دير درمالس
هذا الدير في رقة باب الشماسية ببغداد، قرب الدار التي بناها الديلمي أحمد بن بويه، بباب الشماسية. وموقعه أحسن موقع. وهو نزه كثير البساتين والأشجار. وبقربه أجمة قصب. وهو كبير، آهل برهبانه وقسانه والمتبتلين فيه. وهو من البقاع المعمورة بالقصف، والمقصود بالتنزه والشرب.
وأعياد النصارى ببغداد، مقسومة على ديارات معروفة، منها أعياد الصوم: فالأحد الأول منه: عيد دير العاصية، وهو على ميل من سمالو.
والأحد الثاني: دير الزريقية.
والأحد الثالث: دير الزندورد.
والأحد الرابع: دير درمالس هذا. وعيده أحسن عيد، يجتمع نصارى بغداد إليه، ولا يبقى أحد ممن يحب اللهو والخلاعة إلا تبعهم. ويقيم الناس فيه الأيام، ويطرقونه في غير الأعياد.
ولأبي عبد الله بن حمدون النديم، فيه:
يا دير درمالس ما أحسنك ... ويا غزال الدير ما أفتنك
لئن سكنت الدير يا سيدي ... فإنّ في جوف الحشا مسكنك
ويحك يا قلب، أما تنتهي ... عن شدة الوجد بمن أحزنك
ارفق به، بالله، يا سيدي ... فإنه من حينه مكّنك
وكان من خبر هذا الشعر، ما ذكره أحمد بن خالد الصريفيني، قال: كنا عند أبي عبد الله بن حمدون، في الوقت الذي نفاه فيه المتوكل. فتذاكرنا الديارات، وطيبها وحسنها في الأعياد، واجتماع الناس بها. فقال: قد، والله، شهيتني لحضور هذه المواضع، والتفرج فيها، والتسلي بها، فأي دير منها قد حضر عيده؟ قلت: دير درمالس، وغدًا عيده! قال: فعلى بركة الله. فأعددت جميع ما يحتاج إليه ويصلح لمثله، وبكرنا إلى الدير، ونظرنا إلى اجتماع الناس وتعييدهم. وانصرف من انصرف، وأقمت معه في الدير ذلك اليوم ومن غده. وجلسنا منه مجلسًا يشرف على تلك البساتين والمزارع. فشرب، وطابت نفسه وطرب، وحضره من أحداث الموضع من كان يقضي لنا الحاجة ويجيئنا بالطرفة والتحية. فشغف بهم، واستطاب وقته معهم، وقال الأبيات المتقدمة.
وكان سبب نفي المتوكل له، أن الفتح بن خاقان، كان يعشق شاهك، خادم المتوكل، واشتهر الأمر فيه حتى بلغه. وله فيه أشعار، منها:
أشاهك، ليلي مذ هجرت طويل ... وعيني دمًا بعد الدموع تسيل
وبي منك، والرحمن، ما لا أطيقه ... وليس إلى شكوى إليك سبيل
أشاهك، لو يجزى المحبّ بودّه ... جزيت، ولكن الوفاء قليل
وكان أبو عبد الله، يسعى فيما يحبه الفتح، فعرف المتوكل الخبر، فاستدعى أبا عبد الله وقال له: إنما أردتك وأدنيتك لتنادمني، ليس لتقود على غلماني! فأنكر ذلك، وحلف يمينًا حنث فيها، فطلق من كانت حرةً من نسائه، وأعتق من كانت مملوكة، ولزمه حج ثلاثين سنة، فكان يحج كل عام.
قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت، فأقام بها أيامًا. ثم جاءه زرافة في الليل على البريد، فبلغه ذلك، فظن أنه يعني المتوكل لما شرب بالليل وسكر، أمر بقتله، فاستسلم لأمر الله. فلما دخل عليه، قال: جئت في شيء ما كنت أحب أن أجيء في مثله! قال: وما هو؟ قال: أمر أمير المؤمنين بقطع أذنك! وقال: قل له: لست أعاملك إلا كما يعامل الفتيان! فرأى ذلك أسهل مما ظنه من القتل. فقطع غضروف أذنه من خارج، ولم يستقصه، وجعله في كافور معه، وانصرف. وبقي منفيًا. ثم حدر أبو عبد الله إلى بغداد، إلى منزله. فأقام به مدة. قال أبو عبد الله: فلقيت إسحق بن إبراهيم الموصلي، بعدما كف بصره. فسألني عن أخبار الناس والسلطان. فأخبرته ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني. فجعل يسليني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين والخاص من ندمائه؟ فقلت له: محمد بن عمر البازيار. فقال لي: ومن هذا الرجل؟ وما مقدار أدبه وعلمه؟ فقلت: أما أدبه، فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب: حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة، فدخل مروان بن أبي الجنوب بن أبي حفصة، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
بيضاء في وجناتها ... وردٌ، فكيف لنا بشمه
1 / 1
فسر المتوكل بذلك سرورًا شديدًا، وأمر، فنثر عليه بدرة دنانير، وأن تلقط وتطرح في حجره، وأمره بالجلوس، وعقد له على اليمامة والبحرين. فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت كاليوم قط، ولا أرى، أبقاك الله ما دامت السموات والأرض! وقبل، قال له: فما تقول في أدبه؟ فقال: أأكثر من أن يقول كثير!. فقال لي إسحق: ويلك! جزعت على أذنك وغمك قطعها؟ ولم؟ حتى تسمع مثل هذا الكلام؟ ثم قال لي: ويلك! لو أن لك مكوك آذان، أيش كان ينفعك مع هؤلاء؟ قال: وأعاده المتوكل إلى خدمته. وكان إذا دعا به، قال على جهة المزاح: يا با عبيد.
ولما رضي عنه، قال له: هل لك في جارية أهبها لك؟ فأكبر ذلك وأنكره. فوهب له جارية يقال لها صاحب، من جواريه، حسنة كاملة الأدب، إلا أن بعض الخدم رد السبطانة على فمها، وقد أرادت أن ترميه، فصدع إحدى ثنيتيها، فاسودت، فشانها ذلك عنده. وحمل معها كل ما كان لها: وكان شيئًا عظيمًا كثيرًا. فلما مات أبو عبد الله، تزوجت صاحب بعض العلويين. قال علي بن يحيى بن المنجم: فرأيته في النوم وهو يقول لي:
أبا علي، ما ترى العجائبا ... أصبح جسمي في التراب غائبا
واستبدلت صاحب بعدي صاحبا
ولأبي عبد الله شعر جيد. ومن شعره يعاتب علي بن يحيى:
من عذيري من أبي حسن ... حين يجفوني ويصرمني
كان لي خلًا وكنت له ... كامتزاج الرّوح بالبدن
فوشى واش، فغيّره ... وعليه كان يحسدني
إنما يزداد معرفةً ... بودادي حين يفقدني
قال: واتصل بنجاح بن سلمة، إن أبا عبد الله بن حمدون، يذكره ويتنادر به بين يدي المتوكل. فلقيه نجاح يومًان فقال له: يا أبا عبد الله: قد بلغني ذكرك لي بحضرة أمير المؤمنين بغير الجميل، ولم يخف علي قولك! أتحب أن أنهي إليه قولك إذا خلوت به: أتراني أحبه، وقد فعل بي ما فعل؟ والله، ما وضعت يدي على أذني إلا تجددت له بغضة في قلبي. فقال ابن حمدون: الطلاق له لازم إن كان قال هذا قط، وامرأته طالق إن ذكرتك بغير ما تحبه أبدًا! قال: كان إبراهيم بن محمد بن مدبر، يلاعب أبا عبد الله بالنرد. فإذا غلبه شيئًا، دفعه إلى كردية المغنية، جارية محمد بن رجا. فغلبه يومًا عشرين دينارًا، فأخذها منه ودفعها إليها. فكتب إليه أبو عبد اله بعد ذلك:
تقضي الحقوق بمالي ... وأنت تعرف حالي
إن دام هذا عليّ ... أفقرتني وعيالي!
وكان أبوه إبراهيم وأظن أنه الملقب بحمدون بن إسماعيل، ينادم المعتصم، ثم الواثق بعده. وكان يعابث المتوكل في ذلك الوقت. وجاءه مرة بحية في كمه، وأخرج رأسها تعريضًا بأمه شجاع، وكان ذلك يعجب الواثق.
قال: فلما مات الواثق، نادم حمدون المتوكل. قال: فلما كان في بعض الأيام، أمر المتوكل بإحضار فريدة جارية أخيه الواثق، وكانت من الحسن والاحسان على ما لم ير مثله. وقال للخدم. إن لم تجيء فجيئوني برأسها! فأحضرت مكرهة، ودفع إليها عود، فغنت غناء يشبه الندبة والمرثية، فأسمعها، وأمرها أن تغني غيره. فبكت وغنت غناء شجيًا بحزن. فزاد ذلك في طيب غنائها، فوجم حمدون للرقة التي تداخلته! فغضب المتوكل، ورأى أنه فعل ذلك بسبب أخيه الواثق حزنًا عليه، وكان يبغض كل من مالي إليه! فأمر بنفيه إلى السند وضربه ثلثمائة سوط! فسأل أن يكون الضرب من فوق الثياب لضعفه عن ذلك، فأجيب إلى ذلك. وأقام منفيًا ثلاث سنين. وتزوج المتوكل فريدة بعد ذلك، فولدت له ابنه أبا الحسن.
قال: دعا إبراهيم جماعة من المغنين، فيهم جحظة وقاسم بن زرزر، وكان فيها عمه أبو محمد بن حمدون. فجعل إبراهيم يحاكي واحدًا واحدًا من المغنين. فقال له عمه: لا تحاك جحظة، ولا يكن بينك وبينه عمل! فلم يقبل، وحاكاه. فلم يزل جحظة يحتال في شيء يكتب فيه، إلى أن وجد رقعة، فكتب فيها:
حصلت على حكاية من يغني، ... فحاك لنا العجوز إذا تغنّت
وحاك لنا لبيبًا إذ أتاها ... فأعطاها القمدّ كما تمنّت
فقال له عمه: ألم أقل لك: عقرب، لا تقرب!
1 / 2
وحكى جحظة، عن إبراهيم بن القسم زرزر، إن لاكهكيفي كان حسن الغناء مجيدًا، وكان يحسد إبراهيم بن أبي العبيس على غنائه وشجا صوته. فلما مات إبراهيم وكانت وفاته في أيام المكتفي، على لاكهكيفي والدموع في عيني. فقال: ما لك؟ قلت: مات إبراهيم! قال: بسلام! والله، لو لم يمت لقتلته!
دير سمالو
وهذا الدير شرقي بغداد، بباب الشماسية، على نهر المهدي. وهناك أرحية للماء، وحوله بساتين وأشجار ونخل. والموضع نزه، حسن العمارة، آهل بمن يطرقه، وبمن فيه من رهبانه.
وعيد الفصح ببغداد، فيه منظر عجيب. لأنه لا يبقى نصراني إلا حضر وتقرب فيه، ولا أحد من أهل الطرب واللهو من المسلمين إلا قصده للتنزه فيه. وهو أحد متنزهات بغداد المشهورة، ومواطن القصف المذكورة.
ولمحمد بن عبد الملك الهاشمي، فيه:
ولربّ يوم في سمالو تم لي ... فيه السرور وغيّبت أحزانه
وأخ يشوب حديثه بحلاوةٍ ... يلتذّ رجع حديثه ندمانه
صافي الرّحيق من المدام شرابة ... والمحسنات من الأوانس شانه
بكرت عليّ به الزيارة فاغتدى ... طربًا إليّ وسرّني اتيانه
فأمرت ساقينا وقلت له اسقنا ... قد حان وقت شرابنا وأوانه
فتلاعبت بعقولنا نشواته ... وتوقّدت بخدودنا نيرانه
حتى حسبت لنا البساط سفينةً ... والدير ترقص حولنا حيطانه
ولخالد الكاتب، فيه:
يا منزل القصف في سمالو ... ما لي عن طيبك انتقال
واهًا لأيامك الخوالي ... والعيش صاف بها زلال
تلك حياة النفوس حقًا ... ولك ما دونها محال
وهو أبو الهيثم خالد بن يزيد الكاتب. وكان مليح الشعر رقيقه، لا يقول إلا في الغزل، ولا يتجاوز الأربعة أبيات، ولا يزيد عليها. ولم يكن له شعر في مدح ولا هجاء.
