مقدمة
القرون الوسطى
انحطاط الثقافة في القرون الوسطى
قصة الرقم 4
فضل العرب في القرون الوسطى
بذور الحركة البشرية الأولى
التفسير الاقتصادي للنهضة الأوروبية
رجل العلم ورجل الأدب
من موضوعية بيكون إلى مادية هوبز
داعية الشك الفلسفي
Página desconocida
أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية
العرب أصل النزعة العلمية
الحركة البشرية الثانية
الحركة البشرية الثالثة
اللغة والنهضة
كلماتنا العربية الأوروبية
قبل خمسمائة سنة
طبيعة الحضارة الأوروبية
الثقافة تؤدي إلى الحضارة
الديمقراطية: نظام المجتمع
Página desconocida
إني أخاف على وطني..
مقدمة
القرون الوسطى
انحطاط الثقافة في القرون الوسطى
قصة الرقم 4
فضل العرب في القرون الوسطى
بذور الحركة البشرية الأولى
التفسير الاقتصادي للنهضة الأوروبية
رجل العلم ورجل الأدب
من موضوعية بيكون إلى مادية هوبز
Página desconocida
داعية الشك الفلسفي
أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية
العرب أصل النزعة العلمية
الحركة البشرية الثانية
الحركة البشرية الثالثة
اللغة والنهضة
كلماتنا العربية الأوروبية
قبل خمسمائة سنة
طبيعة الحضارة الأوروبية
الثقافة تؤدي إلى الحضارة
Página desconocida
الديمقراطية: نظام المجتمع
إني أخاف على وطني..
ما هي النهضة
ما هي النهضة
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
نحن في نهضة فيجب أن نفهم معاني النهضة.
ويجب أيضا ألا نقف منها موقف المتفرجين، إذ علينا أن نعمل فيها ونعاونها، ونعيش اتجاهاتها نحو المستقبل.
النهضة ثراء وقوة وثقافة وصحة وشباب، ولكن قد يكون الثراء مؤلفا من نقود زائفة كما قد تكون القوة والثقافة والصحة والشباب خداعا وليس حقيقة. •••
Página desconocida
كان «ابساماتيك»، فرعونا على مصر. تولى الحكم فيما بين 666-712 قبل الميلاد، وهو مؤسس الأسرة السادسة والعشرين، وكلمة «مؤسس»، تعني: إنه كافح أعداء، ونصب أهدافا، ودرس وحقق.
ولكنه كان رجلا خالص النية في خدمة وطنه أكثر مما كان ذكيا بصيرا بمستقبل بلاده، وكان أعداء مصر يحيطون بها، فمن الغرب غارات، ومن الجنوب غارات. وفى الشرق هزائم، والمستقبل مظلم والأمة مفككة، وولاء الشعب موزع بين الكهنة والعرش، والدسائس لا تنقطع.
وفكر الرجل في نية خالصة، وعزم حديد فيما أصاب مصر، وذكر تلك القرون الأولى حين كان «خوفو» يقول: شيدوا لي هرما، فما هي إلا سنوات حتى يراه ينطح السماء. وكان ابساماتيك يرى الأهرام كما نراها نحن الآن، وكان يقرأ التاريخ فيرثي لبلاده وضعفها.
وفكر، ثم فكر، وانتهى أخيرا إلى أن مصر لن يعود إليها مجدها الغابر إلا إذا رجعت إلى تقاليد هؤلاء الأسلاف، فأحيت الشعائر القديمة، ودرست نصوص الديانة القديمة، ونهضت بالفنون أساليبها القديمة، بل زاد على ذلك بأن عاد إلى سقارة حيث الأهرام، أي: حيث قبور الفراعنة من الدولة القديمة، فقال بوجوب العودة إلى دفن الفراعنة فيها.
وحسب ابساماتيك أن هذه نهضة، مع أنه كان يفصل بينه وبين خوفو من السنين مثلما يفصل بيننا نحن وبين ابساماتيك نفسه. «عودوا إلى القدماء».
كان هذا شعاره، وكان شعار الأفلاس؛ لأن مصر كانت في عصره أسمى مما كانت أيام خوفو كما يمكن أن نعرف ذلك مما قام به خلفه «نيخاو» الذي هيأ سفنا تدور حول أفريقيا، أين بناء الأهرام من مثل هذا العمل العظيم؟
إن ظروفا جديدة نشأت في الدنيا المحيطة بمصر، وكانت تحتاج إلى استنباط جديد.
ولم تكن تحتاج إلى الرجوع إلى الوراء نحو 2500 سنة تقريبا.
ولم تمض على مصر بعد ذلك مئة سنة حتى كان الأعداء من الأشوريين والفرس يكتسحونها ويغتالونها، ولم ينفعها شعار: عودوا إلى القدماء. •••
فيما بين سنة 500 وسنة 1000 استولى الظلام على أوروبا.
Página desconocida
وكان ظلاما حالكا؛ لأن الثقافة كانت وقفا على الرهبان، يبحثون جغرافية العالم الآخر، وهم لا يدرون جغرافية هذا العالم، ويشرحون للناس كيف يجب أن يموتوا بدلا من أن يشرحوا لهم كيف يجب أن يعيشوا، ويشتبكون في مشكلات «ذهنية» أولى بها أن يبحثها الأطفال وأن يضحكوا منها، مثل قيمة الرقم 7 في الدنيا والآخرة، ومثل عدد الملائكة الذين يمكنهم أن يقفوا على رأس إبرة، ومثل مكان الروح من الجسم. الخ ...
كانوا يبحثون العقائد لا الحقائق.
ولكن رويدا رويدا تنبه الأوروبيون إلى أنهم جهلاء، ونظروا حولهم فوجدوا أن الأمم الإسلامية في إسبانيا وفي الشرق تحيا حياة القوة والذكاء، فقصدوا إليها يدرسون وينقلون مؤلفات ابن رشد، وابن سينا، وابن طفيل، وابن حزم، وغيرهم.
ثم لم يقنعوا بما ألفه المسلمون، إذ هم نقلوا أيضا للغة اللاتينية مؤلفات الإغريق القدماء التي كان المسلمون قد ترجموها إلى اللغة العربية، فعرفوا أفلاطون وأرسطوطاليس عن طريق اللغة العربية.
