مقدمة
1 - رسالة الأديب
2 - مع أبي العلاء في سجنه
3 - العلم أو الأدب؟!
4 - السنويات الأدبية
5 - حول الحرب والشعر
6 - وأمنيتي ...!
7 - العامية والفقر
8 - سؤالان متباعدان
9 - احتكار الأدب
Unknown page
10 - نحو من النحو!
11 - القراءة في زمن الحرب
12 - في الشعر العربي
13 - بين التزمت والإباحة
14 - أسئلة وأجوبة
15 - سؤالان وجوابان
16 - المدرسة الرمزية
17 - الفنون الجميلة ضرورية
18 - اللعب
19 - المبالاة
Unknown page
20 - مسألة الفقر
21 - الرحمة قوة
22 - السعادة
23 - الطموح والتمني
24 - التلباثي (1)
25 - التلباثي (2)
26 - من طرائف المفارقات
27 - ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر
28 - زواج الأقارب والأباعد
29 - ماذا نعمل؟
Unknown page
30 - هل تصبح مصر اشتراكية؟
31 - هل الحياة «لوترية»؟
32 - هل عندنا سياسيون ...؟
33 - مساجلات
34 - الأدب والإصلاح
35 - المقترحون والمؤلفون
36 - الحروف اللاتينية
37 - الشجاعة الأدبية
38 - الشعر والقصة
39 - ندرة البطولة
Unknown page
40 - توارد الخواطر
41 - لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
42 - القدوة والإصلاح
43 - المال
44 - الزوجة المثلى
45 - ما يمكن تبديله
46 - الحق المجرد
47 - حول ما نكتب
48 - السلفية والمستقبلية
49 - في مصر فلسفة
Unknown page
50 - الفلسفة مأمونة
مقدمة
1 - رسالة الأديب
2 - مع أبي العلاء في سجنه
3 - العلم أو الأدب؟!
4 - السنويات الأدبية
5 - حول الحرب والشعر
6 - وأمنيتي ...!
7 - العامية والفقر
8 - سؤالان متباعدان
Unknown page
9 - احتكار الأدب
10 - نحو من النحو!
11 - القراءة في زمن الحرب
12 - في الشعر العربي
13 - بين التزمت والإباحة
14 - أسئلة وأجوبة
15 - سؤالان وجوابان
16 - المدرسة الرمزية
17 - الفنون الجميلة ضرورية
18 - اللعب
Unknown page
19 - المبالاة
20 - مسألة الفقر
21 - الرحمة قوة
22 - السعادة
23 - الطموح والتمني
24 - التلباثي (1)
25 - التلباثي (2)
26 - من طرائف المفارقات
27 - ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر
28 - زواج الأقارب والأباعد
Unknown page
29 - ماذا نعمل؟
30 - هل تصبح مصر اشتراكية؟
31 - هل الحياة «لوترية»؟
32 - هل عندنا سياسيون ...؟
33 - مساجلات
34 - الأدب والإصلاح
35 - المقترحون والمؤلفون
36 - الحروف اللاتينية
37 - الشجاعة الأدبية
38 - الشعر والقصة
Unknown page
39 - ندرة البطولة
40 - توارد الخواطر
41 - لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
42 - القدوة والإصلاح
43 - المال
44 - الزوجة المثلى
45 - ما يمكن تبديله
46 - الحق المجرد
47 - حول ما نكتب
48 - السلفية والمستقبلية
Unknown page
49 - في مصر فلسفة
50 - الفلسفة مأمونة
يسألونك
يسألونك
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
أدب المقالة
أدب المقالة قديم في اللغة العربية بعد قيام الدولة الإسلامية، نشأ مع أدب «الفصول»، ثم امتزج بالقصة فاقترن «بالمقامة»، وهي على أوجز تعريف مقالة قصصية يلاحظ فيها تجويد الإنشاء.
لكن «الفصل» في الحقيقة هو أصل المقالة الأول في الآداب العربية، وربما كانت الكتب العربية عند أول نشأتها فصولا مجموعة على شيء من الصلة في موضوعها أو بغير صلة بينها على الإطلاق، فإذا فتحت الكثير منها قرأت فصلا في «الأخلاق» إلى جانب فصل في أخبار الشجعان والبلغاء إلى جانب فصل في الدهاء والدهاة إلى أشباه ذلك من الموضوعات، التي هي أقرب الموضوعات إلى «المقالة» بوضعها الحديث.
