قال: وكان بالكوفة مقين، يقال له أبو الأصبغ. وكان له ابن يقال اصبغ، أحسن الناس وجهًا. وكان مطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحماد عجرد يغشون منزله ويعشقون ابنه ولا يقدرون عليه. فعزم أبو الاصبغ على أن يصطبح يومًا مع يحيى بن زياد. فأهدى إليه يحيى من الليل جداء ودجاجًا وفراخًا وفاكهة وشرابًا. فقال أبو الاصبغ لجواريه: إن يحيى بن زياد عندنا، فأصلحوا له ما يشتهيه. فلما فرغ من الطعام، لم يجد رسولًا يبعث به إليه سوى ابنه اصبغ. فقال له: لا تبرح إلا ويحيى معك. فلما جاءه اصبغ، قال للغلام: أدخله: وتنح أنت واغلق الباب، فإن أراد اصبغ الخروج فامنعه. فلما دخل إليه اصبغ وأدى الرسالة، راوده يحيى عن نفسه، فامتنع. فثاوره يحيى، فصرعه، ورام حل تكته، فلم يقدر على ذلك، فقطعها يحيى: فلما فرغ، أعطاه أربعين دينارًا كانت تحت مصلاه. فأخذها. وقال له يحيى: امض، فإني على أثرك. فخرج اصبغ من عنده، واغتسل يحيى، وجلس يتزين ويتبخر. فدخل إليه مطيع، فرأى ما هو فيه، فقال له: كيف أصبحت؟ فلم يجبه، وشمخ بأنفه، وقطب حاجبه! فقال له: أراك تتزين وتتبخر، أين عزمت؟ فلم يجبه. فقال: ويحك! ما لك؟ نزل عليك الوحي؟ أو كلمتك الملائكة؟ أو بويع لك بالخلافة؟ وهو يومىء برأسه: لا، لا! قال: فأراك قد تهت علينا فما تتكلم، حتى كأنك قد نكت اصبغ بن أبي الاصبغ! فقال: أي والله! الساعة، وأعطيته أربعين دينارًا. قال: فإلى أين تمضي؟ قال: إلى دعوة أبيه. فقال مطيع: إمرأته طالق إن فارقتك أو أقبل أيرك؟ فأبداه يحيى له. فقبله. ثم قال له: كيف قدرت عليه؟ فحدثه حديثه، وقام ليمضي إلى منزل أبي الاصبغ، فاتبعه مطيع، وصبر ساعة، ثم دق الباب واستأذن. فخرج إليه الرسول، فقال له: إنه اليوم على شغل لا يتفرغ لك، فتعذر! قال: فابعث إلى دواة وقرطاس. فكتب مطيع إلى أبي الاصبغ بهذه الأبيات:
يا أبا الاصبغ، لا زلت على ... كل حالٍ عاليًا ممتنعًا
لا تصيّرني في الودّ كمن ... قطع التكّة قطعاّ شنعا
وأتى ما يشتهي لا ينتهي ... خيفة أو حفظ حقٍّ ضيعا
لو ترى الاصبغ ملقىّ تحته ... مستكينًا خجلًا قد خضعا
وله دفعٌ عليه عجلٌ ... شبقًا ساءك ما قد صنعا
فادع بالاصبغ فاعرف حاله ... سترى أمرًا قبيحًا فظعا
فقال أبو الاصبغ ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية؟ قال: لا! فضرب بيده إلى تكة ابنه، فوجدها مقطوعة، فأيقن بالفضيحة! فقال يحيى: قد كان الذي كان، وسعى إليك مطيع ابن الزانية. وهذا ابني، وهو أفره من ابنك. وأنا وهو عربي ابن عربية، وابنك نبطي ابن نبطية. فنك ابني عشرًا مكان المرة التي نكت ابنك، فتكون قد ربحت الدنانير، وللواحد عشرة. فضحك أبو الاصبغ، وقال لابنه: هات الدنانير يا ابن الفاعلة! فرمى بها إليه، وقام خجلًا. فقال يحيى: والله، لا دخل مطيع ابن الزانية! فقال أبو الاصبغ وجواريه: والله، ليدخلن إلينا، فقد فضحنا! فأدخل وجلس يشرب معهم، ويحيى يشتمه بكل لسان، ومطيع يضحك! ولمطيع أخبار كثيرة ظريفة، منع من إيرادها خوف الاطالة وما تدعو إليه من الملالة.
وله شعر حسن مليح، ويتغنى في شعره. فمن ذلك، قوله:
واهًا لظبي رجوت نائله ... حتى انثنى لي بوده صلفا
لانت حواشيه لي وأطمعني ... حتى إذا قلت نلته انصرفا
وقال أيضًا، وله فيه غناء.
خليلي مخلفٌ أبدا ... يمنّيني غدًا فغدا
وبعد غدٍ وبعد غدٍ ... كذا لا ينقضي أبدا
وليس بلابثٍ جمر ال ... غضا أن يحرق الكبدا
ومن مليح، قوله:
إخلع عذارك في الهوى ... واشرب معتقة الدنان
وصل القيان مجاهرًا ... فالعيش في وصل القيان
لا يلهينك غير ما ... تهوى فإن العمر فاني
وكان مطيع يبغض أباه ويهجوه. وهو من بني كنانة. وكان يومًا يذكر قبائل قريش والعرب ويصف قومًا قومًا. فقال له بعض من حضر: فأين بنو كنانة؟ فقال غير متمهل: بفلسطين يسرعون الركوبا، أراد قول الشاعر:
حلق من بني كنانة حولي ... بفلسطين يسرعون الركوبا
عمر مر يونان
1 / 62