد تسود العلوم الفلسفية أو العلوم الطبيعية، وهلم جرا؛ ولذلك فالفنان أو الأديب ينحدر من تراث أدبي أو فني صرف، ولكنه ينتمي للماضي الأدبي والحاضر الفكري معا.
وتحضرني كلمات ابن رشيق في كتابه «العمدة» عن اتساع نطاق المادة التي يتناولها الشاعر العربي مع اتساع نطاق المعارف العربية نتيجة للفتوحات الإسلامية، فاطلاع العرب على الثقافات الأجنبية واتصالاتهم بالحضارات القديمة وهو يطلق على هذه «المادة» لفظ «المعاني» وهو يعني أحيانا الصور الفنية - كما بينت ذلك في كتابي «النقد التحليلي» (1963م) - ويعني به «الأفكار» التي يتناولها الشاعر أحيانا أخرى.
وهذه المعاني أو الأفكار عادة ما تكون وليدة العصر الذي يعيش فيه الفنان. وسواء قبلنا آراء قطب الذاتية في هذا الصدد، وهو الشاعر الإنجليزي «وليم وردزورث»، أو قطب الموضوعية ت. س. إليوت؛ فإننا لا بد أن نواجه في كل مرة هذه الحقيقة الساطعة، وهي أن المادة الفنية لا يمكن أن تقتصر على التراث، بل لا بد أن تتضمن علوم العصر. وقد يكون هذا ثمرة لجهد فردي أي لتحصيل فردي من جانب الفنان؛ فالشاعر الرومانسي «شلي» كان يقرأ منذ بزوغ الفجر حتى منتصف الليل باللغات اليونانية واللاتينية والإيطالية والإسبانية والفرنسية، ويذكر من ترجموا له أنه كان يغفو من شدة الإرهاق وحاجته إلى النوم أثناء النهار، وأنه كان دائما يحمل كتابا معه يختلس القراءة فيه حتى ولو كان في حفلة أو مأدبة (وقد لا يعلم الكثيرون أن ت. س. إليوت حاصل على درجة الدكتوراه؛ فهي المعادل الحديث لنوع من التعليم القديم)؛ أقول: قد تكون هذه الإحاطة ثمرة جهد فردي، وقد تكون نتيجة لروح العصر التي تتمثل في الجهد الجماعي للمفكرين (من علماء وأدباء)، وخير من يعبر عنها هو الناقد.
صفحه نامشخص