Unknown page
وقد كتب اليونان والرومان الرسائل التي نسلكها في باب القصة مع قليل من التجوز والتوسيع، ومنها رسائل أرسطو وفلوطرخس ورسائل سنيكا وبيني، وتأملات مارك أوريليوس، وما جرى مجراها في الإيجاز وتنوع الموضوع.
ولكن «الفصل» كما عرفه العرب هو أقدم رائد للمقالة في الآداب العالمية؛ لأنه ظهر قبل ظهور مقالات «مونتاني» إمام هذا الفن غير مدافع بين الأوروبيين، فقد ظهر هذا الفن لأول مرة في فرنسا سنة 1571، ثم ظهر بعد ذلك ببضع عشرة سنة في كتابات فرنسيس باكون الحكيم الإنجليزي المشهور، ثم أصبحت المقالة منذ ذلك الحين فنا إنجليزيا شائعا بين قراء الإنجليزية مع سبق الفرنسيين إليه.
وقد سمى مونتاني مقالاته بالمحاولات
Essay ، كأنه يعتذر من ترسله فيها بغير تقيد بموضوع واحد أو تعمق في التفكير، وكانت المحاولة في اصطلاح الفنانين هي معالجة صنع التمثال من مادة رخوة كالشمع، وما إليه قبل صبه في قوالب النحاس أو نحته من الرخام، فأراد مونتاني بمقالاته أن تكون محاولات «رخوة» من هذا القبيل، وقصرها على الأحداث المستخفة والتجارب الشخصية، التي يتناجى بها الإخوان في ساعات السمر وتزجية الفراغ.
فلما تناول «باكون» الكتابة المقالية أقل فيها من الناحية الشخصية، وزاد فيها من الناحية الدراسية، فأصبحت مقالاته أقرب إلى التركيز والإدماج منها إلى التبسط والفكاهة، ولقيت مع ذلك رواجا أي رواج.
ثم نشأت الصحافة فاستقرت المقالة في مكانها الذي لا غنى عنه بنوع آخر من أنواع الكتابة الوجيزة، بعد أن كانت محاولة مترددة بين القبول والإهمال.
وانقسمت مواضيع المقالات على حسب الصحف والمجلات، فما كان منها للتسلية والقراءة العامة، فقد التزمت فيه طريقة مونتاني وتابعيه، وما كان منها للدرس والقراءة الخاصة، فقد غلبت عليه صبغة الجد والإتقان، وقيل في تعريف النمط الأول: إنه أشبه شيء بحديث شخص تفاجئه على غير انتظار، فهو مزاج من التفتح والحيطة العارضة على مسمع من المترقبين المتطلعين ... وقيل في تعريف النمط الآخر: إنه درس يلاحظ فيه تلخيص المطولات وتقريب المتفرقات، وقد يبلغ الغاية من التركيز والإدماج.
والذي نراه نحن في «المقالة» أنها ينبغي أن تكون «مشروع كتاب في موضوعها لمن يتسع وقته للإجمال ولا يتسع للتفصيل، فكل مقالة في موضوع فهي كتاب صغير يشتمل على النواة التي تنبت منها الشجرة لمن شاء الانتظار.»
وقد توخينا هذه الخطة في مقالات هذا الكتاب، وجعلناها كمقالات «الفصول» و«المطالعات» و«المراجعات» و«ساعات بين الكتب»، من حيث الموضوع والحيز وأسلوب التناول، ولكن مقالات هذا الكتاب لا تدخل تحت عنوان من تلك العناوين؛ لأنها كانت على الأكثر أجوبة لأسئلة معينة يوجهها القراء إلى صاحب الكتاب، فهي تخالفها في المناسبة وإن وافقتها في موضوعها وخطتها، وإيثارها الجوانب العامة على الجوانب الشخصية.
وقد آن لها أن تأخذ مكانها بين تلك المجاميع، ونرجو أن تكون عناية الأدباء بالسؤال عن موضوعاتها وعناية القراء بمطالعتها شفيعا لإبرازها في هذه الصفحات بهذا العنوان.
Unknown page
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
رسالة الأديب
كتب الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي مقالا يقول فيه: «إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد، بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب.»
