وهذا العمر بالأنبار، على الفرات. وهو عمر حسن كبير، كثير القلايات والرهبان. وعليه سور محكم البناء، فهو كالحصن له. والجامع ملاصقه. ولا يخلو من المتنزهين والمتظرفين. وله ظاهر حسن ومنظر عجيب، سيما في أيام الربيع: لأن صحاريه وسائر أراضيه تكون كالحلل لكثرة طرائف زهره وفنون أنواره. ومن اجتاز بالأنبار من الخلفاء ومن دونهم ينزله مدة مقامه.
وقد وصفته الشعراء وذكرته في أشعارها. وللحسين بن الضحاك، فيه:
آذنك الناقوس بالفجر ... وغرّد الراهب في العمر
واطّردت عيناك في روضةٍ ... تضحك عن حمر وعن صفر
وحنّ مخمورٌ إلى خمره ... وجاءت الكأس على قدر
فارغب عن النوم إلى شربها ... ترغب عن الموت إلى النشر
ولكشاجم، فيه:
أُغد، يا صاحبي، إلى الأنبار ... تشرب الراح في شباب النهار
واعمر العمر باللذاذة والقص ... ف حث الكؤوس والأوتار
ما ترى الدهر قد أتاك بوجهٍ ... طلقٍ بعد نبوةٍ وازورار
لابسًا حلّةً من الزهر كانت ... قبل محجوبة عن الأبصار
نرجسٌ كالعيون يرقب من يه ... واه من غير رقبةٍ أو حذار
وإذا ما بدا الشقائق فيها ... خاله الناظرون شعلة نار
أو كما نشرت مطارف حمر ... لأميرٍ في جحفل جرّار
وكأن البنفسج الغضَ فيها ... أثر القرص في خدود الجواري
وتراءى الخزامى السمائي فيها ... كاليواقيت نظمت في المذاري
وكأن المنثور حلّة وشيٍ ... مثلها ما حوت تخوت التجار
في طرار الربيع حيكت ولكن ... نمّقت وشيها يد الأمطار
أقحوان وسوسنٌ حسن النو ... ر وشيحٌ منمنمٌ مع بهار
فاغتنم غفلة الزمان وبادر ... وافترص لذّة الليالي القصار
وكشاجم، أبو الفتح محمود بن الحسين الكاتب، مليح الشعر، رقيق الطبع، حسن الوصف. له كتب كثيرة وتأليفات طريفة. فمن شعره في بعض ما كان يألفه: قوله:
من عذيري من عذاري رشأٍ ... عرّض القلب لأسباب التلف
قمرٌ جال نعيم الحسن في ... ماء خدّيه على ماء الترف
وله خطّ عذارٍ خطّه ... رونق العزّ بأقلام الشرف
حكمةٌ في نعمةٍ قد طرزت ... بطرازٍ لم يجز حدّ الشّنف
جمّشا خديه ثم انعطفا ... آه ما أحسن ذاك المنعطف
علم الشعر الذي عاجله ... أنه جار عليه فوقف
فهو في وقفته معترفٌ ... بالتناهي في التعدي والسّرف
وله في صفة عود:
جاءت بعود كأن نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى
محفّفٌ حفّت النفوس به ... كأنما الزهر حوله نبتا
دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف الكفين شبّكتا
لو حركته وراء منهزم ... على بريدٍ لعاج والتفتا
يا حسن صوتيهما، كأنهما ... أختان في صنعةٍ تراسلنا
وهو على ذا ينوب إن سكتت ... عنها، وعنه تنوب إن سكتا
وله في ذلك:
ومسمعةٍ تحنو على مترنم ... له زجلٌ عالٍ وليس له سحر
إذا ما تأملت الحشى منه خلته ... تضمّن شبعًا وهو منخرقٌ صفر
له نغمٌ يفضين من كل سامع ... إلى حيث لا تفضي بشاربها الخمر
إذا طرقته بالأنامل والتقى ... على جسمه من جسمها النحر والصدر
بكى طربًا فاستضحك اللهو نحوه ... وفضّت عرى الاسباب واستلب الصبر
وتمنحه اليمنى حسابًا مفصّلًا ... فتحمل فيه الخمس والستّ والعشر
فمتّ صريع السكر أطيب ميتةٍ ... وما الحلم إلا أن يسفهك السكر
ومن مليح شعره:
يقولون: تب، والكأس في كفّ أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي
1 / 63