فإن الأدب العربي في القرنين الأول والثاني لا يعرف التزاويق والألاعيب البلاغية، وهو في ذلك مثل الأدب الروماني في القرنين السابق والتالي للميلاد المسيحي، ثم يشترك في التزاويق السخيفة ويذهب اللباب، وينحط التفكير وتبقى القشور والبهارج، وينسى الرومانيون لغتهم اللاتينية، وينسى العرب لغتهم العربية.. ويأخذ أمراء الجرمان في تأسيس الإمارات المستقلة عن رومية، ويأخذ أمراء الأتراك والمماليك في تأسيس إماراتهم المستقلة عن الخلافة.
وكما أعقب الدولة الرومانية قرون من الظلام ساد فيه التنطع الديني، كذلك أعقب الدولة العباسية قرون من الظلام ساد فيه هذا التنطع نفسه.
انحطاط الثقافة في القرون الوسطى
ليس شك في أن السبب الأساسي لانحطاط الثقافة أو ارتقائها أو صبغها بلون خاص، وتوجيهها إلى ناحية معينة دون أخرى هو السبب الاقتصادي، فإن الحال الاقتصادية كما تقرر لون الحضارة الراهنة كذلك هي إلى حد بعيد، تقرر لون الثقافة الراهنة، ويكفي القارئ أن يعرف هنا أن الثقافة في أيامنا لا تفشو وتتفرع، وأن التوليد في الفنون لا يزكو، إلا إذا كثر القراء وتوافرت المدارس، وتعددت المطابع، وراجت سوق الكتب وصار العلم والأدب يدر على العالم أو الأديب ربحا، وهذه حال تحتاج إلى الثروة والسعة والرخاء، أما إذا ضاقت البلاد بعيشها، فلم تستطع إنشاء المدارس للكافة وتغذية المطابع وإعالة العاملين في الأدب والفنون والعلوم فإن ميدان الثقافة يضيق، ويكون من ضيقه ضمور الذهن الإنساني بل ضمور الشخصية الإنسانية.
فعلى القارئ أن يذكر أن وراء كل نهضة ثقافية حركة اقتصادية بعثت عليها ونبهت إليها، ونحن نقنع الآن بأن نشير إلى أن ميدان التجارة أوفق للثقافة من ميدان الزراعة، فميدان الزراعة لركودها يقنع بما يشاكلها من ثقافة راكدة، بينما التجارة تطوف في أنحاء العالم وتفتح الطريق للجغرافيا والتاريخ والملاحة والفلك، بينما الصناعة تحتاج إلى مكتشفات متوالية عن الكيمياء والطبيعيات وغيرهما من العلوم.
كانت ثقافة مصر «الزراعية» في أكثرها عقائد جزمية ومعارف مشتقة تخدم الدين. ولم يكن المصريون يعرفون النظرية أو الرأي، بل يمكن أن نقول إن أدبهم وفلسفتهم لم يستقلا يوما من الأيام عن الدين، ثم ظهرت يونان «التجارية» فظهرت الفلسفة مستقلة من الدين كما استقل الأدب أيضا منه، ثم ظهرت النظرية الهندسية، وعرف شيء من الطبيعيات، ثم ظهرت روما «الصناعية» التي كان يتعجب اليونانيون أنفسهم مما فيها من منشآت هندسية، فزكت الثقافة وبعدت عن الرجم الفلسفي الذي كان يحبه الإغريق، واتجهت نحو المحسومات والعمليات.
ثم جاء الانحطاط مدة القرون الوسطى، وعمت الفاقة الناس، فأقفلت المدارس ولم يعد هناك جمهور قارئ يعيش معه النساخون، فندرت الكتب وزالت الطبقة المتوسطة، وجاءت المسيحية فزادت في تفاقم الكارثة، فإنها كافحت المدارس القديمة وحاربت العلماء، وانحصرت الثقافة عندئذ في صوامع الرهبان، وهؤلاء لم يقصدوا منها سوى غاية واحدة هي خدمة الدين، وهذا هو الانحطاط.
فإذا أنت أردت إن تلخص لنفسك معنى الانحطاط في القرون المظلمة، وكيف هجر الذهن البشري الفلسفة اليونانية والهندسة الإقليدية والنزعة العلمية الصناعية في رومية إلى الدين، والغيبيات في صوامع الرهبان، فاعلم أن هذا المعنى ينحصر في أن الثقافة قد أصبحت تخدم شئون العالم الثاني بدلا من أن تخدم الإنسان على هذه الأرض.
ففلسفة أرسطوطاليس أو أفلاطون لم يعد يقرؤها الناس كي يصلحوا هذا العالم، وينشدوا فيه سعادة دنيوية تزيد أجسامهم صحة وعقولهم نورا، ومدنهم نظافة وحكوماتهم عدلا، وإنما صاروا يدرسونها كي يعرفوا منها كيف يعيشون بعد الموت، وما هي الطبيعة الألوهية، وبعبارة أخرى نقول إن الانحطاط في القرون المظلمة إنما يعني انتقال الثقافة من البشرية والمادية، أي: خدمة البشر ومعالجة المادة، إلى الدينية أي: خدمة الدين والغيبيات.
ولهذا كانت النهضة قائمة على حركات بشرية، أي: النظر إلى هذه الدنيا كأنها الغاية التي ليس وراءها غاية تخدم، وإننا نحن البشر يجب أن تكون لنا آداب وفلسفات وعلوم لا تمت بأي صلة إلى الغيبيات، وإن علينا أن نعتمد على أنفسنا في تحقيق السعادة على هذه الأرض نفسها، وألا نزهد عنها إيثارا عليها للعالم الثاني، كما هي النظرة الغيبية، ومما يضر الشاب المصري ضررا كبيرا جدا أن نخدعه ونوهمه أن النهضة الأوروبية التي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى تعني شيئا آخر.
Página desconocida