ثم يقول: «إن انعدام روح النظام بين الأدباء، وتفرق شملهم، وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعا من مصالح، وما يعنيهم جميعا من مسائل قد فوت عليهم النفع المادي والأدبي، وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة.»
وكتب مقالا آخر يسأل عن أدبائنا المعاصرين: هل فهموا حقيقة رسالتهم؟ ويذكر ما يصنعه أدباء أوروبا «كلما هبت ريح الخطر على إحدى هذه القيم - وهي الحرية والفكر والعدالة والحق والجمال - وكيف يتجرد كل أديب من رداء جنسيته الزائل؛ ليدخل معبد الفكر الخالد، ويتكلم باسم الهيئة الواحدة المتحدة التي تعيش للدفاع عن قيم البشرية العليا.»
ثم يقول بعد أن وصف سوء حال الأدب في مصر:
أمام كل هذا وقف الأدب ذليلا لا حول له ولا طول، وضاعت هيبة الأدباء في الدولة والمجتمع، وأنكر الناس ورجال الحكم على الأديب استحقاقه للتقدير الرسمي والاحترام العام، فالعمدة البسيط تعترف به الدولة، وتدعوه رسميا إلى الحفلات باعتباره عمدة، أما الأديب فمهما شهره أدبه فهو مجهول في نظر الرجال الرسميين، ولن يخاطبوه (قط) على أنه أديب.
كلام الأستاذ الحكيم في هذين المقالين هو الذي ابتعثني إلى التعقيب عليه فيما يلي من خواطر شتى عن رسالة الأديب، وشأن الأديب والدولة، ومستقبل الأدب في الديار المصرية، أو في الديار الشرقية على الإجمال. •••
فهل من الحق أن الأدب محتاج إلى اعتراف من الدولة لحقوقه؟
Unknown page
أما أنا فإنني لأستعيذ بالله من اليوم الذي يتوقف فيه شأن الأدب على اعتراف الدولة، ومقاييس الدولة ورجال الدولة.
لأن مقاييس هؤلاء الرجال ومقاييس الأدب نقيضان، أو مفترقان لا يلتقيان على قياس واحد.
فمقاييس الدولة هي مقاييس القيم الشائعة التي تتكرر وتطرد، وتجري على وتيرة واحدة.
ومقاييس الأدب هي مقاييس القيم الخاصة التي تختلف، وتتجدد وتسبق الأيام.
مقاييس الدولة هي عنوان الحاضر المصطلح عليه.
ومقاييس الأدب هي عنوان الحرية التي لا تتقيد باصطلاح مرسوم، وقد تنزع إلى اصطلاح جديد ينزل مع الزمن في منزلة الاصطلاح القديم.
مقاييس الدولة هي مقاييس العرف المطروق، ومقاييس الأدب هي مقاييس الابتكار المخلوق.
مقاييس الدولة هي مقاييس الأشياء التي تنشئها الدولة، أو تدبرها الدولة أو ترفعها الدولة تارة وتنزل بها تارة أخرى.
ومقاييس الأدب هي مقاييس الأشياء التي لا سلطان عليها للدول مجتمعات ولا متفرقات، فلو اتفقت دول الأرض جميعا لما استطاعت أن ترتفع بالأديب فوق مقامه أو تهبط به دون مقامه، ولا استطاعت أن تغير القيمة في سطر واحد مما يكتب، ولا في خاطرة واحدة من الخواطر التي توحي إليه تلك الكتابة.
ومن هنا كان ذلك العداء الخفي بين معظم رجال الدولة ومعظم رجال الأدب في الزمن الحديث على التخصيص.
Unknown page
لأن رجال الدولة يحبون أن يشعروا بسلطانهم على الناس، ويريدون أن يقبضوا بأيديهم على كل زمام، فإذا بالأدب وله حكم غير حكمهم، ومقياس غير مقياسهم، وميدان غير ميدانهم، وإذا بالعصر الحديث يفتح للأدباء بابا غير أبوابهم، وقبلة غير قبلتهم التي توجه إليها الأدباء فيما غبر من العصور.
ولو بلغنا إلى اليوم الذي تعترف فيه الدولة بالأدباء لما اعترفت بأفضلهم، ولا بأقدرهم ولا بأصحاب المزية منهم، ولكنها تعترف بمن يخضعون لها ويرضون كبرياءها، ويهبطون أو يصعدون بغضبها أو رضاها.
