بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله وصلواته على خير خلقه أجمعين وآله وصحبه الطاهرين. وبعد فهذا علقته انتخابا من كتاب الشهاب القبس من المقتبس تأليف الشيخ الحافظ أبي عُبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني ﵀ في أخباره النحاة والقراء والرواة. انتخبه الشيخ الامام نجم الدين بشير بن أبي بكر حامد بن سليمان الجعفري التبريزي المجاور بمكة حرسها الله تعالى وقال: الباعث عليه أمران أولها استفادتي منه ساعة بعد ساعة وثانيهما إفادة أهليه بغرائبه والنوادر التي فيه، فقد سمعت مشيختنا يقولون: لا يوجد من هذا الكتاب نسخة سوى الأصل الذي هو بخط المصنف، وهو ثمانية عشر مجلدا في وقف الوزير نظام الملك في مدرسته بمدينتة السلام حماها الله تعالى، وقال: وقد حذفت الأسانيد والطرق وما لا يتعلق ولم أخل ترجمة منه غير أني أذكر أحاسن ما ذكر، وبالله التوفقيق والعصمة في حُسن الاختار.
في الحث على تعلم العلم وتقويم اللسان
قال ﵇: أعربوا القارآن والتسوا غرائبه. وقال عُمر الخطاب ﵁: تعلموا العربية فإنها تُنبت العقل وتزيد في المروة. وقال علي ﵇: عليكم السلام: عليكم بالعربية والشعر فإنها يحلان عُقدتين من اللسان العُجبمة والدكنة. وقالت عائشة ﵂: تعلموا الشعر فإنه يُعرب ألسنتكم.
وقال عبد الملك بن مروان: اللحن في الرجل السري كاجدري في الوجه الحسن.
وقال لبنيه: اطلبواالعلم فإن استغنيتم كان لكم جمالا وإن افتقرتم كان لكم مالا. وقال أبو الحراج العقيلي: تعلموا العلم فإنكم إن كنتم ملكوكا فقتم، وإن كنتم أوساطًا سُدتم، وإن أعوزتم عشتم. وكان عُمر بن عبد العزيز يُؤدب أولاده ورعيته على اللحن.
وكتب كاتب لأبي موسى إلى عمر ﵄: من أبو موسى. فكتب عمر أن اضربه سوطا واعزله عن عَمَلك! قال رجل للحسن: يا أبو سعيد! فقال له: كسب الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا ابا سعيد! ثم قال: تعلموا الفقه للاديان والطب للابدان والنحو للسان. وقال الضحاك بن رمل: شهدت سليمان بن عبد الملك يعرض الخيل بدابق، فقام إله رجل وقال: أصلح لله الأمير! إن أبينا هلك فوثب أخانا وأخذ مالنا. فقال سليمان: فلا رحم الله! قال سليمان: دعوه! فلو كان تارك اللحن ترك االساعة.
ودخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهرًا فقال: إن خَتَني فَعَلَ كذا وكذا. فقال له عبد العزيز: ومن خَتَنَك؟ قال: الختان الذي يختن الناس. فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك! بم أجابني؟! فقال أيها الامير، إنك لحنت! وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقوا: من خَنَتُك؟ فاشتغل عبد العزيز حنى صار من أفصح الناس، وكان يُعطي على العربية ويحرم على اللحن. كان الرجلُ يأتيه، فيقول له: ممن أنت؟ فيقول: من بني فلان. فيقول لكاتبه: أعطيه مائتي دينار! ودخل عليه رجل من عبد الدار فقال له: ممن أنت؟ فقال: من بنو عبد الدار. فقال هل: تجدها في جائزتك! فأمر له بمائة درهم.
ودخل أبو عمرو بن العلآء دار القُطن، فرأى على أعدال التجار مكتوبًا: لأبو فلان. فقال: ياعجبًا أيَلْحَنون ويَرْبَحون؟! وقال الحجاج ليحيى بن يعمر: أسمِعتني ألحن؟ قال: الأمير أفصح الناس! ثم اعاد عليه، فقال: نعم، حرفا واحدا! قال: أين؟ قال: في القرآن قال: ذلك اشنع! فما هو؟ قال: قرأت (قُلْ إِنْ كَانَ أَبَاؤُكُمْ وأَبناؤُكًمْ) إلى قوله (أَحب إِلَيْكُم) قرأت: احب، بالرفع كأنه لما طال الكلام نسيت ما ابتدأت به. فقال له الحجاج: لاجرم، لا تسمع ذلك مني أبدا! وألحقه بخراسان، وكان بها يزيد بن المُهلب فاستكتبه، فكتب: عن يزيد بن المهلب إلى الحجاج، إنا لقينا العدو، ففعلنا واضطررناهم إلى عُرعرة الجبل. فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولذا الكلام؟ فقيل له: إن ابن يَعمر هناط. قال: ذاك إذا!.
ابتدآءُ امر النَحْو ومن تكلم فيه
1 / 1
كان علي بن أبي طالب ﵁ قد رسم لأبي الأسود الدُؤلي حروفًا يعلمها الناس لما فسدت ألسنُتهم، فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضنا به بعد علي ﵁. فلما كان زياد وجه إليه أن اعملشيئًا تكون فيه إماما وينتفع به الناسُ، فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس! فدافع بذلك حتى مر يوما بكلاء البصرة، وإذا قارى يقرأ (أَنَّ ألله بَرِيء مِنَ المشرِكِينَ وَرَسُوِله) وفي آخرين، حتى سمع رجلا قال: سقطت عصاتي. فقال: لا يحل لي بهد هذا أن أترك الناس. فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير، فلبغ لي كاتبًا حصيفا ذكيا يعقل ما أقول. فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يَرضه، فأتي بآخر من ثقيف، فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بحرف فانقط نقطة على ألاه، إذا ضَممتُ فمي فانقُط نُقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرت فاضجَعلِ النُقطة تحت الحرف، فإذا أتبعتُ ذلك عُنَّةً، فاجعل النقطة نقطتين. ففعل. فهذا نقطُ أبي الأسود، وعمل الرفع والنصب والجر. واختلف الناي إليه يتعلمون العربية.
وكان ابرع أصحابه واحفظهم عنه عنبسة، فلما مات وكان ألقنهم عنه ميمُون الأقْرَنُ أخذ الناس عنه، فلما مات وكن اكثر الناس أخذا عنه عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي مولى الحضارمة أخذوا عنه، وهو أول من بعج النحو ومد القياس والعلل. وكان معه أبو عمرو العلآء. قال سماك بن حرب: لا أظنُ فيهم أحدا أتم فهما ولا أحسن عقلا من أبي إسحاق؛ فنجم من اصحابه عيسى بن عمر الثقفي، ونجم من أصحاب عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي. قال شعبة: ولا أظن أنه كان فيهم مثله ولا أكمل منه. وأخذ عن الخليل عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب وهو سيبويه؛ وأخذ عن سيبويه أبو الحسن الأخفش أبو عثمان المازني، ولا أعلم أن أحد ضبط عنه ظبطه. فأما خلف الأحمر فأخد النحو عن عيسى بن عُمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو.
وجمع بلال بن أبي بردة بين ابن أبي إسحاق وابي عمرو بالبصرة، وهو يومئذ والٍ عليها، ولاه خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك. قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز يومئذ، فنظرت فيه بعد ذلك وبالغتُ فيه. وأخذ يونس حبيب عن أبي عمرو، وكان مع ابن أبي إسحاق وأبي عمرو مَسْلَمَةُ بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري وهو مسلمة النحو، كان ابن أبي إسحاق خاله؛ وكان معهم حماد بن الزبرقان، وكان يونس يُفضله في النحو. ومدح الفرزدق يزيد بن عبد الملك بأبيات فيها:
مُسْتَقْبِلِينِ شمال الشامِ تَضِربُنا ... بحاصب كنديف القطن منْثُور
على عَمائمِنا يُلقَى وأَرْحُلنا ... على زَواحِف تُرْجَى مُخُّها رير
قال ابن أبي إسحاق: أخطأت، أنما هي ريرُ، وكذلك قياس النحو في هذا الوضع. قال يونس: والذي قال جائز حسنٌ. فلما ألُّحو على الفرزدق قال: " زواحف نُزجيها محاسير ". قال التوزي: يقال: رير ورار وهو المخ الرقيق، وكيح الجبل أسفله، وقيدٌ رُمح وقاد رمُح.
من اخبار العلماء والنحاة والرواة من اهل البصرة
١ - من أخبار أبي الأسْوَد
هو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس - ويقال حُلَيس - بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
قال يونس: الدُول في بني حنيفة ساكنة الواو، والديل في عبد القيس ساكنة الياء، والدُؤل مهموز في بني كنانة رهط أبي الأسود. وقال عيسى بن عمر: الدُئلي بكسر الهمز والقياسُ الفتح. - أدرك أبو الأسود حياة رسول الله ﷺ، قال: وُلدتُ عام الفتح. وهاجر الى البصرة على عهد عمر بن الخطاب، واستعمله عليٌّ على البصرة خلافة لعبد الله بن العباس، وكان شيعةً له، وهو شاعر مجيد مكثر، وعنه أخذ يحيى بن يعمر.
1 / 2
قال أبو الأسود: دخلت يومًا على علي بن أبي طالب، فرأيته مطرقًا يُفكر، فقلت: مالي أراك ياأمير المؤمنين مفكرًا؟ فقال: قد سمعت من بعض مَنْ معي لحنًا، وقد هممت أن أصنع كتابًا أجمع فيه كلام العرب. فقلتُ: إن فعلت ذلك أحييت قومًا وأبقيت العربية في الناس. فألقى إليَّ صحيفة فيها الكلامُ كلُّه: اسم وفعل وحرف، فالاسم مادلَّ على المسمى، والفعل مادلَّ على الحركة، والحرف ماجاء لمعنى ليس باسم ولافعلٍ. فاستأذنته في أن أضع في نحو ماصنع شيئًا أعرضه عليه، فأذن لي؛ فألفت كلامًا وأتيته به، فزاد فيه ونقص، وكان هذا اصل النحو.