وذكر ميمون بن حماد، قال: دخل علي يومًا أبو عبد الله ابن الاعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله، سمعت من شعر هذا الغليم شيئًا؟ قال: من هو؟ قلت: خالد بن يزيد. قال: لا، وإني لأحب ذلك! فصح به. فجاء حتى وقف. فقلت: أنشد أبا عبد الله شيئًا من شعرك. فقال: إنما أقول في شجون نفسي، لا أمدح ولا أهجو. فقلت: أنشده، فأنشده.
أقول للسقم عد إلى بدني ... حُبًا لشيء يكون من سببك
فقال ابن الاعرابي: حسبك يا غلام! فقد خيل إلي أن الرقة قد جمعت لك في هذا البيت.
قال جحظة: حدثني خالد الكاتب، قال: كنت بدير سمالو، لم أشعر إلا ورسول إبراهيم ابن المهدي قد وافاني. فدخلت إليه، فإذا برجل أسود مشفراني قد غاص في الفراش، فاستجلسني، فجلست. فقال: أنشدني شيئًا من شعرك، فقلت: أيها الأمير، أنا غلام أقول في شجون نفسي، لا أكاد أمدح ولا أهجو. فقال: ذلك أشد لدواعي البلاء، فأنشدته:
رأت منه عيني منظرين كما رأت ... من البدر والشمس المضيئة بالأرض
عشية حيّاني بوردٍ كأنه ... خدودٌ أضيفت بعضهن إلى بعض
وناولني كأسًا كأن رضابها ... دموعي لما صدّ عن مقلتي غمضي
وولى وفعل السّكر في حركاته ... من الراح، فعل الريح بالغصن الغضّ
فزحف، حتى صار في ثلثي المصلى. ثم قال: يا بني، شبه الناس الخدود بالورد، وشبهت أنت الورد بالخدود! زدني، فأنشدته:
عاتبت نفسي في هوا ... ك، فلم أجدها تقبل
وأجبت داعيها إلي ... ك، ولم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل
لا قلت أن الصبر عن ... ك من التصابي أجمل
فزحف، حتى صار خارج المصلى، ثم قال: زدني! فأنشدته:
عش فحبّيك سريعًا قاتلي ... والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الحبّ بقلبٍ دنف ... بك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئابِ وضنى ... تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمتي ... فبكائي لبكاء العاذل
فصاح وقال: يا بليق: كم لي معك من العين؟ قال: ستمائة وخمسون دينارًا، قال: اقسمها بيني وبينهن واجعل الكسر كاملًا للغلام.
1 / 3
وذكر أحمد بن صدقة المغني، قال: اجتزت بخالد الكاتب يومًان فقلت له: اعمل لي أبياتًا أغني فيها أمير المؤمنين، يعني المأمون. قال: فأي حظ لي في ذلك؟ تأخذ أنت الجائزة، وأحصل أنا على الاثم! فحلفت له، أنه إن وصلني بشيء، قاسمته إياه. فقال لي: أنت أنذل من ذاك! ولكن أذكره بي، فلعله يصلني بشيء. قلت: أفعل. فأنشدني:
تقول سلا فمن المدنف ... ومن عينه أبدًا تذرف
ومن قلبه قلقٌ خافقٌ ... عليك وأحشاؤه ترجف
فحفظت الشعر، وعملت فيه لحنًا، وحضرنا عند المأمون من الغد مع المغنين. وكان بينه وبين بعض حظاياه هجرة. فوجهت إليه بتفاحة عنبر مكتوب عليها بالغالية: يا سيدي سلوت. وما علم الله أني عرفت شيئًا من الخبر. وانتهى الدور إلي وابتدأت أغني بشعر خالد. فلما غنيته إياه، احمر وجه المأمون وانقلبت عيناه، ودارتا في أم رأسه، وظهر الغضب في وجهه، وقال: لكم على حرمي أصحاب أخبار؟ فقمت إعظامًا لما شاهدت منه، وقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله أن يظن بعبده هذا الظن، وأنزه داره أن يكون لأحد عليها صاحب خبر! قال: فمن أين عرفت خبري مع جاريتي حين غنيت في معنى ما بيننا؟ فحلفت له أني لا أعرف شيئًا من ذلك، وحدثته حديثي مع خالد. فلما انتهيت إلى قوله: أنت أبذل من ذاك! قال: أشهد أنك كذاك، وأسفر وجهه. وقال: ما أعجب هذا الاتفاق! وأمر لي بخمسة آلاف درهم، ولخالد بمثلها.
ومن مليح شعر خالد:
كبد المستهام كيف تذوب ... ما تقاسي من العيون القلوب
بدن المستهام كيف تراه ... شجنٌ ما له سواه طبيب
أين أين الرقاد يا مقلتي من ... حرّ أحشائه عليه رقيب
يا مكان الهوى خلوت من الصب ... ر، فما للسلو فيك نصيب
ومن مليح شعره:
ولم أدر ما جهد الهوى وبلاؤه ... وشدته حتى وجدتك في قلبي
أطاعك طرفي في فؤادي، فحازه ... لطرفك حتى صار في قبضة الحب
ومن شعره، وفيه لحن:
قد استعار الحسن من وجهه ... والغصن الناعم من قدّه
لقد تعاتبنا بأبصارنا ... فيما جناه الخلف من وعده
حتى تجارحنا بتكرارنا ... للّحظ في خدّي وفي خدّه
وله أيضًا:
ما على الغضبان لو كان رضي ... ورثى لي من تمادي مرضي
قال لي لما تشكّيت الهوى ... إحمد الله كذا قُضي
قلت: حاشى الله أن يقضي بذا ... بل قضاه صاحب الوجه الوضي
أنت شرّدت رقادي ظالمًا ... فاجعل الانصاف منه عوضي
وله أيضًا:
رحلتم، فكم من أنةٍ بعد زفرةٍ ... مُبيّنةٍ للناس شوقي إليكم
وقد كنت اعتقت الجفون من البكا ... فقد ردّها في الرق حزني عليكم
وله أيضًا:
زراني في مورّدٍ مثل خدي ... هـ وعقد فصوله الكافور
ليلةٌ لم يكن سوى قصر اللي ... لة فيها عيبٌ ولا تقصير
قال جحظة: كنت يومًا عند عبد اله بن المعتز، فطلبت نعلي، فلم أجده. فجعلت أقول:
يا قوم من لي بنعلي ... أو في مصحّف نعل
فسار هذا البيت حتى رواه الصبيان.
قال: ودعاني عبيد الله يومًا، فأبطأت عنه، فكتب إلي:
لا تهجر الأمراء من بعدوا على ... فرس الح قيراط
فكتب إليه جحظة:
من كان خادم مثلكم فجواده ... فرس الحفاء ودينه طسّوج
قال جحظة: كنت أعشق جارية في القيان، يقال لها شروين. فسكرت عندي ليلةً، فخرئت في سطلي وحميديتي وانصرفت. فكتب إلي الهداهدي:
قد زارني خلٌّ أسرّ به ... حلو الشمائل راجح العقل
فبحقّ شروين التي خرئت ... في الطست والابريق والسطل
إلا أتيت مبادرًا عجلًا ... وأرحت من نكد ومن مطل
حتى أراك إذا سكرت وقد ... شاركتها في ذلك الفعل!
ولجحظة، إلى ابن طرخان يدعوه:
لنا يا أخي زلةٌ وافره ... وقدرٌ معجّلة حاضره
وما شئت من خبر طيب ... ونادرة بعدها نادره
1 / 4
وراحٍ تريك إذا صفّقت ... سنا البرق في الليلة الماطره
ومحسنةٍ لم يخنها الصواب ... وزامرةٍ أيما زامره
فايت ولو كنت يا ابن الكرام ... وحاشاك من ذاك في الآخره
ألست أدري أين الفؤاد مقيمًا ... يا مكان الفؤاد، أين الفؤاد؟
دفعته الأحشاء عما يليها ... فأذابته حرقةٌ واتقاد
وله:
نأيت فلم ينأ عنه الضّنى ... وعدت فعاد إلى نكسه
وفارقه الصبر في يومه ... لما فاته منك في أمسه
ومستوحشٍ آنسٍ بالبكاء ... على قلبه وعلى انسه
يرقّ هواه لأحشائه ... ويرثي له الشوق من نفسه
دير الثعالب
وهذا الدير ببغداد، بالجانب الغربي منها، بالموضع المعروف بباب الحديد. وأهل بغداد يقصدونه ويتنزهون فيه، ولا يكاد يخلو من قاصد وطارق. وله عيد لا يتخلف عنه أحمد من النصارى والمسلمين.
وباب الحديد، أعمر موضع ببغداد وأنزهه: لما فيه من البساتين والشجر والنخل والرياحين، ولتوسطه البلد وقربه من كل أحد. فليس يخلو من أهل البطالات، ولا يخل به أهل المتطرب واللذاذات. فمواطنه أبدًا معمورة، وبقاعه بالمتنزهين مشحونة.
وقد قالت الشعراء في الدير وباب الحديد وقبرونيا، فأكثروا، ووصفوا حسن تلك المواضع فأطنبوا.
ولابن دهقانة الهاشمي، فيه:
دير الثعالب مألف الضّلال ... ومحلّ كل غزالةٍ وغزال
كم ليلة أحييتها ومنادمي ... فيها أثجّ مقطّع الأوصال
سمحٌ يجود بروحه فإذا مضى ... وقضى سمحت له وجدت بمالي
ونعم دين ابن مريم دينه ... غنجٌ يشوب مجونه بدلال
سقّيته وشربت فضلة كأسه ... فشربت من عذب المذاق زلال
وابن دهقانة هذا، من ولد إبراهيم ب محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ويعرف بأبي جعفر محمد بن عمر. وله شعر مليح. وذكر جحظة أنه أنشده:
أحين قطعت لك الواصلين ... وجدت عليك ولم أبخل
غدرت وأظهرت لي جفوةً ... وجرت عليّ ولم تعدل؟
أأطمع في آخر من هواك ... ولم ترع لي حرمة الأول؟
وذكر جحظة، أنه كان والي البصرة في أيام الزنج، وأنه أخذ من الناجم بها ثلاثين ألف دينار، وسلم إليه البصرة. وكان جحظة يكثر المكث عنده ولا يغبه. قال: فتأخرت عنه في وقت من الأوقات، لعارض عرض لي، فوجه إي يدعوني، فكتبت إليه: أنا والله عليل!
وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه قد خالط اللحم والدما
فوجه إلي بخمسين دينارًا وخلعة، وقال: هذا يزيل العلة، فبحياتي إلا جئتني! فمضيت إليه.
وذكر جحظة، أنه كان ينادم المعتمد والموفق، وكان عظيم الخلق، ثقيل الجسم، وكان إذا قام الخليفة ورجع، وقام الندماء، نام هو، وقال: هذا عوض القيام لما لم يكن يقدر عليه. وكان أكولًا، فكان يقول: قد أكلت حتى زمنت، وأريد آكل حتى أموت! ومن شعره:
فلو أن في جزعي راحةً ... لأصبحت أجزع من يجزع
سأصبر جهدي على ما ترى ... وإن عيل صبري، فما أصنع؟
وللناشىء، يذكر باب الحديد وقبرونيا:
ما جليدٌ يوم الندى بجليد ... بعدت والمزار غير بعيد
خبّرت عن ضميرها عبراتٌ ... صرن عونًا على الفؤاد العميد
يا ليالي اللذّات بالله عودي ... بين قبرونيا وباب الحديد
بين تلك الربى وقد نسج الو ... بل بكف الربيع ريط البرود
خدّه ضدّ صدغه مثل ما الوع ... د إذا ما اختبرت ضدّ الوعيد
طلب الطبل طايلات من الزّم ... ر وعاد السرور إذ عاد عودي
ومن رقيق شعره:
لم أسل عنك ولم أخنك ولم يكن ... في القلب مني للسلوّ مكان
لكن رأيتك قد مللت مودّتي ... فعلمت أنّ دواءك الهجران
دير الجاثليق
1 / 5
وهذا الدير، يقرب من باب الحديد، وهو دير كبير، حسن، نزه، تحدق به البساتين والأشجار والرياحين. وهو يوازي دير الثعالب في النزهة والطيب وعمارة الموضع، لأنهما في بقعة واحدة. وهو مقصود مطروق، لا يخلو من المتنزهين فيه والقاصدين له. وفيه رهبانه وفتيانه ومن يألف من أهل الخلاعة والبطالة.