واستطاعوا أن يعرفوهم أكثر عندما هاجر الإغريق من القسطنطينية إلى أوروبا الغربية، فأصلحوا أخطاء الترجمة التي كان المترجمون المسلمون قد وقعوا فيها عندما نقلوا أرسطوطاليس وأفلاطون وغيرهما إلى اللغة العربية. •••
ومضى الناهضون يجترئون ويفكرون.
ولكن رويدا رويدا اتضح لهم أنهم قد خرجوا وتخلصوا من قدماء الكنيسة إلى قدماء الإغريق.
قدماء بدلا من قدماء.
وإن العرب لا يختلفون عن القدماء؛ لأنهم اعتمدوا عليهم، أي: على القدماء، حتى إن ابن رشد كان يعتقد أنه لم يخلق في العالم إنسان مثل أرسطوطاليس.
وعندئذ تساءل هؤلاء الناهضون: «هل المعارف الحقة الصادقة تؤخذ من الكتب القديمة أو تؤخذ من الطبيعة؟»
Página desconocida
فقد كانوا يدرسون الطب مثلا في كتب جالينوس وابن سينا، ولكنهم لم يكونوا يعرفون تشريح الجسم البشري.
وهنا نجد رجلا الماني الأصل سويسري الوطن، ولد في 1493، يدرس القدماء ثم يلعنهم بدلا من أن يبارك عليهم، هو «بارا كيلسوس».
والاسم عجيب، فإنه اختاره لنفسه وترك اسمه الميلادي، ومعنى هذا الاسم «فوق كيلسوس».
وكيلسوس هذا الذي أعلن أنه فوقه عالم روماني كانت له موسوعة تدرس في الجامعات أيام القرون الوسطى بل بعدها.
أي: إن بارا كيلسوس يقول: «أنا فوق القدماء، أنا فوق عالمكم المحترم كيلسوس».
ولم يكتف بهذا، فإنه كان يلقى محاضراته في مدينة «بازيل» باللغة الألمانية، وهنا قف قليلا:
ذلك أن التعليم كان إلى وقته وبعد وقته باللغة اللاتينية في جميع جامعات أوروبا، ولكنه هو أبى أن يلقي محاضراته بهذه اللغة القديمة.
كان شعبيا، كان عاميا، أي: كان مع الشعب.
واجترأ على أن يعلم بلغة العامة، اللغة الألمانية، وكان أول من أقدم على ذلك في أوروبا جميعها.
وكانت محاضراته خاصة بالطب والعلاج.
Página desconocida
وذات صباح بعد اختبار وقلق، وتساؤل وأرق، رأى أن يقف الموقف الحاسم في تاريخ أوروبا؛ بل في تاريخ الإنسان.
فلم يذهب إلى الكلية لإلقاء محاضراته كما كانت عادته.
ولكنه جمع مؤلفات ابن سينا ومؤلفات جالينوس، وحملها على ظهره إلى أن وصل وهو يلهث إلى ميدان المدينة، وهناك وضعها أمامه على الأرض وشرع يخطب:
إن القدماء ليسوا أفضل منا، وهم لا يعرفون مقدار ما نعرف.
إن دراسة القدماء نافعة، ولكن دراسة الطبيعة أنفع منها.
إن الكتب القديمة تحفل بالأخطاء، ولم يكن مؤلفوها معصومين.
إن الطب تجارب وليس تقاليد، إننا نتعلمه من الطبيعة وليس من الكتب.
واحتشد حوله، في سوق المدينة، أي: الميدان العام، فئات من الطلبة والأساتذة والعامة والخاصة، فلما انتهى من خطبته أشعل النار في كتب جالينوس وابن سينا. •••
لقد انطلقت في أيامنا حيوية جديدة في بلادنا تجدد القيم والأوزان في معاني الحياة والاجتماع والرقي، ولكننا لا نزال في اختلاط وارتباك وتردد لا نعرف هل نأخذ بالقيم القديمة أم بالقيم الجديدة.
ما هي النهضة؟
Página desconocida
هل هي القيم القديمة؟
إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى دعوة: «عودوا إلى القدماء».
هل نعيد مأساة ابساماتيك؟ هل يعني الرقي والتقدم أن ندفن موتانا في سقارة؟
القرون الوسطى
تطلق عبارة «القرون الوسطى» على فترة من الزمن تبلغ نحو ألف سنة، تبتدئ من سقوط الدولة الرومانية الغربية سنة 476 على يد الجرمان، وتنتهي بسقوط الدولة الرومانية الشرقية سنة 1453 على يد الأتراك، وبدهي أن هذا التحديد بالسنوات هو اصطلاح تاريخي فقط، وإلا فإن الواقع يثبت أن بذور القرون الوسطى ظهرت في الدولة الرومانية منذ القرن الأول للمسيح، كما أن هذه القرون لم تنته بسقوط القسطنطينية.
ولكي ندرك مدى الرقي الذي يتمثل في النهضة أو النهضات الأوروبية يجب أن نعرف عمق الانحطاط الذي سبق هذا الرقي.
أي: يجب أن نعرف الهاوية التى هوى إليها الفكر البشري في القرون الوسطى.
والقرون الوسطى غير «القرون المظلمة» وإن كان كثيرون يطابقون بينهما، والمعول عليه الآن أن تطلق صفة الظلام على السنين الخمسمائة الأولى، أي: من سنة 476 إلى سنة 976؛ لأن هذه الفترة كانت في أوروبا فترة الركود الفكري، أما بعد ذلك فإننا نجد بوادر النهضة وبواكيرها.
وقد قلنا: إن بذور القرون الوسطى ترجع إلى الدولة الرومانية، وهذه الدولة التي بقيت متماسكة خمسة قرون متوالية كانت قوتها تنحصر في هذا التماسك، ولكن منذ القرن الأول بدأت عوامل التفكك تعمل فيها حتى إذا كان القرن الثالث والرابع استفاضت الفوضى، وأغار الجرمان على جسم الدولة.
ولكن يجب هنا أن يذكر القارئ أن الغارة لم تكن أجنبية؛ لأن هؤلاء الجرمان كانوا منذ القرن الأول للميلاد يتسربون إلى الدولة ويسرون في عروقها، تؤلف منهم الجيوش الجرمانية المحضة لرد غارة الجرمان، ويعين منهم القواد، حتى إذا كانت الغارة الأخيرة لم يكن الجيش المغير أجنبيا؛ لأنه كان يجد أينما حل أناسا من الشعب الذي ينتمي هو إليه.