قال ابن الأعرابي: الفصحاء في الإسلام أربعة: أبان بن عثمان والحسن بن يسار البصري وأبو الأسود الدُؤْلي وقبيصة بن جابر الأسدي. - وكتب عمر بن الخطاب ﵁ إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة: أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتفهموا العربية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب، وعلموا أولادكم العوم الدرية، وألقوا الرُكب، وأنزوا على الخيل نزوا! - الرُكب جمع ركاب - وقيل: إن أبا الأسود أتى ابن عباس فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع لهم شيئًا يقيمون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو، أما إنه حق، وأستعين بسورة يوسف ﵇. - وقال الشعبي: قاتل الله أبا الأسود! ماكان أعف أطرافه وأحضر جوابه! كان استعمل عليّ أبا الأسود على البصرة وزيادًا على الديوان والخراج، فبلغ أن زيادًا يطعن عليه عند علي، فقال:
رأيت زيادًا ينتحيني بشره ... وأعرضُ عنه بادٍ مقاتله
وكلٌّ امرئٍ، والله بالناس عالمٌ ... له عادةٌ قامت عليه شمائله
تعوَّدها فيما مضى من شبابه ... كذلك يدعو كُلَّ أمرٍ أوائله
ويُعجبه صّفحي له وتحملي ... وذو الجهل يجزي الفحش من لايعادله
ولما هلك عليّ ﵇ قال أبو الأسود:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... فلا قرَّت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا ... بخير الناس طُرًا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وخيَّسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلت وجه أبي حُسين ... رأيت البدر راق الناظرينا
لقد علمت معد حيث كانت ... بأنك خيرها حسبًا ودينا
ولما حمل عبيد الله بن زياد ولد الحسين بن علي ﵁ وحرمه إلى يزيد بن معاوية شيَّعهم جمعٌ من أهل الكوفة، فلما بلغوا النجف وقفوا لتوديعهم، فأنشأت أم كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب:
ماذا تقولون، إنْ قال النبي لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بأهل بيتي وأنصاري ومحرمتي ... منهم أسارى وقتلى ضُرجوا بدمِ
ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
والشعر لأبي الأسود. - قال: (رَبَّنا ظَلْمنا أنْفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) . وقال أبو الأسود:
أترجو أمَّةٌ قتلت حُسينًا ... شفاعة جده يوم الحساب
وأرسل معاوية إلى زياد رسولًا فهما في أمر أراده فقال: سترى عنده أبا الأسود الدؤلي شيخًا عليه عمامة سوداء، يجلس عن يمينه، لايتقدمه عنده أحدٌ في الكلام، فقل له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خبرني عن قولك:
يقول الأرذلون بنو قُشير: ... طوال الدهر لاتنسى عليا
أحِبُّ محمدًا حُبًا شديدًا ... وعبَّاسًا وحمزة والوصيا
أُحبهم لحُب الله حتى ... أجيءَ إذا بُعثت على هويّا
هوىً أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا
وما أنسى الذي لاقى حسينُ ... ولاحسن بأهونهم عليا
بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا
فن يك حبهم رشدنا ... ولست بمخطيءٍ إن كان غيا
1 / 3
أشككت في حبهم أرُشد هو أم غيٌّ؟ فلما حضر عند زياد قال لأبي الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ماكنت أحب إلا تعلم أني متحقق متيقن في حبهم أنه رشد، فإن الله ﷿ قال: (وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين)، أفيرى الله ﷿ شك في ضلالتهم ولكنه حققه بهذا عليم؟! ولما وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس بني قشير فقال: يابني قشير، على ماذا اجتمع رأيكم في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لايجمعكم على هدى! - وأنشد عمر في هذا المعنى:
إذا اشتبه الأمران يومًا وأشكلا ... عليَّ ولم أعرف صوابًا ولم أدر
سألت أبا بكر خليلي محمدًا ... فقلت له: ماتستحب من الأمر
فإن قال قولًا قلت خلافه ... لأن خلاف الحق قول أبي بكر
وقال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟ قال؛ حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا، وأيم الله إني لأريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد قليل! فقال له زياد: إنك شيخ قد خزفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني. فقال أبو الأسود:
غضب الأمير بأن صدقت وربما ... غضب الأمير على البري المسلم
ودخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلًا ياأبا الأسود، فلو علقت تميمة تدفع عنك العين! فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به:
أفنى الشباب الذي فارقت بهجته ... كر الجديدين من آت ومنطلق
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئًا أخاف عليه لذعة الحدق
قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها ... في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق
والآن حين خضبت الرأس فاقني ... ما كنت التذ من عيشي ومن خلقي
وقال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا. فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو أوفر مما كان. وأنشأ يقول:
زعم الأمير بأن كبرت وربما ... نال المكارم من يدبُّ على العصا
أأبا المغيرة رُبَّ أمر مبهمٍ ... فرَّجته بالمكر مني والدَّها
مر عبيد الله بن زياد على أبي الأسود وعليه ثياب رثة يكثر لبسها، فقال: إلا تستبدل بجبتك هذه؟ فقال: رب مملولٍ لايستطاع فراقه! فأرسل إليه عبيد الله ثمانين ثوبا - وقيل: مائة -، فقال أبو الأسود:
كساك ولم تستكسه فاشكرن له ... أخُ لك يعطيك الجميل وناصر
وإن أحق الناس إن كنت شاكرًا ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر
وقال أبو الأسود لابنه: يابني، إذا كنت في قوم فحدثهم على قدر سنك، وسائلهم على قدر محلك، ولاترتفع عن الواجب فتستثقل، ولا تنحط عنه فتحتقر! وإذا أوسع الله عليك فابسط، وإذا أمسك عليك فأمسك، ولاتجاود الله ﷿، فالله أجود منك! - وزوّج ابنتيه فقال لإحداهما: يابنية، أكرمي أنف زوجك وعينيه وأذنيه! يريد: لايشم منك إلا طيبا ولايرى إلا جميلا ولايسمع إلا حسنا. وقال للأخرى: يابنية، أمسكي عليك الفضلين! يريد: فضل النكاح وفضل الكلام. - وقال لأولاده: أحسنت إليكم كبارًا وصغارًا وقبل أن تولدوا! قالوا: أحسنت إلينا صغارا وكبارا، فكيف قبل أن نولد؟ قال: طلبت لكم النسيب كيلا تعيروا.
وقيل له: من أكرم الناس عيشا؟ قال: من حسن عيش غيره في خيره. فمن أسوأ الناس عيشا؟ قال: من لايعيش في عيشه أحد. - وقال: البلاغة سلاطة اللسان. وقيل: مارضيته الخاصة وفهمته العامة. وقال: ليس شيءٌ أعز من العلم، وذاك لأن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. وقال:
العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لاخير فيمن له أصل بلا أدب ... حتى يكون على ما زانه حدبا
كم من حسيب أخيٍ عيٍ وطمطمة ... فدم لدى القوم معروق إذا انتسبا
في بيت مكرمة أباؤه نجب ... كانوا رؤوسًا فأمسى بعدهم ذنبا
وخامل مقرف الأباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا
1 / 4
أضحى عزيزًا عظيم الشأن مشتهرًا ... في خده صعر قد ضل محتجبا
العلم كنز وذخر لانفاد له ... نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المرء مالًا ثم يسلبه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لاتعدلن به درّا ولاذهبا
وقال:
وإذا وعدت الوعد كنت كغارم ... دينًا أقرّ به وأحضر كاتبا
حتى أنفذه كما وجهته ... وكفى عليَّ له بنفسي طالبا
وإذا منعت منعت منعًا بيتنا ... وأرحت من طول العناء الراغبا
لاأشتري الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال:
إذا لم يكن للمرء عقل فإنه ... وإن كان ذا مال على الناس هين
وإن كان ذا عقل أجل لعقله ... وأفضل عقل عقل من يتدين
وقال:
وعدد من الرحمان فضلا ونعمة ... عليك إذا ماجاء للخير طالب
وأن أمرا لايرتجى الخير عنده ... يكن هينًا ثقلًا على من يصاحب
أرى دولًا هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالبًا ... فإنك لاتدري متى أنت راغب
وإن قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل: لا، واسترح وأرح بها ... لكيلا يقول الناس: إنك كاذب
إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة ... جبلت عليها لم تطعك الضرائب
تخلق أحيانا إذا ما أردتها ... وخلقك من دون التخلق غالب
وقال:
إا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... ففاض ففي صدري لسري متسع
إذا فات شيء فاصطبر لذهابه ... ولاتتبعن الشيء إن فاتك الجزع
ففي اليأس عما فات عزٌ وراحة ... وفيه الغنى والفقر ياضافي الطمع
إذا صاحبا وصل بحبل تجاذبا ... فمل قواه أوهن الحبل فانقطع
ولاتحفرن بئرًا تريد أخا بها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع
وكلُّ امرئ يبغي على الناس ظالمًا ... تصبه على رغم عواقب ما صنع
وذكرت العمائم عنده، فقال: العمامة خير ملبوس: جنة في الحروب وواقية في الأحداث، مسكنة من الحر ومدفئة من البرد، وقار في الندي وزيادة في القامة، وهي تعد من تيجان العرب.
وقال لابن قيس الرقيات:
وما خصلة قد تذل الرجال ... بأسوأ وأخزى من المسأله
فإن مت ضرًا فلا تسألن ... أخا الجهل من ماله خردله
فترجع من عنده نادمًا ... وتقطع من كفك الأنمله
وإن هو أعطاك مجهوده ... فليس بأعطى من المكحله
وقال:
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بملئها يومًا ويوما ... تجئ بحماة وقليل ماء
ولاتقعد على كسل التمني ... تحيل على المقادر في القضاء
فإن مقادر الرحمان تجري ... بأرزاق العباد من السماء
مقدرة بقبض أو ببسط ... وعجز المرء من سبب البلاء
وبعض الرزق في دعة وخفض ... وبعض الرزق يكسب بالعناء
بينا أبو الأسود يومًا في طريق إذ لقيته امرأة لها رواء، فقالت: يا أبا الأسود، هل لك فيّ؟ قال: ومن أنت؟ قالت: فلانة ابنة فلان. فعرفها فتزوجها؛ فلما مضت عليه أيام استكتمها سرا، فأفشته، فنهاها، ثم عادت لمثل مانهاها، فقال لها: أصنعي طعاما وابعثي إلي إخوتك حتى يأتوك! فلما جاؤوا وأكلوا وقف أبو الأسود عليهم وقال:
أرأيت امرأ كنت لم أبله ... أتاني فقال: اتخذني خليلا
فخاللته ثم صافيته ... فلم أستفد منه يومًا فتيلا
فعاتبته ثم ناقرته ... عتابًا رفيقًا وقولًا جميلا
فألفيته حين خاللته ... خؤون الأمانة خبا بخيلا
1 / 5
ألست حقيقًا بهجرانه ... وإسماع أذنيه هجرًا طويلا
قالوا: بلى والله، من كان كذلك فهو محقوق بهذا. فقال: هي أختكم، خذوا بيدها! وطلقها.
