هذه النهضة تتضح لنا في ثلاث حركات بشرية: (1)
الحركة البشرية الأولى:
وهي التي ظهرت على أشدها في القرن الخامس عشر في إيطاليا ثم انفجرت في أوروبا، وقد اغتذت بدرس الإغريق والرومان، وأخرجت الفنون الجميلة من قيودها الدينية السابقة، فجعلتها تخدم البشر.
ولم يتجه الأدباء إلى الإغريق والرومان كي يحاكوهم، فإن المحاكاة في نفسها انحطاط، وإنما هم اتجهوا إليهم؛ لأنهم رأوا منهم أشخاصا يشبهونهم من حيث الرغبة في مزاولة الفنون والعلوم والصناعات نشدانا للسعادة والاستمتاع في هذه الدنيا، فاتجاههم هذا ليس سببا أصليا للنهضة وإنما هو إحدى نتائجها، أما السبب الأصلي فيرجع على الأرجح إلى عوامل اقتصادية، وقد تستطيع أن تقول بعد ذلك إن وقوف الأوروبيين على ثقافة الإغريق والرومان قد دفعهم إلى الأمام في نهضتهم، وقد يكون هذا صحيحا، ولكننا عندئذ لا نرى في هذا الدفع سوى أن النتيجة السابقة قد استحالت إلى سبب.
وكما اتجه الناهضون من الأدباء إلى الإغريق والرومان كذلك اتجه العلماء منهم إلى العرب، فعرفوا الطريقة الجديدة في درس العلوم بالتجربة ونشدان الفائدة العملية المحسوسة منها. (2)
لحركة البشرية الثانية:
التي ظهرت في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، وكان القائمون بها ديدرو، وفولتير، وروسو وغيرهم من الأدباء والفلاسفة، وهي الحركة التي أعدت العدة الذهنية للثورة الفرنسية الكبرى، بل كانت هي نفسها الثورة التي كان منها إعلان حقوق الإنسان، وهي حقوق مازال كثير من الأمم محرومين منها إلى الآن. (3)
الحركة البشرية الثالثة:
هي التي ظهرت عقب ظهور داروين وكتابه «أصل الأنواع» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنها سمت بالإنسان إلى مركز السيادة للدنيا، وجعلته ينظر إلى مستقبله كأنه طوع إرادته، وهي حركة ما زلنا نحن في غمرتها ولم ننته إلى نهايتها.
وإذا تأمل القارئ هذه الحركات الثلاث كما سنفصلها ألفى هذا الذي نقوله صحيحا، وهو أن النهضة لم تعن في الماضي، وهي لا تعني الآن شيئا، سوى «البشرية» أي: إن البشر، أو الإنسان، يجب أن يشتغل ويعتمد على نفسه في هذا العالم، ويعمل لحضارته وسعادته في جراءة وفهم، إذ ليس له في هذا الكون كله ما يعتمد عليه سوى عقله، وليس له خلاف هذا العالم عالم آخر يمكنه أن يطمع في تحقيق سعادته فيه، وأن الانحطاط لم يعن في القرون الوسطى، وهو لا يعني الآن في الشرق أو الغرب، سوى قصر الذهن البشري على خدمة «ما وراء الطبيعة» ونشدان السعادة والهناءة في غير هذه الأرض، والاقتصار من الفنون والعلوم على خدمة الآراء بل العقائد الدينية.
Página desconocida