Página desconocida
وكان يربط الدولة أيام عزها جميعها إمبراطور يعبده جميع السكان ويضعونه في مصاف الآلهة، وكان لهم جميعهم قانون واحد تجري أحكامه عليهم هو القانون الروماني، وكانت الدولة مع ترامي أطرافها تتصل بالدروب الرومانية، فتنتقل أخبارها وجيوشها ومديروها بسرعة فائقة.
أما أيام الضعف والتضعضع فقد طرأ الفساد إلى مكامن القوة ومراكز الاتحاد، وأول ذلك أن استنت سنة في انتخاب الإمبراطور جعلت للجيش سلطانا على الانتخاب، فصار هو الذي يولي ويعزل، وصارت الحروب الأهلية تنشب بين جيوش الدولة؛ لأن بعضها يناصر إمبراطور دون الآخر.
ثم دخلت المسيحية فمحت عبارة الإمبراطور ومحت بذلك وحدة الدولة ووحدة الولاء، وتفشى الترف في القصر أو القصور الإمبراطورية، وكثرت تكاليفها، وأصبحت تكاليف الجيش عبئا كبيرا على المنتجين في الأمة، وهم جمهور المزارعين، فزادت بذلك الضرائب وصارت جبايتها التزاما لا يعرف المزارع كم يجب عليه أن يؤدي، وإنما على الملتزم أن يؤدي للدولة مبلغا معينا من المال من ناحيته، وله لقاء ذلك حق الاستعانة بالجيش في هذه الجباية الظالمة التي كانت تقع بأشدها على المزارعين النشيطين، واستوى بهذه الضرائب المجد والمتراخي؛ لأن الملتزم صار يأخذ كل ما يجده من الغلات، وصار الفلاحون يهجرون القرى إلى المدن حتى اضطر الإمبراطور إلى منعهم من هجرة قراهم.
ومن هذا المنع نجد البذرة الأولى للعهد الإقطاعي، حين أصبح الفلاحون عبيدا لمواليهم، وقد بقيت العبودية في فرنسا إلى سنة 1789 حين هبت الثورة الكبرى، ففي مدة القرون الوسطى نجد أنه كان لا يجوز للعامل في الضيعة أن يتركها إلا بإذن مولاه.
ثم كان تفشي الرق سببا آخر للضعف والسقوط، وامتلأت الدول بالأسرى الذين بيعوا رقيقا، ووجد أصحاب الضياع أن استخدام العبيد خير من استخدام العامل المأجور وأوفر عليهم وأبلغ ربحا، فاستكثروا من العبيد، وعمت الفاقة طائفة العمال الرومانيين.
وساءت الزراعة وقلت الحاصلات، فاضطرت المدن الكبرى إلى أن تتجر وتتبادل سلعها مع الأقطار البعيدة دون الريف الروماني، فانتقلت النقود من رومية إلى هذه الأقطار، وقلت بين الرومانيين، حتى كان الأباطرة ينزلون عيار الذهب في الدينار من وقت لآخر، أي: أن النقد «تضخم» فنقصت قيمته وزادت أثمان السلع، وعمت الفاقة، وتناقص السكان، وكان هذا التناقص مغريا لقبائل الجرمان بالتسرب والانسلال رويدا ثم الغارة الأخيرة.
وقد ذكرنا المسيحية من حيث إنها محت الوحدة الرومانية التي كانت تتجسم في عبادة الإمبراطور، ولكن دخول هذه الديانة الجديدة على ما نرى فيها من سمو المبادئ ونبالة الحياة التي تنشدها، كان سببا كبيرا في هدم الدولة، فقد حدث شقاق بين أبناء الأمة قطع اتحادها، وحسب القارئ أن يعرف أن «قسطنطين» أول الأباطرة الذين آمنوا بالمسيحية ترك رومية، وأسس هذه العاصمة الجديدة في شرق الدولة لكي لا يرى المعابد الوثنية، وهو في ذلك مثل «إخناتون» حين هجر طيبة ورحل إلى تل العمارنة يؤسس عاصمة جديدة لا يرى فيها صنم آمون، وإنما يرى رع.
وظهرت الكنيسة منذ أول ظهورها بمظهرها الذي عرفت به أيام القرون الوسطى، فأحرقت الكتب وهدمت الأصنام والمعابد؛ ولذلك يجب أن نرد «محكمة التفتيش» التي استطار شرها مدة القرون الوسطى إلى هذه البذرة الأولى التي ألقتها الكنيسة أيام تضعضع الدولة الرومانية.
والقارئ لتاريخ الدولة الرومانية لا يسعه إلا أن يقابل بين تضعضعها ثم سقوطها وبين ما جرى للدولة العباسية في بغداد.
فالجرمان وانسلالهم إلى جسم الدولة، ثم غارتهم الأخيرة، يشبهون الأتراك وانسلالهم إلى جسم الدولة العربية في بغداد ثم طغيانهم ثم محو الدولة على أيدى المغول، وجباية الضرائب وانحطاط الزراعة في العراق لا يختلفان كثيرا عما كانت عليه الحال في إيطاليا، حتى المقابلة في الآداب لتجوز هنا أيضا.
Página desconocida
فإن الأدب العربي في القرنين الأول والثاني لا يعرف التزاويق والألاعيب البلاغية، وهو في ذلك مثل الأدب الروماني في القرنين السابق والتالي للميلاد المسيحي، ثم يشترك في التزاويق السخيفة ويذهب اللباب، وينحط التفكير وتبقى القشور والبهارج، وينسى الرومانيون لغتهم اللاتينية، وينسى العرب لغتهم العربية.. ويأخذ أمراء الجرمان في تأسيس الإمارات المستقلة عن رومية، ويأخذ أمراء الأتراك والمماليك في تأسيس إماراتهم المستقلة عن الخلافة.
وكما أعقب الدولة الرومانية قرون من الظلام ساد فيه التنطع الديني، كذلك أعقب الدولة العباسية قرون من الظلام ساد فيه هذا التنطع نفسه.