وخاصمت أمرأة أبي الأسود أبا الأسود في ولدها إلى معاوية - وكان معاوية قد حج المدينة، وكان أبو الأسود كبيرًا عنده يقرب مجلسه ويسأله عن أشياء، فيقول فيها بعلم - فقالت: أصلح الله أمير المؤمنين، أمتع به! إن الله جل وعز جعلك خليفة في البلاد، ورقيبا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت بك الشجر، ويؤمن بك الخائف، ويردع بك الحائف، فأنت الخليفة المصطفى، والأمير المرتضى، فأسأل الله ﷿ النعمة من تغيير، والبركة من غير تقتير، فقد ألجأني إليك - ياأمير المؤمنين - أمر، ضاق به عني الهم، ولينصفني من الخصم، وليكن ذلك على يديه، وأنا أعوذ بعد لك من العار الوبيل، والأمر الجليل، الذي يستتر على الحرائز ذوات البعول. فقال لها معاوية: من هذا الذي شعرك بشناره؟ فقالت: أمر طلاق كان من بعل غادر، لاتأخذه من الله مخافة، ولايجد بأحد رأفة. قال: ومن بعلك؟ قالت: هو أبو الأسود. فالتفت معاوية إليه وقال: أجق ماتقول هذه المرأة؟ قال: إنها لتقولن من الحق بعضا، وليس يطيق أحدُ عليها تقضا، أما ما ذكرت من طلاقها فهو حق، وسأخبرك عن ذلك بصدق، أما والله ما طلقتها لريبة ظهرت، ولامن هفوة حضرت، كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها. قال: وأي شمائلها كرهت؟ قال: إنك مهيجها علي بلسان شديد، وجواب عتيد. قال: لابد لك من مجاوبتها، فأردد عليها قولها عند محاورتها. قال: هي ياأمير المؤمنين كثيرة الصخب، دائمة الذرب، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، إن ذكر خير دفنته، وإن ذكر شر أذاعته، تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، ولاتنكل من صخب، ولايزال منها زوجها في تعب. فقالت: أما والله لولا حضور أمير المؤمنين، ومن حضره من المسلمين، أرددت عليك بوادر كلامك بنوادر تردع كل سهامك. فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته! فقالت: ياأمير المؤمنين، هو والله سؤول جهول، ملحاح بخيل، إن قالفشر قائل، وإن سكت فذو ضغائن، ليث خبيث مأمن ثعلب حين يخاف، شحيح حين يضاف، إن ألتمس الجود عنده انقطع، لما يعلم من لؤم أبائه، وقصور بنائه، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لايحمي ذمارا، ولايضرم نارا، ولايرى جوارا، أهون الناس عليه من أكرمه، وأكرمهم عليه من أهانه. فقال معاوية: ما ر أيت أعجب من هذه المراة! أنصرفي إليَّ رواحا! فلما كان العبثي جاءت، ومعاوية يخطب. فقال أبو الأسود: اللهم أكفني شرها! قالت: قد كفاك الله شري، وأرجو أن يعيذك من شر نفسك! فقال معاوية: مارأيت أعجب من هذه المرأة! فقال أبو الأسود: ياأمير المؤمنين، إنها تقول من الشعر أبياتا، فتجيدها. قال: فتكلف أنت لها أبياتا، لعلك أن تقهرها بالشعر. فقال أبو الأسود:
مرحبا بالتي تجور علينا ... ثم أهلا بحامل محمول
أغلقت بابها علي وقالت: ... إن خير النساء ذات البعول
شغلت قلبها عليَّ فراغا ... هل سمعتم بفارغ مشغول
فقالت تجيبه:
ليس من قال بالصواب وبالحق ... كمن جار عن منار السبيل
كان حجري فناءه حين يضجي ... ثم ثديي سقاءه بالأصيل
لست أبغي بواحدي ياابن حرب ... بدلا ما رأيته والجليل
وفي رواية أنها قالت: إن هذا يريد أن يغلبتي على ابني، وقد كان بطني له رعاء، وثديي له سقاء، وحجري له فناء. فقال أبو الأسود: أبهذا تريدين أن تغلبيني على ابني، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولاسواء إنك حملته خفا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال معاوية:
ليس من غذاه طفلا صغيرا ... وسقاه من ثديه بالخذول
هي أولى به وأقرب رحما ... من أبيه، وفي قضاء الرسول
أنه ما حنث عليه ورقت ... هي أولى بذا الغلام الجميل
فدفعه معاوية إليها.
اشترى أبو الأسود جارية - يقال لها صلاح - لتخدمه، فطمعت فيه وأقبلت تتطيب وتتعرض لفراشه، فأنشأ يقول:
أصلاح إني لاأريدك للصبا ... فذري التشكل حولنا وتبدَّلي
إني أريدك للعجين وللرحا ... ولحمل قربتنا وغلي المرجل
1 / 6
إذا تروح ضيف أهلك أو غدا ... فخذي التأهب نحو آخر مقبل
وقال له رجل: إنك والله ظريف لفظ، وظرف علم، ووعاء حلم، غير أنك بخيل. فقال: وما خير ظرف لايمسك مافيه؟! - وسلّم أعرابي عليه فقال: كلمة مقولة. قال: أتأذن في الدخول؟ قال: وراءك أوسع عليك! قال: هل عندك شئٌ يؤكل؟ قال: نعم. قال: أطعمني! قال: عيالي أحق به! قال: مارأيت ألأم منك! قال: نسيت نفسك! - وكان يقول: ليس السائل الملحف مثل الردّ الجامسّ أي الجامد.
وكان أبو الأسود قد أتخذ دكانًا على باب داره بقدر مجلسه، لايسع غيره وغير طبق يكون بين يديه يأكل منه، فإذا مرّ به مار فسلم عليه عرض عليه طعامه، فينظر فلايرى لنفسه موضعًا، فيدعو له وينصرف. فمر به أعرابي وهو يأكل، فدعاه، فأجابه وأقبل يأكل معه وهو قائم؛ فلما اشتد عليه القيام أخذ الطبق فوضعه في الأرض وقال له: إن كان لك في الطعام حاجة فانزل وكل! وأقبل الأعرابي يأكل، وأبو الأسود ينظر إليه ويتغيظ، ثم قال: ماأسمك، يأعرابي؟ قال: لقمان. فقال: لقد أصاب أصلك اسمك! ثم أنشأ يقول:
أنظر الى جلسته ومطه ... ولقمه مبادرًا وغطه
ولفه رقاقه ببطه ... كأن جالينوس تحت ابطه
وسأله رجل فمنعه، فقال: ماأصبحت حاتميًا! قال: بلى أصبحت حاتميًا من حيث لاتدري! أليس حاتم الذي يقول:
أماويَّ إما مانعٌ فمبين ... وأما عطاءٌ لاينهنهه الزجر
وكانت له ناحية من عبد الله بن عامر، فأنكر بعض شأنه ورأى منه جفوة، فقال أبو الأسود:
ألم تر مابيني وبين ابن عامر ... من الود قد بالت عليه الثعالب
وأصبح ماقد كان بيني وبينه ... كأن لم يكن، والدهرُ فيه العجائب
فقلت: تعلم أن صرمك جاهرا ... ووصلك عنه شقةٌ متقارب
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... ولا بالذي تأتيك مني المثالب
إذا المرء لم يحببك إلا تكرها ... فذلك من أخلاقه ما يغالب
فللنأي خير من دنو على أذى ... ولاخير فيمن خالفته الضرائب
كان أبو الأسود صديقا لحوثرة بن مسلم عامل إصبهان، فخرج إليه، فلم يحفل به حوثرة، فكتب إليه:
إنك اليوم امرؤ محتقرٌ ... خصَّه الله بلؤم وضعه
يسأل الناس ولا يعطيهم ... هبلته أمه ما أخضعه
لاتؤاخ الدهر خبا راضعًا ... ملهب الشد سريع المنزعه
خفق النعل إذا ماقلته ... واحذرن مخزاته في المجمعه
لايكن برقك برقا خلبًا ... إن خير البرق ما الغيث معه
لاتشوبن بحق باطلا ... إن في الحق لذي الدين سعه
أولها:
سل خليلي ماالذي غيَّر لي ... وده والنصح حتى ودعه
لاتهني بعد إذ أكرمتني ... فشديد عادةٌ منتزعه
فلما قرأها أعياه جوابه. فعرضه على جماعة شعراء، فلم يجترؤا على أبي الأسود، فأجابه عنه عطية بن حمزة بأبيات لم يلتفت إليها، فأجابه أبو الأسود:
ألم تر أني والتكرم شيمتي ... وكلُّ أمرىٍ جارٍ على ماتعودا
أطهر أثوابي من الغدر والخنا ... وأنجو إذا ماكان خيرا وأنجدا
أعود على المولى إذا زال حلمه ... بحلمي وكان الحلم أبقى وأحمدا
وكنت إذا المولى بدا لي غشه ... تجاوزت عنه وانتظرت به غدا
لتحكمه الأيام أو غيره ... عليَّ ولم أبسط لسانًا ولايدا
فحمل إليه حوثرة مائة درهم.
ولما كبر أبو الأسود كان يكثر الركوب، فقيل له: قد كبرت، فلو تودعت ولزمت منزلك! فقال: صدقتم! ولكن الركوب يشد بضبعي، وأسمع من الخير مالاأسمع في بيتي، وأستنشق الريح وألقى الإخوان، ولو جلست في منزلي اغتم أهلي واستأنس بي الصبي واجترأت عليَّ الخادم، وكلمني من أهلي من كان يهاب كلامي، لإلفهم إياي وجلوسي عندهم.
وله:
أظل كئيبًا لو تشوكك شوكة ... وتفرح لو دهدهت من رأس حالق
لشتان مابيني وبينك في الإخا ... صدقتك في نفسي ولست بصادق
1 / 7
أفق عنك لايذهب بك التيه سالمًا ... فإنك مخلوق ولست بخالق
وكل أخٍ عند الهوينا ملاطف ... ولكنما الإخوان عند الحقائق
وقال له رجل وكان حسن المتجرد: أشتهي أن يكون متاعي في سرَّتك! فقال: ياأحمق، إذا يصير جرداني في سبتك! - وقال له رجل: لايبقى إلا الله والعمل الصالح! إن العمل السوء يبقى حتى يخزي صاحبه.
ولما ولي حارثة بن بدر الغداني سرق كتب إليه أبو الأسود:
أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها يخون ويسرق
ولاتحقرن ياحار شيئًا فإنما ... يصيبك من مال العراقين سُرقُ
وإنك تلقى الناس إما مكذب ... يقول بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالًا ولايبرمونها ... فإن قيل: هاتوا حققوا! لم يحققوا
وباه تميما بالغنى إن للغنى ... لسانًا به العي الهيوبة ينطق
وكن حازما في اليوم إن الذي به ... يجئ غد يومٌ على الناس مطبق
ولاتعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وماكل من يدعى إلى الخير يرزق
إذا مادعاك القوم عدوك آكلا ... فكل حار أوجع لست ممن يحمق
وشيع أبو الأسود حارثة بن بدر لما ولاه عبيد الله بن زياد سرق، فلما أراد فراقه قال حارثة:
جزاك إله العرش خير جزائه ... فقد قلت معروفًا وأوصيت كافيًا
أشرت بأمر لو أشرت بغيره ... لألفيتني فيه لرأيك عاصيًا
ستلقى أخا يصفيك بالود حازما ... ويوليك حفظ العهد إن كان نائيًا
وأيسر ماعندي المؤاساة مسمحا ... إذا لم تجد يومًا صديقًا مؤاسيًا
فقال أبو الأسود:
إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء بالأمر الوثيق
ولاتك عندها حلوًا فتحسى ... ولا مرًا فتنشب في الحلوق
فكل إمارة إلا قليلا ... مغيرة الصديق على الصديق
وما استخبأت في رجل خبيئًا ... كدين الصدق أو حسب عتيق
ذوو الأحساب أكرم مخبرات ... وأصبر عند نائبة الحقوق
مرض أبو الأسود فقيل له: اصبر، فهذا أسر الله! قال: هو، أشد له! - مات ﵀ في الطاعون الجارف سنة تسع وستين، وسنة خمس وثمانون سنة.
٢ - ومن أخبار يحيى بن يعمر العدواني
كان من بني عدوان وعداده في بني ليث؛ روى عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وعائشة، روى عنه قتادة وإسحاق بن سويد وغيرهما من العلماء، وهو من أهل البصرة. - قال عبد الملك بن عمير: أدركت فصحاء العرب ثلاثة: قبيصة بن جابر الأسدي وموسى بن طلحة ويحيى بن يعمر. وقيل: هو أول من نقط المصاحف.
