189

قليل ولا ريب، والرجاء في ارتقاء معيشة الفلاح الصغير أقرب من الرجاء في زيادة هؤلاء.

فأفضل القدوة وأنفعها على هذا ما جاء من قبل المتعلمين الذين يشبهون الفلاح في نشأته، فيعمد إلى التشبه بهم غير متحرج ولا معتقد في نفسه أنه يعدو طوره، ويخرج من أفقه.

وهنا يأتي دور المعلم الإلزامي في الإصلاح، فيجمع بين الإصلاح بالتعليم والإصلاح بالقدوة السائغة في رأي الفلاح، ويروح في القرية وهو معلم الأبناء والآباء على السواء.

كن أيها المعلم الإلزامي قدوة لمن حولك، وكن على حال ينظر إليها الفلاح فيحب أن يتشبه بها، ويرى بعينه دلائل الخير في محاكاتها، ثم يأنس إلى نصحك بعدما أنس إلى عملك، فيسمع منك القول ويحمد منك العمل، فأنت بما تهديه وتلقي في روعه مصلح جيل لا تفلح في إصلاحه المدرسة وحدها، ولا الكلام الذي يجري به اللسان أو تنطوي عليه الأوراق.

الفصل الثالث والأربعون

المال

قال الدكتور زكي مبارك في حديثه عن الفقر والغنى، ولا نهاية لحديث الفقر والغنى، ولا الفقر والغنى ينتهيان من الدنيا: ... لن أقول كلمة في الوارثين بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لانعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعا أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم، ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال.

ورأيي في الميراث أنه حق وعدل، وأن المذاهب الاجتماعية التي تحرمه تجور على الآباء والأبناء، ولا تتحرى سنن الطبيعة فيما جرت عليه بين جميع الأحياء؛ لأن المجتمع لا يستطيع أن يحول بين الأب وبين توريث أبنائه ما اشتمل عليه من عيوب الخلق والفكر، ومن دمامة الوجه وشوه الجسم وضعف التركيب؛ فليس من العدل أن يحول بينه وبين توريثهم الخير أو نصيبا من الخير، وإن كان عدلا أن تفرض للمجتمع حصة وافية من ذلك النصيب.

كذلك تجري الطبيعة على سنة الوراثة في جميع السلالات، وهي سنة أعرق من المجتمعات الإنسانية وغير الإنسانية، ولم تنشأ عبثا ليلغيها الإنسان كل الإلغاء بقانون أو نظام.

لكنني أخالف الدكتور في قوله: إن الميراث لو عطل «لآثر الناس جميعا أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم ...»

Unknown page