انحطاط الثقافة في القرون الوسطى
ليس شك في أن السبب الأساسي لانحطاط الثقافة أو ارتقائها أو صبغها بلون خاص، وتوجيهها إلى ناحية معينة دون أخرى هو السبب الاقتصادي، فإن الحال الاقتصادية كما تقرر لون الحضارة الراهنة كذلك هي إلى حد بعيد، تقرر لون الثقافة الراهنة، ويكفي القارئ أن يعرف هنا أن الثقافة في أيامنا لا تفشو وتتفرع، وأن التوليد في الفنون لا يزكو، إلا إذا كثر القراء وتوافرت المدارس، وتعددت المطابع، وراجت سوق الكتب وصار العلم والأدب يدر على العالم أو الأديب ربحا، وهذه حال تحتاج إلى الثروة والسعة والرخاء، أما إذا ضاقت البلاد بعيشها، فلم تستطع إنشاء المدارس للكافة وتغذية المطابع وإعالة العاملين في الأدب والفنون والعلوم فإن ميدان الثقافة يضيق، ويكون من ضيقه ضمور الذهن الإنساني بل ضمور الشخصية الإنسانية.
فعلى القارئ أن يذكر أن وراء كل نهضة ثقافية حركة اقتصادية بعثت عليها ونبهت إليها، ونحن نقنع الآن بأن نشير إلى أن ميدان التجارة أوفق للثقافة من ميدان الزراعة، فميدان الزراعة لركودها يقنع بما يشاكلها من ثقافة راكدة، بينما التجارة تطوف في أنحاء العالم وتفتح الطريق للجغرافيا والتاريخ والملاحة والفلك، بينما الصناعة تحتاج إلى مكتشفات متوالية عن الكيمياء والطبيعيات وغيرهما من العلوم.
كانت ثقافة مصر «الزراعية» في أكثرها عقائد جزمية ومعارف مشتقة تخدم الدين. ولم يكن المصريون يعرفون النظرية أو الرأي، بل يمكن أن نقول إن أدبهم وفلسفتهم لم يستقلا يوما من الأيام عن الدين، ثم ظهرت يونان «التجارية» فظهرت الفلسفة مستقلة من الدين كما استقل الأدب أيضا منه، ثم ظهرت النظرية الهندسية، وعرف شيء من الطبيعيات، ثم ظهرت روما «الصناعية» التي كان يتعجب اليونانيون أنفسهم مما فيها من منشآت هندسية، فزكت الثقافة وبعدت عن الرجم الفلسفي الذي كان يحبه الإغريق، واتجهت نحو المحسومات والعمليات.
ثم جاء الانحطاط مدة القرون الوسطى، وعمت الفاقة الناس، فأقفلت المدارس ولم يعد هناك جمهور قارئ يعيش معه النساخون، فندرت الكتب وزالت الطبقة المتوسطة، وجاءت المسيحية فزادت في تفاقم الكارثة، فإنها كافحت المدارس القديمة وحاربت العلماء، وانحصرت الثقافة عندئذ في صوامع الرهبان، وهؤلاء لم يقصدوا منها سوى غاية واحدة هي خدمة الدين، وهذا هو الانحطاط.
فإذا أنت أردت إن تلخص لنفسك معنى الانحطاط في القرون المظلمة، وكيف هجر الذهن البشري الفلسفة اليونانية والهندسة الإقليدية والنزعة العلمية الصناعية في رومية إلى الدين، والغيبيات في صوامع الرهبان، فاعلم أن هذا المعنى ينحصر في أن الثقافة قد أصبحت تخدم شئون العالم الثاني بدلا من أن تخدم الإنسان على هذه الأرض.
ففلسفة أرسطوطاليس أو أفلاطون لم يعد يقرؤها الناس كي يصلحوا هذا العالم، وينشدوا فيه سعادة دنيوية تزيد أجسامهم صحة وعقولهم نورا، ومدنهم نظافة وحكوماتهم عدلا، وإنما صاروا يدرسونها كي يعرفوا منها كيف يعيشون بعد الموت، وما هي الطبيعة الألوهية، وبعبارة أخرى نقول إن الانحطاط في القرون المظلمة إنما يعني انتقال الثقافة من البشرية والمادية، أي: خدمة البشر ومعالجة المادة، إلى الدينية أي: خدمة الدين والغيبيات.
ولهذا كانت النهضة قائمة على حركات بشرية، أي: النظر إلى هذه الدنيا كأنها الغاية التي ليس وراءها غاية تخدم، وإننا نحن البشر يجب أن تكون لنا آداب وفلسفات وعلوم لا تمت بأي صلة إلى الغيبيات، وإن علينا أن نعتمد على أنفسنا في تحقيق السعادة على هذه الأرض نفسها، وألا نزهد عنها إيثارا عليها للعالم الثاني، كما هي النظرة الغيبية، ومما يضر الشاب المصري ضررا كبيرا جدا أن نخدعه ونوهمه أن النهضة الأوروبية التي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى تعني شيئا آخر.
Página desconocida
هذه النهضة تتضح لنا في ثلاث حركات بشرية: (1)
الحركة البشرية الأولى:
وهي التي ظهرت على أشدها في القرن الخامس عشر في إيطاليا ثم انفجرت في أوروبا، وقد اغتذت بدرس الإغريق والرومان، وأخرجت الفنون الجميلة من قيودها الدينية السابقة، فجعلتها تخدم البشر.
ولم يتجه الأدباء إلى الإغريق والرومان كي يحاكوهم، فإن المحاكاة في نفسها انحطاط، وإنما هم اتجهوا إليهم؛ لأنهم رأوا منهم أشخاصا يشبهونهم من حيث الرغبة في مزاولة الفنون والعلوم والصناعات نشدانا للسعادة والاستمتاع في هذه الدنيا، فاتجاههم هذا ليس سببا أصليا للنهضة وإنما هو إحدى نتائجها، أما السبب الأصلي فيرجع على الأرجح إلى عوامل اقتصادية، وقد تستطيع أن تقول بعد ذلك إن وقوف الأوروبيين على ثقافة الإغريق والرومان قد دفعهم إلى الأمام في نهضتهم، وقد يكون هذا صحيحا، ولكننا عندئذ لا نرى في هذا الدفع سوى أن النتيجة السابقة قد استحالت إلى سبب.
وكما اتجه الناهضون من الأدباء إلى الإغريق والرومان كذلك اتجه العلماء منهم إلى العرب، فعرفوا الطريقة الجديدة في درس العلوم بالتجربة ونشدان الفائدة العملية المحسوسة منها. (2)
لحركة البشرية الثانية:
التي ظهرت في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، وكان القائمون بها ديدرو، وفولتير، وروسو وغيرهم من الأدباء والفلاسفة، وهي الحركة التي أعدت العدة الذهنية للثورة الفرنسية الكبرى، بل كانت هي نفسها الثورة التي كان منها إعلان حقوق الإنسان، وهي حقوق مازال كثير من الأمم محرومين منها إلى الآن. (3)
الحركة البشرية الثالثة:
هي التي ظهرت عقب ظهور داروين وكتابه «أصل الأنواع» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنها سمت بالإنسان إلى مركز السيادة للدنيا، وجعلته ينظر إلى مستقبله كأنه طوع إرادته، وهي حركة ما زلنا نحن في غمرتها ولم ننته إلى نهايتها.