قال له الحجاج: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فمن أين لك هذه الفصاحة؟ قال: كان أبي نشأ بتَّوج فأخذت عنه. - وكان الحجاج قد استدعاه من خراسان بسبب كتاب كتبه عن يزيد بن المهلب اعجبته فصاحته فيه، ثم قال له: أسمعتني ألحن؟ قال: نعم، إنك تقصر الممدود وتمد المقصور. - وقيل: تجعل مكان أن إن - فرده إلى خراسان. - وقيل: إنه قال له: يايحيى، أنت الذي تزعم أن ولد علي من فاطمة ولد رسول الله ﷺ! قال: فقلت: إن آمنتني تكلمت. قال: فأنت آمن، والله لتخرجن من ذلك أو لألقين الأكثر منك شعرا! فقلت: نعم، أقرأ ذلك في كتاب الله ﷿ أن الله يقول، وقوله الحق: (ووهبنا لهُ إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمن وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلٌ من الصالحين) . وعيسى كلمة الله وروحه، ألقاها إلى العذراء البتول، نسبه الله ﷿ إلى إبراهيم ﵇، فجعله من ذرية إبراهيم. قال: مادعاك إلى نشر هذا ذكره؟ قلت: ماأستوجب الله به على العلماء في علمهم، ليبيننه للناس ولايكتمونه. قال: لاتعودن لذكر هذا ونشره! ثم كتب إلى قتيبة: إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك، والسلام.
سأل يزيد بن المهلب يحيى بن يعمر: هل تشرب النبيذ؟ فقال: ما أدعه صباحي ولامسائي ولافيما بينهما! فقال له: أنت مشغول بنبيذك! وعزله.
1 / 8
فمرّ به الفرزدق ذات يوم، فتعبث به يحيى وذكر بعض شعره، وكان يحيى أعلم أهل زمانه بالنحو، فقال له الفرزدق: مرة عند الحجاج تلحنه، ومرة تخبر يزيد بن المهلب بشربك النبيذ، ومرة تتعرض للفرزدق، وما أتى هذا كله إلا من طول لحيتك! فقال يحيى: ياأبا فراس، لو صلح أن نقطع منها مايزيد في لحيتك فعلنا! فقال الفرزدق: ياأحمق، لو أن هذا يكون لما تركك كواسج قومك وعليك منه شئ! فقال: مازحناك، ياأبافراس! قال: نحن جاددناك! إن شئت فزد حتى نزيد.
مات يحيى ﵀ في سنة ثلاث وثمانين.
٣ - ومن أخبار نصر بن عاصم الليثي
كان ممن أخذ العربية من أبي الأسود وكان فقيها، وقيل أيضًا: إنه أوّل من نقط المصاحف.
٤ - ومن أخبار سعد الرابية
هو سعد بن شداد اليربوعي، أخذ النحو من أبي الأسود. وإنما قيل له سعد الرابية لأنه كان يعلم النحو في مكان يقال له رابية بني تميم. قال فيه الفرزدق:
إني لأبغض سعدًا أن أُجاوره ... ولاأحب بني عمرو بن يربوع
قوم إذا غضبوا لم يخشهم أحد ... والجار فيهم ذليل غير ممنوع
وكان مضحكًا لزياد.
٥ - ومن أخبار عنبسة بن معدان الفيل
كان أبرع أصحاب أبي الأسود. وإنما لقب أبوه بالفيل لأنه كان قد أهدى إلى زياد فيل، فكان يجري عليه في كل يوم عشرة دراهم، فجاء معدان وهو من أهل ميسان، فقال: ادفعوه إلى وخذوا مني في كل يوم عشرة دراهم! فدفعه إليه زياد، فكان يدور به في البصرة ويكتسب به فأثرى. - وادعى إلى مهرة بن حيدان.
٦ - ومن أخبار عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي
كان يقال له أعلم أهل البصرة وأعقلهم، فرع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز حتى عمل فيه كتاب مما أملاه. كان يقول: قد آذاني هؤلاء الفترخانيون! والفترخة المبالغة في الشئ والتعمق فيه، وأنشد أعرابي:
يصد الفترخانيون عني ... كما صدت عن الشرط الجوالي
إذا اجتمعوا على ألف وباه ... فيالك من قتال أو جدال
اجتمع أبو عمر بن العلاء وعيسى بن عمر وابن أبي أسحاق عند بلال بن أبي بردة، فقال: أنشدوني أنصاف أبيات مكتفية. فأنشد عيسى بن عمر لنمر بن تولب:
فكيف ترى طول السلامة يفعل
وأنشد عبد الله لحميد بن ثور:
وحسبك داءً أن تصح وتسلما
وأنشد أبو عمرو لأبي ذؤيب:
والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال عبد الله يومًا عند الحسن: رَعُفْتُ. فقال الحسن: تقول " رعُفتُ " وأنت رأس في العربية؟ قل: رعَفتُ.
توفي ابن أبي اسحاق قبل الثلاثين والمائة ﵀.
٧ - ومن أخبار أبي عمرو بن العلاء
قال المرزباني: لم يكن أصحابه يعرفون اسمه سنين إجلالًا له، قيل: اسمه كنيته. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء: مااسمك؟ فقال: أبو عمرو. وقيل: إن أسمه زبان وهو أثبت، وقيل: ريان، وقيل: جزء، وقيل: عتيبة، وقيل: العريان وهو الأكثر عند العلماء، واسم أبي العلاء عمار، قال الفرزدق:
مازلت أفتح أبوابًا وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
حتى أتيت فتى ضخما دسيعته ... مُرّض المريرة حرًا وابن أحرار
وعمار هو ابن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهمة من بني مازن بن مالك ابن عمرو بن تميم.
وكان لأبي عمرو ثلاثة إخوة: أبو سفيان - واسمه عيينة - وعمر ومعاذ، وأبو عمرو وأسنهم. وكان يقول: نحن من أهل كازون. - وقال أبو عمرو بن العلاء: إني دعي، فلو كنت مدعيا لادعيت الى من هو أشرف ممن أنا منه. - كان أسمر طوالا ضرب البدن حاد النظر فهما عالما مشدود الثنيتين بالذهب.
وقال: إن لأهل الكوفة حذلقة النبط وصلفها، ولأهل البصرة حدة الخوز ونزقها، ولنا دهاء فارس وأحلامها. - قيل: كانت دفاتر أبي عمرو ملأ بيت إلى السقف، ثم انتسك فأحرقها. وكان رأسًا في القرآن والحسن حيُّ، وكان من التابعين، لقي أنس بن مالك. ومر الحسن به وحلقته متوافرة والناس عكوف، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو عمر. قالَ: لاإله إلا الله، كاد العلماء أن يكونوا أربابًا! - كان يشتري كلَّ يوم كوزًا بفلس، فيشرب فيه يومه، ثم يتصدق به، ويشتري بفلس ريحانًا فيشمه، ثم يجففه ويخلطه بالأشنان.
1 / 9
وقد قرأ العظيم على عبد الله بن كثير، وعبد الله على مجاهد، ومجاهد على ابنى عباس، وابن عباس على أبي، وقرأ أبي على النبي ﷺ. - قال أبو عمر: كان سعيد بن جبير إذا رآني بمكة قاعدًا مع الشباب ناداني: ياأبا عمرو، قم عن هؤلاء وعليك بالشيوخ! وكان أبي قد هرب من الحجاج، فلحق بمكة، فلقيت بها عدة ممن قرأ على النبي ﷺ. - وقال: الرجز والرجس واحد كالأزد والأسد. وقال: الأسارى من شدَّ، والأسرى من كان في أيديهم غير مشدودين.
وسأل رجل أبا عمرو حاجة، فوعده بقضائها، فتعذرت عليه بعد أجتهاد، فلقيه الرجل فقال له: قد غمني أن وعدتني وعدا لم تنجزه! فقال له أبو عمر: فمن أحق بالغم أنا أو أنت؟ قال الرجل: أنا المدفوع عن حاجتي. قال أبو عمرو: بل أنا لأني وعدتك وعدا، فأنت بفرح الوعد، وأنا بهم الإنجاز، وبت ليلتك فرحا مسرورًا، وبت ليلتي مفكرًا مغمومًا، ثم عاق القدر عن بلوغ الوطر، فلقيتني مدلا، ولقيتك محتشمًا، فأنا أولى بالغم منك.
وقال: ماقالت الشعراء في شئ كما قالوا في المشيب، ومابلغوا كنهه. قال الاصمعي: ولقد أجاد النمري حيث يقول " من البسيط ":
ماكنت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
وقال أبو عمرو: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير. - وكان يشبه شعر ثلاثة من شعراء الإسلام بشعر ثلاثة من شعراء الجاهلية: الفرزدق بزهير وجرير بالأعشى والأخطل بالنابغة. قيل: فهلا شبهوا جريرًا بأمرئ القيس؟ قال: هو بالأعشى أشبه، كانا بازيين يصيدان مابين الكركي إلى العندليب. وشبه شعر زهير بشعر الفرزدق لمتانتهما واعتسارهما، والأخطل بالنابغة لقرب مأخذهما وسهولتهما، وهما مع ذلك لو ضربت بهما الحائط ثلمته! - النابغة وزهير من مضر وامرؤ القيس من اليمن والأعشى من ربيعة. - وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ فقال: النابغة إذا رهب، وامرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب! أو قال: غضب. - وقال أبو عمرو في ترتيبهم: امرؤ القيس ثم النابغة ثم زهير ثم الأعشى. قال: ثم بعدهم جرير والفرزدق والأخطل. وقال: افتتح الشعر بأمرئ القيس وخُتم بذي الرمة. - وقال: أقسام الشعر تؤول إلى أربعة أركان: فمنه افتخار ومنه مديح ومنه هجاء ومنه نسيب، فأما الافتخار فيسبق الناس إليه جرير في قوله " من الوافر ":
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلَّهم غضابا
وأما المديح فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر ":
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وأما الهجاء فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر ":
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولاكلابا
وأما النسيب فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من البسيط ":
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وكان يفضل الأخطل ويقول: لو أدرك من الجاهلية يومًا واحدًا ما قدّمت عليه جاهليًا ولاإسلاميًا.
وقال: ماتساب اثنان إلا غلب ألأمُهما. وقال: عاجلوا الأضياف بالحاضر فإن الضيف متعلق القلب بالسرعة. - وقال يونس: قدم إلينا أبو عمرو طبق رطب، فأكلنا، فرفعت يدي، فقال: كل! فقلت: قد أحسبني. فضحك أبو عمرو وأعجبه ذلك وقال: هذا من قول الله ﷿: (جزاء من ربك عطاء حسابا) ! أي كافيًا.