وقالت الشعراء فيه ووصفته. ولمحمد بن أبي أمية الكاتب فيه، وفيه لحن خفيف رمل:
لهفي على قمرٍ في الدير مسجون ... في صورة الانس، في مكر الشياطين
والله ما أبصرت عيني محاسنه ... إلاّ خرجت له طوعًا من الدين
وله في هذا الدير أيضًا:
تذكرت دير الجاثليق وفتيةً ... بهم تمّ لي فيه السرور وأسعفا
بهم طابت الدنيا وتم سرورها ... وسالمني صرف الزمان وأنصفا
ألا ربّ يوم قد نعمت بظله ... أبادر من لذات عيشي ما صفا
أغازل فيه أدعج الطرف أهيفا ... وأُسقى به مسكية الطعم قرقفا
فسقيًا لأيام مضت لي بقربهم ... لقد أوسعتني رأفةً وتعطفا
وتعسًا لأيام رمتني بينهم ... ودهرٍ تقاضاني الذي كان أسلفا
ومحمد بن أمية هذا، أحد المتقدمين في الشعر، رقيق الطبع، حسن التصرف فيه، غريب المعاني. وأكثر شعره في الغزل. وكان هو وعلي أخوه يكتبان للفضل ابن الربيع. وهو عم أبي حشيشة الطنبوري.
ومن مليح شعره:
رأيتك حليتي دنيا ودين ... حياةً للضّجيع وللقرين
بدا لي بعدما سبقت يميني ... بهجرك أن أكفّر عن يميني
وله:
لم أسل عنك ولم أخنك ولم يكن ... في القلب مني للسلو مكان
لكن رأيتك قد مللت مودّتي ... فعلمت أن دواءك الهجران
ومن رقيق شعره:
يا غريبًا يبكي لكل غريب ... لم يذق قبلها فراق حبيب
عزّه الصبر فاستراح إلى الدّم ... ع، وفي الدمع راحة للقلوب
ليت يومًا أراك فيه كما كن ... ت قريبًا، فأشتكي من قريب
وله:
رب يوم منك لا أنساه لي ... أوجب الشكر وإن لم تفعل
أقطع الدهر بظن حسنٍ ... وأجلّى غمرةً ما تنجلي
وأرى الأيام لا تُدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي
كلما أمّلت يومًا صالحًا ... عرض الهجران دون الأمل
ومن نادر شعره:
لأُقيمن مأتمًا عن قريب ... ليس بعد الفراق غير النحيب
أظلمتني فيك الخطوب فلم أق ... وعلى أن أردّ ظلم الخطوب
ربّ، ما أوجع الهوى للقلوب ... لا ولا سيما فراق الحبيب
لم أكن أعرف الفراق فأقدم ... ت عليه غرًّا بلا تجريب
وله أيضًا:
اليوم أثكلني صبري فراقكم ... كذاك أعظم شيء فقد معشوق
قد كنت في فسحةٍ من قبل بينكم ... فاليوم صرت من الأحزان في ضيق
واغتالني زمنٌ قد كنت آمنه ... تعسًا لغدرته من بعد توثيق
إني على العهد لم أنقض مودّتكم ... يا من يرى حسنًا نقض المواثيق
وله:
ما ذاقت النفس على شهوةٍ ... ألذّ من ودّ صديق أمين
من فاته ودّ أخٍ صالح ... فذلك المغبون حقّ اليقين
وله، وهو من مليح شعره:
فيا شوق لا تنفد، ويا دمع فض وزد ... ويا شوق راوح بين جنبٍ إلى جنب
ويا عاذلي لمني، ويا عابد افتني ... عصيتكما حتى أغيّب في الترب
إذا كان ربّي عالمًا بسريرتي ... فما الناس في عيني بأعظم من ربي
وله يصف روضة:
في جنانٍ كأنما نشرت فو ... ق ثراها حريرة خضراء
أعين النرجس الجنيّ نجومٌ ... واخضرار الرياض فيها سماء
للثرى تحتها سباتٌ وللما ... ء خريرٌ وللغصون غناء
وله:
فها أنا مغضٍ في رضاك وصابرٌ ... على مثل مصقول الذبابين قاضب
ومنتزح عما كرهت وجاعلٌ ... رضاك مثالًا بين عيني وحاجبي
وله:
1 / 6
كم فرحةٍ كانت وكم ترحة ... تخرّصتها لي فيك الظنون
إذا قلوبٌ أظهرت غير ما ... تضمره أنبتك عنها العيون
وله:
يُصعّد في الحشا نفسا ... ويسهر إن فتىً نعسا
يظلّ يعالج الزفرا ... ت إن أغفى وإن جلسا
غذا بالشوق مهجته ... وعلل نفسه بعسى
محبٌّ صيّر الشكوى إلى جلسائه أُنسا
وكان أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، يختم أماليه في مجالسه بمقطوع من شعر ابن أبي أمية، استحسانًا له واستعذابًا لألفاظه، ويقرظه دائمًا ويصفه.
دير مديان
وهذا الدير على نهر كرخايا ببغداد. وكرخايا نهر يشق من المحول الكبير ويمر على العباسية، ويشق الكرخ، ويصب في دجلة، وكان قديمًا عامرًا، والماء فيه جاريًا، ثم انطم وانقطعت جريته بالبثوق التي انفتحت في الفرات.
وهو دير حسن، نزه، حوله بساتين وعمارة، ويقصد للتنزه والشرب، ولا يخلو من قاصد وطارق، وهو من البقاع الحسنة النزهة. وللحسين بن الضحاك، فيه:
حُثّ المدام فإن الكأس مترعة ... مما يهيج دواعي الشوق أحيانا
إني طربت لرهبانٍ مجاوبةٍ ... بالقدس بعد هدوّ الليل رهبانا
فاستنفرت شجنًا مني ذكرت به ... كرخ العراق وإخوانًا وأشجانا
فقلت، والدمع في عيني مطردٌ ... والشوق يقدح في الأحشاء نيرانا:
يا دير مديان، لا عرّيت من سكن ... ما هجت من سقم يا دير مديانا
هل عند قسّك من علم فيخبرني ... أن كيف يسعد وجه الصبر من بانا
سقيًا ورعيًا لكرخايا وساكنه ... بين الجنينة والروحاء من كانا
قال: كان أبو علي بن الرشيد، يلازم هذا الدير ويشرب فيه. وكان له قيان يحملهن إليه، ويقيم به الأيام، لا يفتر عزفًا وقصفًا، وكان شديد التهتك! وكان من يجاور الموضع يشكون ما يلقونه منه. فانتهى الخبر إلى إسحق بن إبراهيم الطاهري، وهو خليفة السلطان ببغداد. فوجه إليه يقبح له فعله، وينهاه عن المعاودة لمثله. فقال: وأي يد لاسحق علي؟ وأي أمر له فيّ؟ أتراه يمنعني من سماع جواري، والشرب بحيث أشتهي؟. فلما أتاه هذا القول منه أحفظه وتمهل، حتى إذا كان الليل، ركب إلى الموضع، وأحاط به من جميع جهاته، وأمر أن يفتح باب الدير، وينزل به على الحال التي هو عليها. فأنزل وهو سكران في ثياب مصبغة، وقد تضمخ بالخلوق، فقال له: سوءة لك! رجل من ولد الخلافة على مثل هذه الحال؟. ثم أر، ففرش بساط على باب الدير، وبطح عليه، وضربه عشرين درة، وقال: أن أمير المؤمنين لم يولني خلافته حتى أضيع الأمور وأهملها، ولا حتى أدعك وغيرك من أهل تعرونه وتفضحونه وتخرجون إلى ما خرجت إليه من التبذل والشهرة وهتك الحرمة وإخراجهن إلى الديارات والحانات. وفي تأديبك صيانة للخلافة، وردع لك ولغيرك عن هذه الفضيحة. ثم أمر بعماريات كانت معه، فأركب فيها مع حرمه، ورده إلى داره. فبلغ ذلك المعتصم، فكتب إليه يصوب رأيه وفعله، ويأمره أن لا يرخص لأحد من أهل بيته في مثله.
1 / 7
وأم أبي على هذا، تعرف بشكل. وكان الرشيد قد اشتراها وصاحبةً لها تعرف بشذر في يوم واحد. فحملت شذر وولدت أم أبيها؛ فحسدتها شكل، وبلغ بها الحسد إلى أمر عظيم من العداوة؛ حتى اشتهر ذلك. وحملت شكل وولدت أبا علي. وماتت أماهما؛ وبقيت العداوة بين أبي علي وأم أبيها، حتى بلغ الأمر بها إلى أن تهاجيا بالأشعار، وشاع أمرهما في جميع آل الرشيد! فلما قتل الأمين، وورد المأمون إلى بغداد، جلس يومًا وعمه إبراهيم بن المهدي وأبو إسحق أخوه والعباس ابنه، وتذاكروا العداوة التي بين هذين. فقال: لقد سمعت بخبر عداوتهما بخراسان، ولقد هممت أن أصلح بينهما. ووجه فأحضر أم أبيها، وأقبل يعاتبها وهي مطرقة لا ترد جوابًا. ثم أمر بإحضار أبي علي. فلما رأته أم أبيها، تنقبت وسترت وجهها. فقال المأمون: كنت مسفرةً، فلما حضر أخوك تنقبت؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين، لسفوري بين يدي عبد الله بن طاهر وعلي بن هشام أوجب من سفوري لأبي علي! فوالله، ما هو لي بأخ ولا للرشيد بابن! وقد قال الله ﷿ في قريش: الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. قال ابن عباس: آمنهم من البرص والجذام، وهو والله أبرص، وما هو إلا ابن فلان الفراش! فأمر المأمون أخاه أبا إسحق، فجلدها حدًا. فقالت: سوءةً يا أمير المؤمنين أن تحد أختك لابن الفراش، وسننت على بنات الخلفاء الحد! فوالله، لقد ظننت أن أمره يستتر، فأما الآن فوالله ليتناقلنه الرواة وليتحدثن به إلى أن تقوم الساعة!. ونهضت فقال المأمون: قاتلها الله! فلو كانت رجلًا لكانت أقعد بالخلافة من كثير من الخلفاء! وقد أبا علي الصلاة على جنائز أولاد الخلفاء ليدرأ عنه العيب.
ونرجع إلى ذكر إسحق بن إبراهيم، ونورد طرفًا من أخباره، في حزمه وضبطه، بقدر ما يليق بالكتاب.
إسحق هذا، هو ابن أخي طاهر ابن الحسين، ويكنى أبا الحسن. وكان المأمون اصطنعه وولاه خلافة عبد الله بن طاهر بحضرته لما أخرج عبد الله إلى خراسان، وكان أشد الناس تقدمًا عنده واختصاصًا به.
فذكر عبد الله بن خرداذبه، أنه حضر مجلس المأمون يومًا، وقد عرض عليه أحمد بن أبي خالد رقاعًا، فيها رقعة قوم متظلمين من إسحق بن إبراهيم. فلما قرأها المأمون، أخذ القلم وكتب على ظهرها: ما في هؤلاء الأوباش إلا كل طاعن واش! إسحق غربي بيدي، ومن غرسته أنجب ولم يخلف، لا أعدي عليه أحدًا. ثم كتب إلى إسحق رقعة، فيها: من مؤدب مشفق إلى حصيف متأدب. يا بني، من عز تواضع، ومن قدر عفا، ومن راعى أنصف، ومن راقب حذر. وعاقبة الدالة غير محمودة، والمؤمن كيس فطن. والسلام.