وإذا تأمل القارئ هذه الحركات الثلاث كما سنفصلها ألفى هذا الذي نقوله صحيحا، وهو أن النهضة لم تعن في الماضي، وهي لا تعني الآن شيئا، سوى «البشرية» أي: إن البشر، أو الإنسان، يجب أن يشتغل ويعتمد على نفسه في هذا العالم، ويعمل لحضارته وسعادته في جراءة وفهم، إذ ليس له في هذا الكون كله ما يعتمد عليه سوى عقله، وليس له خلاف هذا العالم عالم آخر يمكنه أن يطمع في تحقيق سعادته فيه، وأن الانحطاط لم يعن في القرون الوسطى، وهو لا يعني الآن في الشرق أو الغرب، سوى قصر الذهن البشري على خدمة «ما وراء الطبيعة» ونشدان السعادة والهناءة في غير هذه الأرض، والاقتصار من الفنون والعلوم على خدمة الآراء بل العقائد الدينية.
Página desconocida
قصة الرقم 4
لو إننا سألنا عن السمة الغالبة للتفكير في القرون الوسطى لكان الجواب إنها السمة الغيبية.
ومعنى ذلك أن المؤلف كان ينظر للأشياء نظرا غيبيا لا يبرره العقل، وإنما تبرره العقائد، أي: إنه كان يرى أو يشعر بقوة خلف الظواهر الطبيعية، وهذه القوة لا تنزل على أصول العقل، فالنظر الغيبي يقتضي الإيمان بالسحر والشياطين وحساب الجمل والتنجيم، وهذه كلها نراها واضحة عند جميع المؤلفين الذين كتبوا في القرون المظلمة.
ولكن هذه السمة تستتبع سمات أخرى منها، إننا نعدم الثقافة المنظمة، ونجد بدلا منها معارف ليست لها غاية أو هدف، ومنها أن المؤلف، وإنما هو يبغي خدمة الكنيسة، يتجه بتأليفه نحو خدمة الشعب، ومنها العناية بالسلف والشعور بأن النقص الذي نراه في العالم سواء في الأخلاق أو الحكومة أو غيرها إنما هو فساد حاضر حديث بعد اصلاح سابق، وأن السبيل إلى معالجته تقتصر على الرجوع إلى طريق السلف دون التفكير في ابتكار طريقة جديدة للمستقبل.
ويجب أن نقول: إننا نحن أنفسنا لم نتخلص إلى الآن من هذا النظر الغيبي كل التخلص، والكتب العربية القديمة وبعض الحديثة تنظر هذا النظر في كثير من النواحي.
وإذا نظرنا نظرة عاجلة في كتاب «حياة الحيوان» للدميري وجدنا أن هذا الموضوع العلمي، أي: الحيوان، ينظر إليه المؤلف نظرة غيبية، ونجد فيه هذه السمات: (1)
أنه يتكلم أحيانا عن السحر والعفاريت كأنها حقائق ملموسة. (2)
أنه ينظر إلى السلف كأنهم المثل الأعلى، ويعتمد في معارفه على رواية الكتب القديمة. (3)
أنه يرى أن الغاية الوحيدة للمعارف هي خدمة الدين، ولذلك لا ينسى عندما يتكلم عن البرغوث أو الصرصور أن يقول هل أكلهما حلال أو حرام؟ (4)
أن المعرفة عنده ليست ثقافة يقصد منها إلى غاية معينة، وإنما هي حقائق تحتشد في ذهنه بلا نظام أو قصد، حتى لقد أدمج في حياة الحيوان تراجم الخلفاء وتكلم فيه عن الطب، والشريعة، والصرف، والنحو، والفلك.
Página desconocida
وقد اخترنا «حياة الحيوان» لأن هذا الموضوع، الحيوان، لا يمكن إلا أن يكون موضوعا علميا تدون فيه المشاهدات ويقتصر عليها، ولكن كتاب القرون الوسطى لم ينسوا عند ذكر الحيوان قصة الهدهد مع سليمان يضيفونها جنبا إلى جنب مع مشاهدة علمية دقيقة، فهم ينظرون للدنيا نظرا غيبيا، ويعتمدون في كل ما يكتبون على السلف، وقد يحق لنا أن نقف هنا فنتساءل: لماذا نظر الناس في تلك القرون هذه النظرة الغيبية؟ ولماذا لم يسيروا على النهج الذي نهجه الإغريق القدماء مثل أفلاطون أو أرسطوطاليس؟
وهنا يجب أن ننبه إلى أن هذا النظر الغيبي يرجع في بعض نواحيه إلى الإغريق، كما يتضح من أفلاطون، ثم إن الانحطاط الذي شمل الدولة الرومانية وما أعقبه من فوضى قد حصرا التعليم بين طبقة صغيرة جدا من الناس، وإذا انحصر التعليم كبر في ذهن المتعلم شأن السلف، ثم إن مقاومة الدين للثقافة القديمة وإلغاء المدارس الوثنية جعلا التعليم كله دينيا فأصبح المتعلم، الذي نشأ على الفصل بين الروح والجسم، والإنسان والشيطان، ينظر هذه النظرة نفسها إلى الأشياء الأخرى ويصر، بالعقلية التي اكتسبها من التعليم الديني، على أن يرى في الكواكب والأرقام معاني أخر غير ظاهرهما الطبيعي، ثم لما اعتمد المتعلمون الاعتماد الكلي على السلف زالت ثقتهم بأنفسهم، فكفوا عن التفكير والابتكار واتجه نظرهم إلى الماضي دون المستقبل.
ويمكننا دون أن نخطئ أن نسمي القرون المظلمة، سواء بين العرب أو الغربيين، بالقرون الغيبية، وهي سواء عند الاثنين في السمات، هنالك نجد العلم في الأديان يحمله الرهبان، وهنا نجد الغيبيات تغير على الكيمياء والشعر والتاريخ والأدب عامة.