وقيل له: من أبدع الناس بيتا؟ فقال: الذي يقول " من الرمل ":
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
قيل: من أمدح الناس؟ قال: الذي يقول " من الطويل ":
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يُعدي
فلا أنا منه ماأفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فبذرت ماعندي
قيل: فمن أغزل الناس بيتًا؟ قال: الذي يقول " من الرمل ":
ختم الحُبُّ لها في عنقي ... موضع الخاتم من أهل الذمم
والكل لبشار بن برد. - وقال: أرثى بيت قيل قول عبدة في قيس بن عاصم " من الطويل ":
فما كان قيس هُلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
وقال: أحسن المراثي ابتداء قول " أوس بن حجر في " فضالة بن كلدة العبسي " من المنسرح ":
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
1 / 10
إن الذي جمَّع السماحة ... والنجدة والبرَّ والتُقى جُمعا
الألمعي الذي يظن لك ... الظن كأن قد رأى وقد سمعا
قال الصولي: ولاأعرف ابتداء بعد هذه أحسن من أبتداء أبي تمام في مرثيته " من الطويل ":
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال: ماقالت العرب بيتًا أبرع من قول أبي ذؤيب " من الكامل ":
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال: ماقالت أمدح من قول الشاعر " من الطويل ":
تراه إذا ما جئته متهللًا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وأنشد أبو عمرو لجابر بن رالان وهو أحسن ماوصف به الماء " من الطويل ":
أيا لهف نفسي كلما التحت لوحة ... على شربة من ماءٍ أحواض مأرب
بقايا نطاف أودع الغيم صفوها ... مصقلة الأرجاء زرق المشارب
ترقرق ماء الحسن فيهن والتوت ... عليهن أنفاس الرياح الغرائب
قال: ولم أسمع في وصف الماء أحسن من قول امرئ القيس " من الطويل ":
فلما استطابوا صب في الصحن نصفه ... وجئ بماءٍ غير طرقٍ ولاكدر
بماء سحاب زلَّ عن متن صخرة ... إلى جوف أخرى طيب طعمه خصر
وكان يستحسن قول الشاعر " من الطويل ":
وتهجره إلا اختلاسًا بلحظها ... وكم من محب رهبة الناس هاجر
وقال الجرمي: كيف بأبي عمرو لو سمع قول ابن الدمينة " من الطويل ":
بنفسي من لابد أني هاجره ... وأني في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد رماه الناس حتى أتقاهم ... ببغضي إلا ما تجن ضمائره
وقال أبو عمرو: وأحسن ماقيل في الصبر " من الطويل ":
تقول: أراه بعد عُروة لاهيًا ... وذلك رزءٌ ماعلمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكنَّ صبري يا أميم جميلُ
قال الاصمعي: وأنا أقول: أحسن ماقيل في الصبر قول أبي ذؤيب " من الكامل ":
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني اريب الدهر لاأتضعضع
حتى كأني للحوادث مروة ... بلوى المشقر كل يومٍ تقرع
وسمع أبو عمرو رجلًا ينشد " من الخفيف ":
أصبر النفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لاتضيقن في الأمور فقد ... يكشف غماؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
وكان قد خرج يريد الانتقال وهو مختف من الحجاج فقال: ماالأمر؟ قال: مات الحجاج. قال: فلم أدر بأيهما أنا أفرح بموت الحجاج أم بقوله فرجة؟ وكنا نقول: فرجة من الفرج وغيره. قال الأصمعي: بالفتح من الفرج وبالضم فُرجة الحائط.
دخل أبو عمرو على سليمان بن علي، فسأله عن شئ، فصدقه، فلم يعجب ذلك سليمان، فخرج أبو عمرو متعجبًا من كساد الصدق عندهم ونفاق الكذب، فقال " من المتقارب ":
أنفت من الُّل عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قربوا
إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني بأن يكذبوا
قال أبو عبيدة: فكنا نرى أن الشعر له. - قال أبو عمرو: وسمعت هاتفًا يقول في بعض الأدوية " من الطويل ":
وإن أمرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
وقال عبد الله بن عتمة الضبي يرثي بسطام بن قيس الشيباني لما قتلته ضبة، ويصف قسمته الغنائم في أصحابه إذا أصابها " من الطويل ":
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
قال أبو عمرو: المرباع أن يكون له ربع الغنيمة، والصفايا ما اصطفى لنفسه من الغنيمة، وحكمك يقول: لك أن تحكم في الغنيمة بما أحببت، والنشيطة ما انتشط دون الحي الذي يطلب فيه فهو له، إن شاء قسم لهم وإن شاء أخذ لنفسه، والفضول إذا قسم الغنائم على أصحابه ففضلت فضلة لا تنقسم مثل بعير وبعيرين وثلاثة لايقع فيها قسم فهي له. قال أبو عمرو: فجاء الله بالإسلام بالخمس فأبطل المغانم كلها.
وقال: كان لبيد مجبرًا والأعشى عدليًا، وأنشد قول لبيد " من الرمل ":
من هداه سُبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وأنشد للأعشى " من المنسرح ":
استأثر الله بالوفاء ... وبالعدل وولَّى الملامة الرجلا
1 / 11
وقال أبو عمرو في قول جميل " من الطويل ":
رمى الله في عيني بثينة بالقذي ... وفي الغر من انيابها بالقوادح
قال: عيناها رقباؤها، وأنيابها ساداتها لاأسنانها التي في فيها، والقوادح الحجارة.
وقال أبو عمرو: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه في سنة عشر ومائة، وقدم جرير من اليمامة، فاجتمع إليه الناس، فما أنشدهم، ولاوجدوه كما عهدوه، فقلت له في ذلك، فقال: أطفأ موت الفرزدق والله جمرتي وأسال عبرتي وقرب مني منيتي. ثم شخص إلى اليمامة، فنعي لنا في شهر رمضان من تلك السنة.
وسأل أبو عمرو رؤبة: مالسانح؟ قال: ماولاك ميامنه. قال: مالبارح؟ قال: مولاك مياسره، والذي يأتيك من أمامك النطيح، والذي يأتيك من خافك القعيد.
وقال أبو عمرو: خرجت مع جرير إلى الشام نريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا من بساطه طرب جرير، فقال: ياأبا عمرو، أنشدني للمليحي! - يعني كثيرا - فأنشدته " من الطويل ":
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
توليت عني حين مالي حيلة ... وخليت ما خليت بين الجوانح
فقال جرير: والله، لولا أني شيخ يقبح بمثلي النخير لنخرت نخرة يسمعها الإمام على سريره! وأتى أبو عمرو ذا الرمة فقال: أنشدني قصيدتك " من البسيط ":
مابال عينك منها الماء ينسكب
فأنشده إياها إلى قوله " من البسيط ":
تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا مااستوى في غرزها تثب
قال له أبو عمرو: قول عمك الراعي أحسن مما قلت وأثبت، وهي " من المتقارب ":
تراها إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
ولا تعجل المرء قبل البرو ... ك وهي بركبته أبصر
فقال ذو الرمة: الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة. - قال الصولي: يروى أن أعرابيًا سمع ذا الرمة ينشد بيته هذا، فقال: سقط والله الرجل. - وما أحسن ماأخذ هذا الإصغاء أبو نواس، فقال يصف الناقة في مدحه الخصيب بن عبد الحميد " من السريع ":
وكأنها مصغ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر
وقال أبو عمرو: قال رؤبة: ما سمعت بأفخر من قول امرئ القيس " من الطويل ":
فلو أ، ماأسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ولاأنذل ولاأبعد من قوله " من الوافر ":
لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها عصي
فتملا بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غني شبع وري
ومن شعر أبي عمرو " من البسيط ":
هبت تلوم وما أحدثت من حدث ... إلا ولوعا تلافاه بتأنيب
أن تحمليني على مالست راكبه ... فقد أردتن كيدًا بابن يعقوب
وقال أبو عمرو: ماكذبت في شيء قط غير أني زدت في شعر الأعشى " من البسيط ":
واستنكرتني وما الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعل
وقال أبو عبيدة: قرأت شعر الأعشى على بشار، فقال: هذا البيت كأنه ليس من نفس الأعشى، ولايورد خاطره مثله لأنه أنكر إنكارها ما لا يحب أن ينكر مثله من قولها. فلما قال أبو عمرو هذا علمت أن بشارا أعلم بالشعر وأشد تمييزًا لألفاظه ومعانيه.
ومما يروى لأبي عمرو " من الطويل ":
ترى المرء يبكيه الذي عاش بعده ... وموت الذي يبكي عليه قريب
يحب الفتى المال الكثير وإنما ... لنفس الفتى مما يحب نصيب
وأنكر أبو عمرو الوقوف على هاء (ماأغنى عني ماليه) .
فقيل له: هي من لغة قربش، أما رأيت قول ابن قيس الرقيات " من الكامل ":
إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعتني وقرعن مروتيه
وجببتني جب السنام فلم ... يتركن ريشًا في مناكبيه
قال الأصمعي: يلحن ابن قيس الرقيات في بيت منها في الندبة حين قال " من الكامل ":
تبكيهم أسماء معولة ... وتقول ليلي: وارزيتيه
كان ينبغي أن يقول: وارزيتاه! كما تقول: واعماه! واأخاه! وكان أبو عمرو إذا استراب من شئ تمثل بهذين البيتين " من الوافر ":
كما قال الحمار ليهم رامٍ ... به عقب البعير وريش نسر
حديدة صقيل في عود نبع ... لقد جمعت من شتى الأمر
1 / 12
قال أبو عمرو: أصيب حجر مزبور بقنسرين بالعبرانية، فترجم فإذا فيه " من الوافر ":
إذا جار الأمير وصاحباه ... وقاضي الأمريدهن في القضاء
فويل ثم ويلُ ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
قال: وأصيب حجر مزبور بالطالقان، فترجم فإذا فيه " من البسيط ":
اليأس عما بأيدي الناس نافلة ... والمال يعجز والأخلاق تتسع
لاتجزعن على ما فات مطلبه ... هب قد جظعت فماذا ينفع الجزع
قال: وأصيب على باب مدينة من مدائن سليمان بن داود ﵉ حجر مزبور فإذا فيه " من الهزج ":
لاتصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليمًا حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ماهو ماشاه
وللشيء من الشيء ... علامات وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
قال: ووجد في زمن سليمان بن عبد الملك بدمشق حجر مكتوب فيه بالأعجمية، فترجم فإذا فيه: ياابن آدم، لو رأيت يسير مابقي من أجلك، لزهدت في طويل ماترجو من أملك، ولقصر بك عن حرصك وحيلك، وإنما تلقى ندمك، لو زلت بك قدمك، وفارقك أهلك وحشمك، وانصرف عنك القريب، وودعك الحبيب، فلا أنت في عملك زائد، ولا إلى أهلك عائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة! وقال: لقيت أعرابيًا فقلت: من أين أنت؟ قال: من عمان. فقلت: صف لي أرضك! فقال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صلدح، ورجل أصبح. فقلت: فمالك؟ قال: النخل. قلت: فأين أنت عن الأبل؟ قال: إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء، وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء، وقرؤها إناء. - وقال رجل لأبي عمرو لم سميت الخيل خيلا وإنما هي الدواب؟ فلم يكن عنده جواب. فقال أعرابي حضرهم: سميت خيلًا لاختيالها.
أبو عمرو عن أبيه عن أبن عباس أنه قال: إن لكل داخل دهشة فالقوه بالتحية. - وقال أبو عمرو: جنان الدنيا ثلاثة: نهر الأبلة وغوطة دمشق وسغد سمرقند؛ وحشوش الدنيا ثلاثة: هيت وأردبيل وعمان.
قال محمد بن سلام: ذاكرت معاوية بن أبي عمرو ببيت جرير: من الوافر ":
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقلت: أين هو من بيت الأخطل " من البسيط ":
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فقال: بيت جرير أسهل وأيسر، وبيت الأخطل أجود وأحكم. - قال الصولي: بيت الأخطل عند من يفهم الشعر وينقده أحسن وأجود قسمة لأن قوله " شمس العداوة حتى يستقاد لهم " قسمة حسنة قائمة بنفسها، ثم قال " وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا " فقابل ورتب وقسَّم؛ وبيت جرير: " الستم خير من ركب المطايا " هو إلى ههنا كالكلام الفارغ، وإنما يستحسن " بطون راح ".