وولي إسحق للمأمون، ثم للمعتصم، ثم للواثق، ثم للمتوكل. ومات في أيام المتوكل. فأقام محمدًا ابنه مكانه، فلبث يسيرًا ومات. فاستدعي محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، ورد إليه ما كان إلى إسحق.
وذكروا أن بعض ولد الرشيد وكان له موضع من النسب ومكان من المعرفة والأدب مرض ببغداد مرضًا طال، ولم يقدر على الركوب واشتهى التفرج والتنزه في الماء. فأراد أن يبني زلالًا يجلس فيه، فمنعه إسحق، وقال: هذا شيء لا نحب أن يعمل مثله إلا بأمر أمير المؤمنين وإذنه. فكتب إلى المعتصم يستأذنه في ذلك، فخرج الأمر إلى إسحق بإطلاقه له. فكتب إسحق: ورد عليّ كتاب من أمير المؤمنين بإطلاق بناء زلال لم يحد لي طوله ولا عرضه، فوقفت أمره إلى أن استطلع الرأي في ذلك. فكتب إليه يحمده على احتياطه، ويحد له ذرع الزلال.
قال: لما انتق المعتصم على سر من رأى، كان الناس في يوم الموكب يغشون دار المأمون، ويقعدون فيها على سبيلهم في حياته إجلالًا للسلطان وتعظيمًا لأمره. فانصرف محمد بن إسحق في يوم من الأيام الحارة، وقد أطال الركوب. واجتاز بدار المأمون، وقد فتل قلنسوته على رأسه مستترًا بها من الشمس، فبلغ أباه ذلك، فضربه معاقبًا له على اجتيازه بباب الخليفة متبذلًا!
1 / 8
وذكر عبد الله بن خرداذبه، أنه خرج يومًا من بين يدي المأمون في أثر إسحق بن إبراهيم، حتى إذا صار إلى الدهليز الثاني، وقف ووقف القواد والناس لوقوفه! ثم قال: أين خليفة علي بن صالح؟، وكان علي ذلك الوقت صاحب أمر الدار والموسوم بالحجبة. فأتي بخليفته، فضربه مائة مقرعة، ثم قال: الحبس!. ثم قال: هاتوا خليفة صاحب البريد. فأتي به، فضربه مائة مقرعة، ثم قال: الحبس!. ثم دعا بعلي بن صالح وبصاحب البريد، وقال لهما: تقلدان خلافتكما في دار الخليفة من يضيع الأمور ويهملها؟ كنتما بهذا الأدب أحق من هذين!. فقالا: وما كان من أمرهما الذي أنكرته، أيها الأمير؟ فقال: صاحب بريد يقعد في دار الخليفة، فيضحك ويقهقه، وصاحب الدار جالس لا ينكر؟ ثم خرج! قال: فكنت أدخل الدار بعدها، فلا أرى فيها ضاحكًا! قال: ودخل إسحق في يوم نوروز إلى المتوكل، والسماجة بين يديه. وعلى المتوكل ثوب وشي مثقل، وقد كثر أصحاب السماجة حتى قربوا منه للقط الدراهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيله! فلما رأى إسحق ذلك، ولى مغضبًا، وهو يقول: أف وتف! فما تغني حراستنا المملكه مع هذا التضييع!. ورآه المتوكل وقد ولى، فقال: ويلكم! ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضبًا! فخرج الحجاب والخدم خلفه، فدخل وهو يسمع وصيفًا وزرافة كل مكروه، حتى وصل إلى المتوكل. فقال: ما أغضبك، ولم خرجت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ما له من الأولياء! تجلس في مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو قد احتسب نفسه ديانةً وله نية فاسدة وطوية ردية، فيثب بك! فمتى كان يستقال هذا، ولو أخليت الأرض منهم؟. فقال: يا أبا الحسين، لا تغضب! فوالله لا تراني على مثلها أبدًا. وبني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف، ينظر منه إلى السماجة.
وذكر موسى بن صالح بن شيخ، أنه كلم إسحق بن إبراهيم في امرأة من أهله، وسأله النظر لها فقال: يا أبا محمد، من قصة هذه المرأة، ومن حالها، ومن بعلها، قال: فوالله إن زال يصفها حتى تحيرت.
قال أبو البرق الشاعر: كان إسحق يجري علي أرزاقًا، فأنشدته يومًا، فسألني عن عيالي، وما احتاج إليه لهم، ثم قال لي: تحتاج عيالك في كل شهر من الدقيق كذا، ومن كذا كذا ... فما زال يخبرني بشيء من أمر منزلي جهلته وعلمه هو! قال: وورد على إسحق كتاب من المعتصم، وهو جالس يشرب، ومعه محمد بن راشد الخناق، وكان خصيصًا به أثيرًا عنده. فما فرغ من قراءة الكتاب حتى قال: سياط وعقابين وجلادين! فأحضر ذلك. فأمر بمحمد بن راشد، فأقيم من مجلسه وشق عنه ونصب في العقابين، وهو يقول: أيها الأمير، ما حالي؟ ما قصتي؟. فقال: الحق الجوهر الذي كان لفلان، من صفته كيت وكيت، تحضرنيه الساعة، وإلا أتيت على نفسك!. فذهب يتلكأ فقال: أوجعوا! فلما أحس بالضرب، قال: أنا أحضره أيها الأمير. قال: وحق أمير المؤمنين، لا برحت مكانك أو تحضره!. فأحضره لوقته. فلما رآه إسحق، سري عنه وأسفر وجهه وقال: هاتوا ثيابًا، فأتي بخلعة، فألبسها. ورده إلى موضعه. وأجاب عن الكتاب، وأنفذ الحق لوقته إلى المعتصم. فقال محمد: أيها الأمير، ما أبعد ما بين الفعلين؟. فقال: ويحك! وفيت الخدمة والنصيحة، ووفيت المودة بعد ذلك حقها.
وذكر أبو حشيشة الطنبوري، قال: كنت يومًا في منزلي، إذ طرق الباب صاحب بريد، وقال: أجب! فلما قال أجب، علمت أنه أمر عال. فلبست ثيابي، ومضيت معه حتى دخلنا دار إسحق بن إبراهيم. فعدل بي إلى ممر طويل فيه حجر متقابلة، تفوح من جميعها روائح الطعام. فأدخلت حجرة منها، وقدم إلي طعام في نهاية النظافة وطيب الرائحة، فأكلت. وجاؤوني بثلاثة أرطال، فشربت. وأحضروا لي صندوقًا فيه طنابير، فاخترت طنبورًا منها، وأصلحته على الطريقة، وأخرجت من الموضع إلى حجرة لم أر أحسن منها. وإذا في مجلسها رجلان جالسان، على أحدهما قباء ملحم وقلنسوة سمورية، وعلى الآخر ثياب خز؛ وستارة مضروبة فيه. فسلمت وأمرت بالجلوس، فجلست. فقال لي صاحب السمورية: غنّ! فغنيت:
ما أُراني إلا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران
ملّني واثقًا بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالانسان
1 / 9
فغنيته، فشرب رطلًا، ونقر الستارة وقال: غنوه! فغني الصوت أحسن غناء في الدنيا، وخلت أن البيت يرقص! فقال لي: كيف ترى؟ قلت: قد والله، يا مولاي، بغضوا إلي هذا الصوت وسمجوه في عيني. فضحك واستعادنيه ثلاث دفعات، يشرب في كل دفعة منها رطلًا. ثم قال: أتعرفني؟ قلت: لا! قال: أنا إسحق بن إبراهيم، وهذا محمد بن راشد الخناق. ووالله، لئن ظهر حديث هذا المجلس منك، لأضربنك ثلثمائة سوط! قم إذا شئت! فقمت من بين يديه، فلحقني الغلام بصرة فيها ثلثمائة دينار، فاجتهدت أن يأخذ منها شيئًا، فأبى! وذكر عمرو بن بانة، قال: وجه إلي إسحق بن إبراهيم في آخر النهار، فصرت إلى داره وأدخلت عليه، وهو جالس في طارمةٍ ملبسة بالخز، على دجلة، وقد انبسط القمر على الروشن وعلى دجلة، وهو من أحسن منظر رأيت قط! والمعينون جميعًا بين يديه، وبذل جالسة وراء مقطع في الطارمة. فلم يزل جالسًا بموضعه، ونحن في يديه، إلى أن نودي بالفجر فقام وقمنا. وقال لنا الغلمان: انصرفوا! فنزلنا إلى الشط، ودعونا بسميرية، فجلسنا جميعًا، وقلت لهم: إن منزلي أقرب من منازلكم، فاجعلوا مقامكم اليوم عندي، ففعلوا. وحصلنا في المنزل، فطلبت فيه شيئًا يؤكل، فلم أجد! فأمرت بإحضار المائدة، فأحضرت فارغة، وطرحت في وسطها مائة درهم صحاحًا وقلت: يوجه كل واحد منكم، فيشتري له ما يريد. فما كان بأسرع من أن امتلأت بكل شيء! فأكلنا وشربنا، ومر لنا يوم طيب، وتفرقنا آخر النهار، وفي قلوبنا غصص مما فعله بنا إسحق، وما فاتنا من تلك الليلة الحسنة في ذلك الموضع الحسن! فمضيت بعد ذلك إلى بذل، وسألتها عن السبب فيما فعله، فقالت: قد سألته عن ذلك، فقال: ويحك! أنا أشتهي الشرب في مثل هذه الليلة منذ سنة، وأدافع نفسي به، فلما حصل لي جميع ما أريده وأشتهيه، أردت أن أري نفسي سلطاني عليها وقهري لها ومنعها مما تحبه، لئلا تقودني إلى ما تريد، ففعلت ما رأيت.
وكان مع ذلك حسن المروءة، كريم النفس. فذكر أبو حشيشة، قال: دعاني في بعض الأيام، فصرت إليه وجلست أغنيه، وعليه دراعة خز خضراء لم أر أحسن منها قط. فجعلت أنظر إليها، وفطن بنظري، فدعا بالخازن وقال: كانوا جاؤونا منذ أيام بعشرة أثواب خز خضر، هذا أحدها، فجئني ببقيتها. فأحضر تسعة أثواب، يتجاوز حسنها كل وصف، فأعطانيها، فبعت من رذالها الثوب بمائة دينار! وقال: طرق أحمد بن يوسف الكاتب، إسحق بن إبراهيم، فقدم إليه كل شيء حسن من الأطعمة والآلة، وضربت الستائر، وأحضرت الفواكه والنبيذ، ومر يوم لم يكن مثله. ثم سأل أحمد أن يكون عنده من الغد، فقال أحمد: يفوتني الصيد. فأحضر جارية وغلامًا وفرسًا لم ير أحسن منهم، وقال: هذا صيدك غدًا. ثم تصنع له من الغد، فرأى أحمد شيئًا لم ير مثله قط.
وقال له إسحق: أمس كان فتوة، واليوم مروة.
وكان المأمون يصير إلى داره، فيقيم عنده الأيام هو وغلمانه وحشمه أنسًا به وثقة بمكانه.
واجتازت يومًا زبيدة في دجلة في حراقتها، فصعدت إلى دار إسحق لبعض حاجتها، فعرض عليها إسحق الطعام، فأمرت بإحضاره، فعجبت مما رأت ومما قدم. وقالت: والله ما كانت بي حاجة إليه، وإنما أردت أن أختبر مروءته، فوجدته أتم الناس مروءةً، هذا من غير تصنع لي ولا علم بمجيئي.