وارجح الظن أن النظر الغيبي لم يبلغ عند العرب ما بلغه في أوروبا؛ ولذلك يمكننا أن نقول: إن الظلام لم يعم العالم العربي بالمقدار الذي عم به العالم الأوروبي، وإن كنا نحن ما زلنا نتعثر بهذا النظر الغيبي إلى وقتنا هذا.
وقد ذكرنا كتاب «حياة الحيوان» للدميري، ونحن نذكر إلى جنبه كتابا آخر لراهب إنجليزى يدعى «برتفرت» الذي مات سنة 1011 للميلاد حين انحدر الذهن الأوروبي إلى أحط دركاته، والكتاب خليط من المعارف، يكفي القارئ ان ننقل منه هذه النبذة من كلام المؤلف عن الرقم 4 حيث يقول: «إن الرقم 4 هو رقم كامل وهو يتحلى بفضائل أربع هي: الاستقامة، والاعتدال، والجلد، والتصبر، ثم هذا الرقم يتتوج بالفصول الأربعة في السنة، وهذه أسماؤها: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، ثم هو تزينه أيضا مذاهب الإنجيليين الأربعة الذين يقال إنهم الحيوانات الأربعة التي ذكرت في كتاب حزقيال النبي المشهور، ثم هذا العدد هو عدد محترم إذ انه اسم الله «في اللاتينية» وهو أيضا اسم أول إنسان خلقه الله وهو آدم، ثم هو رقم له جاذبية لا يمكن أن نمر بها ونحن سكوت، وأنا أعني بذلك أن هناك زمنين للاعتدال الشمسي، وزمنين للانقلاب الشمسي، وهناك أربع رياح أصلية هي الرياح الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية.
وهناك أيضا أربعة عناصر: الهواء، والنار، والماء، والتراب، وهناك أربع جهات للدنيا هي: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، وإذا درسنا هذه الأجزاء بعناية وجدناها جميعها في اسم «لآدم» طبقا للأعداء الإغريقية» ا.ه.
وقليل من المؤلفين العرب من انحط إلى هذه الدرجة، بل لا أكاد أعرف واحدا بلغها، وهو، أي: برتفرت، في كل ما يقوله يعتمد على أحد الثقات من السلف حتى جدول الضرب لا يأتمن فيه نفسه بل يرده إلى أحد السالفين، وعنايته بالألفاظ لا تقل عن عناية الدميري.
على أن هذه القطعة التي نقلناها تدل القارئ على النظر الغيبي، وهو أنه يرى علاقة واضحة بين الاسم اللاتيني لآدم وبين ظواهر الكون، أي: إن الإنسان «كما قال ابن سينا» هو العالم الأصغر للعالم الأكبر، ومن هنا تبرير التنجيم لأننا نحن والنجوم من طبيعة واحدة، بل من هنا نسبة الصفات الإنسانية للأرقام والأجسام والإيمان بالسحر والأرواح والشياطين.
وقد تخلصنا من كثير من هذه الثقافة المظلمة، ولكن النور الجديد، نور العلم، لم يقشعها كلها.
فضل العرب في القرون الوسطى
Página desconocida
عندما نقرأ كتب التاريخ الأوروبية نجد أخبارا صغيرة تطفو على تيارات الحوادث نفطن منها إلى الدخائل المستورة في الاتقاء الأوروبي وتطور الثقافة، ونلمح فيها عقول العرب وأيديهم.
فمن ذلك مثلا إننا نجد أن الأوروبيين كانوا يرحلون إلى مدن الأندلس كي يتعلموا فيها كما يرحل أبناؤنا هذه الأيام إلى مدن أوروبا لمثل هذه الغاية.
ثم هناك أيضا هذه التهمة التي كان يتهم بها المفكرون مثل «روجر بيكون» فإن هذا الراهب الذي قال بالتجربة العلمية ودعا إلى الاختراع والإيمان اتهم بالإسلام؛ لأن المسلمين كانوا في ذلك الوقت دعاة للعلوم، فكانت كل فكرة جديدة تعزى إليهم ويتهم قائلها بالكفر لهذا السبب، أي: إنه لم يكن مسيحيا مخلصا، إذ هو قد أخذ بعادات المسلمين في التفكير، ولا بد أنه آمن كذلك بدينهم.
حتى جاء «جان دارك» التي حاربت الإنجليز وطردتهم من فرنسا، عندما قالت بأنه يجب ألا يكون هناك وسطاء بين الإنسان وربه «مثل الكهنة» اتهمت أيضا بالإسلام، إذ ليس في الإسلام كهنة.
وكلنا يعرف قصة «روجر الثاني» ملك صقلية الذي استخدم العالم الجرافي المسلم الإدريسي، فإنه استقدمه من إفريقيا الشمالية وكلفه تأليف كتاب في الجغرافيا كما كلفه أيضا أن يصنع له كرة تمثل الأرض، وقد صنعها له من الفضة، وهذا في الوقت الذي لم يكن الأوروبيون يسلمون فيه بكروية الأرض.
وإلى هذا أيضا يجب أن نذكر عشرات الكتب العربية التي ترجمت أي: اللغة اللاتينية التي كانت لغة الثقافة إلى القرن السادس عشر.
وقد كان العرب فيما بين سنة 700 وسنة 1300 ميلادية أرقى الأمم في العالم كله بلا استثناء، وعلة ذلك إنهم كانوا يملكون البحار، وكان البحر المتوسط أقرب إلى أن يكون بحيرة عربية من أن يكون مجازا للملاحة الدولية، ثم كان المسلمون من العرب وغير العرب، يقطنون أقاليم متراحبة من الصين شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا، وهذا التراحب جعلهم يختلطون بالكثير من الأمم ويعرفون الكثير من الصناعات والتجارات.
ولنضرب مثالا على ذلك موسى بن ميمون الفيلسوف المصري اليهودي أيام صلاح الدين، فإنه كان يقيم في القاهرة، وكان له أبناء يتجرون بالجواهر وغيرها فيما بين الهند شرقا والأندلس غربا.
وأعظم ما يرقى بالثقافة ويزيد المعارف، ويحرك النقد بالمقارنة هو الاختلاط بين الأمم؛ ولذلك كانت الأمم العربية، لاتساع رقعة الأقطار التى كانت تسكنها، ولاختلاطها بالعديد من الأمم، على اتصال بالثقافات وعلى اختمار وتطور لا ينقطعان.