ولد أبو عمرو في أول خلافة عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعب بن الزبير. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة. وكان يقول في مرضه الذي مات فيه: اللهم إن أنزلت بلاءً فأنزل صبرا، وإن وهبت عافية فهب شكرا! - وشخص أبو عمرو من البصرة يريد بيت المقدس، فمات بالكوفة.
ودخل يونس بن حبيب على أولاد أبي عمرو معزيًا لهم، فقال " من الوافر ":
نعزيكم وأنفسنا بمن لا ... نرى شبها له أخرى الزمان
والله لو قسم علم أبي عمرو ﵀ وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهادًا، والله لو رآه رسول الله ﷺ لسره ماهو عليه. فأجابه معاوية بن أبي عمرو - فإنه كان يلزم مجلسه ويأخذ عنه كثيرًا - فقال مرتجلًا " من الرجز ":
أنت أبونا بعده وعمنا ... وأنت بعد الله مرجو لنا
قد كان قبل الموت وصاك بنا ... فأقض بإقبال علينا حقنا
فليس نشكو ما بقيت فقدنا ... عشت لنا كهفًا وعشت بعدنا
ولزموا مجلس يونس فما منهم إلا عالم. - وقال معاوية بن أبي عمرو: سألت بلال بن جرير عن لكع، فقال: هو الجحش الصغير في لغتنا، وإلى هذا كان يذهب الحسن البصري.
وقعد الناس يبكون على أبي عمرو عند موته، فقال: لاتبكوا عليَّ، أنا مامت لكني قد فنيت! وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت كما قال الربيع بن ضبع الفزاري " من المنسرح ":
1 / 13
أصبحت لاأحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
٨ - ومن أخبار سلمة بن عياش العامري
هو مولى بني عامر بن لؤي، وهو من غلمان ابن أبي إسحاق الحضرمي، ولد سنة ثمانين ومات وقد قارب السبعين.
قال ولده عبد الله بن سلمة بن عياش: بينا أنا أسير في طرق إصبهان إذا أنا برجل عليه فرو جالس إلى العين في المنزل، فقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من أهل البصرة. فقال: أنشدني لأبي نواسكم شيئًا! فإنه لو كشف استه كان أحسن من قوله " من المنسرح ":
وجه جنان سراء بستان ... جمع فيه من كل ألوان
فأنشدته له " من الكامل ":
ممتايه بجماله صلف ... لايستطاع كلامه تيها
للحسن في وجناته بدع ... ما إن يمل الدرس قاريها
لو كانت الأشياء تعقله ... أجللته إجلال باريها
لو تستطيع الأرض لأنقبضت ... حتى يصير جميعه فيها
قال: أنشدني غير هذا! فأنشدته " من البسيط ":
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها
حتى تهم بإقلاع فيمنعها ... خوف التسخط من عصيان منشيها
قال: أحسن وأجاد! قلت: من أنت؟ قال: أنا كلثوم بن عمرو العتابي. قلت: ألا تنشدني من شعرك؟ فأنشدني " من الكامل ":
طمع النفوس مطية الفقر ... وليأسها أدنى إلى الوفر
اصبر إذا بدهتك نازلة ... ماعال منقطع إلى الصبر
الصبر أنبل ما أعتصمت به ... ولنعم حشو جوانح الصدر
٩ - ومن أخبار مسلمة النحوي
هو أبو محارب مسلمة بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري، وهو ابن أخت عبد الله بن أبي أسحاق الحضرمي، وكان مؤدبًا لجعفر بن أبي جعفر المنصور، ومضى معه إلى الموصل، وأقام بها حتى مات، فصار علم أهل الموصل من قبله. - قال مسلمة: إن زيادًا أول من أتخذ ديوان زمام وخاتما، امتثالا لما كانت الفرس تفعله. - وقال: قال كسرى: ما قرأت كتاب رجلٍ إلا عرفت عقله.
١٠ - ومن أخبار يزيد بن أبي سعيد النحوي
قال الجاحظ: كان من الفقهاء المذكورين. وقال يحيى بن معين: هو خراساني من أهل مرو وهو ثقة في الحديث. روى عن عكرمة عن أبن عباس أن رسول الله صلىة الله عليه وسلم بعث سرية، فأسروا قوما ولقوا رجلا، فقال: إني لست منهم، أنا عشقت امرأة منهم أدماء قنواء جسيمة. فكلمها ثم أقبل إلينا، فضربنا عنقه. فجاءت المرأة فوقعت عليه، فسمعنا شهقة فنظرنا فإذا هي ميتة. فلما قدمنا على رسول الله ﷺ أخبرناه بحديثهما، فقال: أما فيكم رجل رحيم؟!
١١ - ومن أخبار أبي بكر الهذلي
واسمه سلمان أو سلم، وقيل: سليمان بن عبد الله، وأمه بنت حميد بن عبد الرحمان الحميري. وقال ابن أبي خيثمة: اسمه سلمي بن عبد الله، وكذا قال يحيى بن معين.
قال أبو بكر: قال لي الزهري: أيعجبك الحديث؟ قلت: نعم. قال: أما أنه يعجب ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم! وقال: قال لي الشعبي: أتحب الشعر؟ قلت: نعم. قال: إنما يحبه فحول الرجال ويكرهه مؤنثوهم. - وروى أبو بكر عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: رخص رسول الله ﷺ في شعر الجاهلية إلا القصيدة الحائية لأمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وقصيدة الأعشى في ذكر عامر وعلقمة، فإنه نهى عن إنشادهما.
وقال أبو بكر: كنا مع الحسن في وليمة ومعنا محمد بن سيرين، فجاؤا بجام فضة - أو قال: صحفة فضة - فيها خبيص. فقال محمد: إليك إليك! فقال الحسن: هلم! فأخذ الصحفة فقلب ما فيها من الخبيص على رغيف، ثم رفع الصحفة وقال: كلوا! - قال: وكنا جلوسًا عند الحسن البصري إذ جاء الفرزدق، فتخطى حتى جلس إلى جنبه، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، الرجل يقول: لاوالله وبلى والله! لايعقد اليمين؟! فقال الفرزدق: لاشئ! فقال الحسن: وما علمك بذلك؟ قال: أوما سمعت ما قلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل ":
ولست بمأخوذ بشئ تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
1 / 14
قال: فسكت الحسن. ثم لم يلبث أن جاء رجل فقال: إنما نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة ذات الزوج، أفيحل غشيانها ولم يطلقها زوجها؟ فقال: الفرزدق: نعم! أوما سمعت ماقلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل ":
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالا لمن يبني بها لم تطلق
قال: فسكت الحسن.
قال: قال لي ابن سيرين: أيُّ بيت قالت العرب أنسب؟ فقلت: لاأدري. فقال: قول يزيد بن معاوية " من الطويل ":
إذا سرت ميلًا أو تغيبت ساعة ... دعتني دواعي الحب من آل خالد
قال: فذكرت ذلك لمسعر بن كدام، فقال: بل قول كثير " من الطويل ":
وما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلينا وأما بالنوال فضنت
قال: ودخلت على محمد بن سيرين، وقد خدرت رجلاه، وقد نقعهما في الماء وهو يتمثل بقول قيس بن ذريح " من الطويل ":
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لألقيت نفسي نحوها فقضيت
فقلت: يا أبا بكر، أتنشد مثلها؟ فقال: يالكع، إنما هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح! وقال: قال لي السفاح: بأي شيء بلغ حسنكم مابلغ؟ قال: قلت: ياأمير المؤمنين، جمع كتاب الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة؛ فلم يجاوز سورة إلى غيرها حتى يعرف تأويلها وفيما أنزلت، ولم يقلب درهمًا في تجارة، ولم يل لسلطان إمارة، ولم يأمر بشء حتى يدعه. فقال: بهذا بلغ الشيخ.
وقال أبو بكر الهذلي: اجتمعنا عند أبي لعباس السفاح، ولم يكن من أهل البصرة غيري، وكان من أهل الكوفة محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى والحجاج بن أرطاة، وحضر الحسن بن زيد. فذكروا أهل البصرة وأهل الكوفة، فقال ابن أبي ليلى: نحن والله، ياأمير المؤمنين. أكثر منهم خراجًاوأوسع أنهارًا. فقال السفاح: ذاك إن رضي أبو بكر. قال: قلت: معاذ الله! وكيف يكون ذلك ولنا السند والهند، وكرمان ومكران، والقرض والفرض، والديار وسعة الانهار؟! فقال ابن أبي ليلى: نحن أكثر منهم فقها، وأغزر علمًا، مقر بذلك أهل البصرة لأهل الكوفة، كما أقرّ أهل مكة لأهل المدينة. فقال أبو بكر: هم أكثر أنبياء وأقل أتقياء وأعظم كبرياء، منهم المغيرة الخبيث السريرة وبيان وأبو بيان، وتنبت فيهم الأنبياء، والله ما أتانا إلا نبي واحد ﷺ، والله ما رأيت بلدًا قط أكثر نبيًا مصلوبًا ولا رأسًا مضروبًا من أهل الكوفة. فقال الحسن بن زيد: أنتم أصحاب عليّ يوم سرتم إليه لتقتلوه. فقال أبو بكر: نحن والله أصحاب عليّ يوم سرنا إليه لنقتله، فكف الله أيدينا وشوكتنا عنه وعن غيره، وسار إليه أهل الكوفة فقتلوه، فأينا أعظم ذنبًا؟! فقال الحجاج بت أرطأة: لقد أخبرني بعض أشياخنا أن أهل البصرة كانوا يومئذ ثلاثين ألفا، فلما ألتقت حلقتا البطان وتناهد النهدان وأخذت الرجال أقرانها فما كانوا إلا كرماد في يوم عاصف. فقال أبو بكر: كيف يكون ذلك وخرجت ربيعة سامعة مطيعة تعين عليًا، وخرج الأحنف بن قيس في سعد والرباب وهم السنام الأعظم والجمهور الأكبر يعين عليًا؟! ولكن سل هؤلاء كم كان عدتنا يوم استعانوا بنا! فلما التقت حلقتا البطان وتناهد النهدان وأخذت الرجال أقرانها شدخنا منهم في صعيد واحد سبعة آلاف نقتلهم قتل الحمنانن! - يعني القردان الصغار. فقال أبن ابي ليلى: نحن أشرف منهم أشرافا، وأذكر منهم أسلافا، مقر بذلك أبو بكر! فقلت: معاذ الله! هل كان في تميم الكوفة مثل الأحنف ابن قيس في تميم البصرة يقول له الشاعر " من الوافر ":
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ... ظللن مهابة منه خشوعا
وهل كان في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم في قيس البصرة الذي يقول فيه الشاعر " من الخفيف ":
كل عام يحوي قتيبة نهبا ... ويزيد الأموال مالا جديدا
دوخ السغد بالقنابل حتى ... ترك السغد بالعراء قعودا
باهلي قد عصب التاج حتى ... شبن منه مفارق كن سودا
وهل كان في أزد الكوفة مثل المهلب في أزد البصرة الذي يقول له الشاعر " من الطويل ":
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... أمرنا أبا غسان يومًا فعسكرا
وهل كان في بني قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر بن الجارود في قيس البصرة الذي يقول له الشاعر " من الرجز "؟
1 / 15
أنت الجواد بن الجواد المحمود ... سرادق المجد عليك ممدود
فانقطعوا كلهم، وضحك السفاح حتى ضرب برجله وقال: والله ما رأيت مثل هذه الغلبة قط.