دير أشموني
وأشموني، امرأة بني الدير على اسمها، ودفنت فيه. وهو بقطربل، غربي دجلة. وعيده اليوم الثالث من تشرين الأول، وهو من الأيام العظيمة ببغداد، يجتمع أهلها إليه كاجتماعهم إلى بعض أعيادهم، ولا يبقى أحد من أهل التطرب واللعب إلا خرج إليه، فمنهم في الطيارات ومنهم في الزبازب والسميريات، كل إنسان بحسب قدرته. ويتنافسون فيما يظهرونه هنالك من زيهم، ويباهون بما يعدونه لقصفهم، ويعمرون شطه وأكنافه وديره وحاناته. ويضرب لذوي البسطة منهم الخيم والفساطيط، وتعزف عليهم القيان. فيظل كل إنسان منهم مشغولًا بأمره، ومكبًا على لهوه؛ فهو أعجب منظر وأطيب مشهد وأحسنه! وهناك أيضًا دير يسمى دير الجرجوث وحوله بساتين ومزارع، ومن ضاق به دير أشموني، عدل إليه.
1 / 10
قال جحظة: خرجت في عيد من أعياد أشموني إلى قطربل، فلما وصلت إلى الشط، مددت عيني لأنظر موضعًا خاليًا أصعد إليه، أو قومًا ظرافًا أنزل عليهم، فرأيت فتيين من أحسن الناس وجوهًا وأنظفهم لباسًا، وأطرفهم آلة! فقدمت سميريتي نحوهما، وقلت: أتأذنون في الصعود إليكم؟ فقالوا: بالرحب والسعة! فصعدت وقلت: يا غلام، طنبوري ونبيذي! فقالا: أما الطنبور فنعم، وأما النبيذ فلا. فجلست مع أحسن الناس أخلاقًا وأملحهم عشرة. وأخذنا في أمرنا. ثم تناولت الطنبور، وغنيت بشعر لي:
سقيًا لأُشموني ولذاتها ... والعيش فيما بين جناتها
سقيًا لأيام مضت لي بها ... ما بين شطّيها وحاناتها
إذا اصطباحي في بساتينها ... وإذ غبوقي في دياراتها
فنعر القوم، وشربوا بالأرطال وشربت، وطاب لنا الوقت إلى آخر النهار.
ثم قلت لأحدهما: جعلت فداك، ما أرى في هذا الجمع أرق منكما طبعًا، ولا أرق نبيذًا. فقال لي مجيبًا:
شرابي رقيقٌ كما قد رأي ... ت، ود بسهم بذباب يساط
وأشار إلى القوم، ثم قال:
فكيف أكون نظيرًا لهم ... أين لي بعقلك أم ذا ضراط
ثم قال: أزيدك؟ قلت: لا. ومر لنا أطيب يوم وأحسنه! قال محمد بن المؤمل الطائي: كنت مع أبي العتاهية في سميرية، ونحن سائرون إلى أشموني. فسمع غناء من بعض النواحي، فاستحسنه وطرب له. فقال لي: تحسن ترقص؟ قلت: نعم! فقال: قم بنا نرقص. قلت: نحن في سميرية، وأخاف أن نغرق! قال: وإن غرقنا نكون ماذا؟ أليس نكون شهداء الطرب؟ وللثرواني، فيه:
إشرب على قرع النواقيس ... في دير أشموني بتغليس
لا تخف كأس الشرب، والليل في ... حدّ نعيم لا ولا بوس
إلا على قرع النواقيس ... أو صوت قسّان وتشميس
فإنما الشيء بأسبابه ... ومحكم الوصف بتأسيس
فهكذا فاشرب، وإلا فكن ... مجاورًا بعض النواويس
قال: كتب يحيى بن كامل إلى عبد الملك بن محمد الهاشمي في يوم أشموني:
اليوم أشموني أبا الفضل ... وهو عجيبٌ طيب الظلّ
وأنت لليوم صريعٌ فما ... يصنع يحيى يا أبا الفضل
فوجه إليه بما ركبه، وعرف الجماش الخبر، فكتب إليه:
قولا لعبد الملك الماهر ... ولابن عم المصطفى الطاهر
أما ترى اليوم، وأحواله ... تدعو إلى حثّك بالدائر
عيدٌ وغيم زار في يومنا، ... فقم بحقّ العيد والزائر
واليوم أشموني، فبادر بنا، ... تحثُّها في يومها الزاهر
حبوت يحيى ثم أغفلتني ... أحلت عن جماشك الشاعر
فوجه إليه وأحضره. ومر لهم يوم طيب.
ولأبي الشبل البرجمي، فيه:
شهدت مواطن اللذات طرا ... وجبت بقاعها بحرًا وبرّا
فلم أر مثل أشموني محلًا ... ألذّ لحاضريه ولا أسرّا
به جيشان من خيل وسفن ... أناخا في ذراه واستقرا
كأنهما زحوف وغىً ولكن ... إلى اللذات ماكرّا وفرا
سلاحهما القواقز والقناني ... وأكواسٌ تدور هلمّ جرا
وضربهما المثالث والمثاني ... إذا ما الضرب في الحرب استحرا
وأسرهما ظباء الدّير طوعًا ... إذا أسد الحروب أسرن قسرا
لقد جرّت لنا الهيجاء خيرًا ... إذا ما جرت الهيجاء شرا
وكان أبو الشبل هذا من الطياب، وله شعر مليح، وطبع رقيق. وكان منعكفًا على الشرب لا يفارقه ولا يوجد إلا سكران. وكان يتطرح في الديارات والحانات ومواطن اللهو، لا يغبها ولا يتأخر عنها.
وكان بينه وبين محمود الوراق مودة، وكانا لا يفترقان. وذكر أبو الشبل، قال: صرت أنا ومحمود إلى قطربل، فدعونا الخمار، فقلنا: ايتنا ببنت عشر قد أنضجها الهجير. فجاءنا بها. فقلنا: اسقنا! فسقانا. فقلنا: اشرب واسقنا! فقال: أنا مسلم، وكان يهوديًا قد أسلم. فقال لي محمود: قوم يكون الخمار عندهم مسلمًا متحرجًا، وهم عند الخمار كفار، أترى لله فيهم حاجة؟.
1 / 11
قال: كان أبو الشبل يعابث خنساء قينة هشام الضرير النحوي، وكانت تقول الشعر؛ فعبث بها يومًا وأفرط، فغضبت وقالت: ليت شعري، بأي شيء تدل؟ أنا والله أشعر منك! ولئن شئت لأهجونك حتى أفضحك! فأقبل عليها، وقال:
خنساء قد أفرطت علينا ... فليس منها لنا مجير
تاهت بأشعارها علينا ... كأنما ناكها جرير
فخجلت حتى بان ذلك عليها وانقطعت عن جوابه.
ولأبي الشبل في جارية سوداء كان يهواها، فعوتب عليها، وكان مولعًا بالسودان:
غدت بطول الملام عاذلةٌ ... تعذلني في السّواد والدّعج
ويحك، كيف السلوّ عن غرر ... مقيّرات الوجوه كالسّبج
يحملن بين الأفخاذ أسنمة ... تطير أوبارها من الوهج
لا عذّب الله مؤمنًا بهم ... غيري، ولا حان منهم فرجي
فإنني بالسواد مبتهجٌ ... ولست بالبيض جد مبتهج
وله في جارية كان يحبها اسمها تبر:
لم تنصفي يا سمّية الذهب ... تتلف نفسي وأنت في لعب
يا بنت عم المسك الذكي ومن ... لولاك يُجتب ولم يطب
ناسبك المسك في السواد وفي الطي ... ب، فأكرم بذاك من نسب
دير سابر
وهذا الدير ببزوغى، وهي بين المزرفة والصالحية، في الجانب الغربي من دجلة. وهي عامرة، نزهة، كثيرة البساتين والفواكه والكروم والحانات والخمارين، معمورة بأهل التطرب والشرب، وهي موطن من مواطن الخلعاء.
والدير حسن، عامر، لا يخلو من متنزه فيه ومتطرب إليه.
وللحسين بن الضحاك، فيه:
وعواتق باشرت بين حدائق ... ففضضتهنّ وقد حسن صحاحا
أتبعت وخزة تلك وخزة هذه ... حتى شربت دماءهنّ جراحا
أبرزتهن من الخدور حواسرًا ... وتركت صون حريمهنّ مباحا
في دير سابر والصباح يلوح لي ... فجمعت بدرًا والصباح وراحا
فاذهب بظنّك كيف شئت، فكله ... مما اقترفت تغطرسًا وجماحا
وكان الحسين بن الضحاك، من الأدباء الشعراء وأهل الخلاعة والمجون، وبالخليع يعرف. ونادم جماعة من خلفاء بني العباس، منهم: الأمين، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. فأما المأمون، فإنه لم يدخل إليه ولم يختلط به، وذاك أنه رثى الأمين، فقال فيه:
هلا بقيت لسدّ فاقتنا ... فينا وكان لغيرك التلف
قد كان فيك لمن مضى خلف ... فاليوم أعوز بعدك الخلف
فلما ورد المأمون من خراسان إلى بغداد، أمر بأن تثبت له أسماء من يصلح لمنادمته من أهل الأدب، فأثبت له قوم ذكر فيهم الحسين بن الضحاك وكان من جلساء محمد المخلوع، فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم حسين فقال: أليس القائل في محمد: وكان لغيرك التلف؟ والله، لا حاجة لي فيه ولا رأى وجهي إلا على قارعة الطريق! فلم يحظ طول أيام المأمون بشيء! وكان وقت خدمته المتوكل، ضعف كبرًا، فكتب إليه يستعفيه من الخدمة، فقال:
أسلفت أسلافك فيما مضى ... من خدمتي إحدى وستينا
كنت ابن عشرين وخمس فقد ... وفّيت بضعًا وثمانينا
إني لمعروف بضعف القوى ... وإن تجلدت أحايينا
وإن تحملت على كبرتي ... خدمة أبناء الثلاثينا
هدت قواي ووهت أعظمي ... وصرت في العلّة عزّونا
وخفت أن يعجل بي معجلٌ ... إلى التي تعيي المداوينا
عزون هذا الذي ذكره، نديم كان للمعتصم، ثم نادم المتوكل.
وذكر عزون هذا، قال: كمنا مع المعتصم في بعض متنزهاته. فاحتجنا أن نخوض نهرًا، وكان معنا حسين بن الضحاك، فكاد أن يغرق. فقبض المعتصم على عضه، وحمله من السرج حتى عبر به النهر إشفاقًا عليه.
وكان الحسين مستهترًا بالخدم جدًا، ولم يقصر عن ذاك حتى مات.
قال المتوكل: أنشدني حسين قوله:
فلو شئت تيسرت ... كما سميت يا يسر
ولا والله لا تبر ... ح أو ينصرم الأمر
فأمّا المنع والذم ... وإما البذل والشكر
فدعني من مواعيد ... ك إذ حيّنك الدهر
فقل: أيهما كان ... فقال البذل والشكر
1 / 12
قال أبو عبد الله بن حمدون: كنا عند المتوكل في يوم نوروز، والهدايا تعرض عليه، وفيها تماثيل من عنبر. وكان شفيع الخادم واقفًا، وعليه أقبية موردة ورداء مورد، وهو فيها من أحسن الناس وجهً. فجعل المتوكل يدفع إلى شفيع قطعةً قطعة من ذلك العنبر، ويقول: ادفعها إلى حسين، واغمز يده فيفعل ذلك. وكان آخر ما دفع إليه وردة حمراء حياه بها، فأنشأ يقول:
وكالوردة البيضاء حيا بأحمر ... من الورد يسعى في غلائل كالورد
له عبثات عند كل تحية ... بكفيه تستدعي الخليّ إلى الوجد
تمنيت أن أُسقى بكفيه شربةً ... تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله دهرًا لم أبت فيه ليلةً ... من الدهر إلا من حبيب على وعد
فأمره المتوكل أن يسقيه، وقال: قد أعطيناك أمنيتك.