ونستطيع أن نقول إن هذا الاتساع العربي كان أحد الأسباب، بل ربما أعظم الأسباب، للنهضة الأوروبية التي انفجرت في القرن الخامس عشر، ذلك أن العرب نقلوا إلى أوروبا أربع وسائل للثقافة هي: (1)
Página desconocida
الأرقام الهندية. (2)
صناعة الورق. (3)
الكتب الإغريقية القديمة. (4)
التجربة العلمية.
ولنبدأ بالوسيلة الأولى وهي الأرقام، فإنهم في أوروبا يسمونها «العربية» ونحن نسميها الهندية، وهذه الأرقام هي الآن لغة العالم، ومن المحال قطعا أن يتقدم العلم بلا أرقام، ونعني بلا أرقام هندية، وقد كانت الأرقام الشائعة في أوروبا قبل ذلك هي الأرقام اللاتينية التي لا تصلح إلا للعد البسيط، أما حيث نريد الآلاف والملايين، فإنها لا تصلح بتاتا.
وبظهور هذه الأرقام في مدن أوروبا شرع العلم يخطو.
ومن عجيب ما نذكره أن الأرقام الأوروبية هي أرقامنا الأصلية التي سلمناها إلى أوروبا، ولا يزال المغرب الأقصى يستعملها، أما أرقامنا الحاضرة فجديدة، ولا تزال كلمة «الصفر» مستعملة بهذا اللفظ في أوروبا للمعنى الذي نقصده منه في حسابنا، وكذلك كلمة «الجبر» وهو اختراع عربي صرف.
وإذا كان فضل الاختراع للهنود في هذه الأرقام فإن فضل نقلها إلى أوروبا وإشاعتها في أنحاء العالم للعرب، وإذا كانت أوروبا تعتز بالعلم، وهو قوتها وحضارتها، فإن هذا العلم ما كان لينشأ أو ينمو بدون الأرقام الهندية.
ثم هناك الورق الذي عرف العرب صناعته في الصين وأقطار المغول والتتار، فنقلوا هذه الصناعة إلى إفريقيا ثم إلى الأندلس، ثم إلى أوروبا.
وهل يمكن أن تكون هناك ثقافة، ونعني ثقافة عصرية تصل إلى أفراد الشعب بالجريدة اليومية مثلا، بلا ورق؟
Página desconocida
هذا غير ممكن.
لقد عرفت الأمم القديمة «ورق» البردي المصري، ولكنه لم يكن يكفي الحضارة المصرية، ولم يكن ليتسع لضروب الإتقان والدقة في إبراز الحروف مثل الورق المصنوع، حتى يجعل القراءة ميسورة واضحة تحب ولا تمج.
الأرقام العربية والورق هما بلا شك أعظم الوسائل للثقافة وللحضارة الأوروبيتين أو الغربيتين في العصر الحاضر، والفضل في نقلها إلى القارة الأوروبية يعود إلى العرب، والعرب وحدهم.
بقي هناك فضل ثالث يقول به الأوروبيون ويكبرون من شأنه، هو أن العرب نقلوا بعض الكتب الإغريقية القديمة، مثل مؤلفات أرسطوطاليس أفلاطون وفيثاغورس ونحوهم، إلى العربية، فنقل الأوروبيون هذه المؤلفات من العربية إلى اللاتينية.
واعتقادي أن الفضل هنا ليس كبيرا، وقيمته إنسانية أكثر مما هي ثقافية، أي: إنها ربطت أوروبا بالإغريق القدماء، وفتحت لهم آفاق الماضي وجعلتهم على وجدان بأن الثقافة البشرية موصولة وليست مقطوعة، وبكلمة أخرى نقول: إن قيمة الثقافة الإغريقية التي نقلها العرب، ثم الأوروبيون عن العرب هي تاريخية، ودراسة التاريخ هي دراسة إنسانية أكثر مما هي أدبية أو علمية.
بل نستطيع أن نقول إن دراسة الإغريق القدماء قد عطلت أحيانا الارتقاء الثقافي، فإن «فكريات» أفلاطون جمدت التفكير البشري، بل لاتزال تجمده، كما أن أرسطوطاليس كان عبئا على الثقافة الأوروبية بضعة قرون؛ لأن كلماته كانت مقدسة، حتى أن برلمان باريس عين عقوبة لكل من يخالفه أو يعارضه.
إن الحضارة الأوروبية الحاضرة هي حضارة العلم الذي ينهض على التجربة، وقوة أوروبا هي قوة الصناعة التى تنهض على العلم.
وفيما بين سنة 1000 وسنة 1300 لا نكاد نعرف أمة تؤمن بالتجربة وتقبل عليها غير الأمم العربية، فصحيح أن كثيرا من تجاربها كان مخطئا، إذ كان القائمون بها ينشدون هدفا خياليا هو إحالة المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، ولكنهم في غضون هذه التجارب عثروا على معادن ثمينة في الكيمياء كان لها بعض الشأن في الطب وغيره.
ولكن ليست العبرة بما عثروا عليه، وإنما بالأسلوب الذي اتبعوه، وهو الوصول إلى المعارف الجديدة بالتجربة اليدوية، وهذا هو العلم.
لأن العلم ليس تفكيرا مجردا يفكر به العالم وهو على كرسيه أمام منضدته فقط، فهذا التفكير وإن يكن ضروريا يحتاج إلى التصحيح والتطبيق بالتجربة في المعمل ثم المصنع، وهذا هو الأسلوب الذي يعزى إلى علماء العرب.
Página desconocida
والأمة العربية في عصرنا الحاضر قد تخلفت عن أوروبا؛ لأنها أهملت العلم والصناعة، ولن تستطيع أن تستعيد مكانتها في قافلة الارتقاء البشري إلا إذا أخذت بالعلم والصناعة.
بذور الحركة البشرية الأولى
كلما ذكر الإنسان القرون الوسطى خطر للذهن تسلط الكنيسة وحجرها على الحرية الذهنية، وليس شك في هذا التسلط وهذا الحجر.
ولكن يجب ألا ننسى أن الانحطاط لا يعني أن هناك أذهانا متنبهة قد حجرت عليها الكنيسة وصارت تمنعها من التفكير الحر؛ لأن هذه الحال هي حال اليقظة والتنبه على الرغم من هذا الحجر، وإنما حقيقة الانحطاط في القرون الوسطى تعني أن الذهن البشري نفسه قد انحط، فصار ينظر إلى الدنيا من زاوية العقيدة والمذهب، وأخذت العقائد مكان الآراء، والجزم مكان الشك والبحث.