ولما توفيت أمرأة الهذلي وبلغ ذلك المنصور فأمر الربيع الحاجب أن يأتيه ويعزيه عنها، ويقول له: إن أمير المؤمنين موجه الليل بجارية نفيسة لها أدب وظرف وهيئة ومعرفة تسليك عن امرأتك. فلم يزل أبو بكر يتوقع ذلك فلم يره، وأنسيه المنصور، ثم حج وأبو بكر معه، فقال وهو بالمدينة: إني أحب أن أطوف الليلة في المدينة، فانظروا لي رجلا يعرف منازل أهل المدينة ومساكنها ورباعها وطرقها وأخبارها، يكون معي فيعرفني ذلط! فقالوا له: ما تعلم أحدًا أعلم بذلك من أبي بكر. فأمر بالحضور، وخرج المنصور على حمار يطوف معه في سكك المدينة، ويسأله عن ربع ربع وسكة سكة، فيخبره لمن هو ولمن كان، حتى مر ببيت عاتكة، فسأل عنه، فقال: ياأمير المؤمنين، هذه بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص " من الكامل ":
يابيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وأنشده القصيدة حتى بلغ قوله:
وأراك تفعل ما تقول ومنهم ... مذق الحديث يقول ما لايفعل
فقال له المنصور: ويحك ياأبا بكر وفي الدنيا أحد يعد ولاينجز ويقول ولايفعا! قال: نعم، ياأمير المؤمنين، إذا نسي. قال: فضحك المنصور وقال: صدقت! أذكرتني ماكنت وعدتك، لاجرم والله لاتصبح حتى يأتيك ذلك! قال: فلم يصبح حتى وجه بجارية نفيسة بفرشها وأثاثها ووصلنا بمال.
وقال الهذلي: طلبت اإذن على المنصور، فوعدت بيوم أدخل عليه فيه، فوافيت ذلك اليوم، فوجدت أبا حنيفة وعمرو بن عبيد قد سبقاني، فقعدنا قليلًا، ثم خرج الآذان فأذن، وكنت هيأت كلامًا ألقى به أبا جعفر المنصور، وهيأ أبو حنيفة مثل ذلك. فلما رأيناه أرتج علينا وكان جهدنا أن أقمنا التسليم، فأومأ برأسه إلينا، فجلست أنا وأبو حنيفة في شق، وجلس عمرو بن عبيد في شق. فأقبل أبو جعفر ينكت في الأرض وقد طأطأ رأسه، فرفع عمرو رأسه فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم، والفَجر، وَليالٍ عشرٍ، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العتناد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد)، ياأمير المؤمنين، بالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل مانزل بهم، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإن وراءك نيرانا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ. فقال: ياأبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير فآمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع؟ فقال: ياأمير المؤمنين، مثل أذن فأرة يجزيك من الطوامير، الله تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا تنفذ، إنك والله لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل إذن لتقرب إليك من لانية له فيه! ثم ذكر سليمان بن مجالد ومعارضته لعمرو. فقال له عمرو: ياابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته! ياأمير المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلمًا لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإنك ميت وحدك ومبعوث وحدك ومحاسب وحدك، لن يغني عنك هؤلاء من الله شيئًا! فأطرق أبو جعفر يفكر في كلامه، ثم دعا خادمًا فسار بشئ، فأتاه بمنديل فيه دنانير، فقال: ياأبا عثمان، بلغني ما الناس فيه من الشدة، فاصرف هذه حيث شئت! قال: ماكنت لآخذها! قال: لتأخذنها! قال: لاآخذها! قال: والله لتأخذنها! قال: والله لاآخذها! فقال له المهدي: أيحلف أمير المؤمنين لتأخذنها وتحلف أنت لاتأخذه؟! فقال عمرو: ياأبن أخي، أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني! فقال أبو جعفر للمهدي: اسكت فإن عمك بنا واثق. قال: فسكت وقعد قليلًا، وقمنا، فقلت لأبي حنيفة عند خروجنا: عدّ أنا نسينا ما أردنا من الكلام، فكيف ذهب عنا أن نجيء بما جاءؤ به عمرو من كتاب الله؟! أبو بكر الهذلي - اسمه سلمي بن عبد الله بن سلمي - مات في سنة تسع وخمسين ومائة.
١٢ - ومن أخبار عيسى بن عمر الثقفي
1 / 16
ومن مولى بني مخزوم، كثير السماع من العرب كثير الرواية عالمًا بالنحو، أخذ عن أبن أبي إسحاق. وقال القحذمي: عيسى بن عمر مولى لخالد بن الوليد.
وأنكر وديعة فأتي به يوسف بن عمر، فأمر بضربه، فاعترف وقال: أيها الأمير، إنما كانت أثيابًا في أسيفاط قبضها عشاروك! فوكل به حتى أخذها منه.
تؤفي عيسى بن عمر ﵀ سنة تسع وأربعين، وقيل: خمسين ومائة.
وسئل الأصمعي عن معنى قول ذي الرمة " من الطويل ":
يقاربن حتى يطمع اليافع الصبي ... وتشرع أحشاء القلوب الحوائم
حديث كطعم الشهد حلو صدوره ... وأعجازه الخطبان دون المحارم
فقال: سألت عيسى بن عمر عن ذلك، فقال: هنّ لعفتهن شهد إذا أمن الحرام، وخطبان إذا خشينه، والخطبان خضر الحنظل. فعرضت هذا على خلف، فقال: أراد أن صدور حديثه حلوة لشغف اللقاء والتلسيم، وأعجازه مرة لحين الفراق والتوديع، وما في الحالتين تعرض لمحرم. قال الصولي: فأخذه أبو العميثل فقال " من الطويل ":
أتيت ابنة السهمي زينب عن عفر ... ونحن حرام مسي عاشرة العشر
فكلمتها ثنتين كالثلج منهما ... وأخرى على لوح أحر من الجمر
فسئل ثعلب وأنا حاضر عن معنى هذين البيتين، فقال: الأولى الباردة كلام السلام، والأخرى الحارة كلام الوداع، فظننت أن أبا العميثل لم يسبق إلى هذا المعنى، ولاسبق ثعلب إلى تفسيره حتى سمعت خبر الأصمعي.
١٣ - ومن أخبار أبي الخطاب الأخفش
اسمه عبد الحميد مولى بني قيس بن ثعلبة، وهو من أصحاب عبد الله بن أبي إسحاق هو ويونس وعيسى، وهو أعلم الناس. وقيل: كان هو وخلف الأحمر يأخذان عن أبي عمرو بن العلاء. وكان يعرف بالأخفش الكبير، وكان لايدع الإعراب. فدخل عليه لصوص فضربوه بالسيوف، فجعل يقول: قد كم الآن قد كم الآن.
١٤ - ومن أخبار حماد بن سلمة
هو أبو سلمة بن أبي صخرة بن دينار مولى بني تميم، وقيل: مولى جعدة ابن هبيرة، وهو ابن أخت حميد الطويل، وكان فقيهًا حافظًا فاضلًا عالمًا بالقرآن كثير الحديث إلا أنه ربما حدث بالمناكير، وكان شاعرًا مجيدًا.
قال الأصمعي: وصفني شعبة لحماد بن سلمة فقال: جئني به! فذهبت معه إليه، فقال لي: كيف تنشد بيت الحطيئة " من الطويل ":
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا
ماذا؟ قلت: إلينا. فلوى حماد شفتيه، فقلت له: فكيف تنشد أنت؟ فقال:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلبنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
قال الأصمعي: فما رأيت حمادا بعد ذلك إلا هبته! قال يحيى بن معين: حدثنا شيخ قال: كنت عند حماد بن سلمة، فجاءه كتاب أبي حرة يعاتبه في هذه الأحاديث التي حدث بها حماد - يعني في الرؤية - ويأمره بالرجوع عنها. فقال حماد: لاأفعل، سمعتها من قوم ثقات فأنا أحدث بها كما سمعت! - قال يحيى: وكان حماد من خيار المسلمين وأهل السنة، وهو ثقة مأمون عندنا، والأحاديث التي حدث بها في الرؤية نؤمن بها، ومن كذب بها كان عندنا مبتدعا، ولانفسرها نحن برأينا.
مات حماد ﵀ يوم الثلاثاء في ذي الحجة سنة سبع وستين ومائة، وصلى عليه إسحاق بن محمد. - قال بعضهم: رأيت حماد بن سلمة في النوم، فقلت: مافعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وأسكنني الفردوس. قلت: بماذا؟ قال: بقولي: ياذا الطول والإكرام، ياكهيعص، لأسكني الفردوس! فأسكنني الفردوس.
١٥ - ومن أخبار يونس بن حبيب النحوي
هو أبو عبد الرحمان مولى بني ضبة، وقيل: مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة، وقيل: مولى بلال بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة، قيل: إنه من أهل جبل. ولد يونس سنة تسعين، ومات سنة أثنتين وثمانين ومائة وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، وقيل: مات وله مائة وسنتان. ومات هو وابو يوسف القاضي وعلي بن يقطين ومروان بن أبي حفصة الشاعر في يوم واحد.
1 / 17
وقال يونس: اشتهي أن أعاتب في الجنة ثلاثة: آدم ﵇ فأقول: أبي رضي الله عنك، أدخلك الله الجنة وأباحها لك كلها إلا شجرة واحدة، فأكلتها وأشقيتنا وأخرجتنا من الجنة! ويوسف ﵇ فأقول: رضي الله عنك، تركت أباك وبينك وبينه مسيرة كذا وكذا، فتركته كذا وكذا من الدهر لم تكتب إليه كتابًا ولم ترسل إليه رسولًا حتى ذهب بصره من الحزن! وطلحة والزبير فأقول: رضي الله عنكما، بايعتما عليًا بالحجاز ثم خلعتماه وجئتما تقاتلانه من غير حدث أحدث.
سأل رجلُ عن بني المحبل: من هم من العرب؟ فلم يعرف ذلك أحد، فلم يترك بالحجاز والشأم والكوفة أحدًا إلا سأله. فأتى البصرة فلم يعرفهم أحد، فقيل له: إيت يونس بن حبيب! فأتاه فسأله، فضحك فقال: هؤلاء قوم من كندة عرفوا بأبيهم، وكان من قضيته أنه قال " من الوافر ":
أكرم جارتي وأصون عرضي ... وأفرغ في مزادتها سقائي
فأتركها وإن كانت عقيما ... كناز البطن من مذخور مائي
فقيل له: المحبل وتجنب الناس جواره.
ومن حكمه ومستحسن ألفاظه، كان يقول: إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر من تأليف الكلام ونظمه ما لايشعر له غيره؛ الحمية طابع الصحة؛ الكبر وكل عيب، العزل وكلّ ذنب، الولاية وكل مدح، الشباب وكل صحة، اليسار وكل فضيلة، الفقر وكل لؤم؛ أعلم الناس بالزمان من لم يتعجب من أحداثه؛ ليس لمعجب رأي ولا لمتكبر صديق. - وكان يشرب الصبر كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إنه يصفي البشرة ويذهب بالبثور وينقي الأعصاب. - وكان يقول: حسن الوجه يجذب أعنة الأبصار؛ ويقول: ليس لناقص البيان بهاء ولو حك بأنفه عنان السماء.