ولسنا في مصر بدعا بين دول المغرب والمشرق، فما من دولة في العالم تعترف بأمثال برنارد شو وبرتراند رسل ورومان رولان، كما تعترف بالحثالة من أواسط الكتاب. •••
هذا عن الأدب وشأنه المعترف به بين رجال الدول، فماذا عن التفرق والتجمع، أو عن أثر هذا أو ذاك في تقويم أقدار الأدباء؟
أصحيح أن الأدباء في حاجة إلى الاجتماع؟
أنفع من هذا وأقرب إلى تبيين الصواب أن تسأل: هل صحيح أن شاعرين يشتركان في نظم قصيدة واحدة؟ وهل صحيح أن مصورين يشتركان في رسم صورة واحدة؟ وهل صحيح أن الأدب في لبابه عمل من أعمال التعاون والاشتراك؟
الحقيقة أن الأدباء حين يخلقون أعمالهم فرديون منعزلون، فلا حاجة بهم إلى محفل يسهل لهم الخلق والإبداع، ولا فائدة لهم على الإطلاق من اتفاق أو اجتماع.
والحقيقة أن التعاون إنما يكون في مسائل الحصص والسهوم والأجزاء، ولا يكون في مسائل الخلق والتكوين والإحياء.
لأن الفكرة الفنية كائن حي ووحدة قائمة ليس يشترك فيها ذهنان، كما ليس يشترك في الولد الواحد أبوان.
فإذا كان تعاون بين الأدباء، فإنما يكون على مثال التعاون بين الآباء.
Unknown page
إنما يكون تعاونا على رعاية أبنائهم وحماية ذرياتهم، وقلما يحتاج الآباء إلى مثل هذا التعاون إلا في نوادر الأوقات.
فإذا اجتمع الأدباء فلن يرجع اجتماعهم إلا إلى حواشي الأدب أو «ظروف» الأدب كما يقولون، دون الأدب في صميمه.
وإذا اجتمع الأطباء فهناك طب واحد، أو اجتمع المحامون فهناك قانون واحد وقضاء واحد، أو اجتمع المهندسون فهناك هندسة واحدة وبناء واحد، فكيف يجتمع الأدباء كما يجتمع الأطباء والمحامون والمهندسون، وكل أديب منهم نموذج لا يتكرر، ونمط لا يقبل المحاكاة، وأدب تقابله آداب متفرقات.
إن محاميا قديرا ليغني عن محام قدير، ولكن هل يغني أديب كبير عن أديب كبير؟ وهل ينوب خالق في الفنون عن خالق آخر في الفنون؟ كلا ... لن ينوب هذا عن ذاك ولن يختلط هذا بذاك، كما أن الوجه الجميل لا ينوب عند عاشقه عن الوجه الجميل، ولو اشتركا معا في صفة الجمال.
كل أديب نمط وحده، وكل أديب في غنى عن سائر الأدباء، إلا أن يتعاونوا كما أسلفنا في الحواشي والظروف دون الجوهر واللباب. •••
أللأديب رسالة؟
نعم، ليس بالأديب من ليست له في عالم الفكر رسالة، ومن ليس له وحي وهداية.
ولكن هل للأدب كله رسالة تتفق في غايتها مع اختلاف رسائل الأدباء، وتعدد القرائح والآراء؟
نعم، لهم جميعا رسالة واحدة هي رسالة الحرية والجمال.
عدو الأدب منهم من يخدم الاستبداد، ومن يقيد طلاقة الفكر، ومن يشوه محاسن الأشياء.
Unknown page
وخائن للأمانة الأدبية من يدعو إلى عقيدة غير عقيدة الحرية، أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - خطب الثقافة الإنسانية الذي يخشاه دوهامل ويشفق منه كتاب أوروبا كافة على مصير الذوق والتفكير والفن والشعور المستقيم؟
أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - سر الفتنة الحسية التي غلبت على الطبائع والأذواق، وتمثلت في ملاهي المجون أو ملاهي الأدب الرخيص؟
سرها الأكبر هو وباء «الدكتاتورية» الذي فشا بين كثير من الأمم في العصر الأخير.
لأن الدكتاتورية كائنة ما كانت ترجع إلى تغلب القوة العضلية على القوة الذهنية والقوة النفسية.
