يلصق بي لحية له خشنت ... ذات سوادٍ كأنها الإبر
حتى علاني وأسرتي غيبٌ ... ويلي عليه لو أنهم حضروا
أقسم بالله ما نجوت بها ... فاذهب فأنت المساور الظفر
كيف بأمي إذا رأت شفتي ... أم كيف إن شاع منك ذا الأثر
قد كنت أخشى الذي ابتليت به ... منك فماذا تقول: ياعبرُ
قلت لها: عند ذاك يا سكني ... لابأس إني مجربٌ خبر
قولي لها بقَّة لها ظفرُ ... إن كان في البق ما له ظُفُرُ
ثم قال لي: مثل هذا الشعر يميل القلوب ويلين صعب! وكان أبو عبيدة يقول: أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للأوائل، وينشد من شعر أبي نواس " من الطويل ":
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفْ ... له عن عدوٍ في ثياب صديق
وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسبٍ في الهالكين عريق
وكان أبو نواس ربما يشغل أهل مجلسه عن الاستماع بالعبث، فشكوه إلى أبي عبيدة، فقال: اطردوه! فطردوه، فتباعد وكتب رقعة فحذفها في حجره " من الكامل ":
أمر الأمير بأخذ أولاد الزنا ... فتغيبوا لاتؤخذوا فتعاقبوا
فقال: والله لأقينَّ عرضي منه بأن أردَّه! وكيف أطرد من هذا مقداره؟! فرَّده. وكان يحبه لظرفه وأدبه.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: (أَمَتنا اثنتين وأحْييَتنا اثنتين) هو مثل قوله: (كُنْتُم أمواتًا فأحْيَاكُم ثمَّ يميتكم ثمَّ يحييكم) ههنا موتتان وحياتان. وقال في قوله: لاَيسمَعُون فيها لغوًا إلاَّ سَلاما) قد يستثنى الشء ليس من الشيء، فليس السلام من اللغو فكأن فيه ضميرًا: لايسمعون فيها لغوًا إلا أنهم يسمعون سلاما. وقال أبو جندب الهذلي " من الطويل ":
نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدقه ... ولم ينج إلا خفق سيف ومئزرا
فاستثناهما منه وهما من غيره.
وكان أبو عبيدة يسمي بيتي كعب بن سعد الغنوي درَّة الغائص وهما " من البسيط ":
اعص العواذل وارم الليل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليله خببا
حتى تمول مالًا أو يقال فتىً ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
قال: لأن الدرة إذا أصابها الغائص، لم يصب مثلها حتى ينفق في طلبها أضعاف ثمن التي أصيبت. وهذان البيتان قد قتلا خلقًا كثيرا، ينفض أحدهم رأسه ويتمثل بهما، ثمّ يخرج زعم أن يتمول، فيقتل ألف قبل أن يتمول واحد. وأنشد أحمد بن يحيى " من الطويل ":
فلو أن مابي باعضى فلق الحصى ... وبالريح لم يسمع لهنَّ هُبوبُ
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب عليَّ ذنوب
فزعموا أن الرواية كانت " قلق الحصى " فصحفه أبو عبيدة فقال: " فلق الحصى "، فصار ذلك رواية.
وقال أبو عبيدة: الشعراء الذين هجوا ومدحوا ودخلوا على الملوك وأخذوا الجوائز سبعة: ثلاثة إسلاميون وثلاثة جاهليون وواحد مخضرم. فأما الإسلاميون فجرير والفرزدق والأخطل، وأما الجاهليون فزهير بن أبي سُلمى والنابغة من بني ذبيان والأعشى من بني قيس، وأما المخضرم الذي أدرك الجاهلية وقال فيها الشعر وأدرك الإسلام وقال فيه الشعر فالحطيئة.
وسئل أبو عبيدة: هل قال الشعر أحدٌ قبل امرئ القيس؟ فقال: قدم علينا أربعةٌ وعشرون رجلًا من بني جعفر بن كلاب من أهل البادية، فكنا نأتيهم فنكتب عنهم، فقالوا: من أبن خذام؟ قلنا: ما سمعنا به! قالوا: والله لقد سمعنا به! ورجونا أن يكون علمه عندكم لأنكم أهل الأمصار وأصحاب الدواوين، ولقد بكى في الدمن قبل امرئ القيس وهو الذي يقول له امرؤ القيس " من الكامل ":
عُوجًا على الطلل المحُيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
وهي أبيات، قال: وهم لايعرفون لابن خذام نسبًا. وأنشدوا له " من الطويل ":
كأني غداة البين لمَّا تحملوا ... لدى سُمرات الحيّ نلقفُ حنظلِ
قال أبو عبيدة: لم يقل النابغة الذبياني من الشعر حتى بلغ الخمسين. - وقال: دخل الأعشى بلاد فارس، فأخبر عنه كسرى وقالوا: إنه شاعر العرب! فأُدخل عليه فاستنشده فأنشده " من الطويل ":
أرقتُ وماهذا السُهاد المؤرقُ ... ومابي من سقمٍ ولابي معشق
1 / 44