وسمع يونس رجلًا ينشد " من البسيط ":
استودع العلم قرطاسًا فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس
فقال: قاتله الله ماأشد صبابته بالعلم وأحسن صيانته للعلم، ثم قال: مالك من بدنك وحفظك من روحك: فحفظ علمك حفظ روحك وحفظ مالك حفظ بدنك. وأخذ محمد بن بشير هذا المعنى فقال " من المنسرح ":
قل لبغاة الآداب: ماوقعت ... منها إليكم فلا تضيعونها
وضمنوا علمها الدفاتر ... والحبر بحسن الكتاب أوعوها
وإن دعتكم إلى القراطيس ... والأنقاس نفس فلا تطيعوها
وقال يونس: اختلفنا في أن الشعر ينقض الوضوء أم لا، فرأيت محمد ابن سبرين قد دخل المسجد، فبعث إليه رجلا فسأله، فأنشأ يقول " من الطويل ":
ألا تلكم عرس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رمح استه لاستقرت
ثم استقبل القبلة فقال: الله أكبر.
استأذن أبو سفيان على رسول الله ﷺ، فأذن لرجال قبله ثم أذن له، فقال: يارسول الله، كدت تأذن لحجارة الجهلتين قبلي. فقال رسول الله ﷺ: إنما مثلك في ذلك، ياأبا سفيان، ما قال الأول: كل الصيد في جوف الفرلء. - قال خلاد: فحدثت يونس، فقال: والله لقد جود له رسول الله ﷺ! أتدري ماهذا؟ خرج رجال فتصيدوا، فاصطاد رجل منهم حمار وحش، واصطاد الآخرون من بين ظبي وأرنب، فاجتمعت نساؤهم، فجعلت المرأة تقول: اصطاد زوجي كذا، فيقول صاحب الحمار: كل الصيد في جوف الفراء.
وسئل يونس عن قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك) وقد أغرق الله فرعون ولم ينجه، فقال: يعني نلقيك بنجوة البحر، وهي شاطئه وكذلك نجوة الوادي شفير الوادي، وتمثل بقول الشاعر " من البسيط ":
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يمسكه من قام بالراح
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
يقول: المستكن كمن يمشي بالفضاء.
قال أبو حنيفة ليونس: ياأبا عبد الرحمان، علمت أن الزمان ليس من الفاكهة؟ قال: لم؟ قال: لقول الله ﷿: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) . فقال يونس: فجبريل وميكائيل إذا ليسا من الملائكة لقوله تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل) . قال: فكيف ذاك؟ قال: إن الله ﷿ إذا خص الشيء بالفضل أدخله في الجملة ثم أبانه بالاستثناء وأفرد ذكره.
وقال يونس: من أمثال العرب: المرء يعجز لا المحالة، يريد أن العجز يأتي من قبله. فأما الحيلة فواسعة غير ضيقة، وأنشد " من الكامل ":
أعصيت أمر ذوي النهى ... وأطعت أمر ذوي الجهاله
1 / 18
واحتلت حين عصيتني ... والمرء يعجز لا المحاله
وسئل عن مثل: مجير أم عامر، فقال: خرج فتيان من العرب إلى الصيد فأثاروا ضبعا، فانفلتت من أيديهم ودخلت خباء بعض الأعراب، فخرج إليهم فقال: والله لاتصلون إليها وقد استجارت بي! فخلوا بينه وبينها. فلما أنصرفوا عمد إلى خبز ةلبن وسمن فثرده وقربه إليها، فأكرلت حتى شبعت، وتمددت في جانب الخباء، وغلب الأعرابي النوم، فلما استثقل وثبت عليه، فقرضت حلقه وبقرت بطنه وأكلت حشوته وخرجت تسعى، وجاء أخُ للأعرابي، فلما نظر إليها أنشد يقول " من الطويل ":
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير أم عامر
أعد لها لما أستجارت ببيته ... قراها من ألبان اللقاح البهازر
فأشبعها حتى إذا ما تمطرت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لبني المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف إلى غير شاكر
وقال: لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتًا واحدًا وهو " من البسيط ":
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا
وقال: إن علماء البصرة كانوا يقدمون أمرء القيس، وإن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرا والنابغة. - وكان يفضل الفرزدق على جرير، وكان يقول: ماتهاجى شاعران قط في جاهلية ولا إسلام إلا غلب أحدهما على صاحبه غيرهما، فإنهما تهاجيا نحوا من ثلاثين سنة، فلم يغلب أحد منهما على صاحبه. - وقال: لو تمنيت أن أقول الشعر لما تمنيت أن أقول إلا مثل قول عدي بن زيد " من الخفيف ":
أيها الشامت المعير بالمو ... ت أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... أم أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون عزين أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
وقال: أشعر بيت قالت العرب قول دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله " من الطويل ":س
صبا ماصبا حتى إذا شاب رأسه ... وأحدث حلمًا قال للباطل: أبعد
قليل التشكي للمصيبات حافظ ... من اليوم أدبار الأحاديث في غدِ
وقال: أتينا خالد بن صفوان نعزيه في ابنه، فانتهينا إليه وهو يقول " من الطويل ":
وهون ما ألقى من الوجد أنني ... أجاوره في داره اليوم أو غدا
قال الاصمعي: قلت ليونس: ما - أراد ذو الرمة بقوله " من الطويل ":
وليلٍ كجلباب العروس ادَّرعتهُ ... بأربعةٍ والشخص في العين واحدُ
فقال يونس: لاأحسب الجنَّ تقع على ماوقع عليه وفطن له، قوله: " وليلٍ كجلباب العروس " يقول: ليلٌ كقميص العروس في الطول لأن العروس تجرُ أذيالها، " ادرعته ": لبسته، " بأربعة ": يعني نفسه وناقته وسيفه وظله يعني خيمته، " والشخص في العين واحد " يقول: والإنسان واحدُ.
ودخل المهلَّبُ على الحجاج بعد فراغه من أمر الخوارج، فأجلسه إلى جانبه وقال: أنت والله كما قال لقيط الإيادي " من البسيط ":
فقلدوا أمركم، لله درُّكم ... ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا
لامترفًا إن رخاء العيش ساعده ... وليس إن عضَّ مكروه به خشعا
1 / 19
وقال: كنت في حلقة أبي عمرو بن العلاء، فجاءه شبيل بن عزرة الضُبَعّيُّ، فتزحزح له أبو عمرو ورفعه، فقال لأبي عمرو: ألا تعجبون لرؤبتكم هذا؟! سألته مم اشتقاق اسمه فلم يعرفه! قال يونس: فما تمالكت أن قمت فجلست بين يديه، وقلت له: لعلك تظن أن معَّد بن عدنان كان أفصح من رؤبة! فأنا غلام رؤبة، فما الروبة والروبة والروبة والروبة والرؤبة إحداهن مهموز! فقام مغضبًا، فقال لي أبو عمرو: ماأردت بهذا؟ رجلٌ شريف أتانا في مجلسنا، فسؤته - أو قال: فأَذَّيته وأبسته -! قال: هو مثل التهكم! فقلت: والله ما تمالكت إن ذكر رؤبة أن قلت ما قلت. ثمّ فسّر لنا يونس ذلك فقال: الروُبة الحاجة، يقال: قمتُ بروبة أهلي، أي بحاجتهم؛ والروبة: ما يلقى في اللبن الحليب من اللبن الحامض حتى يروب؛ والروبة: جمام الفحل، يقال: أعرني روبة فحلك؛ والروبة: القطعة من الليل؛ والرؤبة القطعة من الخشب يشعب بها القعب ويرقع بها العُسُّ وما أشبه ذلك، يقال: رأبت الشئ أرابه رأبًا إذا أصلحته، والعمل الرأب وكلّ شئ أصلحته فقد رأبته، ومنه اشتقاق اسم رئاب، ومنه قولهم: اللهم أرأب ثأينا، أي أصلح فسادنا! ومن ذلك اشتقاق اسم رؤبة إن كان مهموزًا. - والروبة: من النوم ومنه " من المقارب ":
فأما تميم تميمُ بنُ مُرٍ ... فألفاهمُ القومُ روبى نياما
ويقال: مازال على روبة واحدة، أي طريقة واحدة؛ قال: روبة البحر: وسطه ومعظمه، والمهموز منه: رأبت، من القطعة التي يرأب بها القَدَحُ. - قال: وقلت لرؤبة: مامعنى قوله ﵇: لاعدوى ولاطيرة ولا صفر، مالصفر؟ قال: داءٌ يأخذ الإبل، يعدي فيهم يخافون إعداءه.
وقال يونس: إني جالس إذ أقبلت جارية من أحسن الناس، ثم طلع فتىً في نحو هيئتها؛ فوقف علينا وسلم ودهش وخفي عليه مسلكها، فقلت له: أخذت ههنا! فاتبعها وهو يقول " من الطويل ":
إذا سلكت قصد السبيل سلكته ... وتعدلُ أحيانًا بنا فنحيد
ويروى " فنميل "، ويروى: " وإن هي جارت جرت حيث تجور ".
وقال الشعبي: وجد في خزائن عادٍ سهم ريشه ريش نسر مكتوب فيه " من الطويل ":
فليس إلى أكناف صبح بذي اللوى ... لوى الرمل فأعذرن النفوس معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذا الناس ناس والبلاد بلاد
وقال يونس: ماصحَ عندنا ولابلغنا أنّ عليًا قال شعرا إلا هذين البيتين " من البسيط ":
تلكم قريش تمنتني لتقتلني ... فلا وربك مابروا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقتين لايعفو لها أثر
قال ثعلب: يقول أترك فيهم آثارًا لاتذهب.
وقال: الظل من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، والفيء من زوال الشمس إلى الليل، وأنشد لابن سلاّم " من الطويل ":
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
وأنشد " من الطويل ":
فلا ظلٌ من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تطيق
قيل ليونس: قد بلغت سن الشيخوخة، فقال: هذا الذي كنت أتمنى. أخذ هذا المعنى محمد بن عبد الملك الزيات فقال " من البسيط ":
وعائبٍ عابني بشيبٍ ... لم يعد لما ألمَّ وقته
فقلت: إذ عابني بشيبي ... يا عائب الشيب لا بلغته
١٦ - ومن أخبار أبي عبد الرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي
لم نجد في نسبه زيادة على أسم أبيه، ويقول البصريون: لايعرف أحدُ سميّ بأحمد بعد النبي ﷺ قبل أبيه، وهو من الأزد من حي يقال لهم الفراهيد. وسئل: من أي العرب أنت؟ فقال: فرهيدي. ثم سئل، فقال: فرهودي. قال أبو العباس: قوله " فراهيدي " أنتسب إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وكان من أنفسهم صحيح النسب معروف الأهل؛ وقوله " فرهودي " انتسب إلى واحد الفراهيد وهو فوهود، والفراهيد صغار الغنم. - وكان من أهل عمان من قرية من قراها. ثم أنتقل إلى البصرة. - وكان من أزهد الناس وأعلاهم نفسًا؛ وكان يعيش من بستان له بالخريبة خلفه له أبوه. - وكان يحج سنة ويغزو سنة إلى أن مات.
وكان يقول: أشتهي أن أكون عند الله من أرفع الناس وعند الناس من أوسط الناس وعند نفسي من أسفل الناس. وكان يدعو بذلك. - ومر بقوم يتكلمون فيه فقال " من الطويل ":
1 / 20