وما نظفت كأسٌ ولاطاب ريحها ... ضربت على حافاتها بالمشافر
فقال: ماأعرفهما وأشهد أنهما من شعره.
قال أبو عبيدة: كنتُ أقودُ بشارًا، فمررنا بباهلة فسلم على قوم منهم، فلم يردوا عليه، فقال: من فيهم؟ قلت: عمرو الظالميُّ. فنفث - وكان إذا أراد أن يقول الشعر نفث - وقال " من البسيط ":
اُرْفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربيُّ من قوارير
إن جاز آباؤك الأنذالُ في مضر ... جازت فلوس بخارا في الدنانير
قال أبو عبيدة: كان بشارُ عظيم الجسد محدودبًا سمينًا طويلًا، وكان جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أحمر، وكان أقبح الناس عمى، وكان حمَّاد عجردٍ يعيره بالقبح، فلمَّا قال حمَّاد فيه " من السريع ":
والله ما الخنزيرُ في نتنه ... بربعه في النتن أو خمسه
بل ريحه أطيب من ريحه ... ومسه ألين من مسه
ووجهه أحسن من وجهه ... ونفسه أفضل من نفسه
وعوده أكرم من عوده ... وجنسه أكرم من جنسه
فقال بشار: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره. قيل: وكيف ذاك، يا أبا معاذ؟ قال: ماأراد الزنديق إلا قول الله ﷿: (لقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ في أحسنِ تَقْويم) فقد أخرج الجحود بها مخرج هجائي. - وكان لبشار أخوان بشر وبشيرٌ وكانا قصَّابين، وكان بشَّار بهما بارًا وكانا يستعيران ثيابه فيوسخانها، فيبرز بشَّار للناس في ثياب سخام، فيقال له: ماهذا، ياأبا معاذ؟ فيقول: هذه ثمرة صلة الرحم. - وقال الشعر ولم يبلغ عشر سنين، فبلغ الحُلُم وهو مخشي معرَّة اللسان بالبصرة. وكان لا يزال قومٌ يشكونه إلى أبيه فيضربه حتى رقَّ عليه. وكانت أمُّه تخاصمه، فيقول لها أبوه: قولي له يكف لسانه عن الناس! فلما طال ذلك عليه قال لأبيه: ياأبت، احتج عليهم بقول الله تعالى: (ليسَ عَلَى الأعْمى حَرَجٌ) ! فقال له أبوه حين شكوه إليه هذا القول، فقالوا: فقه بُرد أضر علينا من شعر بشار.
وسئل أبو عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهديُّ بشارًا عن ذكر النساء، قال: كان أوّل ذلك اشتهار نساء البصرة وشبانها بشعره حتى قال الفسق من أشعر هذا الأعمى. وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلَّما كثُر ذلك وانتهى خبره إلى المهدي وأنشد لأشعاره، نهاه عن ذلك. قال: فقلت: ما أحسب أن شعر كثير وجميل وعروة وقيس بن ذريح وأولئك الطبقة أبلغ في هذا الباب! قال: ليس كلُّ من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، وبشار يقارب النساء حتى لايخفى عليهن مايقول ومايريد، وأي حُرّةٍ حصان تسمع قول بشار فلا يؤثر في قلبها؟ فكيف الغزلة التي لاهمة لها إلا الرجال! وأنشدني " من المنسرح ":
قد لامني في خليلتي عُمَرُ ... واللومُ في غير كنهه قذر
قال: أفق! قلت: لا! فقال: بلى ... قد شاع في الناس منكما الخبر
قلت: وإن شاع ما اعتذاري ... مما ليس فيه عندهم عذرُ
ماذا عليهم وما لهم خرسوا ... لو أنهم في عيوبهم نظروا
أعشق وحدي فيؤخذون به ... كالروم تغزو وتهزم الخزرُ
يا عجبًا للخلاف يا عجبًا ... في في الذي لام في الهوى الحجرُ
حسبي وحسب الذي كلفت به ... مني ومنها الحديث والنظر
أو قبلة في خلال ذاك ومابأس إذا لم تحلل الأزرُ
أو عضةٌ في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عضها أثر
أو لمسة دون مرطها بيدٍ ... والباب قد حال دونه السُتر
والساق براقةٌ خلاخلها ... أو مص ريق وقد علا البهر
واسترخت الكف للغزال وقا ... لت: إيه عني والدمع منحدر
انهض فما أنت كالذي زعموا ... أنت وربي مغازلٌ أشر
قد غابت اليوم عنك حاضنتي ... فالله لي منك فيك ينتصر
يارب خذ لي فقد ترى ضرعي ... من فاسق جاء ما له شُكر
أهوى إلى معضدي فرَّضضَهُ ... ذو قوّة ما يُطاق مقتدر
1 / 43