وكان حسين ينادم صالح بن الرشيد، فشرب معه مرة في متنزه بباري، وهي من أعمال كلواذا. وكان له هناك بستان حسن جليل وسوره باق إلى الآن وآثاره. وقال يصف البستان وصبوحهم فيه، وهي من مليح شعره:
أما ناجاك بالنظر الفصيح ... وإنّ إليك من قلب قريح؟
فليتك حين تهجره ضرارًا ... مننت عليه بالقتل المريح
بحسنك كان أول حسن ظني ... أما ينهاك حسنك عن قبيح؟
وما ينفكّ متّهمًا لنصحي ... بنفسي نفس متهم نصيح
أحبّ الفيء من نخلات باري ... وجوسقها المشيّد بالصفيح
ويعجبني تناوح أيكتيها ... إليّ بريح حوذان وشيح
ولن أنسى مصارع للسكارى ... ونادبة الحمام على الطلوح
وكأس في يمين عقيد ملكٍ ... تزين صفاته غرر المديح
صريح مدامة هويت صريحًا ... وهل تزري الصريحة بالصريح
ألا يا عمرو، هل لك في الصبوح ... هلم إلى صفية كل روح
فقام على تخاذل مقلتيه ... وسلسل بالسنيح وبالبريح
وأتبع سكرةً سلفت بأُخرى ... وخلّى الصحو للّحز الشحيح
وذكر عمرو بن بانة، قال: كنا عند صالح بن الرشيد في بستانه هذا، ومعنا الحسين بن الضحاك، وحولنا من النرجس أمر عظيم، وقد طلع القمر على الشجر والنور، ووقتنا من أحسن وقت رئي، وخادم لصالح كان يحبه يسقيه. فقال للحسين: قل في مجلسنا هذا شيئًا يتغنى به ابن بانة وأشار إلى الخادم، فقال:
وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا
وإذا ما تنفس النرجس الغ ... ض توهمته نسيم نشاكا
خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا
لأدومنّ ما حييت على الود ... لهذا وذاك إذ حكياكا
قال عمرو: فغنيت فيه. ومر لنا أطيب وقت وأحسنه! قال الحسين بن الضحاك: كنت جالسًا في داري يوم وشك، وقد أفطر المأمون، وأمر الناس بالافطار. فجاءتني رقعة الحسن بن رجاء، يقول فيها:
هززتك للصبوح وقد نهاني ... أمير المؤمنين عن الصيام
وعندي من بنات الكرخ عشر ... تطيب بها مصافحة المدام
ومن أمثالهن إذا انتشينا ... نرانا نجتني ثمر الحرام
فكنت أنت الجواب، فليس شيء ... أحب إلي من حذف الكلام
فوردت علي رقعته، وقد أرسل إلي محمد بن الحرث بن بسخنر غلامًا له، نظيف الوجه كان يتحظاه، ومعه ثلاثة غلمان أقران حسان الوجوه، ورقعة منشورة قد ختم أسفلها مثل المناشير، فيها:
سر على اسم الله يا أح ... سن من غصن لجين
في ثلاث من بني الرو ... م إلى دار حسين
أشخص الكهل إلى مو ... لاك يا قرّة عيني
أره العنف إن استع ... صى وطالبه بدين
ودع اللفظ وخاطب ... هـ بغمز الحاجبين
واحذر الرجعة من وج ... هك في خفّي حنين
فمضيت مع غلام بن الحرث، وتركت المضي إلى الحسن.
دير قوطا
1 / 13
وهذا الدير بالبردان، على شاطىء دجلة. وبين البردان وبغداد بساتين متصلة ومتنزهات متتابعة. منها إلى بلشكر، ثم إلى المحمدية، ثم إلى الطولوني الصغير، ثم إلى الطولوني الكبير، ثم إلى البردان. كل ذلك بساتين وكروم وشجر ونخل.
والبردان، من المواضع الحسنة، والبقاع النزهة والأماكن الموصوفة. وهي كثيرة الطراق والمتنزهين.
وهذا الدير بها. وهو يجمع أحوالًا كثيرة، منها: عمارة البلد، وكثرة فواكهه، ووجود جميع ما يحتاج إليه فيه؛ ومنها أن الشراب هناك مبذول، والحانات كثيرة؛ ومنها أن في هذا الموضع ما يطلبه أهل البطالة والخلاعة من الوجوه الحسان، والبقاع الطيبة النزهة، فليس يكاد يخلو.
ولعبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، فيه:
يا دير قوطا، لقد هيجت لي طربا ... أزاح عن قلبي الأحزان والكربا
كم ليلة فيك واصلت السرور بها ... لما وصلت لها الأدوار والنخبا
في فتية بذلوا في القصف ما ملكوا ... وانفقوا في التصابي المال والنشبا
وشادن ما رأت عيني له شبهًا ... في الناس، لا عجمًا منهم ولا عربًا
إذا بدا مقبلًا، ناديت: واطربا! ... وإن مضى معرضًا، ناديت: واحربا!
أقمت بالدير حتى صار لي وطنًا ... من أجله، ولبست المسح والصلبا
وصار شماسه لي صاحبًا وأخًا ... وصار قسيسه لي والدًا وأبا
ظبي، لواحظه في العاشقين ظبى ... فمن دنا منه مغترًا، بها ضربا
إن سمته الوصل أبدى جفوة ونبا ... أو سمته العطف ولى معرضًا وأبى
وإن شكوت إليه طول هجرته ... وما ألاقيه من إبعاده قطبا
والله، لو سامني نفسي سمحت بها ... وما بخلت عليه بالذي طلبا
وكان عبد الله هذا، من الأدباء الظرفاء، وكان صاحب غزل ومجون، كثير التطرح في الديارات والحانات، والاتباع لأهل اللهو والخلاعة! وله شعر مليح يغنى فيه ويتغنى هو أيضًا فيه وفي غيره.
وقال له محمد بن عبد الملك الزيات يومًا: أنشدني من شعرك. قال: وما قدر شعري، أيها الوزير؟ قال: ألست الذي يقول:
وشادن رام، إذ مرّ ... في الشعانين، قتلي
يقول لي: كيف أصبح ... ت؟ كيف يصبح مثلي؟
من يقول هذا، يقول ما مقدار شعري؟ قال: وكان عبد الله تعشق عساليج، جارية عمته رقية، فقالت له بذل الكبيرة: أرني عساليج، فإما عذرتك وإما عذلتك! قال: فدعاها إلى منزله، وحضرت بذل، فابتدت عساليج، فغنت:
أأن خنتم بالغيب عهدي فما لكم ... تدلون إدلال المقيم على العهد
صلوا وافعلوا فعل المدلّ بوصله ... وإلا، فصدوا وافعلوا فعل ذي الصد
فأتت فيه بكل شيء حسن. فقال لبذل: كيف ترين يا ستي؟ فقطعت عساليج الغناء، وقالت: يا عبد الله، تشاور فيّ؟ فوالله ما شاورت فيك حين وددتك! فنعرت بذل وقالت: ايه! أحسنت والله يا صبية! ولو لم تحسني شيئًا ولا كانت فيك خصلة تحمد، لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة؛ أحسنت والله؟ ثم قالت: أحسنت والله يا عبد الله، عذرتك! ومن شعر عبد الله:
اسقني الراح، قد خلعت العذارا ... وتحملت فيك قالًا وقيلا
اسقني طارد الهموم ولا تم ... زج منه الغداة إلا قليلا
ومن شعره:
يا حبذا يومي بالدالية ... نشربها قفصيّةً صافيه
مع كل قرم متلفٍ ماله ... لم تبق في الدنيا له باقيه
فخذ من الدنيا ولذاتها ... فإنما نحن بها عاريه
قال: وكتب عبد الله إلى صديق له يدعوه: جعلت فداك، أنا وقلم، وأنت أعلم! وكان عبد الله يعشق جارية نصرانية ويهيم بها. فله فيها:
فتنتنا صورة في بيعة ... فتن الله الذي صورّها
زادها الناقش في تحسينها ... أنه إذ صاغها نصّرها
وله فيه لحن.
وكانت مصابيح، جارية الأحدب المقين، تغني بهذا الصوت، وتغني في كثير من شعره. وكانت أروى الناس له وأعرفهم بغنائه. وكانت موصوفة بالحسن والاحسان. وكان عبد الله يهواها.
ومما غنت فيه من شعر عبد الله:
1 / 14
ألا اصبحاني يوم الشعانين ... من قهوة عتقت بكركين
عند أُناس قلبي بهم كلفٌ ... وإن تولوا دينًا سوى ديني
ولعبد الله في مصابيح، وكان قال هذا الشعر وغنى فيه وهي حاضرة، فأخذته عنه، وغنت فيه أيضًا متيم الهشامية.
إني عشقت عدوةً ... فسقى الاله عدوتي
وفديتها بأقاربي ... وبأسرتي وبجيرتي
جدلت كجدل الخيزرا ... ن وثنيّت فتثنّت
واستيقنت أن الفؤا ... د يحبها فأدلّت
قال: وغاضب مصابيح عبد الله بن العباس في شيء بلغها عنه. فرام أن يترضاها، فأبت. فكتب إليها رقعة، يحلف فيها أنه ما أتى شيئًا مما أنكرته، ويدعو على من ظلم. فلم تجبه عن شيء مما كتبه، ووقعت تحت الدعاء: على الظالم. آمين ولم تزد على ذلك. فكتب إليها:
أما سروري بالجوا ... ب فليس يفنى ما بقينا
وأسرُّ حرف فيه لي ... آمين ربّ العالمينا
ومن شعره:
ذهبٌ في ذهب را ... ح به غصن لجين
فأتت قرة عين ... بيدي قرّة عين
قمر يحمل شمسًا ... مرحبًا بالنّييرين
الفا سكرين الفي ... ن معًا مؤتلفين
لا جرى بيني ولا بي ... نهما طائر بين
بل غنينا ما بقينا ... أبدًا معتنقين
في صبوح وغبوق ... لم نبع نقدًا بدين
دير مرجرجس
هذا الدير بالمزرفة. وهو أحد الديارات والمواضع المقصودة. والمتنزهون من أهل بغداد يخرجون إليه دائمًا في السميريات، لقربه وطيبه. وهو على شاطىء دجلة. والعروب بين يديه، والبساتين محدقة به، والحانات مجاورة له. وكل ما يحتاج إليه المتنزهون فحاضر فيه.
والمزرفة، من أحسن البلاد عمارة، وأطيبها بقعة، وبها من البساتين ما ليس ببلد من البلدان.
ولأبي جفنة القرشي فيه، وكان من الخلعاء ومدمني الشرب والمتطرحين في الديارات والحانات. ولم يكن يخلو من غلمان مرد، بعضهم يخدمه، وبعضهم يغنيه:
ترنم الطير بعد عجمته ... وانحسر البرد في أزمّته
وأقبل الورد والبهار إلى ... زمان قصف يمشي برمته
ما أطيب الوصل إن نجوت فما ... يلسعني هجره بحمّته
ومثل لون النجيع صافية ... تذهب بالمرء فوق همته
نازعتها من سداؤه أبدًا ... في العشق والفسق مثل لحمته
في دير مرجرجس وقد نفح ال ... فجر علينا أرواح زهرته
أريد منه وليس يمنعني ... من ذلك الشيء غير حشمته
وفي بميعاده وزورته ... وكنت أوفى له بذمته
ومن مليح شعره:
ومعرّس طلب الصبوح وإنني ... لفتىً يوافقني الصبوح بكورا
وقرعت صافيةً بماء سحابة ... فنتجن حين قرعتهن سرورا
فشربت ثم سقيته فكأنما ... سبسبت فوق لهاته كافورا
وفتىً يدير عليك في طرباته ... خمرًا تولّد في العظام فتورا
وإذا رشفت شفتيك رضابها ... كتب العقار بحسن وجهك نورا
ما زلت أشربها وأسقي صاحبي ... حتى رأيت لسانه مكسورا
مما تخيّرت التجار ببابل ... أو ما تعتّقه اليهود بسورا
وله:
ومزورّ وجهٍ لم ير الناس مثله ... أدرت عليه الكأس لما تغضّبا
يؤاخذني إن رمت في الخد قبلة ... ويعرض عني كلما قلت: مرحبا
ولولا الذي يرتجّ تحت إزاره ... لألسعته مني، إذ صد، عقربا
أدرت عليه قهوة بابليةً ... تريك حميّاها على الكاس كوكبا
إذا شجّها الساقي بماء تدرّعت ... على المزج سربالًا من الدرّ مذهبا
وللنميري، فيه:
نزلت بمرماجرجس خير منزل ... ذكرت به أيّام لهو مضين لي
تكنّفنا فيه السرور وحفنا ... فمن أسفل يأتي السرور ومن عل
1 / 15
وسالمت الأيام فيه وساعفت ... وصارت صروف الحادثات بمعزل
يدير علينا الكأس ظبيٌ مقرطق ... يحثّ بها كأساتها ليس يأتلي
فيا عيش ما أصفى، ويا لهو دم لنا، ... ويا وافد اللذّات حيّيت فانزل
وهو أبو الطيب، محمد بن القاسم النميري. وكان من أهل الأدب والفضل، مليح الشعر، رقيق الطبع. وكانت له حال ونعمة. وكان يكثر الشرب في الديارات والحانات، ويلذ له ذلك.