فمنذ القرون الأولى للمسيحية أخذ الناس، أو تلك الأقلية التي كانت تقرأ، يدرسون لغاية واحدة هي خدمة الدين، وعندئذ أصبح الرجل المثقف، وهو في الغالب راهب، يدرس السموات السبع كما ندرس نحن الآن جغرافية إفريقيا، وهو يفعل ذلك، لا؛ لأن الكنيسة تمنعه من درس الطبيعة أو العلم بل؛ لأن هذا هو مزاجه الذي اكتسبه بعد مئات من السنين عدم فيها الناس كتب الإغريق والرومان أيام نهضتها وأصبح الكتاب المقدس موضوع درسهم يقرءونه ويغلقون عليه.
وهذا هو «العصر الجليدي» الذي أصاب الذهن البشري في أوروبا، إذ أصبحت الفلسفة غيبيات غايتها إثبات حقائق الدين ورواية الرسل، وزال الروح العلمي تمام الزوال، فإن هذا الروح كان قد ابتدأ بداية ضعيفة جدا في الإسكندرية، ولكنه ما كاد ينهض حتى مات عقب زوال البطالمة، وبقيت الحال على ذلك إلى أن عاد يتعثر على أيدي العرب في الأندلس.
والمشهور عن القرون الوسطى أن النقل فيها أخذ مكان العقل، ولكن هذا القول ليس صادقا بأكمله، فإنه إذا كان من المسلم به أن العلماء الرهبان كانوا يعتمدون كثيرا على الرواية وما يشبه العنعنة، فإنهم كانوا يعتمدون في أواخر القرون الوسطى على العقل، وذلك إنهم كانوا يفكرون، ولكن تفكيرهم لا يخرج عن حدود الدين؛ ولذلك جعلوا الفلسفة الأوروبية لاهوتا، ولذلك أيضا نجد في النهضة الأوروبية ثلاث نزعات ذهنية مختلفة تناقض نزعات القرون الوسطى. (1)
النزعة الأولى:
هي الرجوع إلى القدماء في الفنون، وتكاد هذه الحركة تكون نزعة وثنية، فإننا نرى الرسام أو المثال، مع رغبته في خدمة الدين، لا يتقهقر أمام موضوع وثني، فإنه يرسم أو ينحت الآلهة كما يرسم أو ينحت الملائكة أو العذراء؛ لا يشعر وهو يفعل ذلك أنه قد تلبس بالكفر والإثم كما كان يشعر أسلافه بين القرنين الثالث والعاشر. (2)
النزعة الثانية:
Página desconocida
هي درس الكتب التي لا تتصل بالدين، كأن الإنسان قد يشعر في النهضة أن آفاق الذهن تتسع لغير الدين، وأنه يجب عليه أن يحقق السعادة في هذه الدنيا، وهذه الحركة تسمى «الحركة البشرية»؛ لأن الناهضين اعتمدوا فيها على درس المؤلفات البشرية زيادة على درس المؤلفات الدينية. (3)
أما النزعة الثالثة:
فهي الحركة العلمية، وهذه لقيت بذرتها الأولى في الأندلس عند العرب، وتكاد تكون اكتشافا جديدا للدنيا؛ لأنها اعتمدت على التجربة.
والقرون الوسطى لم تنته بتاريخ معين، فإن سنة 1453 هي حد عرفي لنهايتها، ولكنها كانت في الحقيقة تنزاح عن الأذهان كما ينزاح الليل رويدا رويدا؛ ولذلك نجد بعد القرن الحادي عشر اضطرابات ذهنية، كأنها ارتكاض الجنين في الرحم، تنذر بالميلاد القادم، ونحن نذكر هنا رجلين عاش كلاهما في القرون الوسطى ونزع كلاهما نحو النهضة.
وأولهما هو أربيلا (1079-1142) فإنه كان رجل دين قبل كل شيء، ولكنه دعا إلى الشك وجعل منه أساسا للإيمان الصحيح، وعنده إننا إذا اصطدمنا بشيء لا يتفق مع العقل وجب علينا أن نعود للضمير، وهو يعتقد أنه ليس شيء في الدين لا يتفق والعقل، ولكن إذا استبهم علينا شيء من ذلك فإن علينا أن نلجأ إلى ضميرنا، ومع أنه قال ذلك في حذر، بل في اعتذار، فإن مؤلفاته حرمت بأمر من البابا.
وأما الثاني فهو توماس الاكويني (1225-1274) فإنه ألف في التوفيق بين العقل والدين، وهذا التوفيق هو في النظر الحديث تلفيق.
ولكنه مع ذلك محاولة من المحاولات الأولى للخروج من قيود الجزم إلى ميدان الرجم أو الخروج من النقل إلى العقل، فهو مثلا يعصر ذهنه كي يصل إلى استنتاجات منطقية تثبت وجود الله، ثم يبرر وجود الدين بأثره في الأخلاق، بما فيه من زواجر تزجر عن الشر والعدوان.
ففي كلا الرجلين نرى جراءة على التفكير، ولكنا نرى ما هو أحسن من الجراءة في ذلك الزمن، وهو الرغبة في درس الكتب الأخرى التي لا تمت إلى الدين، فكلاهما يدعو إلى الثقافة البشرية وإلى درس الكتب الوثنية القديمة.
وهنا إذن نوى بذرة هذه الحركة البشرية التي ترى على أقواها في النهضة، وخلاصتها أن الثقافة يجب ألا تقتصر على درس الدين بل يجب أن تتجاوز ذلك إلى ما ألفه الناس أيضا، وأن الإنسان يجب عليه أن ينشد السعادة الدنيوية بدرس الثقافة البشرية، كما عليه أن ينشد السعادة الأخروية بدرس الثقافة الإلهية.
وكما كانت «الغيبيات» مزاج المثقفين في القرون الوسطى أصبحت «البشرية» مزاج المثقفين في أيام النهضة، ومن هنا هذه الحركة، بل هذه الحمى، التي أصابت العقول في أيام النهضة، فإن المدارس والمجامع والأفراد نهضوا فجأة يبحثون عن الكتب القديمة بين مخلفات الإغريق والرومان، ويدأبون في درسها ومناقشة آرائها لا يبالون بما فيها من كفر أو وثنية. •••
Página desconocida