ولأنها ترجع بالإنسان إلى حالة الآلة التي تطيع وتعمل بغير مشيئة وبغير تفكير.
وأين تذهب المعاني والثقافات بين القوى العضلية والآلات؟
وأين الأديب الذي يستحق أمانة الأدب وهو يبشر بدين الاستبداد؟!
لهذا بقيت عقول تكتب وقرائح تبدع في الشعوب الديمقراطية، ولم يبق عقل ولا قريحة في بلد من بلاد الدكتاتورية.
فإذا تعطلت الكتابة والإبداع بعض التعطيل في أمة ديمقراطية، فإنما تتعطل من حالة فيها تشبه أحوال الاستبداد، وهي انتشار الكثرة العددية بين جمهرة الشعراء، والرجوع بالذوق إلى العدد الكثير دون المزية النادرة، أي: الرجوع به إلى «الثورة العضلية» لا إلى الحرية أو المزية الفردية.
لكل أديب رسالة.
Unknown page
ورسالة الأدباء كافة هي التبشير بدين الحرية والإنحاء على صولة المستبدين، فما من عداوة للأدب ولا من خيانة لأمانة الأديب أشد من عداوة «القوة العضلية» وأخون من خيانة الاستبداد.
الفصل الثاني
مع أبي العلاء في سجنه
قال صديقنا الدكتور طه حسين في تبيين مقصده من كتابه هذا: «وستقول: فإنك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتابا في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق، فإني لا أقدم إليك كتابا في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع، وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه ولا يتقى شره، ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق، أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم مثل هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي، والتي تكتب ابتغاء لرضا الأصدقاء واتقاء لسخطهم ...؟» •••
وقد أحسن الدكتور القصد، وأحسن التعريف، فكتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب، وأراه مذكري أحاديث الآباء عن أبنائهم الأعزاء: كيف يضحكون وكيف يبكون، وكيف يخطون وكيف يتعثرون، والسامع يرتاح إلى الإصغاء إن كان ممن يعنيهم أمر أولئك الأبناء، فأما إن لم يكن منهم فإلى غيره يساق الحديث، وليس من حقه أن يلوم المتحدث كما ليس من حق القارئ الذي يطلب الهندسة أن يلوم المؤلفين الذين لا يكتبون كتابة المهندسين.
وأنا ممن يحبون أبا العلاء وممن أطالوا قراءته في أول عهد الشباب، وما أحسب أحدا من الشبان المشغولين بالأدب لم تمض به فترة معرية في باكورة كفاحه حين تصطدم أحلام الصبا بمتاعب الدنيا، وتجارب الأيام، فهناك يروقنا التشاؤم، ويعجبنا من يعيبون لنا الحياة. ثم نخرج من هذه الربقة فنعاودها معاودة الحنين إلى تلك الباكورة المشتهاة، ونقرنها بذكرى الشباب وذكرى الأحلام، ونعطف عليها كما يعطف الرجل الجلد على بكاء طفولته، وهي لا تستوجب بعض ذلك البكاء.
فما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقادا أن بغض الحياة أسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة أعم وأشيع، وأقرب غورا من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى، فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة ... أما الفرح فهو القدرة والانتصار.
والدكتور طه لفرط حبه أبا العلاء يتهم نفسه بمحاباته، فيقول: «قل إني أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره، فقد لا تخطئ ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول الحديث، وقلت غير مرة: إني لا أملي كتابا في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتا ما.»
فمن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكني لم أسمها محاباة، بل قلت: إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين، وعبت من نصحونا بأن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، فكتبت قبل ثلاثين سنة في مذكراتي التي جمعتها باسم «خلاصة اليومية» أنها قاعدة لا يصح إطلاقها على كل حال، فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أع
Unknown page
جب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من شكوى الحياة، وتمني الخلاص منها؛ لأننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشئون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة.
فكلانا إذن يسمع القول من شيخ المعرة فيعجبه، ويسمع القول في نفسه من غير الشيخ فلا يحظى عنده بذلك الإعجاب، لكن صديقنا الدكتور يسميها محاباة ومجاملة لصديق، وأنا أجري فيها على سنتي الغالبة في كل شيء من التوفيق بين الحجة والعاطفة، فلا أبرح بالعاطفة حتى أقنع بها عقلي، وأثبت له أنها جديرة بإقراره وترخيصه، فيعيش العقل والعاطفة معا في وئام، وأخلص بهذا مما يقع بينهما من ملام وصدام.