وكان عبد الله بن المعتز، يأنس به ولا يفارقه، وكانت تجري بينهما مكاتبات ومناقضات في الشعر ومداعبات طيبة. ونحن نذكر منها: قال عبد الله بن المعتز: كتب إلي النميري يومًا، وقد دعوته:
رأيتك تدعوني إلى الشرب معتمًا ... وتقطع عني الشرب والليل ممتع
فأما شربت الراح ليلك كلّه ... وإما شربت الراح والشمس تلمع
فأيهما آثرت وفيت حقّه ... وذاك الذي تهواه شرب مخلع
قال: وكتبت إليه في يوم عيد، ولم يكن جاءني ذلك اليوم:
بأبي، هلا حلا بعينك شيء ... هو أسلاك، يا خليلي، بعدي
طعم كأسي مرٌّ، إذا لم تزرني ... وهو حلوٌ، إذا رأيتك عندي
فكتب إلي:
سيدي أنت لم تردني فماذا ... حيلتي إذ بليت منك بصدّ
يعلم الله ما أُقاسيه من شو ... قي ومن حسرتي وغمي ببعدي
قال عبد الله، وكتبت إليه مرة أدعوه، فكتب إلي: عندي قوم، ولعلي أتخلص منهم. وعلق الوعد. فكتبت إليه:
يا من يسوّف وعدي ... لو شئت جئت بمرّه
فاسقط علينا سقوطًا ... ولا ترفرف لغدره
فإن ضبطت بساقي ... ك بعد هذي المرّه
لأحبسنّك عندي ... على أذىً ومضره
قال عبد الله: وكتب إلي النميري في آخر شعبان:
يا أبا العباس، قد ش ... مّر شعبان إزاره
ومضى يسعى فما يل ... حق إنسان غباره
فاغد نشرب صفوة الدّ ... نّ ونسلبه وقاره
وإذا ما ذكر العق ... ل شربنا يا دكاره
قال: وكتب إلي، وقد تأخر اجتماعنا:
بكم الموت في الجماعة خيرٌ ... من حياةٍ في وحشة وانفراد
عرّفوني اجتماعهم يومهم ذا ... واستبدّوا عليّ في الميعاد
والحريري رأسهم وبحسبي ... بالحريري رأس كلّ فساد
إن رأى قينةً تحرك للعش ... ق وأرخى جناحه للسفاد
وتصدى لها وحرّك عطفي ... هـ وراقت لشهوة الأولاد
فاعتذرت إليه، وسألته المصير إلينا، فجاءنا.
قال عبد الله: وكتب إلي:
إذا غبت لم أُطلب، وإن جئت لم أصل ... وللعتب أولى بي ولست بعاتب
سأصبر للشوق المبرّح كارها ... وأرقب يومًا صالحًا في العواقب
وما كل من صاحبته مثل قاسم ... فقسه وفكّر في سبيل الذواهب
قال وكتب إلي في يوم خميس صمته:
أبا العباس يا خير الأنام ... تصوم، وليس ذا يوم الصيام
فهل لك في مدام أخ ظريف ... يساعد في الحلال وفي الحرام؟
قال: كتب إلي النميري، يستبطىء رسولي ويعتذر من تأخره عني ويذكر أنه اشتغل بعمارة بستانه. فأجبته: أما ما ذكرت من تأخر رسولي عنك للسؤال عن خبرك في هذه الأيام والتفقد لك، فإني رأيتك قلبت قول القائل: خذ اللص من قبل أن يأخذك! وإلا، فما قصرت في السؤال عنك والبعثة إليك. ولكن ما أقول لمن نكس عليله فلم يعده؟ واشتاق إليه فم يزره؟ مشتغلًا بطروق الحانات والديارات، وركوب الزلالات، ومغازلة القيان، ومعاقرة ابنة الدنان، جامعًا بين طرفي نهاره بغبوق لا يهدأ سامره، وصبوح لا يفتر باكره، في عسكري لهو: واحد يخبط الماء بمجاذيفه، وآخر يقرع الأرض بخببه ووجيفه. وسألت عن خبري في هذه الأمطار، فما عسيت أن أقول في المنة الواجب لله تعالى الشكر عليها، إذ تخطتنا بعد أن سلت سيفها وخفنا حيفها.
قال عبد الله: وكتب إلي النميري:
أميرٌ كنت أرجوه لدهري ... إذا ما ناب بالخطب الجليل
1 / 16
مرضت، فلم يعدني من سقامي ... وتاه عن العيادة والرسول
وما بي حاجة تدعو إلى ما ... أذلّ به لذي النبل المنيل
ولا لمتوّج بالملك يزهى ... إذا ما كنت أقنع بالقليل
فكتبت إليه رقعة، في أخرها:
في كل يوم طاعة وعصيان ... ومللٌ وملقٌ وهجران
خلائق كأنهمّ غيلان
قال: ودعوته ليوم أسميته، فتأخر رسولي عنه، فكتب إلي:
دعوتنا وبدا لك ... نك في استه من وفى لك
قال: وكتب إلي النميري:
برّح بي الشوق إلى الشرب ... مع سيّد يهرب من قربي
ولم أكن أعهده جافيًا ... فصار يجفوني بلا ذنب
والله، ما أعرف لي عنده ... ذنبًا، سوى الافراط في الحب
وأنني ما سؤته ساعةً ... في حاضر الجدّ ولا اللعب
فكتب إليه:
يا أيها الجافي ويستجفى ... ليس تجنّيك من الظرف
إنك والشوق إلينا كمن ... يُؤمن بالله على حرف
محوت آثارك من ودّنا ... غير أساطيرك في الصّحف
وإن تجشمت لنا زورةً ... يومًا، تحاملت على ضعف
قال، وكتب إلي:
أتيتك مسرورًا فطاب لي الشّرب ... ونالت مناها عندك العين والقلب
فجارت عليّ الكأس حتى هجرتها ... ثلاثة أيام كما استوجب الذّنب
فكتبت إليه:
علام هجرت الكأس إذ جار حكمها ... ولا لهو إلا أن تكون، فما الذنب
أدام لك الله السرور ودام لي ... بك العيش والنّعماء واتصل القرب
قال عبدا لله: بعثت إلي النميري يوم جمعة رسولًا، وقلت له: إركب معنا إلى الصلاة، فوجده الرسول قد اصطبح. فقال له: قل له: أنا أصلي مذ صلاة الغداة. فكتبت إليه:
يا من يصلي صلاةً ... فيها لابليس طاعه
إن كنت تقبل شكري ... فالشكر في ذا رقاعه!
قال: وكتبت إليه وقد اعتللت، فلم يعدني:
الحمد لله حتى أنت تجفوني ... بعد الصفاء جفاء ليس بالدّون
قد كنت منتظرًا هذا فجئت به ... وليس خلقٌ على غدر بمأمون
فكتب يعتذر بشغل له واعتلال مركبه. فكتبت إليه:
لا تعتذر! قد عرفنا ... ك سوف تفعل فعلك
ذكرت شغلًا، فهلاّ ... جعلتني بعض شغلك؟
أو لم يكن لك عيرٌ ... فكت تركب نعلك
قال: فكتب إلي:
إن كنت أذنبت ذنبًا ... فقد وثقت بفضلك
وقد أتيتك مشيًا ... كما قضيت بعدلك
وجاءني ماشيًا.
قال النميري: كان عبد الله بن المعتز، يعيب العشق كثيرًا، إلى أن صار يقول: هو طرف من الحمق، وإذا رأى منا مطرقًا أو مفكرًا، اتهمه بهذا المعنى ويقول: وقعت يا فلان، وقل عقلك وسخفت! إلى أن رأيناه قد حدث به سهو شديد وفكر دائم، إلى أن كانت تبدر منه الأبيات في معنى العشق. فمرة يقول:
أسر الحبّ أميرا ... لم يكن قبل أسيرا
فارحموا ذلّ عزيزٍ ... صار عبدًا مستجيرا
ومرة يقول:
عقل المحبّ ساهي ... في قلبه الدواهي
فقلت: جعلني الله فداك! هذه أشياء قد كنت تعيب أمثالها منا، ونحن ننكرها الآن منك! فيرجع تصنعًا، ثم لا يلبث أن تبدر منه بادرة. فقال مرة:
مكتوم يا أحسن خلق الله ... لا تتركيني هكذا بالله
ثم تنفس، فقلت:
قد ظفر العشق بعبد الله ... وانهتك الستر بحمد الله
فقل له: سمّ لنا، بالله، ... هذا الذي تهوى، بحق الله!
فضحك وقال: لا، ولا كرامة، فكتبت إليه من غد:
بكت عينه وشكا حرقةً ... من الوجد في القلب ما تنطفي
فقلت له: سيدي، ما الذي ... أرى بك؟ قال: سقامٌ خفي
فقلت: أعشقٌ؟ فقال: اقتصر ... على ما تراه، أما تكتفي؟
فكتب إلي:
يا من يحدّث عنّي ... بظنّ سمع وعين
إن كنت تخطب سري ... فارجع بخفّي حُنين
فكتبت إليه:
هيهات حظّك واللّ ... هـ أن تبوح بعشقك
1 / 17
دع عنك خُفي حنينٍ ... واحرص على حلّ ريقك
تعال نحتال فيما ... تهوى برفقي ورفقك
ثم صرت إليه. فأخبرني بقصته، فسعيت له بلطف الحيلة، وأعانني بحزم الرأي، إلى أن فاز بالظفر وأدرك البغية.
دير باشهرا
وهذا الدير على شاطىء دجلة، بين سامراء وبغداد. وهو دير حسن، عامر، نزه، كثير البساتين والكروم. وهو أحد المواضع المقصودة والديارات المشهورة. والمنحدرون من سر من رأى، والمصعدون إليها، ينزلونه. فمن جعله طريقًا، بات فيه وأقام به إن طاب له. ومن قصده، أقام الأيام في ألذ عيش وأطيبه، وأحسن مكان وأنزهه! ولأبي العيناء فيه، وكان نزله وأقام به أيامًا، واستطابه، وقال فيه:
نزلنا دير باشهرا ... على قسيسه، ظُهرا
على دين أيسوع ... فما أفتى وما أسرا
فأولى من جميل الفع ... ل ما يستعبد الحرا
وسقّانا وروانا ... من الصافية العذرا
وطاب الوقت في الدير ... فرابطنا به عشرا
وسُقّينا به الشمس ... وأُخدمنا به البدرا
وأحيت لذّة الكأس ... ولكن قتّلت سكرا
ونلنا كل ما نهوا ... هـ من لذاتنا، جهرا
تصابينا، وغنّينا، ... وأرغمنا به الدهرا
فنكنا، وتهتكنا، ... ومثلي هتك السترا
وقد ساعدنا ربّن ... طوعًا منه، لا جبرا
جزاه الله عن خير ... به قابلنا خيرا
فقد أوسعته شكرا ... كما أوسعنا برا
وكان أبو العيناء من الطياب. وكان المتوكل يعجب بكلامه وسرعة جوابه ونوادره. وعمي على رأس أربعين سنة من عمره. ومما يدل على ذلك، قول أبي علي البصير، فيه:
قد كنت خفت يد الزما ... ن عليك إذ ذهب البصر
لم أدر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر
وكان حسن الشعر، جيد العارضة، مليح الكتابة والترسل، خبيث اللسان في سب الناس والتعريض بهم.
ونحن نذكر طرفًا من أخباره، بمقدار لا يخرج إلى الاطالة، ولا يخل بالشرط.
قال المتوكل لأبي العيناء: ما أشد شيء مر عليك في ذهاب بصرك؟ قال: فوات رؤيتك يا أمير المؤمنين، مع إجماع الناس على جمالك.
وقال له يومًا: يا محمد، إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ قال: ما أساءوا وأحسنوا.
وقال له عبيد الله بن سليمان: قد أمرنا لك بشيء في هذا الوقت، فخذه واعذر. قال: لا أفعل، أيها الوزير! إذا كنت في النكبة تعتذر، وفي الدولة تعتذر، فتى لا تعتذر؟ وسأل صاعد بن مخلد كتابًا يكبه إلى مصر. فجعل يقول: إلى مصر يا أبا العيناء إلى مصر؟ فقال: وما استبعادك، أعزك الله، لي مصر؟ والله! لما في صناديقك أبعد علي مما في مصر! وخل إلى أبي الصقر، فقرب مجلسه وأدناه، فقال: أيها الوزير! تقريب الولي وحرمان العدو! ودخل عليه يومًا، فقال: ما أخرك عنا، أبا عبد الله؟ قال: سرق حماري! قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص، فأعرف كيف سرقه! ثم جاءه بعد مدة، فقال: ما أخرك عنا أبا عبد الله؟ فقال: من العواري وذلة المكاري. فأمر له بخمسين دينارًا.
قال: دخل أبو العيناء يومًا إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فلم يرفع طرفه إليه، ولا كلمه! فقال: إن من حق نعمة الله عليك، لما أهلك له في الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك خلقًا، فإن من أوحش انقبض عن المسئلة، وبكثرة السؤال مع النجح يدوم السرور، وبقضاء الحاجات تدوم النعم. فقال له محمد: إني أعرفك فضوليًا كثير الكلام. ترى، إن طول لسانك يمنع من تأديبك إذ زللت؟ وأمر به إلى الحبس! فكتب إليه أبو العيناء من الحبس: قد علمت أن الحبس لم يكن لذنب تقدم إليك، ولكن أحببت أن تريني قدرتك علي، لأن كل جديد يستلذ. ولا بأس أن ترينا من عفوك ما أريتنا من قدرتك! فأمر بإطلاقه.
فلقيه بعد مدة طويلة على الطريق، فحبس محمد دابته وقال: ما أراك أبا عبد الله تواصلنا بحسب انجائنا لك! فقال أبو العيناء: أما المعرفة بعنايتك فمتأكدة، ولكنني أحسب الذي جدد استبطاءك لي فراغ حبسك ممن فيه، فأردت أن تعمره بي!
1 / 18
قال: ودخل يومًا على رجل قد عزل عن عمل كان يتولاه. فقال: لئن قبحت عليك النعمة، لقد حسنت بك النقمة! قال: ولم ذاك؟ قال: لأني سألتك أحقر من قدرك، فرددتني بأقبح من وجهك، ثم قال:
قُل لزيد بن صاعدٍ ... جاءك العزل في لطف
فاجرع الهمّ واصطبر ... فعلى ربّك الخلف
أنت أيضًا إذا ولي ... ت فلا تُكثر الصلف
قال: اجتاز ابن بدر بأبي العيناء وهو على بابه جالس. فقال: هذا منزلك أبا عبد الله؟ قال: نعم! فإن شئت أن ترى سوء أثرك فيه، فانزل! قال: ومر بدار عبد الله بن منصور يومًا وهو مريض وقد صح، فقال لغلامه: أي شيء خبر أبي محمد؟ قال: كما تحب! قال: فما لي لا أسمع الصراخ في الدار؟ قال: وذكر أبو العيناء ميمون بن إبراهيم، فقال: لو تأمل رجل أفعاله فاجتنبها، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها! قال أبو العيناء: قال لي محمد بن مكرم: أما تعرفني؟ قلت: بلى، ولكن معرفة أرثي لك منها! وقال له محمد بن مكرم يومًا: يا أبا عبد الله، كل شيء لك من الناس حتى أولادك! وقال أبو العيناء: رأيت ابن مكرم، فرأيت بطنه بطن حبلى، ونفسه نفس ولهى، ومخاطه مخاط ثكلى، وفي استه الداهية العظمى! وقال له ابن مكرم يومًا: يا أبا عبد الله، هو ذا تصوم معنا في هذا الشهر شيئًا، وكان شهر رمضان. فقال: وتدعنا العجوز نصوم؟ قال رجل لعبيد الله بن سليمن: إن رأيت، أعزك الله، أن تخرج لي رزقًا. فقال: ممن الرجل ليخرج الرزق على قدر ذاك. قال من ولد آدم! قال أبو العيناء: احتفظ، أعزك الله، بهذا النسب، فقد انقطع أصله! قال: اجتمع الجاحظ وأبو العيناء عند الحسن بن وهب، فقال له الجاحظ: علمت أن محمد بن عبد الله أحسن من عمرو بن بحر، وأبو عبد الله أحسن من أبي عثمان. ولكن الجاحظ أحسن من أبي العيناء. فقال أبو العيناء: هيهات! جئت إلى ما يخفى من أمورنا، ففضلتني عليك فيه، وإلى ما يعرف، ففضلت نفسك فيه. إن أبا العيناء يدل على كنية، والجاحظ يدل على عاهة! والكنية وإن سمجت، أصلح من العاهة وإن فلحت! قال أبو العيناء: عشقتني امرأة بالبصرة من غير أن تراني، وإنما كانت تسمع عذوبة كلامي. فلما رأتني استقبحتني، وقالت قبحه الله، أهذا هو؟ فكتبت إليها:
ونبّئتها، لما رأتني، تنكّرت ... وقالت: دميمٌ، أحولٌ، ما له جسم
فإن تنكري مني احولالًا فإنني ... أديب، أريب، لا عييٌّ ولا فدم
فوقعت في الرقعة: يا عاض بظر أمه، لديوان الرسائل أردتك؟ ولأبي العيناء، في علي بن الجهم:
أراد عليٌّ أن يقول قصيدة ... بمدح أمير المؤمنين، فأذّنا
فقلت له: لا تعجلن بإقامة ... فلست على طهرٍ، فقال: ولا أنا
قال أبو العيناء: أتيت عبد الله بن داود الخريبي، فسألته أن يحدثني، فاستصغرني، وقال: إذهب فتحفظ القرآن. قلت: قد حفظته. قال: إقرأ من رأس ستين من يونس، فقرأت العشر. فقال: أحسنت، إذهب فتعلم الفرائض. قلت: قد حفظتها. قال: فأيهما أقرب إليك: عمك أو ابن أخيك؟ قلت: ابن أخي. قال ولم ذاك؟ قلت: لأن هذا من ولد أبي وهذا من ولد جدي. قال: أحسنت. إذهب فتعلم العربية. قلت: قد فعلت وتعلمت منها ما فيه كفاية. قال: فلم قال عمر بن الخطاب، يعني حين طعن: يا لله، يا للمسلمين. قلت: لن الأول استغاثة، والثاني نداء. فقال: لو كنت محدثًا أحدًا في سنك، لحدثتك!
1 / 19
قال أبو العيناء: دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان يومًا صائفًا، وقوم بين يديه يلعبون بالشطرنج. فقال: يا أبا عبد الله، إنا نلعب في ندب إلى أن يدرك طعامنا، ففي أي الحزبين تحب أن تكون؟ قلت: في حزب الأمير، أيده الله، فإنه أعلى وأبهى. فغلبنا! فقال أبو أحمد: يا أبا عبد الله، قد غلبنا! وقد أصابك بقسطك عشرون رطلًا ثلجًا. أحضره أيها الأمير. ووثبت، فصرت إلى أبي العباس بن ثوابة، فأقرأته السلام من أبي أحمد، وقلت له: إنه يتشوقك، وأراد أن يكتب إليك رقعة، فخاف مراوغتنك، فوجهني رسولًا، وحملني رسالة، ولسنا نفترق إلا بحضرته! فركب معي، وجئنا. فلما وقفت بين يديه، قلت: أيها الأمير، قد جئتك بجبل همذان ثلجًا، فاقتض منه ما قمرنا، والعب مع أصحابك في الباقي! فضحك حتى استلقى! وسأل ابن ثوابة عن القصة، فعرف الخبر، فلما وقف عليها، شتمني وانصرف! قال أبو العيناء: دخلت على المتوكل، ودعوت له، وكلمته. فاستحسن خطابي، وقال لي: بلغني أن فيك شرًا! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله جل وعز، وذم. فقال في التزكية: نعم العبد إنه أواب. وقال في الذم: هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. فذمه، تعالى اسمه. وقد قال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن دائبًا ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمّما
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما
وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع النبي والذمي بطبع لا يميز فقد صان الله عبدك عن ذلك.
فقال لي: وبلغني أنك رافضي. فقلت: يا أمير المؤمنين، وكيف أكون رافضيًا وبلدي البصرة، ومنشأي في مسجد جامعها، واستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة. وليس يخلو الناس من إرادة دين أو دنيا. فإن أرادوا دينًا، فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وتأخير من قدموا. وإن أرادوا دنيا، فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك. أبوك مستنزل العيث، وفي يديك خزائن الأرض، وأنا مولاك. فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك فيك! فقلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرق ذاك بين الامام والمأموم والتابع والمتبوع، إنما ذاك حامل درة ومعلم صبية وآخذ على كتاب الله أجرة. فقال: لا تفعل لأنه مؤدب المؤيد. فقلت يا أمير المؤمنين، إنه لم يؤدبه حسبة وإنما أدبه بأجرة، فإذا أعطيته حقه قضيت ذمامه. فقام ابن سعدان فقال: يا أبا العيناء، لا، والله ما صدق أمير المؤمنين في شيء مما حكاه عني! ثم أقبل على المتوكل فقال: أي شيء أسهل عليك، يا أمير المؤمنين، من أن ينقضي مجلسك على ما تحب، ثم يخرج هذا فيقطعني! قال: فضحك المتوكل.
فقال: كيف داري هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدنيا، وأنت جعلت الدنيا في دارك! فقال لي: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ فقلت: العبد لله ولك، منقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح رعيتك على كل لذة.
فقال: ما تقول في صاحب البريد ميمون بن إبراهيم؟ وكان عرف أني وجدت عليه في تقصير وقع بي منه، فقلت: يا أمير المؤمنين: يد تسرق، واست تضرط! هو مثل يهودي قد سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى؛ ومعه إحجام لما بقى. إساءته طبيعة، وإحسانه تكلف! فقال: إني أريدك لمجالستي. فقلت: لا أطيق ذاك، ولا أقوى عليه. وما أقول هذا جهلًا بما لي في هذا المجلس من الشرف؛ ولكني رجل حجوب، والمحجوب تختلف إشارته ويخفى عليه إيماؤك، ويجوز علي أن أتكلم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان. ومتى لم أميز بين هذين، هلكت فأختار العافية على التعرض للبلاء. قال: صدقت! ولكن تلزمنا. قلت: لزوم الفرض الواجب. فوصلني بعشرة آلاف درهم.
وقال لي يومًا، وقد دخلت إليه: يا محمد، ما بقي في المجلس أحد إلا اغتابك غيري، فقلت:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانًا علي لئامها
وهو أبو عبد الله، محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان. وأصله من اليمامة من بني حنيفة أنفسهم. وكان مسكنه بالبصرة. ثم انتقل إلى بغداد، وانتجع سر من رأى، ولقي الموكل، وأقام بها
1 / 20