وشيء آخر أخالف به الدكتور، أو تخالف فيه طريقتي طريقته في صداقة أبي العلاء.
فأنا لا أذكر أنني كرهت أحدا أحبه أبو العلاء، أو أحببت أحدا كان هو من كارهيه.
أما الدكتور فيعلم ما كان في نفس صاحبه من الحب والإكبار لأبي الطيب، ثم يقول: «أنا أقدر فن المتنبي وأعجب ببعض آثاره إعجابا لا حد له، وأعجب ببعضها الآخر إعجابا متواضعا إن صح أن يتواضع الإعجاب، وأمقت سائرها مقتا شديدا، ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقا عليه ولا رثاء له، وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان يحسن أن يعرض عنه، فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون.»
ترى ماذا كان المعري قائلا للدكتور لو سمع منه هذا المقال؟ أخشى أن تكون وقيعة بين الصاحبين ... وإن كنت لا أخشى أن يعود الشيخ إلى استحسان قصيدة أبي الحسين التي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
لأن الشيخ يعلم أن الدكتور لا يكره أبا الحسين كراهة الناقص للكامل، ويستشفع له بشفيع من طيب النية وصدق الولاء.
Unknown page
والحق أنني أعجب لهذا النفور بين الدكتور وشاعرنا العربي الكبير، وما أنا ممن يستحسنون كل شعره ولا كل عمله، ولكني أزن ما زاده في ثروة الآداب العربية، وما زاده في شرور الحياة بسوء عمله وسوء خلقه، فأعلم أن الحياة لم تفسد بفساد المتنبي، وأن الأدب قد صلح بصلاح شعره، وأن لأصغر الهلافيت من خلق الله لسيئات أكبر من سيئات المتنبي بكثير، واحتملتهم الدنيا مع ذاك ... أفتحتمل الدنيا هذا من أصغر الهلافيت، ولا تحتمله من الرجل الذي لو قبلنا حسناته بألف ضعف من سيئاته لكنا نحن الرابحين؟
هنا أيضا أعود إلى العاطفة والحجة، وأحسبني أقرب من الدكتور إلى وفاق الصداقة بيني وبين شيخ المعرة، وأقرب إلى الإنصاف. •••
أهذا كل ما أخالف به الدكتور من رأي أو هوى في حديثه عن صديقنا العظيم؟
كلا! بل هناك خلاف وخلاف، وأكثر من خلاف وخلاف.
هناك قول الدكتور تعقيبا على كلام الأديب الفرنسي بول فاليري في المصور ديجاس: «العجيب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيرا من صفات هذا المصور الفرنسي الذي كنت أسمع اسمه، وأجهل من أمره كل شيء، تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء، فشدة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور النفس، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة - كل هذه الخصال، التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس قد حدثتنا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصورا رساما، والآخر كان شاعرا حكيما ...»
أفصحيح أن المعري وديجاس شبيهان في خليقة واحدة؛ لأنهما على نفسيهما صارمان؟!
هنا قسوة وهناك قسوة، وهنا تعذيب وهناك تعذيب، ولكن أين قلق الفنان في سبيل الخلق من قلق الناسك في سبيل الإحجام؟ أين تعذيب الجواد بالسوط لينبعث ويسبق من تعذيب الجواد باللجام ليسكن ويكف عن الوثوب؟
أين اللزوميات وهي قيود، من «الأمبرشنالزم» وهي انطلاق من القيود؟ أين رياضة الفقير الهندي المتقشف من رياضة الحسناء بالتقتير على جسدها في الشراب والطعام؛ لتزداد جمالا على جمال ونشاطا على نشاط؟ أين الزهد في المال انصرافا إلى الغنى من الزهد في المال انصرافا عن الدنيا؟ إن الفرق بين تعذيب وتعذيب ليبلغ أحيانا من السعة أبعد مما بين النعيم والعذاب، وهكذا كان الفرق بين صرامة المعري وصرامة ديجاس. •••
وثمة خلاف غير هذا الخلاف بيني وبين الدكتور في حديثه عن صديقنا القديم.
فالدكتور ينقل شذرة من فصول المعري وغاياته يقول فيها:
Unknown page